كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

مايك نيكولز يوصل التدخل الأميركي في أفغانستان الى خاتمته المرعبة...

«حرب تشارلز ويلسون» الغرام الذي حرر شعباً وورّط العالم

ابراهيم العريس

إذا صدقنا فيلم «حرب تشارلز ويلسون» فإن «تحرير» أفغانستان من الاحتلال السوفياتي أواخر ثمانينات القرن العشرين، ما كان له أن يتم لولا رغبة عضو الكونغرس الأميركي، الذي يحمل عنوان الفيلم اسمه، في الارتباط بثرية حسناء من تكساس. وإذا صدقنا الفيلم سيكون كل السلاح الفتاك الذي بعثت به الولايات الى «المجاهدين» ومكنهم من الانتصار على العدو الغاشم، سلاحاً أرسل بجهود ودوافع شخصية. بل أكثر من هذا: كانت هذه الدوافع والجهود والرغبات الغرامية، هي ما يقف حقاً، خلف تعاون دولي متعدد الأطراف (مصري، اسرائيلي، أميركي... سعودي... الخ)، انتفض كله بناء لدعوة من السيناتور المذكور لنصرة قضية الحق على الباطل. بل إن تلك المساهمة تشمل أيضاً راقصة أميركية حسناء هزت بطنها بما فيه الكفاية كي تلهي مسؤولاً مصرياً عما يدور حوله من صفقات دولية فتتوافر الأموال وتشترى الأسلحة ولا يستغرق الأمر سوى بضع مدافع وطلقات على مروحيات سوفياتية فينتهي الاحتلال. بل ينتهي كذلك الاتحاد السوفياتي نفسه وكل المنظومة الشيوعية.

الحقيقة وما بعدها

نقول هنا «إذا صدقنا»، لكن فيلم مايك نيكولز الجديد هذا، يدعونا بقوة الى التصديق، منذ الملصق الأول حيث نفاد بأن الفيلم مبني على وقائع حقيقية. ونحن نعرف منذ زمن ان هذه العبارة غالباً ما تحمل من الصدقية ما يمنع أي التباس وكل التباس، ولا سيما في هذا الزمن الذي يكثر فيه، في هوليوود بخاصة، انتاج أفلام مأخوذة عن وقائع حقيقية تتناول الحروب الأميركية الجديدة، بفاعلية سياسية عالية جعلتنا نقول منذ زمن إن هوليوود تبدو اليوم وكأنها تخوض حرباً مقدسة ضد جورج دبليو بوش وحروبه وسياساته. وهذا لا يبعد كثيراً من الواقع. بل أكثر من هذا، حتى بالنسبة الى «حرب تشارلز ويلسون»، وبعيداً من شخصنة القضية الأفغانية الأولى، الى حد مضحك، تبقى للفيلم فاعلية سياسية استثنائية، على الأقل من خلال ما يحدث ويقال خلال ربع الساعة الأخيرة منه.

إذ، هنا، وعلى عكس اطلالة الفيلم خلال ثلاثة أرباعه الأولى على الماضي، نراه يطل على الحاضر، وبقسوة ليدين، ليس ما حدث بفعل جهود السيناتور وصاحبته، بل ما تلا ذلك من أخطاء وكوارث إدارية أميركية قلبت الموازين وحولت انتصار المجاهدين فخاً بناه الأصوليون ليحاربوا العالم والعصر بالتالي، وليحاربوا خصوصاً إدارة أميركية دفعت أكثر من بليون دولار لشراء أسلحة للمجاهدين، لكنها بعد انتصار هؤلاء لا تريد أن تدفع كلفة بناء مدرسة واحدة تدخل أهل أفغانستان العصر والوعي، تاركة إياهم فريسة للأصوليين.

على هذا النحو لم ينته «حرب تشارلز ويلسون» بكل تخريفاته الأولى، إلا على رسالة دامغة شديدة الأهمية، جعلته بدوره يصنف واحداً من الأفلام التي تخوض بها هوليوود حربها الخاصة ضد بوش.

من ناحية منطقية واضح أن هذه الالتفاتة تبدو هنا مفتعلة بل مقحمة. لكنها من ناحية الفعالية تبدو صائبة من دون أن تصلح مسار الفيلم ككل: ذلك ان مايك نيكولز في هذا الفيلم المقتبس عن كتاب سياسي وضعه السيناتور المذكور نفسه، حقق فيلماً كلاسيكياً بالمعنى الهوليوودي للكلمة: نظام النجوم حاضر (من خلال توم هانكس وجوليا روبرتس)، والنهاية السعيدة حاضرة، والبطولة الفردية حاضرة، وسلوك البطل الصراط المستقيم بعد فساد حاضر، والدوافع الشخصية للأعمال الكبيرة حاضرة، والأريحية الأميركية حين تقتضي الظروف ذلك حاضرة، وألعاب الكواليس السياسية ولا سيما حين يجابه الأفراد فيها المؤسسات (مثلاً مجابهة العميل افراتاكوس – قام بالدور بشكل رائع فيليب سيمور هوفمان – لإدارة السي آي إي) حاضرة. وهز البطن رقصاً حاضر، وكذلك حفلات المجون... واضح أن مايك نيكولز المعتبر واحداً من آخر مخضرمي هوليوود (راجع عنه في مكان آخر من هذه الصفحة)، أراد أن يجمع في فيلمه هذا كل العناصر التقليدية للفيلم الهوليوودي ونجح في ذلك. لكنه لم ينجح في ان يقدم عملاً كبيراً، بالتأكيد، خصوصاً انه اعتمد في ذلك كله على سيناريو تقليدي لا يحمل في أي مشهد من مشاهده أية مفاجآت، حيث كان يمكن ومنذ اللقطة الأولى، حتى اللقطة الأخيرة، للمتفرج ان يتوقع كل ما سيحدث في المشهد التالي. بل حتى توم هانكس، الذي اعتاد – قبل «دافنشي كود» – ان يكون ممثلاً كبيراً، أدى هنا دوره عند مستوى المتوسط وما دون، لكنه حتى في هذا تفوق تماماً على زميلته جوليا روبرتس التي أدّى أداؤها دور المليونيرة المسيسة والراغبة في انقاذ نساء افغانستان وشعبها من «البطش الشيوعي»، باهتاً وغير مقنع. ولكن في مقابل هذين لا شك في ان متفرجي الفيلم أحسوا بكثير من المتعة امام أداء «بطل» الفيلم الثالث هوفمان (من هنا لم يكن صدفة ان يرشح لأوسكار أفضل دور ثاني عن هذا الفيلم تحديداً). مهما يكن، أمام سيناريو مشغول على هذه الطريقة الكلاسيكية، وموضوع مأخوذ من تاريخ معاصر، يعرف كل الناس الى أين سيؤدي مساره، وممثلين اجتهدوا في تطبيق أدوارهم، لا أكثر ولا أقل، كان من الواضح انه ليس مطلوباً من مايك نيكولز ان يجتهد كثيراً. ففي عمل كل شيء فيه محسوب بدقة، لا يمكن لأي ابداع حقيقي ان يطل برأسه، حتى وان كان المبدع المعني من طينة مايك نيكولز. تُرى في حديثنا هذا هل نسينا شيئاً أساسياً حول هذا الفيلم؟

تحالفات عالمية

آه... طبعاً... نسينا حكايته وان كنا لمّحنا اليها بما يكفي. وهي طبعاً، هنا، حكاية ذلك السيناتور الذي نراه في المشهد الأول عابثاً ماجناً تكاد الشرطة تحاسبه على تناول مخدرات ومجون وما الى ذلك. لكنه مع هذا، حتى وهو في وسط فسقه بين حسناوات عاريات، سيلاحظ واحداً من نجوم التلفزة (دان ريذر) يتحدث عن مأساة أفغانستان... في البداية لا يبالي إلا بدافع الفضول لكنه لاحقاً إذ يتلقى اتصالاً من المليونيرة السيدة هيرنغ، يجد نفسه متورطاً في الأمر تدريجاً. فالسيدة تريد ان تجمع مالاً لمساعدة المجاهدين و «الادارة لا تستجيب» إذاً؟... فليتحرك السيناتور بما انه بطل الفيلم. فيتحرك. في البداية يكون المطلوب 5 ملايين دولار. ولكن بالتدريج، وكلما أمعن البطلان اقتراباً من «ميدان المعركة» يزيد المبلغ ويزيد عدد المتورطين، بمن فيهم عميل السي آي إي (هوفمان) الذي – كالعادة في سينما هوليوود – سيأخذ جزءاً من الأمر على عاتقه ويستكمل ما يحتاجه الأمر من اتصالات وعلاقات، ها هو الشعب الأفغاني ومجاهدوه ينتظرونها كي ينتصروا. وهكذا، علاقة من هنا واتصالاً من هناك، نجدنا امام اسرائيلي قادر على إرسال صواريخ روسية كي تسقط المروحيات الروسية، ومسؤولين مصريين (أيام السادات طبعاً!) يساهمون في ذلك. وأموال سعودية، وأجهزة استخبارات باكستانية (الوجود الباكستاني يُتوّج بمشاركة ضياء الحق شخصياً، ويقوم بدوره ممثل يشبهه حقاً!!).

وهكذا تصبح الملايين الخمسة بليوناً وأكثر، ويجر نضال فاعلي الخير الثلاثة، دولاً وزعماء وتحالفات بين أعداء الأمس وما الى ذلك. وطبعاً يتوج هذا كله بالانتصار الكبير. وهنا إذ يحتفل الجمع بكل هذا الانتصار (وكان الحفل أصلاً مفتتح الفيلم ودافع «الفلاش باك» الذي راح يروي لنا الأحداث كلها من وجهة نظر السيناتور المكرم)، يبقى تفصيل صغير: ان الانتصار لا ينتهي مع انسحاب المحتل وتوافر السلاح ودخول المجاهدين العاصمة. الانتصار الحقيقي يبدأ، ولا ينتهي عند تلك النقطة الانعطافية. ولذا ها هو السيناتور ويلسون، وبعد ان تبادل أنخاب النصر وتهانينه مع شريكته – التي كانت قد تزوجت في تلك الأثناء ما اعطاها قدسية جديدة، ولكن فوت على السيناتور فرصة الارتباط بها، ولكنه لن يبالي هنا طالما ان القضية الأساس انتصرت – اذاً ها هو السيناتور يُصدم امام ادارة اعتقدت بأنها أدّت كل ما عليها وأخرجت السوفيات، هو الواثق – في ذلك الوقت المبكر! – من أن كل ما حدث سيؤدي الى سيطرة الأصوليين الإرهابيين على تلك المنطقة من العالم. ويُصدم خصوصاً أمام مسؤولين في الإدارة صمتوا مستنكرين حين أخبرهم بما سيحدث وطلب منهم المساهمة في بناء مدرسة فرفضوا. ومن الواضح بحسب منطق الفيلم، انه كما ان الادارة الأميركية وحلفاءها انتصروا على السوفيات حين ضخوا المال اللازم وتعاونوا، ها هو الإرهاب سينتصر عليهم جميعاً، حين لا يكملون حتى النهاية ما بدأوا به.

ترى هل قال أحد يوماً ان الذين يقومون بالثورة حتى منتصفها انما يحفرون قبورهم بأيديهم؟

«حرب تشارلز ويلسون» يقول هذا... ولكن بشكل موارب... أي على الطريقة الهوليوودية، بغثها وسمينها... والمشاهد ستصله الرسالة وان متأخرة عند نهاية الفيلم، أي – تحديداً – حين يقرر هذا الفيلم ان يخرج عن سياقه الذي كان له عند بداياته، ليصبح واحداً من تلك الأفلام المتكاثرة في هذه الأيام ملقية اللوم على الإدارة الأميركية في استشراء هذه الفوضى الجديدة التي يعيشها العالم.

 

ثائر «المتخرج» و«فرجينيا وولف» اجتهاد من أجل البقاء

الحياة: بلغ مجموع الترشيحات للأوسكار التي كانت من نصيب أفلام مايك نيكولز على مدى نحو أربعين عاماً حتى الآن، ما يزيد على أربعين ترشيحاً لعشرة أفلام، حقق الفوز ثلاثة أفلام منها: 5 جوائز لـ «من يخاف فرجينا وولف؟» وجائزة واحدة لكل من «المتخرج» و «الفتاة العاملة». وإذا فاز فيليب سيمور هوفمان، كما هو متوقع الآن، بجائزة أفضل ممثل ثان عن دوره في «حرب تشارلز ويلسون» سوف يرتفع بالتأكيد نصيب مايك نيكولز، غير أن هذا لن يعوض عليه، نوعاً من الاجحاف طاوله خلال العقد الأخير من السنين، حيث بدا شبه غائب عن الساحة السينمائية الأميركية مع انه حقق ستة أفلام خلال هذا العقد، حقق بعضها نجاحات تجارية غير متوقعة. ولعل هذا الاجحاف يضع مايك نيكولز في خانة واحدة مع مجايله ميلوش فورمان، علماً بأن هذا لن يكون القاسم المشترك الوحيد بينهما. ذلك أن نيكولز وفورمان، عدا تقاربهما في السن، متحدران من وسط أوروبا: فورمان من تشيكوسلو فاكيا ونيكولز من المانيا، واذا كان الأول قد فر من بلاده هارباً الى الولايات المتحدة هرباً من الستالينية أواخر ستينات القرن العشرين، فإن نيكولز كان قد فر قبل ذلك بكثير من بلاده هرباً من النازية، وكان فقط في الثامنة من عمره. وعدا عن هذا يتميز كل من الاثنين ببدايات قوية، مع تطور الى الوراء في العقود الأخيرة نسبياً، حتى وإن كان في الامكان القول ان سينما نيكولز تبدو دائماً أكثر غزارة وتنوعاً: نحو 25 فيلماً خلال أربعة عقود. ومع هذا لا يزال نيكولز نشيطاً ومقبلاً على العمل بهمة الشباب. بل حتى قابلاً بالأفكار الجديدة التي قد يأبى غيره من المخضرمين الدنو منها. وها هو أخيره «حرب تشارلز ويلسون» يشهد على هذا، حيث – وعلى رغم من أي مأخذ على الفيلم – عرف في جانب منه كيف ينزع الى مسايرة زحف هوليوود المقدس ضد الادارة الأميركية وسياساتها، ما يعني ان نيكولز يعود هنا الى مشاكسة حادة كانت تبدت لديه منذ افلامه الأولى، وان كانت هذه المشاكسة قد عرفت كيف تتسيس بشكل واضح أخيراً، بعدما كان جلّ تسيسها سنة 1970، في فيلم «كاتش 22» الذي يكاد يصبح اسطورياً لمناهضته الحرب، كل حرب، والسخرية منها.

خارج اطار هذين الفيلمين الحربيين – السياسيين، انحصرت مشاكسة نيكولز، منذ «من يخاف فرجينيا وولف؟» (1966) و «المتخرج» (1967) وحتى «ملائكة في أميركا» (2003) و «أقرب» (2004) على الصعيدين العاطفي والاجتماعي، وهي مشاكسة شديدة الجرأة أوصلها نيكولز الى ذروتها في «المعرفة الجسدية» (1971) الذي كان واحداً من أكثر الافلام الأميركية جرأة قبل قدوم زمن المجتمع المفتوح. ومن هنا يمكن أن تُحسب لمايك نيكولز ثورة سينمائية – على الصعيد الاخلاقي على الاقل – وضعته باكراً في صف كبار المجددين، إن لم يكن في الاشكال السينمائية، فعلى الأقل في المضامين وتقديم أفلامه كمرايا تعكس تطورات في الاخلاقية الاجتماعية كانت السينما الهوليوودية تفضل الا تراها في ذلك الزمن.

غير أن هذه الثورة سرعان ما خبت إذ باتت حدودها، مع حلول زمن التجاوز، أي الزمن الذي افلتت فيه مواضيع السينما الأميركية، اثر فييتنام ووترغيت ومجيء ثوار هوليوود من أصحاب اللحى (كوبولا، سكورسيزي، سبيلبرغ، دي بالما...) ليحدثوا تغييرات جذرية على كل الصعد، راحت تجديدات مايك نيكولز تبدو معها كلاسيكية. وهكذا إذ واصل الرجل مساره محققاً فيلماً بعد الآخر، كل عامين أو ثلاثة، لم يعد في وسع هذه الافلام ان تثير أي اهتمام استثنائي، الا في أحيان قليلة كان يخدمه فيها سيناريو قوي («سيلكوود» - 1986) أو موضوع قوي معاصر («الفتاة العاملة» – 1988)، أو شطحة لافتة («بالنظر الى هنري» – 1991)، أو ممثل مميز في دور غريب (جاك نيكلسون في «الذئب»)، أو حبكة سياسية وطنية («ألوان أولية»، الذي كان سنة 1998 من نجاحاته التجارية الكبرى ورشح لجائزتي اوسكار)، أو تمكنه من جمع ممثلين ذوي أسماء كبيرة (كما الحال في «أقرب» الذي جمع الى جوليا روبرتس، ناتالي بورتمان وجاد لاو وكليف اوين...).

انطلاقاً من هذا كله يمكن القول إن مايك نيكولز لم يعد ذاك الثائر السينمائي الذي كانه في بداياته، لكنه عرف في الوقت نفسه كيف يحافظ على توازن مكنه من أن يبقى، في وقت اختفى فيه، موتاً أو صمتاً أو قهراً، كثر من ابناء جيله، من أولئك الذين طحنوا بين جيل زمن النجوم الذهبي وجيل ثورة السبعينات.

الحياة اللندنية في 15 فبراير 2008