كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

لحظة الإلهام في السينما

عدنان مدانات

كنت أشاهد فيلما تلفزيونيا في عرض خاص للنقاد وأتململ في مقعدي بانتظار فرصة الانسحاب من دون ضجيج، حين لفت انتباهي فجأة في مشهد جديد ظهور ممثل ثانوي يجسد دور متسكع ثمل لحظة اعتقاله من قبل الشرطة، فوجدت نفسي منشدا للمشهد وتحديدا لأداء الممثل الذي بدا لي متميزا عن الفيلم كله، وقد سمعت فيما بعد الملاحظة نفسها من بقية النقاد الذين اعتبروا أن الممثل قدم فقرة مبدعة في لحظة إلهام ضمن فيلم لا إلهام فيه لا نصا ولا إخراجا. كان ذاك المقطع، على الأغلب، نتيجة لحظة إلهام انبثقت بشكل عفوي من أعماق لا وعي الممثل الهاوي أثناء اندماجه في الدور.

حين تفكرت في هذا المفارقة تذكرت يوم شاهدت في أحد معارض الرسم لوحة تجريدية كبيرة الحجم معلقة في مكان بارز رغم ما فيها من ضعف واضح في الحرفة. حين عبّرت عن رأيي باللوحة للفنان رد معترفا بضعف اللوحة، ولكنه قال انه معجب جدا بجزء منها يرتاح إليه كلما أمعن النظر فيه، ولهذا علق اللوحة في الصدارة إلى جانب لوحاته الأخرى. تأملت المقطع الذي أشار إليه. كان حجمه صغيرا ويركن في أسفل الزاوية اليسرى من اللوحة ولا يمكن أن يلفت نظر إلا المراقب المتمعن، متقصد التدقيق وشديد الملاحظة. وقد دهشت، إذ بدا لي ذاك المقطع بالفعل جميلا في ألوانه التي توحي بشعلة نار تضفي على الألوان المحيطة بها وهجا خاصا جميلا.

هناك حالات إلهام جزئية مشابهة يمكن أن نجدها في الأدب الروائي والقصصي والشعري، حيث يجد القارىء نفسه تحت تأثير مقطع يسيطر على مشاعره ويستثير خياله إلى حد كبير، مقطع صغير من رواية أو قصة قد لا يعتبرها القارىء على قدر كاف من الأهمية. وفي مجال العلاقة مع الشعر فقد يحصل في بعض الأحيان أن تذهلنا صورة شعرية أو يذهلنا بيت من الشعر في قصيدة ضعيفة المحتوى فقيرة الشكل فتظل القصيدة محفوظة في ذاكرتنا بفضل تأثير بيت شعر واحد أو صورة شعرية.

وفي السينما التي تمتاز بخواصها التركيبية السمعية البصرية، غالبا ما نعثر في الأفلام السينمائية على لحظات إلهام من هذا النوع، تسمح بها طبيعة وإمكانيات السينما، تعطي لبعض مشاهد الفيلم نكهة خاصة وتضيف عليها تفاصيل أو تفصيلا صغيرا يعطي للمشهد بعدا جديدا ودلالة جديدة. وغالبا ما يكون هذا مقحما على سياق المشهد والحدث الأساسي الذي يجري داخله، أو موازيا له، من دون الإخلال بالسرد أو التعارض معه.

في بعض الأحيان تكون هذه الإضافة التي يمكن أن نصفها مجازا بلحظة الإلهام من صنع كاتب السيناريو الذي ضمّن السيناريو مقطعا حواريا ذا قيمة أدبية رفيعة أو جعل إحدى الشخصيات تلقي مونولوجا فيه الكثير من الشاعرية والبعد الفلسفي. وفي أحيان أخرى قد يتمكن مولف الفيلم (المونتير) من ابتكار حل مونتاجي لمشهد ما لم يكن في بال المخرج لحظة الإخراج، فيتسبب إلهام المولف في إغناء المشهد وإضافة أبعاد جديدة على النص الأدبي للفيلم. وقد تسبب لحظة إلهام من مدير التصوير، في إبراز مقطع ما يدهش المتفرجين بجماله. وبصرف النظر عن من هو المبدع الذي أضاف هذه اللحظة للمشهد أو حتى للفيلم ككل، كاتب السيناريو أو المخرج أو المؤلف أو مدير التصوير أو حتى الممثل، فإن وجودها هو الذي يشي بوجود موهبة وخامة إبداعية ويشير إلى الإمكانيات الكامنة والخيارات الممكنة التي يمكن أن يستفيد منها العقل والخيال لخلق حالة فنية أو شعرية من أي شيء.

مثل هذه اللحظات الإبداعية البارزة قد تبقى وحدها في ذاكرة المتفرجين لوقت طويل جدا من بين كل أحداث الفيلم الأخرى التي قد يغيبها النسيان وإن تسببت في بعض الإثارة والمتعة للمتفرج أثناء التفرج.

يتمتع بعض نقاد السينما بتجميع مثل هذه اللحظات والتي قد يستمر بعضها زمن مشهد واحد متكامل، وتحويلها إلى مادة صحفية. وغالبا ما نقرأ في الصحف، وحتى المجلات السينمائية المتخصصة، تحقيقات سينمائية تحت عنوان رئيسي من نوع مشاهد خالدة من تاريخ السينما أو أفضل عشرين مشهد حب في السينما ، وغير ذلك من مشاهد أو مجرد مقاطع من مشاهد يتضمنها الفيلم وقد لا تستغرق من زمنه إلا لحظات ولكنها تترك أثرا لما فيها من لمحات إبداعية.

عمر السينما قرن ونيف. وخلال هذه الفترة الطويلة من الزمن ظهر آلاف المخرجين السينمائيين في أرجاء العالم المختلفة. عدد كبير منهم يتمتع بموهبة فنية ويمتلكون زمام الحرفة وصاروا مشهورين في كل أرجاء العالم. عدد كبير منهم أيضا اخرج بضعة أفلام مليئة بالتوهج الإبداعي والأسلوب الخاص المميز من بين أفلام كثيرة عادية أخرجوها وفقا لمتطلبات السوق وشروط الإنتاج التجارية. لكن المخرجين الكبار العظماء الذين نشأت كل أفلامهم أو معظمها، على الأقل، نتيجة الإلهام الإبداعي ربما لا يتجاوز عددهم المائة، في أحسن الأحوال، عبر تاريخ السينما العالمية كله.

* ناقد سينمائي أردني

الرأي الأردنية في 4 يناير 2008