كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

الفيلم الألماني «حياة الآخرين» يصل باكراً الى التلفزيون...

من أوسكار أفضل فيلم الى غزو الأكثرية الصامتة

أمستردام – صلاح حسن

تخطو السينما الألمانية يوماً بعد يوم خطوات واسعة في اتجاه صناعة أفلام حديثة ومختلفة تتجاوز حدودها الأوروبية إلى كل مكان في العالم وتحقق على أيدي مخرجين وكتاب سيناريو جدد ابهروا العالم بأفلامهم في السنوات الثلاث الأخيرة. ومن هؤلاء المخرج فلوريان دونرسمارك الذي اطل علينا بفيلمه الباهر «حياة الآخرين» الذي وصل اخيراً الى شاشة التلفزيون بعدما نال أوسكار أفضل فيلم أجنبي في العام الماضي. الفيلم الذي تعرضه اليوم قناة «كانال بلوس» الفرنسية يصور قصة مستلهمة من ألمانيا الشرقية حدثت قبل سقوط جدار برلين بسنوات قليلة، ويتحدث عن حياة كاتب تضعه الاستخبارات تحت المراقبة. غير إن الضابط المكلف بمراقبته يتأثر بطريقة حياة هذا الأخير، كما لو انه يكتشف حياته من جديد، وفي النهاية يقرر أن يقدم تقارير كاذبة إلى مديريه من اجل حماية الكاتب وحماية صديقته التي يبتزها وزير الثقافة ويجبرها على ممارسة الحب معه.

وتشير بعض الأقلام الى كون القصة مأخوذة من أرشيف دائرة الاستخبارات في ألمانيا الشرقية، وحجته ان سيناريو هذا الفيلم البديع خلا من اصغر الثغرات، وكان محسوباً بدقة متناهية مثل أي عملية استخبارية. إذ يبدو رجل الاستخبارات المكلف بمراقبة الكاتب (اورلش موهي) وحشاً في صرامته الوظيفية وآلة مبرمجة في أداء واجبه. فهو لا يعرف من الحياة سوى العمل. لكن هذا الوحش كما هي حال انكيدو في ملحمة غلغامش يروض من خلال فتاة الهوى التي تعيد له إنسانيته المدفونة تحت طبقات عميقة في اللاوعي. أما الانقلاب الحقيقي فيحدث عندما يستمع إلى قطعة موسيقية رائعة موقعة على آلة البيانو فتنحدر دموعه بصمت كما لو انه نادم على سني حياته التي قضاها في تدمير حياة الآخرين. هنا تحدث الانعطافة الأولى في الفيلم من دون إن يخرج عن مساره.

وشيئاً فشيئاً يرينا الفيلم الطريقة التي تعمل بها أجهزة الاستخبارات في العالم، لكن في هذا الفيلم نرى جهاز استخبارات من نوع خاص كونه جهاز دولة فاشية قائمة على ايديولوجيا متعصبة وتابعة لحزب واحد أوحد. ويصور الفيلم كيف يتحول المواطن في هذا البلد إلى متهم ينبغي إن يثبت براءته كل يوم. أما السخرية المبطنة التي نجح كاتب السيناريو في إبرازها فنجدها في اللغة التي يستخدمها المحققون مع المشتبه فيهم، اذ غالباً ما يبدأون حوارهم بكلمة «حضرتك أو أيها السيد» لكن ما يحدث بعد ذلك شيء آخر تماماً.

ويجسد دور الكاتب في هذا الفيلم الممثل القدير سباستيان كوك بعفويته التي تعد سمة ثابتة في أدائه المتميز. وفي الواقع يعيش هذا المثقف مثل غيره من مثقفي الشطر الشرقي من ألمانيا حالاً من الإحباط لأنه معرض في كل عمل أدبي يقدمه إلى المساءلة من الأجهزة الأمنية التي منعت احد أصدقائه من الكتابة والنشر ما دفعه إلى الانتحار. هذا الحدث المؤلم يدفع بطلنا إلى البحث عن آلة طابعة لكتابة مقال عن الوضع الرهيب في البلد وتهريبه إلى الشطر الغربي من ألمانيا لينشر في صحفها، ويحدث ضجة كبيرة.

عن الفاشية

الانعطافة الثانية في الفيلم التي تزيد توتر القصة تبدأ مع شك المديرين بطبيعة التقارير التي يقدمها الضابط المكلف بالمراقبة. وعلى ضوء هذا الشك تعتقل صديقة الكاتب، وتحت وقع الصدمة تنهار وتعترف بمكان الآلة الكاتبة التي تصدر مقالات عشيقها، ثم تنتحر تحت وطأة الشعور بالذنب، من دون ان تعرف ان المحقق سينقذ حبيبها ويخفي الآلة الطابعة في سيارته قبل مجيء الدورية.

بعد سقوط جدار برلين تفتح دائرة استخبارات ألمانيا الشرقية أمام الزوار ويذهب الكاتب لرؤية الملف الضخم الذي جمعه الضابط الذي كان يراقبه فيجد مادة دسمة لكتابة رواية، بل يجد رواية جاهزة فيطبعها وينشرها ويكون الإهداء: إلى رجل جيد وهو هنا ضابط الاستخبارات.

يستغرق عرض الفيلم أكثر من ساعتين، ولكن الملل لا يتسرب إلى نفوس المشاهدين بفضل الإيقاع المشدود والتوترات التي انطوت عليها القصة والأداء المتفوق للممثلين، خصوصاً أداء الضابط الذي قدم شخصية مركبة واشتغل على المشاعر الداخلية واظهر براعة كبيرة في التعبير عنها. أما سباستيان كوك فاستطاع من خلال حركاته القليلة المنسابة إن يظهر ذلك الخوف والذهول المتوقع.

أياً يكن الأمر، نجح الفيلم في شكل كامل لأن أدواته كانت مكتملة، ابتداء من السيناريو المتقن إلى حد كبير، والكاميرا الجذابة التي صورت مشاهد في غاية الخصوصية، إضافة إلى الرؤية الإخراجية التي كانت محيطة بأدق التفاصيل... ولهذا كله يمكن اعتبار انتقال «حياة الآخرين» من عروضه السينمائية الى عروضه التلفزيونية حدثاً كبيراً واستثنائياً، لانه ربما يكون العمل الأفضل الذي حقق خلال السنوات الأخيرة حول الفاشية واشتغالها على حياة الناس الداخلية والخارجية. وهو موضوع إذا كان من الصعب دائماً اجتذاب ما يسمى بالغالبية الصامتة لمشاهدته، يتبدل الأمر حين يغزو البيوت، بيوت هذه الغالبية من دون أن تتوقعه، فيقول لها الكثير عن الحياة.. عن حياة الآخرين وعن حياتها تحديداً.

«كانال بلوس»، 19.50 بتوقيت غرينتش.

الحياة اللندنية في 15 فبراير 2008