كتبوا في السينما

 

 
 

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

الجزيرة

رفيق الصبان

يسعد الناقد السينمائي حقا .. عندما يتفق رأيه وحكمه علي فيلم ما مع رأي الجمهور ويحس أن هناك تواصلات فنيا .. بين ما يقوله هو.. وما يحسه هذا الجمهور وهذا بالطبع اقصي ما يحلم به أي كاتب في أي مجال يعمل به فنيا كان أم سياسيا أم اجتماعيا.احساس الاعجاب العميق الذي راودني عند مشاهدتي لفيلم «الجزيرة» الذي أخرجه شريف عرفة أكده تصفيق الجمهور في اصالة عند نهاية هذا الفيلم الذي يعيد للسينما المصرية بهاءها وتأثيرها ومستواها.«الجزيرة» ليس فيلما سياسيا أو اجتماعيا أو عاطفيا كما جرت العادة في تصنيف الأفلام بل هو فيلم حركة .. لا يخفي هويته ولا يتجاهلها .. ولكن رغم أن الحركة هي المعيار الأول للحكم عليه، فإنه في الواقع يملك كل هذه الصفات السابقة .. فهو فيلم يضع قناع الحركة ليعبر عن موا ضيع سياسية وعاطفية واجتماعية بالغة الخطورة والتأثير.إنه فيلم يطرح نفسه كفيلم عن مافيا المخدرات مستخدما من أحداث واقعية ومن شخصية شغلت الرأي العام قبل سنوات.. بمغامراتها وقوتها وتسلطها علي منطقة في الصعيد.. أصبحت فيها الحاكمة بأمرها .. تشعر الدولة تجاهها بخوف ما فتحاول تجاهل نشاطها عوضا عن مواجهتها والقضاء عليها، ومن خلال هذه النقطة بالذات ينطلق شريف عرفة ليقدم لنا واحدا من أقوي أفلامه علي الاطلاق، ويؤكد مكانه أيضا كواحد من أهم مخرجينا اليوم، فكرا وأسلوبا ومنهجيا، أنه يعيدنا بفيلمه هذا إلي عصرنا الذهبي في السينما .. حيث كانت الأفلام تقول شيئا وتعرف كيف تقوله بدقة واحكام.الفيلم يبدأ برسم شخصية «الكبير» شابا قد أتم تعليمه وعاد إلي الجزيرة وهي الموقع الذي اتخذه والد الكبير مقرا له ومكانا لفرض سلطته ونفوذه .. علي بقية «العشائر»، التي تقطن هذه الجزيرة والتي سلمت إليه مقاليد أمورها ربما علي مضفي انتظارا لتحول ممكن في ميكانيكية «السلطة».السلطة تتمثل في مملكة حقيقية لتجارة المخدرات يرأسها هذا «الكبير» الذي يحكم الجزيرة كلها بأوامره وسلطته ونفوذه التي لا يمكن لأحد أن يعارض فيها.وصول «الابن» هو تمهيد حقيقي لكي يرثه ويجعله رغم صغر سنة «كبيرا» جديدا رغم الضيق الذي أصاب أخيه الذي كان يطمع في هذا المنصب.. وضيق «العشيرة» الثانية التي تطمع في وراثة هذا المركز الكبير ربما لأنها تجد نفسها أحق من أسرة الكبير به.منذ البداية أذن نحن أمام حرب تنافس علي السلطة .. خصوصا وأن هذا الكبير الذي يحكم قد وصل إلي حدود الشيخوخة .. وبدأ المرض يسري في أوصاله.لكن «الكبير» قد نوي أن يورث مركزه لابنه الشاب مهما كانت الصراعات التي تحيط به، والابن الشاب علي علاقة حب قديمة مع فتاة من العشيرة المنافسة .. يحبها وتحبه ويطمعان في زواج قريب يكلل هذا الحب ويتوجه.إذن منذ بداية الأحداث نمسك انفاسنا متوقعين ما سيحدث وكيف سيحدث، أما علي الجانب الآخر، جانب الحكومة والدولة والبوليس .. فهناك حالة تربص تكمن وراء تواطؤ واضح بين المسئول الحكومي الكبير وبين «دولة» الكبير قوامها مصالح مشتركة وتجارة مخدرات رائجة ينتفع منها الجميع، ورغم «العداء الظاهري» الذي لابد له أن يخدع الجميع .. هناك صلة تعاون ومهاونة .. ووضع الغطاء علي العيون.وهذا تسير الأمور في مجراها ولا مانع بين حين وآخر من التظاهر أن هناك حربا وملاحقة وهمية لا تثمر علي شيء مهم آخر الأمر.وتنعقد الأمور قليلا .. عندما يرسل الجهاز الحكومي في القاهرة مأمورا شابا إلي الصعيد وإلي منطقة الجزيرة بالذات لكي يحرك الأمور ويري ما يجري تحت الماء الراكدة.يصاحب ذلك اشتداد المرض علي الكبير .. الذي يعطي السلطة في لقاء يجمع العشائر كلها إلي ابنه ويسميه «الكبير» أمام غضب أخيه الذي يكتمه في صدره.. وغضب العشيرة الأخري التي تقرر التمرد علي هذا القرار .. ولكن تتمسك بالصبر رثيما يرحل «الكبير».حتي هذا الجزء من الفيلم يبدو التماسك الدرامي قويا مدهشا كما تبدو الحرفة السينمائية التي يملكها شريف عرفة صاخبة موحية، بالإضافة إلي الأداء المدهش حقا من محمود ياسين الذي يلعب دور الكبير «الأب» بحرفية وقوة وسلاسة واقناع تذكرنا بأن الخمر الجيدة تزداد تأثيرا مع السنين.إنها عودة مضيئة لفنان كبير زاوته السنون خبرة وتمكنا ومقدرة.محمود ياسين يجثم بظله الكبير علي أحداث الفيلم الأولي كلها .. ولا يترك لغيره مجالا للتنفس، رغم براعة الممثلين الذين يحيطون به والذين ستنفجر مواهبهم واضحة بقوة بعد «رحيل» الكبير عنهم.أحمد السقا الذي يعود إلي أفلام الحركة، بعد فيلمين قدم منهما أفلاما عاطفية .. حقق أحدهما «تيمور وشفيقة» نجاحا كبيرا يستحقه .. ولكن ها هو السقا يعود إلي «طبقه» الأصلي، ولكنه هذه المرة يؤكد قدرته الحركية بقدرة تمثيلية تعبر عن نضج فني حقيقي.. انه يوازن به مشاهده العاطفية مع «هند صبري» وبين محاولته تحمل عبء الآرث المخيف الذي وصل إليه من والده .. ثم قبوله التضحية بحبه ارضاء لرغبة ابيه في تزويجه من ابنة عشيرة أخري محايدة وتابعة له، ثم محاولته لبس ثوب القوة الذي عليه أن يلبسه لمواجهة وضعه الجديدة، ثم محاولاته «الثعلبية» للتوافق مع ممثل السلطة.خالد الصاوي يلعب دور ممثل الحكومة، أي ممثل السلطة الكبري الذي يواجه السلطة الصغري ب ظاهرية .. وحرب خفية قوامها المصالح والكسب المشروع وغير المشروع.إنه يعلب لعبة يمسك فيها الحبل من طرفين، ويؤدي خالد هذه الشخصية المركبة بقوة وتأثير ماسا بأعماقها .. قادرة علي تجسيدها بقوة وثقة ولعلنا نستطيع أن نعتبر هذا الدور أهم دور لعبه الصاوي علي الشاشة بعد دوره المثير للجدل في «عمارة يعقوبيان»، وأنا أعتقد أنه في هذا الدور الجديد.. استطاع أن يلعب ببراعة علي عدة محاور .. بينما لعب علي محور واحد في «يعقوبيان» بقيت المفاجأة الحقيقية في الأداء في شخصية «العم» ويؤديها باسم سمرة بتمكن ممثل خبير وحضور بارز طاغ علي الشاشة تؤيده ملامح قاسية ووجه صخري تنبعث منه أحيانا كشرارات النار، تعابير التمرد أو الرضوخ أو التأمل أو الرغبة بالإبقاء علي التوازن المطلوب في هذه «العشيرة» التي تحكم جزيرة كاملة وتشكل حكومة صغري في رداء الحكومة الكبري.دور سيحسب طويلا لباسم سمرة وربما كان الخطوة الأول نحو نجومية يستحقها وقد طال انتظارها شريف عرفة هو قائد الأوركسترا الماهر الذي عرف كيف يوزع آلاته المتعددة، وكيف يجعل اللحن المأساوي أو العاطفي ينطلق بقوة الشهاب.إنه سار فيها منذ بداية الفيلم سيرا وتبدأ اشبه ما يكون بلحن مجموعة من القيثارات مثل أن يتفجر في مشهد المذبحة الأولي .. التي تقوم بها العشيرة التي تطمع في الحكم في يوم العزاء بالكبير.محاولة قتل الجميع .. ولكن الكبير الجديد ينجو بأعجوبة ويلم صفوفه تمهيدا لثأر لابد له أن يتم.تنفيذا للقوانين الصعيدية الصارمة وتأكيد لنفوذه الجديد خصوصا بعد أن قتل زعيم العشيرة المخالفة أمه وزجته .. قتلا عنيفا مأسويا واستطاعت حبيبته القديمة أن تنجو بطفله وأن تخبأه لديها حفاظا علي حبها القديم للكبير.كل هذه الخيوط تؤكد الفصل الثاني من هذه المأساة التي تشيد في أحداثها وشخوصها اليونانية القديمة.خصوصا عندما يأخذ الكبير بثآره ويقوم بالغارة المضادة ويقتل شقيق حبيبته أمام عينيها، ولكن رغم كل هذه الدماء يبقي الحب عاقبا قويا ينثر عطره علي الشخصيات والأحداث حتي آخر لقطة من الفيلم.مذبحتين أو معركتين قدمهما شريف عرفة باتقان تكنيكي مدهش يقف علي قدم المساواة علي أغلب مشاهد المعارك التي تقدمها السينما الأمريكية .. إن لم نكن تفوتها أحيانا بحساسية شرقية دافئة .. وبانفعال عاطفي مكتوم.وليست مشاهد المعارك وحدها هي التي أجادها شريف عرفة، ولكن رقته المدهشة وشاعريته الخفية التي ابداها في مشاهد الحب القليلة التي جمعت به السقا وهند صبري والتي تؤكد مهارته وحسه الجمالي وعاطفيته الحساسة.الجزء الثاني من الفيلم ينتقل من الصراع علي السلطة به عشيرتين إلي الصراع الحدودي الصارخ هذه المرة بين السلطة الرسمية وسلطة الكبير في جزيرته.. حيث يفسح المجال لدور متمركز فيه نارين يلعبه محمود عبدالغني ببرود يثير الدهشة أحيانا ولا ينجم مع المزاج الناري الذي عودنا عليها هذا الممثل الشاب وأثار اعجابنا سابقا.السلطة .. تقرر الكشف عن وجهها والكف عن لعبة القط والفأر وتعبأ كل إمكانياتها لتدمير الجزيرة وقتل تجار المخدرات ومروجيها.وهنا يضعنا شريف عرفة أمام صراع جديد من نوع خاص يؤكده سينمائيا بأكثر من مشهد ناجح ويرتفع بأداءه الموسيقي السينمائي إلي مرتبة عالية من التأثير.«الجزيرة» فيلم يجمع بين ثناءات متعددة سيناريو شديد الذكاء والإيماء من محمد دياب، وإخراج متمكن فعال بدي علي موهبة مشعة وقدرة سينمائية متفوقة من شريف عرفة الذي عاد لنا أخيرا وأعاد للسينما المصرية اشعاعها وبريقها القوي.وأداء خارق من مجموعة الأبطال الذين حركهم المخرج بمهارة وأخرج منهم خير ما عندهم .. يقف علي رأسهم محمود ياسين بكل خبرته وحضوره وسطوته وجبروته.لقد جاءنا «الجزيرة» في موسم العيد وهو حقا «عيد» سينمائي بحد ذاته لنا جميعا.

جريدة القاهرة في 1 يناير 2008