كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

«تكفيــر» لجــون رايــت

كيف يمكن لخطأ صبياني أن يصنع المستقبل

نديم جرجورة

تبدأ، بعد ظهر اليوم، العروض المحلية لـ«تكفير» لجون رايت في صالات «سينما سيتي» (الدورة) و«أمبير دون» (فردان) و«أمبير سوديكو» و«غالاكسي» (بولفار كميل شمعون) و«غراند سينما» («أ ب ث» في الأشرفية). تمثيل: كيرا نايتلي وجيمس ماك آفوي وساويرس رونان ورومولا غاراي وفانيسا ريدغريف. مقتبس عن رواية لإيان ماك إيفان.

إنه حبّ شبابيّ بريء وعفويّ وطاهر، في زمن الحرب الملوّثة بالدم والقهر والجنون. إنه حبّ جميل، في زمن البشاعة الناتجة من عمق الخراب الذاتيّ. إنه حبّ إنساني أقوى من الضغينة، في زمن الخيبة والتحوّل المأساويّ للفرد في وسط الجماعة. مع هذا، فإن الكلمات لا تفي هذا الحبّ حقّه، لأنها أعجز من أن تعيد صوغ المشهد المرسوم بالصوَر والمتتاليات المشهدية الغائصة في بحور هائجة من دمار وألم وشبق متوتر وعشق مبتور. والصوَر قاسية، لأن الحياة أقسى من أن تُعبّد للعاشقَين طريقاً مفروشة بأحلام وردية وعيش هانئ وفرح بسيط. والصُوَر قاسية، لأن الحرب حاضرة في اللحظة القاتلة، جالبة معها جثثاً ممزّقة وأجساداً مشوّهة وعيوناً مرتعشة بالخوف والخيبة.

حبّ وخيبات

إنه مزيج سينمائي مصنوع بالحب والموت والكذب، ومعقود على عجز «أبديّ» عن التطهّر من الخطيئة المرتكبة بصبيانية شبقة وبراءة ملوّثة بالفلتان. والمزيج طيّب المذاق البصريّ، وممتع في الولوج إلى عالم التناقضات الملتقَطَة بمزاج إبداعي جميل، لا يرتكز على تسلسل تاريخي تقليدي، ولا يصنع من الحكاية سلسلة متكاملة من الخبريات المعقودة على المعاني الملتبسة للحب والجنون والانكسار. ذلك أن «تكفير» جون رايت مساقٌ إلى خاتمة صادمة لا دلائل لها أو مؤشّرات في سياقها الحكائيّ، لأن هناك متعة ذهنية وانفعالية في الانقياد إلى لعبة تكسير الزمن وإعادة بلورة السياق من زوايا مختلفة، تبلغ حداً بديعاً من التناقضات أحياناً. ولأن اللعبة منذورة للصدمات المتتالية، فإن الانصراف إلى متاهتها أجمل من أن يبقى المرء مرتاحاً في مقعده، لأن النصّ والمعالجة والمناخ والتفاصيل تلتقي كلّها عند ابتكار نمط من التعذيب النفسي منبثق من براعة العمل في توليف قصّته المليئة بأسرار الحبّ وخيباته ومنعطفاته القاتلة. فسؤال الحبّ وموته تفصيل يصنع من الفيلم جماله الفتّاك في إصابة المشاهد بلوثة البهاء الإنساني الطالع من عمق التمزّق والانهيار والجنون والهلوسة، وفي تفتيت الأشياء المنصوبة في الحدّ الفاصل والواهي بين الوهم والحقيقة. ولعبة الإثارة الحسّية والفكرية والجمالية تبلغ ذروتها في التقطيع المعتمد في السرد الدرامي المفتوح على أفق العلاقة الملتبسة بين التناقضات وتأثيراتها المتفرّقة.

لا يتمتّع «تكفير» بجمالية النصّ وعوالمه ومفرداته فقط، لأن مخرجه أتقن كيفية جعله عملاً متكاملاً في أناقته: صورةً وإضاءة وتمثيلاً وانفعالاً ولقطات صادمة مستلّة من عمق الحرب العالمية الثانية وجنون اللحظة الدموية. ولأن «تكفير» جون رايت جامعٌ فنيّ بين السياسة والمجتمع والانفعال الفرديّ، فإن سؤالاً أساسياً يُمكن اعتباره ركيزة أولى للحبكة: علاقة الكذبة الصبيانية بصناعة المستقبل. أو: كيف يُمكن لخطأ صبيانيّ أن يُحدّد مستقبل المرء. ألهذا، ظلّ التباس اللحظة القديمة منتجاً فاعلاً للخيبة والموت والضياع؟ ألهذا، عجز العاشقان عن التفلّت من قيد صنعته الكذبة وابتكره الخطأ، فأحكم القدر شدّه عليهما؟ ألا يعني الخطأ/الكذبة أن لا شيء قادرا على تحصين المرء من متاهة العيش، بما فيه الحبّ الجامح والعشق المتولّه؟

جماليات بصرية

هناك أيضاً تلك الحكاية القديمة: شاب فقير يُغرم بفتاة ثرية مولعة به. ثم إن الشاب الفقير عاملٌ في قصر الفتاة الثرية، والنزاع الطبقي يفرض نفسه من دون رادع، على الرغم من أن هذين العاشقين أرادا لعشقهما أن يمتدّ على المساحة الشاسعة للّون الأخضر المترامي على جنبات القصر وحبّهما. غير أن ملاحظة كهذه لا تعني أن الفيلم غارقٌ في كليشيهاته التنظيرية البائسة. إنه على نقيض ذلك متفلّت من ثقل الإيديولوجيا، لأنه منتم إلى رونق الصناعة البصرية المشغولة بحرفية لافتة للانتباه في آلية تنفيذ التقنيات وإدارة الممثلين وتمرير الخطاب الإنساني من دون ابتذال أو تسطيح، بل بمتعة تلجمها أحياناً تلك المشاهد الصادمة عن أجساد ممزّقة وحالات هذيان قاسية لجنود وأناس مشحونين بالخوف والعبث والمتاهات. والصدمة الأقوى كامنةٌ في خاتمة لم تخرج على الإطار الجميل للفيلم، مع أنها شكّلت التفسير الدرامي للنهايات المأساوية، ظلّلتها الممثلة القديرة فانيسا ريدغريف بجمالية إضافية مستلّة من حسن ظهورها الشفّاف أمام الكاميرا، وإن لدقائق قليلة (جمالية الخاتمة الفنية للسرد الدرامي قائمة في إخفائها عن القارئ/المُشاهد، المدعو إلى التمتّع بهذا الفيلم من لحظته الأولى حتى نهايته).

لم يستطع العاشقان سيسيليا تاليس (كيرا نايتلي) وروبي تورنر (جيمس ماك آفوي) أن يعيشا حبّهما، لأن الشقيقة الصغيرة بريوني تاليس (ساويرس رونان عندما بلغت بريوني الثالثة عشرة من عمرها، ثم رومولا غاراي عند بلوغها الثامنة عشرة) أنزلت لعنتها عليهما باختلاق أكاذيب أودت بهما إلى الانكسار والانشقاق. لكن الفيلم، بقدر ما يتوغّل في سرد الحكاية التي تبدو لوهلة عادية، ينفتح على جمالية اللعبة الدرامية في سرد التفاصيل، ويُقدّم أداء جميلاً لهؤلاء الممثلين الأربعة تحديداً، جاعلاً الأحداث والتفسيرات أكثر تداخلاً وتعقيداً، في توليف بصري متكامل وبراعة العمل في امتلاك أدوات تعبيره كلّها. والقصّة تذهب بالمُشاهد إلى عالم الحرب ومصائر الشخصيات والتحوّلات الحاصلة، رابطاً في ما بينها بنسق فني ممتع ومشوّق، وباحثاً في طياتها المنغلقة عن معنى التكفير الذاتيّ عن خطأ/كذبة، بل في المعاني المتفرّقة للتطهّر العاجز عن الإصلاح والتغيير: إصلاح زمن وتغيير حالات منبثقة من زمن التخبّطات والخيبات و«الخطايا» المميتة.

السفير اللبنانية في 31 يناير 2008