أحلام هند وكاميليا

إنتاج عام 1988

 
 
 

نشر هذا المقال في جريدة الأيام في 15 مايو 1989

 
 
 
 

بطاقة الفيلم

نجلاء فتحي  +  عايدة رياض  +  أحمد زكي

تصوير: محسن أحمد، قصة وسيناريو: محمد خان، حوار: مصطفى جمعة، مناظر: إنسي أبوسيف، موسيقى: عمار الشريعي، مونتاج: نادية شكري

 
 
 

شاهد ألبوم صور كامل للفيلم

 
       

أحلام هند وكاميليا

مهرجان الصور
       
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 

في فيلمه التالي (أحلام هند وكاميليا) إنتاج عام 1988، والذي يطرح من خلاله رؤية فنية اجتماعية صادقة وواقعية جداً لمدينة القاهرة، وليكشف فيه عن حياة الناس البسطاء والمسحوقين وصراعهم من أجل حياة أفضل تحت وطأة مجتمع المدينة الكبيرة. وهو في هذا الفيلم يطور تجربته السابقة مع العالم السفلي للقاهرة في فيلم (الحريف)، حيث يجعل للمدينة شخصية قائمة بذاتها لا تقل أهمية عن شخصيات الفيلم.

يقدم لنا محمد خان في هذا الفيلم ـ وكما عودنا دائماً ـ عالم الشخصيات العادية التي تعيش بيننا ونتعامل معها يومياً لكننا لا نعرفها جيداً ولا نلاحظ فيها ما قدمه هو خلال فيلمه هذا. فهو هنا ـ ولأول مرة في السينما المصرية ـ يتناول عالم الخادمات، بما يحتويه من تفاصيل وإيحاءات عميقة صادقة، تختلط فيها المرارة بالبراءة.. وحشية الفقر وقسوة العيش بعفوية الكدح اليومي وبراءة الكادحين وطببتهم الصادقة.
يبدأ محمد خان فيلمه بمشاهد ولقطات سريعة وذكية وخالية من أية ثرثرة حوارية، ليقدم بها شخصياته الرئيسية الثلاث، ويحدد هوية كل منها للمتفرج منذ الدقائق الأولى من الفيلم، لتنتهي هذه الافتتاحية بظهور العناوين بمصاحبة أغنية معبرة وجميلة. هذه الافتتاحية تلمح فقط لموقع كل شخصية التي تتضح فيما بعد مع تطور الأحداث.
هند (عايدة رياض) أرملة ريفية بسيطة ساذجة وحالمة، نزحت إلى المدينة بعد وفاة زوجها. تبحث عن الاستقرار وتعمل كخادمة قنوعة في البيوت، لإعالة أمها وأخواتها. هذا بالرغم من سخطها على خالها الذي يبتزها ويحصل على أجرها بحجة توصيله لوالدتها. تعتقد بأنها لا تصلح إلا أن تكون ست بيت، لذلك نراها تجري وراء حب نقي لإنقاذ نفسها من المهانة، وتحقيق حلمها بانتشالها من حضيضها وتكوين أسرة سعيدة.
وكاميليا (نجلاء فتحي) امرأة مطلقة تعيش مع أخيها، وتعمل هي مضطرة في خدمة البيوت لتعوله هو وأسرته. ولكنها بالمقابل ذات شخصية نشطة ومتمردة يمتزج فيها النبل والطهارة بحالة من البؤس وشظف العيش.. لا تكتفي بما لديها وتبحث عن الأفضل دائماً. تحلم بحياة هادئة نظيفة وميسورة تنقلها من الحضيض الاجتماعي والعيش في حجرة بمفردها. تضطر للزواج مرة أخرى من رجل متكرش وبخيل بسبب الحاجة الملحَّة إلى المال وإيجاد عمل لأخيها العاطل لتمكنه من إطعام عائلته. ولأنها تملك طاقة هائلة من التمرد على واقعها، فهي تفكر في الهرب من بيت الزوجية، والذي تحولت فيه من خادمة بأجر إلى خادمة بدون أجر، مباحة الجسد لزوجها الذي لا تحبه وتضطر لسرقة أمواله لتشتري حريتها.
أما عيد (أحمد زكي) فهو ذلك الشاب الذي يعاكس هند ويشتهيها في البداية، ولكنه يرتبط معها بعلاقة حب ليتزوجها فيما بعد. إنه ابن الحارة الشعبية.. الحرامي والبلطجي الذي لا يتوانى عن فعل الكبيرة والصغيرة والاحتيال بشتى الطرق حتى يعيش.. لا تعوزه الظرافة ويقظة الضمير رغم الفجاجة الممزوجة بالبلاهة حيناً والبراءة حيناً آخر. ولأنه يعيش دائماً في الفضاء الاجتماعي المتعدد الأطراف، نراه لا يستقر في مهنة واحدة، ويعيش كل يوم في مكان مختلف. نراه يعيش عدم استقرار نفسي واجتماعي لشعوره بأن كل تصرفاته إنما ناتجة عن عدم وعي ودراية، وكأنما هناك قوى خفية تدفعه إلى فعل كل شيء.. نراه يردد دائماً (مسيرها تروق وتحلى).
ولنتابع أحلام وإحباطات هذه الشخصيات.. هند وكاميليا خادمتان تجمعهما صداقة قوية، إضافة إلى صلة المهنة المشتركة والتعرض اليومي للمهانة وقسوة مخدوميهما.. كلتاهما تفتقدان للحب والحنان في ظل مجتمع قاس يحكمه الرجل. لذلك نراهما تنطلقان نحو المجهول للبحث عن أحلامهما المفتقدة، والبحث عن مكان تعيشان فيه معاً. لكن الإحباطات النفسية والاجتماعية تلاحقهما أينما ذهبتا. كما يبدأ عيد بتحمل المسؤولية الاجتماعية بعد زواجه من هند وخروج طفلته أحلام إلى هذا العالم. نراه يخرج من السجن ليعود إليه مرة أخرى بتهمة الاتجار بالعملة، وهروبه بمبلغ كبير من المال يخص أحد المتعاملين في السوق. يسجن لتتحطم أحلامه وأمانيه بتوفير حياة كريمة وسعيدة لهند وأحلام. أما كاميليا فتتجلى شخصيتها بحنانها وحبها تجاه أحلام وصداقتها المتفانية لهند، حيث تصبح كاميليا أماً ثانية لأحلام تعويضاً لمشاعر الأمومة المفتقدة لديها. أيضاً نراها تنخرط في سوق الخضار لتجرب حظها كبائعة، محاولة منها لتوفير الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي الذاتي، بعيداً عن أخيها وزوجها المتكرش، إلا أنها تخسر كل شيء في السوق وتعود ـ كصديقتها هند ـ للخدمة في البيوت. لكن الحلم بالتحرر من ربق الذل والهوان ـ الذي طالما راود هند وكاميليا ـ يتجدد مرة أخرى بعد عثورهما على المال الذي سرقه عيد وخبئه قرب منزل كاميليا. فتنطلقان مع الصغيرة أحلام للتمتع بهذه الثروة، وتحقيق حلم الأولى بالملاهي الشعبية وحلم الثانية بزيارة الإسكندرية. ولكن محمد خان ـ إلى يتميز بإصرار عنيد على اختتام أفلامه كلها مع الإبقاء على شخصياته تتخبط في المجهول ـ ينهي فيلمه وعيد وابن عمه ما زالا رهيني السجن. كما يصور في المشهد الأخير هند وكاميليا وهما ممددتان على رمال أحد شواطئ الإسكندرية المقفرة، خائرتي القوى ومجردتين من الذهب والنقود ـ بعد تعرضهما للنصب ـ لتحبط بذلك كل أحلامهما المنتظرة. يترك لها فقط الصغيرة أحلام تعبيراً عن الاستمرارية في محاولتهما لتحقيق الحلم، فمثل هؤلاء الفقراء البسطاء لا يملكون غير الأحلام والآمال لتساعدهم على الاستمرار في حياتهم الصعبة والقاسية.

في فيلم (أحلام هند وكاميليا)، يقدم لنا محمد خان مجتمع القاهرة الحقيقي من خلال خادمتين ولص ظريف.. القاهرة التي تحتل موقعاً هاماً وبارزاً من أحداث الفيلم، وتتحكم في مصائر الشخصيات.. القاهرة بشوارعها وأزقتها وبكل ضجيجها وفوضويتها. ويقدم في نفس الوقت فيلماً بسيطاً وممتعاً تتداعى فيه الأحداث مع الشخصيات، التي انتقاها بحذر وذكاء شديدين.. يقدم لنا فيلماً عن العلاقات الاجتماعية المفككة في المدينة، وفيلماً عن الحرية الشخصية. فشخصيات الفيلم لا تنتمي إلى طبقة مستقرة اجتماعيا وإنتاجياً، وبالتالي فهي لا تمثل إلا ذاتها، ولا تربطها بالآخرين إلا علاقات تحكمها عوامل معيشية قائمة أساساً على المصلحة والمنفعة المشتركة، ولا تحكمها ـ مثلاً ـ علاقات القرابة وأواصر الرحم. نرى هند (عايدة رياض) مثلاً تذكر خالها بكلمات السوء دائماً، وذلك عندما يأتي ليأخذ منها أجرها الشهري، وكأنها نسيت أهلها.. كذلك كاميليا (نجلاء فتحي) في علاقتها غير المستقرة بشقيقها الذي طلقها من زوجها لينعم بأجرها.. وهناك أيضاً علاقة عيد (أحمد زكي) بابن عمه، عندما نرى الأخير يتهجم على زوجة الأول ويعتدي عليها لمجرد أنه يئس من العثور على شريكه ليقاسمه الفلوس التي هرب بها.. وبالتالي لا ينسى عيد ـ طبعاً ـ هذه الخيانة وينتقم منه ( من ابن عمه ) أبشع انتقام حتى ولو أدى ذلك إلى استمرار حبسه. وليس هذا الانتقام إلا إيحاءً قوياً بأن الفقراء لا يغفرون الخيانة أبداً، بل ويجيدون الانتقام بكل ما تحمله حياتهم من شقاء وتعاسة وحرمان.
هذه هي طبيعة العلاقات التي تحكم شخصيات الفيلم، وهي ـ بالطبع ـ علاقات كان لمجتمع المدينة الاجتماعي والمعيشي دوراً أساسياً في تفككها. بعكس مجتمع الريف الذي مازال يؤمن إلى حد ما بضرورة التأكيد على وجود العلاقات الاجتماعية الطبيعية الثابتة في ترابطها، وذلك باعتبار الريف مجتمعاً زراعياً جماعياً، يركز على صفات مثل التعاون مثلاً، كضرورة اجتماعية وإنتاجية ويرفض صفة الفردية والذاتية. بينما نرى مجتمع المدينة يؤكد على مسألة الحرية الفردية، بل ونلاحظ بأن كافة القرارات والتصرفات نابعة أساساً من ذات الشخصية، وتعتمد على نفسها كثيراً في تسيير أمورها. ونرى ذلك يتجسد من خلال محاولات هند الريفية في الاعتماد على نفسها، بعد نزوحها إلى المدينة.. أما كاميليا فهي تؤكد دائماً على مسألة حريتها الشخصية وكيفية تعاملها مع الواقع منذ هروبها من بيت زوجها الثاني، حتى اشتغالها في سوق الخضار.. كذلك عيد الذي نراه يتصرف بحرية وعفوية ويحاول جاهداً الحفاظ على هذه الحرية ويهرب من أي قيود، حتى بعد زواجه من هند نراه يعيش تناقضات كثيرة بين اشتياقه للحرية وبين مسئوليته تجاه زوجته وابنته أحلام.

في فيلم (أحلام هند وكاميليا)، يؤكد محمد خان ـ من جديد ـ بأنه فنان من نوع خاص، يمتلك إمكانيات وقدرات فائقة على الإبحار في عالم الشخصيات العادية. كما يؤكد على مقدرة عجيبة في صياغة كل الأحزان من خلال لوحات سينمائية شديدة الرقي والجمال وبدون أية إثارة أو عنف، ويثبت بأنه قد تخلص من عيوب كثيرة ومزمنة للفيلم المصري، وعرف كيف يطوع الصورة والفكر معاً لتقديم فن جميل وممتع في نفس الوقت، مبتعداً قدر الإمكان عن الانخراط في الميلودراما المبتذلة التي تحتويها غالبية الأفلام المصرية.. علماً بأن أحداث فيلمه هذا مؤهلة فعلاً بأن تصنع فيلماً ميلودرمياً بكائنا صارخاً على يد أي مخرج آخر. هذا إضافة إلى إن محمد خان يرغب دائماً في كسر أناقة الفيلم المصري السائد، والذي يصور في شقق فخمة وشوارع نظيفة وأماكن هادئة. فهو يصر على النزول بكاميرته إلى الحواري والأزقة لمتابعة شخصياته ونقل حياتها بعنفها وهذيانها. ولا شك إن بصمات محمد خان الفنية كانت واضحة منذ أول حركة للكاميرا، والتي تميزت بتقنيات تصويرية تأملية هادئة ومدروسة بعناية، إضافة إلى الاهتمام بالجانب الجمالي وتقديم كادرات تصويرية قوية ومتقنة، ساهمت كثيراً في الارتقاء بمستوى الفيلم.
إننا في (أحلام هند وكاميليا) أمام فيلم مصري طليعي متميز، يمثل نقلة نوعية لسينما محمد خان، فهو عبارة عن سيمفونية حزينة تحكي عن الأحلام المفتقدة والمعبرة عن الإحباطات النفسية والأخلاقية والعاطفية، إنه فيلم يجمع ما بين الحزن والجمال في إطار لغة سينمائية متطورة.

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004