كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

سُكّر بنات:

رؤية بصريّة تتحرّر من فجاجة الخطاب

فاروق وادي

ينتمي سُكّر بنات ، كما يوحي عنوانه، إلى سينما المرأة. ويمكن القول إنه فيلم المرأة بامتياز. فإلى جانب خطابه النسوي الصريح وهمومه الأنثويّة التي لا توارب في طرح موضوعها من دون افتعال، فإن الفيلم هو صناعة نسائيّة بالدّرجة الأولى. فمخرجته والمشاركة في القصّة والسيناريو والحوار هي نادين لبكي، التي قامت إلى جانب ذلك، بأحد الأدوار الأساسيّة في الفيلم، إن لم يكن الدور الأساس. رغم أن البطولة هنا جماعيّة، وهي أنثويّة في مساحتها العظمى.

وعندما نتحدّث عن خطاب نسوي، فإن العبارة تستجلب من تلقاء نفسها صورة نمطيّة للخطاب الأنثوي التقليدي، الذي يتصدى بصوتٍ مرتفع لذكورة ظالمة، قامعة، تصل أحياناً إلى حدود التوحُّش.

غير أن سكَّر بنات نادين لبكي يأتي عكس ذلك. إنه يتسلل بكاميرا خفيفة وشاعريّة، وفي الوقت نفسه صادمة، ليروي بهمسٍ لا يفصح عن خطابه بتسرُّعٍ، ولا يقول إلاّ بالقدر الذي يحتاج فيه الأمر إلى إفصاح، تاركاً مساحات فراغٍ تتيح الفرصة للتأمُّل والتأويل.

نساءٌ يتحرّكن في دائرة ضيِّقة. حارة من حارات بيروت، أربع منهن يعملن في صالون للتجميل، يسقط عن آرمته حرف من حروف اسمه، ويبقى مُعلّقاً فوق الباب، ناقصاً ومكتملاً في الآن نفسه. ولكلّ من الأربعة ملامحها البدنيّة والشخصيّة.. عالمها وتجربتها الأنثويّة المختلفة، وتحديداً تجربتها في الحبّ. لا توجد في حياة الواحدة منهن أشياء غير عاديّة، وإن كان ذلك الهدوء يخفي صخباً وعنفاً لأرواحٍ هائمة تعيش قلقها وضجيجها. ومع أن حيواتهن لا تشهد أيّة إنعطافات حادة، فإنها لا تخلو من منغصاتٍ تُعكِّر صفوها، ورغم ذلك فإن الحياة تواصل سيرها المُعتاد.

الأولى، تعيش يومها مرهونة ببوق سيّارة، أو رنّة الخلوي، فتهرع لملاقاة رجلها. وغالباً ما يتمّ اللقاء المُختلس في سيّارتها، المتوقفة عند زاوية بعيدة متوارية عن الأنظار، أو أسفل جسر ينأى قليلاً عن ضجيج الحياة. وعندما يتم ترتيب الأمور للّقاء في فندقٍ يقع في دائرة الشبهات، يستقبل العلاقات العابرة بين العاهرات وزبائنهن، يفشل اللقاء. فالرجل متزوِّج وهو يعد بتطليق زوجته، لكن ذلك لم يحدث. وإمعاناً في نفي الحضور المادي له، فإن كامير نادين لبكي لم تحاول اختلاس لقطة قريبة لملامح تلك الذكورة المعشوقة، فلا يظهر الرجل إلاّ كظلٍّ، في لقطة بعيدة داخل سيّارة متوقفة في مرئابٍ ناءٍ أو في منطقة شبه مهجورة. وعلى الجانب الآخر، ثمّة رجل آخر، هو شرطي المرور في الحارة، يُبدي إعجابه بالفتاة نفسها، ويتحرّش بها من خلال الضبوطات التي يسجلها عليها، فلا يكون أمام زميلاتها سوى دعوته إلى الصالون لتأنيثه شكلياً. على الأقل عبر نتف شاربه وحاجبيه بعقيدة السُّكر والليمون.

المرأة الثانية، تبدو أكثر استقراراً. فهي مخطوبة لشابٍ يحبُّها، وإن بدت عليه علائم التهوُّر أحياناً. لكن هذا الاستقرار يقوم على حالة نفسيّة رجراجة تُفصح عن نفسها في لحظة انفجار. فقد عرفت رجلاً آخر من قبله، وتمادت في علاقتها معه، فلم يعد أمامها سوى ممارسة الخديعة ورتق بكارتها بمساعدة صديقاتها الثلاث (رغم الدلالة المبتذلة للقطع المونتاجيّ لعمليّة الرتق مع السحبة السريعة لماكينة الخياطة).

المرأة الثالثة، هي الأكبر سناً بينهن، والتي يبدو أنها ودّعت صباها ودخلت ما يسمّى سنّ اليأس . غير أنها، وأمام إخفاقها في تصوير إعلانات الترويج للبضائع، تظلّ حريصة على ادّعاء أن الدورة الشهريّة ما تزال تراودها وتترك آثارها عليها، وهي تحرص على ترويج خديعتها للملأ.

أمّا الصديقة الرابعة، فتبدو بعيدة إلى حدّ كبير عن الهموم الأنثويّة، العاطفيّة والجسديّة. حتّى إنها تخوض تجربة مريرة مع انتزاع صديقاتها الشعر الزائد عن ساقيها بعقيدة سُكّر البنات. وهي تملك أصابع سحريّة، ما إن تمسِّد بها فروة الرأس لإحدى زبوناتها، حتّى تستثير لديها تهويمات ولذاذات تغنيها عن ذكورة تبدو لها نافلة.. بعد أن تحققت أنوثة الأنثى وبلغت حالة عاطفيّة إستثنائيّة بفعل تلك الأصابع الدّربة.

إلى جانب الشخصيّات النسائية الأربع، ثمّة أربع شخصيات نسائيّة أخرى: امرأة مخبولة، لا تخلو من طرافة، تُخفف شحنة الحُزن المهيمنة على امتداد الشريط، وهي تقوم بجمع الأوراق عن الشّارع والمخالفات المروريّة عن السيارات المتوقفة، بوصفها رسائل حبّ موجّهة إليها. أمّا أختها الخيّاطة (وهي من أجمل شخصيات الفيلم، وتجسدها ممثلة تمتلك قدرة هائلة في تعبيرات وجهها الصّامت)، فإنها تقع، في غسق عُمرها، في عشق جنتلمانٍ فرنسيّ يتردد عليها لتعديل ملابسه. لكنها تكتشف في لحظة وعي أنها تعيش وهم الحبّ لا الحبّ نفسه، فتتراجع مُحبطة، لتُساعد، في مشهد النهاية، أختها المخبولة على جمع رسائل الوهم عن الشّارع.

وثمّة شخصية نسائية أخرى مُهمّشة: زوجة الرجل عشيق الأولى، والتي لا تشعر بأزمتها وخيانة زوجها، فتمارس حياتها من دون مشكلات تُذكر، ومن دون أن يظهر رجُلها حتّى معها، فكأنه الحاضر الغائب، زوجاً وعاشقاً ومعشوقاً.

لكن المسألة الأهم، التي تستدعي التأمُّل والتأويل، هي النهاية التي اختارتها نادين لبكي لفيلمها. فقد نأت تلك النهاية عن تقليديّة رصد مصائر بطلاتها الأساسيات، والتركيز عوضاً عن ذلك على المرأة التي وجدت سعادتها القلبيّة والعاطفيّة بين أصابع امرأة أخرى، خلّصتها من قيد أنثويّ ثقيل تمثّل في شعرها المنسدل، ومنحتها أصابعها الذهبيّة سحراً وحباً قد لا تجده في الأصابع الخشنة للرجل. فهل كانت تلك المرأة، التي أقفلت النهاية على تحليقها مع أغنية سعيدة لاستعادة الحبّ هناك، هي الشخصيّة الأنثويّة التي وجدت سعادتها مع الأنثى؛ في حين أخفقت أخريات في تحقيقها مع الرجل؟!.

مع ذلك، وبصرف النظر عن اختلافات التأويل، قدّمت نادين لبكي فيلماً ساحراً في بساطته، قادراً على العبور بسلاسة إلى عالم المرأة، لكي يقول قوله من دون أن تُفصح الأيدولوجيا النسويّة عن نفسها بعصبيّة وابتذال، ومن دون أن تتاجر بالجسد الأنثوي كسلعة لترويج بضاعتها، رغم أن نسائها يبدين متحرراتٍ في الحركة والملبس والكلام.

لقد عكست تجربة إخراج الفيديو كليب، التي خاضتها لبكي باقتدار قبل اقتحام عالم السينما الأكثر رحابة، نفسها إيجابياً، وتمثّل ذلك بالإيقاع السريع للقطات والمشاهد والعبارة البصريّة المُختزلة، والمونتاج الذكيّ الذي منح الحركة العادية للحيوات التي يرصدها الفيلم، إيقاعاً يطرد النوافل البصريّة عن بنيته. وربما أسهمت تجربتها التمثيليّة مع فيليب عرقتنجي في فيلم البوسطة ، في تطوير الإحساس بالإيقاع الجسدي وحركيّته السريعة، فاستثمرتها بذكاء لا يعيد تكرار التجربة.

فيلم سكّر بنات تجربة أولى لمخرجته، ولدت ناضجة فنياً، وهي تعيد للأنثى شرف الإمساك بقضيتها بنفسها على المستوى الفني، وطرح أسئلة وجودها، وصياغة خطابها الفني المُتحرِّر من فجاجة الخطاب، ومباشرته، وسطحيّته.

* كاتب أردني

Wadi49@hotmail.com

الرأي الأردنية في 4 يناير 2008