جديد حداد

 
 
 
 
 

من ذاكرة السينما..

السوق السوداء

 
 
 

جريدة

أخبار الخليج

 
 
 
 
 
 

عند الحديث عن ذاكرة السينما، كان لابد لنا من الحديث مطولاً عن فيلم رائد في السينما المصرية، ألا وهو فيلم (السوق السوداء ـ 1945) لمخرجه الفنان "كامل التلمساني"، هذا الفنان والمفكر المتميز الذي كان سابقاً لعصره، لذا لم ينل ما يستحقه من التقدير والشهرة.

كتب " التلمساني" سيناريو فيلم (السوق السوداء)، إضافة إلى الإخراج، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ومن ثم قدمه مباشرة إلى مديـر الإنتاج في أستوديو مصر في ذلك الوقت "أندريه فينو" الـفرنـسي الأصـل، والـذي أعـجـب بمصـريـة الفيلم وجدِّيته.

ويعتبر فيلم (السوق السوداء) استمرارا لمدرسة "كمال سليم" الواقعية في فيلمه (العزيمـة ـ 1939)، إلا أن فيلم التلمساني امتاز بابتعاده عن الفكر التوفيقي للبرجوازية، والذي طرحه "كمال سليم" في (العزيمة).. فقد تناول التلمساني في فيلمه (السوق السوداء) أخطر المشاكل التي كانت مثارة في تلك الفترة، وهي مشكلة تجّار السوق السوداء أو أغنياء الحرب.. واستطاع أن يـشرح من خلال قضية بسيطة كيف تنشأ السوق السوداء، وكيف أنه تناول الدلالات الاجتماعية والسياسية لوجودها.. هذا إضافة إلى تناوله للصراع الـدائر بين مَنْ يملكون ومَنْ لا يملكون، وتأكيد دور الجهل في طمس كل الحقائق. كل هذه الأمور قدمها الفيلم على نحو جعل منه فيلماً رائداً بحق.

ثـم لا ننسى أن نـشير إلى أن التلمـساني في فيلمه هذا لم يـشأ أن يقـسِّـم شخصياته إلى تلك التقسيمة الأخلاقية التقليدية، شخصيات خيِّرة أو شريرة، والتي تناولتها الأفلام المصرية مراراً.. ولم يقف موقف التملق السلبي والخطير من شخصياته المقهورة، لمجرد إعادة الاعتبار لها فقط، إنـه في هـذا الفيلم لا يتملق ولا يـدين، بل يترك شخصياته تعبر عن نفسها وتعيش واقعها الاجتماعي الطبيعي.. إنه يهتم بالبناء الداخلي لهذه الشخصيات ويحاول استخراج ما تحـمله من مـشـاعر وأخـلاقيات وأحـلام.. كما أنه اهتم بنقل وضعها الاجتماعي إلى المتفرج وتجسيد ردود أفـعالـها وتفاعلاتها ما بين عالمها الداخلي وعالمهـا الخارجي.. من هنا تبدو شخصيات (الـسوق الـسوداء) بالغة الصدق والثراء، تتدفق بالحيوية وتتطور مع تطور أحداث الفيلم.

وبالرغم من أن التلمساني قـد قسَّم شخصياته تقسيمة اجتماعية، إلا أنه لم يتوقف عند حدود أبعادها الاجتماعية فقط، بل إنه تعمَّـد أن يكون لكل شخصية ملامحـها الخاصة وقسماتها المتفردة.. وهو بهذا قد حمى نفسه من الوقوع في أسر الأنماط التقليدية المباشرة، وجعل للشخصيات الثانوية قدراً كبيراً من الأهمية، تتأثر وتُأثر في الأحداث.

أما بالنسبة للحوار والأغاني، فلا يمكن أن يكون كاتبها إلا الشاعر الكبير "بيرم التونسي"، فقد كانت الروح الشعبية والاجتماعية والصياغة الشاعرية واضحة، وتؤكد مقدرة هذا الفنان في تفهُم واستيعاب قضية الفيلم الاجتماعية.. ومن الناحية الدرامية جاء حوار الشخصيات متلائماً مع أبعادها الاجتماعية والنفسية والأخلاقية، فضلاً عن القوة الإيحائية والتأثيرية لهذا الحوار الأخاذ المنطلق.. هذا إضافة إلى القيمة التعبيرية المؤثرة التي جسدتها الأغنية في التعليق على الأحداث، حيث إكتسبت دوراً اجتماعيا مهماً ودلالات طبقية واضحة.

نأتي أخيراً، لنتحدث عن الأسلوب الإخراجي، حيث اهتم كامل التلمساني بشكل واضح وجاد بكافة التفاصيل الفنية للغة السينما.. فقد جاء فيلم (السوق السوداء) بالغ العطاء، تتسم كل لقطة فيه بقوة التكوين، إلى جانب سخاء التفاصيل.. تلك التفاصيل التي لم تكن زوائد، بل أكسبت الأحداث والشخصيات معنى إيحائي يعمِّق المضمون الفكري للفيلم.. كما استفاد التلمساني من جميع جزئيات السينما وأدواتها (الظل والنور، الصوت، الإكسسوار، المونتاج) واستخدمها درامياً بشكل موفق.. هذا إضافة إلى الجزئية الأهم وهو ذلك التصوير الأخاذ، والذي أداره الفنان المرهف الحس "أحمد خورشيد"، فقد كان اختياره لزوايا التصوير موفقاً، فجاءت اللقطات الكبيرة لتعبيرات الوجوه ذات حساسية وتأثير جميل وقوي.. كذلك الاقتصاد في حركة الكاميرا، وبالذات في مشاهد الحارة، والتي بدت بعمق مجالها وحيوية حركة الممثلين والكومبارس داخلها، كما لو أنها حارة حقيقية تتدفق وتنبض بالحياة والصراعات.

فن جيد.. فشل.. وأفلام أخرى:

وبالرغم من المستوى الجيد للفيلم، إلا أنه لم يحقق نجاحاً جماهيرياً طيباً، وفشل لأسباب، حددها الناقد والمؤرخ السينمائي "أحمد كامل مرسي"، في أن الفيلم: (...كان سابقاً لأوانه من ناحية، ولأن الرقابة عبثت به من ناحية أخرى...).

إن هذا الفشل الذي صاحب فيلم (السوق السوداء)، قد جعل كامل التلمساني يصاب بصدمة شديدة زلزلت كيانه وأفقدته الثقة بنفسه، وهو الذي كان يعوِّل كثيراً على تجاوب الجماهير لفنه، لذلك أقلع عن الاستمرار في هذا الطريق المبتكر، واختفى من الوسط السينمائي لفترة، لكنه عاد إليه ليخرج أفلاماً تجارية ضعيفة، بعد اقتناعه بأن الظروف لم تكن تسمح آنذاك بإخراج أفلام واقعية أو أفلام تعالج مشاكل الجماهير الحقيقية.

وعندما سُئل كامل التلمساني (في عام 1945) عن المخرج الذي تأثر به في حياته الفنية، أجاب بقوله: (...لا أعتقد أني قد تأثرت بمخرج معيَّن في أسلوبه التعبيري، وإن كنت أميل دائماً إلى دراسة مخرج أفضله على غيره من أئمة الإخراج السينمائي، وهو "جون فورد".. ذلك في اعتقادي إن السرد الفيلمي يعتمد على تتابع الصور وتكوينها التصويري، أكثر مما يعتمد على الحبكة الدرامية أو التعبير الحواري أو غيره من عناصر المسرح.. وفي أسلوب "جون فورد" من شاعرية الصمت ما هو كفيل بأن يعبر خير تعبير عن كلمات المسرح، وإني لا أعتقد بعظم قيمتها في الفيلم...).

 

أخبار الخليج في

28.10.2013

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)