كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

«المناظرون الكبار» لدينزل واشنطن

رواية سينمائية لمباراة أوباما ـ كلينتون

زياد الخزاعي

يأتي فيلم «المناظرون الكبار» للممثل والمخرج دينزيل واشنطن في وقت انقلابي ضمن مسار الانتخابات الأميركية لهذا العام، من حيث إن صعود نجم السيناتور باراك حسين أوباما (من أب كيني مسلم) وحظوظه في مواجهة منافسته هيلاري كلينتون لضمان ترشيح حزبهما الديموقراطي للتسابق الرئاسي، يشكّلان في وجهيهما الإيديولوجي صراعاً مضنياً بين مبدأي الشراكة العرقية التي تعمّدت طويلاً بالدم والاستقطاب الديني وخطابه اليميني النافذ في الطبقة المتوسطة، التي ترسّخت بالمزيد من الفاشية السياسية. إن المناظرات المتلفزة للثنائي أوباما كلينتون سندٌ وامتداد لفكرة الفيلم الجديد لصاحب «أنتوان فيشر» (2002)، وتعزيز لهدفه الدعائي القائم على توثيق الغلبة الزنجية التي لا تجد منافذ إعلامية تحتفي بانتصاراتها الحقيقية، وإن جار عليها الزمان. هذا الفيلم يؤرّخ حقائق، ويعيد ترتيب حكايات شخصية لعدد من زنوج حقبة الثلاثينيات العنصرية، ليبرهن أن إغماط التاريخ لم يعد هيناً، ناهيك بأن يكون مقبولاً.

تماه مدهش

تَنَاظر أوباما مع منافسته أمام الملايين محصّناً نفسه بنداءي «التجديد» و«التغيير»، ومحرّضاً القطاعات العرقية على أن زمن الملونين أزف. في حال تحقّق وصوله الى البيت الأبيض، فالمعنى القدسي للتسيّد الأبيض لم يعد ناجزاً الى الأبد. فيما تُخوِّف كلينتون يمينيي حزبهما بخيانة الأبرار، الذين حاربوا واستشهدوا في سبيل دولة الديموقراطية الكبيرة ومهماتها الربانية. إن غمزها العنصري يمدّ فيلم «المناظرون الكبار» («عظيمو الشأن» بمعنى آخر) بحصانة لا حدود في تأثيراته التحريضية. ذلك أن البطل ملفن ب. تولسون (أداء واشنطن الفائز بـ«أوسكار» أفضل ممثل عن دوره في «يوم التدريب» في العام 2001) المشرف على المناظرات في كلية والي تكساس، يتماهى الى حدٍ مدهش بطلّة أوباما وعزومه في المقارعات. في المشهد الافتتاحي، نرى الشاب المتأنق وهو يرتقي طاولة دراسية (كما فعلها مدرّس اللغة الإنكليزية جون كيتينغ في فيلم الأسترالي بيتر واير «جمعية الشعراء الأموات»، 1989) ليعلن أمام طلابه الذين عقدت ألسنتهم الدهشة: «أنا الأخ الأكثر دُكْنة»، ويختم خطبته بـ«وأنا أيضاً مواطن أميركي!» مثيراً فيهم نخوة التمرّد. ولئن استعار الأول من صاحب «أوراق العُشب» الشاعر والت ويتمان شعاره، فإن الثاني يذهب مباشرة الى تهكّم نص مواطنه الشاعر والروائي الزنجي لانكستون هيوز وتحريضيته التي كتبها في العام ,1925 والتي دارت حول مائدة طعام يُجبَر على مغادرتها حين يحضرها الأكثر شأناً. إن شخصية تولسون، التي تشع على الشاشة طويلاً، تظهر لنا أولاً أبوية النزعة قبل أن نكتشف أنها ذات نزعات نضالية سرية، حيث تترأس خلية نائمة لشيوعيي الأرياف ومناضليهم الأُول في المجال النقابي. في بداية الفيلم، يظهر تولسون مرتدياً ثياب عمال المزارع متوجهاً إلى اجتماع حزبي، فيما يردّد الدكتور جيمس فارمر الأب (أداء فورست وايتكر الفائز بـ«أوسكار» أفضل ممثل عن دوره في «آخر ملوك اسكوتلندا»، 2006) موعظته بـ«أننا أكثر الناس امتيازاً في أميركا، والسبب واجبنا الهام بخصوص تعليم صغارنا»، وهي الثيمة ـ التبرير لعناد المدرّس الشاب وإصراره على زرع روح المناكفة لدى طلابه، مؤكّداً أن «المناظرة معركة، سلاحكم فيها الكلمة» وأن «المناظرة حلبة دموية، عليكم القضاء على منافسيكم ليس شفهياً بل فسلجياً». ونجد صدى هذا كله في المَسرَحة المتقنة لمناظرات أوباما (المولود في العام 1961 في هونولولو هايتي) وتَشَاطَره قبل أيام على زوجة سيد البيت الأبيض السابق أمام كثرة من المشاهدين، متهماً إياها باستخدام زمرة بعلها ولوبيهم الشرس للمس بأمانته الحزبية، فهيّج الجميع. تتساير المناظرة عند حدود الاستعراض، من دون أن تقع في صخبه الفارغ، متحصّنة بقوة الحجة. وهي وسيلة شحذ همم وتبديد تردد وتكريس قناعات متحصّنة بقوة الأداء.

هان تولسون

يُعلّم تولسون طلابه الحرفية المطلوبة لمواجهة الخصم النادر المعلومات والقناعات. فالاخفاق غير وارد، وهذه الشلّة الصغيرة المكوّنة من طالبين هما هنري لو (نات باركر)، من طينة وضيعة لكنه يمتاز بعقل راجح، وجيمس فارمر الابن (دينزيل ويتيكر) نجل الأكاديمي المعروف، وثالثتهما الشابة الحسناء سامنثا بوك (جورني سموليت) ذات الشخصية القيادية، هذه الشلّة كينونة علمية وبحثية مرادها الفوز بتقدير موهبتها وقوة شكيمتها في تحقيق إجماع سامعيها. وحين تتوالى النجاحات، يتأكد للجميع رهان تولسون على وجوب إلغاء المفهوم التقليدي المتمثّل بـ«أن الزنجي صنوه الفشل». الى ذلك، فإن المحاججة بحسب نص سوزان لوري باركس وروبرت أيسلي (المأخوذ عن مقالة صحافية نُشرت في العام 1997 في مطبوعة «التركة الأميركية») تتحوّل الى دِربَة مشاكسة، إذ إن على منافسيهم ألا يمتلكوا المبادأة بل ان يبقوا مدافعين حتى اندحارهم. ويتبرّر هذا في المشهد الذكي حيث يجمع تولسون فريقه للكلام عن آبائهم، فيرضخ جميس وسامنثا فيما يبادر هنري بقلب المجن على الأستاذ ليطلب منه الحديث عن والده. وبدلاً من الإجابة، يسرد تولسون حكاية قديمة عن سفّاح يدعى لينش استخدمه مُلاّك الأراضي في قصاص العبيد العصاة، ليصل الى نقطته الجوهرية وعمادها أن توهن الجسد وتُرهن العقل (أن يبقى العبد مرتهناً برد فعل سيده)، هما ما أورثه ذلك الوحش لأسياد الحداثة الأميركية في التعاطي مع عبيد جدد عالميين.

ثقل أخلاقي

إن الثقل الأخلاقي في المقاطع التعليمية الأولى (هناك ثلاث مناظرات تمهيدية انصبّت خطاباتها على الاضطهاد والطهرانية السياسية والجريمة والجوع والعطالة والافتداء) قد يثير بعض التبرّم، بيد أنه أرضية درامية صلبة لإقناعنا بمشاكسات تولسون التي تتحوّل إلى حزبية تكاد تطيح برأسه لولا التعاضد المحلي الذي يتوافر حول معتقله لدى قائد الشرطة الأبيض، ومثلها العلاقة الغرامية التي يوفّرها المخرج واشنطن بين هنري وسامنثا كاستعارة لاجتماع الصلافة مع الحنكة (تصفعه بعد أن ثَمِل وعَربَد احتجاجاً على فشلهم في إنقاذ جثة زنجي أعدمته وأحرقته ثلّة من العنصريين البيض طاردوهم لاحقاً من أجل تصفيتهم)، وهي آصرة تتوهّج في نصف الساعة الأخير من الفيلم، عندما يفلح الفريق وأستاذهم في الوصول الى منافسة فريق هارفارد ساطع السمعة ورفيعها في الأوساط الأكاديمية. ما يتحقّق في نص «المناظرون الكبار» ومشاهده الختامية هو اختزال فني لمعركة اعتبارية بين طرف زنجي وآخر أبيض لن تدور رحاها، كما هو متوقّع، حول العنصرية والانعتاق والحقوق المدنية، بل عن الوطنية ومراتبها والاجتهاد في الدفاع عن المُثل الأميركية وتعميمها «كي يتعظ منها كوننا».

يتردّد صدى هذا كله ثانية في مناظرات أوباما/كلينتون حالياً، مع تغيير بسيط في عناوين الأعداء الجدد ومواقعهم وبلدانهم وحروبهم. يظهر جلياً أن المناظرة الحاسمة بين فريقي هارفارد ووالي تطرح جانباً إحدى الثيمات الأساسية في خطاب الراحل مارتن لوثر كينغ بـ«أن الحكم ليس على اللون بل على ما تنطوي عليه الأخلاق»، ليعتصم كل منهما الى بيانات تستعير التاريخ (غاندي وعصيانه المدني اللاعنفي في حالة والي، وحروب أوروبا ضد الغازي الألماني في حالة الطرف الهارفاردي)، قبل أن يحقّق جيمس، الذي يؤسّس في العام 1942 «مؤتمر المساواة العرقية»، اختراقه الإيديولوجي الحاسم عبر خطبة عصماء بدأها باستعارة مجيدة من القديس أوغسطين: «إن القانون الجائر ليس حكماً»، وينهيها بـ«أن واجبي أن أقاوم: العنف أم العصيان المدني؟ اعرفوا، محظوظون أنتم كوني اخترت الأخيرة»، ليرفعوا كأس الفوز والعزّة الأكاديمية التي يرجع فيها الفضل الى تولسون الذي نراه مغادراً البناية العريقة كاشارة الى توضيب معركة مناظرة أخرى تشهد شراسات أوسع بمدياتها حججها ضد عنصريي الألفية الثالثة.

ما عدا بعض الفصول ذات الطابع التنميطي (مشاهد الحانة ومعركتها التي يتورط فيها هنري اليافع مع زوج حسناء هائجة، والشقيقان الأبيضان العنصريان وهما يمعنان في إهانة الدكتور فارمر الأب بعد أن صدم خنزيرهما وقتله، حلم جيمس بمراقصة سامنثا ولاحقاً اكتشافه «خيانتها» له مع هنري الرجولي في كوخه الوضيع، وغيرها)، يرصد المخرج واشنطن صيرورات حكايته التاريخية بكثير من التأني. فهو مجبور على الأمانة، وملتزم بوقائع تاريخية وشخصية هي في عرفه وعرف منتجة الفيلم القطب الإعلامي ومذيعة التلفزيون ذات النفوذ الكاسح أوبرا وينفري، التي مازح أوباما مستمعيه مؤخّراً بأنه سيختارها نائبة للرئيس في حال فوزه، أمور ذات اعتبار أرشيفي (تصوير قدير للفرنسي فيليب روسيلو) تستحق صرف الخمسة عشر مليون دولار على ميزانية انتاجها.

إن فيلم «المناظرون الكبار»، في وجهه الآخر، سيرة ذاتية، وربما لن يجد صداه عربياً، لكنه قطعاً يؤسّس نظرة مغايرة الى جهود نجوم هوليوود من الزنوج المجتهدين في أفلمة شخصيات وحقائق وحكايات أبطال قد تحتاج اليهم حقبة أوباما، التي تقرع أبواب البيت الأبيض بأوراق ناخبين يصلّون من أجل حدوث معجزة توصل ممثل ولاية إيلينوي الى المكتب البيضاوي، وتعيد الاعتبار الى الضمير السياسي وتصنع بعضاً من ألقه الذي خبا مع كثرة دخان المعارك، وهي مقاربة مذهلة لما اجتهد عليه تولسون عندما حقّق مراده عبر الخطبتين البطوليتين لتلميذيه الشابين.

)لندن)

السفير اللبنانية في 31 يناير 2008