حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان برلين السينمائي الدولي الثاني والستون

افتتاح الـ«برليناله» مساء اليوم بفيلم «وداعات الملكة» الذي يُصوِّر الثورة الفرنسية

«الربيع العربي» حاضرٌ في أفلام وطاولات مستديرة

نديم جرجورة

بلغ المهرجان عامه الثاني والستين. لم يشخ. لا يزال قادراً على أن يكون مرآة حقيقية لإنتاج سينمائي متنوّع. الأعوام كلّها تُزيدها شباباً. تزيده حيوية وقدرة على إثارة النقاش. تجعله مواكباً تفاصيل اليوميّ، ومنفتحاً على ما تجود به مخيّلات كثيرة. بلغ المهرجان عامه الثاني والستين. مساء اليوم، تُفتتح الدورة الجديدة بفيلم فرنسي استعاد مرحلة بدايات الثورة الفرنسية. كأن الافتتاح هذا تأكيدٌ على شباب متوقّد. على توغّل أكبر في معنى الثورة ومثيلاتها الناشئة هنا وهناك. الفيلم الفرنسي حمل عنوان «وداعات الملكة» لبونوا جاكو. الامتداد الثوريّ موجود خارج المسابقة الرسمية ذات الأفلام الثمانية عشرة.

ثورات

الامتداد الثوري متمثّل بـ«الربيع العربي». لم يكن ممكناً تجاوزه. قبل أسابيع قليلة، احتُفل بذكرى مرور عام واحد على ولادته. في أيار 2011، أفردت إدارة مهرجان «كانّ» السينمائي حيّزاً لهذا «الربيع العربي»، مُقدِّمةً بعض المتوفّر. في شباط 2012، بات يُمكن لمهرجان سينمائي عريق كالـ«برليناله» أن يجعل الدورة الثانية والستين منبراً لتواصل أكبر حجماً مع نتاجات هذا الربيع، سينمائياً وثقافياً وإنسانياً. مع نتاجات الجغرافيا العربية أيضاً، التي صنعها سينمائيون عرب، أو سينمائيون قدموا إليها من مجتمعات وثقافات أخرى. لا أعرف ما إذا كان اختيار فيلم فرنسي دارت أحداثه الدرامية في ظلّ بداية الثورة الفرنسية، بكل ما تعنيه الثورة من تغييرات جذرية في مفاهيم وقواعد وطقوس وسلوك حياتي، متوافقاً واحتفاء «برليني» بنتاجات سينمائية «أنتجها» هذا «الربيع العربي». الاحتفاء متمثّل بعرض أفلام متنوّعة، وتنظيم طاولات مستديرة لمناقشة ثنائية «العالم العربي والسينما»، سواء عبر «الربيع العربي» أم خارجه، يُشارك فيها عددٌ من المدعوين العرب والأجانب، أمثال الروائي المغربي الفرنسي الطاهر بن جلّون والسينمائيين اللبناني محمود حجيج والتونسية الفرنسية ناديا الفاني والمصرية هالا جلال والسورية هالة العبدالله، بالإضافة إلى الفنانتين المصريتين مهى مأمون وساره ريفكي وغيرهم، إلى الممثل الإسباني خافيير بارديم: «برنامج الـ«برليناله 2012» يتناول ما بات يُعرف باسم «الربيع العربي»، ويبحث تطوراته انطلاقاً من احتمالاته المختلفة وأشكاله المتنوّعة»، كما جاء في البيان الصحافي الرسمي الخاصّ بإدارة المهرجان الألماني الدولي. هذا كلّه انطلاقاً من أفلام وثائقية، رأى البيان نفسه أنها «أوضحت معالم المنطقة، وعالجت الأحداث الراهنة من وجهات نظر مخرجين عرب وسينمائيين قادمين من أنحاء متفرّقة من العالم».

هناك أيضاً أفلام روائية ووثائقية لمخرجين عرب تستكشف هذه المنطقة الجغرافية، من دون الاقتراب مباشرة من الثورة: «بدلاً من هذا، طرحت الأفلام أسئلة وجودية أساسية، وتناولت مسألة الحاجة إلى تحديد الهوية. في بعض الحالات، تمّ تحقيق هذا كلّه بكثير من الفكاهة». في البرنامج العام لهذه الدورة الجديدة، المنتهية مساء التاسع عشر من شباط الجاري، جاء أنه «بالإضافة إلى عرض الأفلام في الأقسام المختلفة للـ«برليناله»، سيكون للسينما العربية حضورٌ مهمّ في «سوق الفيلم الأوروبي» أيضاً».

من العناوين المطروحة للنقاش في الطاولات المستديرة: «فن الفيديو المعاصر في لبنان»، «دليل سينمائيي كروا ميديا 2»، «تغيير الاحتمالات: العالم العربي يُحدّد مستقبله»، «توثيق الثورة»، إلخ. هناك أيضاً جلسة خاصّة بسوريا، وثانية بالقاهرة بعنوان «المدينة، الصُوَر، الأرشيف». من الأفلام المختارة: «كما يقولونه» للمغربي نبيل عيّوش، «باي باي» للمصري بول جيداي، «أبي لا يزال شيوعياً: أسرار حميمة للجميع» للّبناني أحمد غصين، وغيرها. هناك أيضاً أفلام مُشاركة في «بانوراما»، كـ«بيع موت» للمغربي فوزي بن سعيدي، «في ظلّ رجل» للمصرية حنان عبدالله، «العذراء، الأقباط وأنا» للمصري الفرنسي نمير عبد المسيح، «أخي الشيطان» لسالي الحسيني (المملكة المتحدّة)، «ولاية» للإسباني بيدرو بيريز روزادو، «كلمات الشاهد» لمي إسكندر (الولايات المتحدة الأميركية) وغيرها.

تداعيات

لم يكن «بيع موت» (2011) لبن سعيدي متساوياً مع الجماليات الباهرة الخاصّة بـ«ألف شهر» (2003)، فيلمه الروائي الطويل الأول، المُنجز بعد سلسلة أفلام روائية قصيرة، أبرزها «الحافة» و«الجدار». لم يكن متساوياً مع الفضاءات الإنسانية المفتوحة على الجحيم والخراب والتمزّق، المرسومة بجمالية واضحة في «كم هو عالم رائع» (2007). غير أن هذا ليس انتقاصاً من العمل السينمائي، بل محاولة فهم التداعيات الدرامية والفنية والجمالية التي انتزعها بن سعيدي من فيلميه الأولين، أثناء اشتغاله فيلمه الثالث. فالتداعيات تلك مفتوحة على احتمالات شتّى، أبرزها سؤال القدرة الذاتية للمخرج على الأداء التمثيلي، صوتاً وحركة وتفاعلاً مع مسار الأحداث، بعد أن ظلّ ممثلاً صامتاً في فيلمه الثاني، مرتكزاً على حركة الجسد وتعابير الوجه والانفعالات الظاهرة من العينين مثلاً. الصمت بات كلاماً. والكلام بلغ مرتبة الثرثرة، أحياناً، على الرغم من أن شخصية المحقّق الأمني التي قدّمها ظهرت في لقطات قليلة قياساً لمسار أحداث الفيلم. أياً يكن، فإن الحبكة المستلّة من تشابك القصص والشخصيات، ومن تداخل الأحداث وتعقيداتها، أبرزت صُوَراً قاسية عن بؤس الفرد في مقارعة الحياة والدنيا والناس.

هذه المقارعة حاضرة في «ولاية» لروزادو أيضاً: أبناء الصحراء المنبوذون في صحرائهم بين دول رافضة منحهم بلداً واستقلالاً، يواجهون عسف الحياة والدنيا والناس أيضاً، بدءاً من التمزّق داخل العائلة الواحدة (إرسال الأم ابنتها إلى إسبانيا، وما أحدثه من انشقاق نفسي وروحي وذاتيّ بينهما)، وصولاً إلى تمزّق الحياة وقسوتها. الابنة العائدة من غربتها الإسبانية، لم تجد أمّها، بل مجتمعاً مقيماً في الخيبة والانفتاح على شقاء لا حدّ له. الإمعان في تصوير اليوميات والتفاصيل أثمر صُوَراً سينمائية جميلة، وإن غرق مضمونها في الألم الجماعي والقلق الفردي.

إذاً، اختارت إدارة الـ«برليناله» افتتاح دورة العام 2012 بفيلم فرنسي خاصّ بثورة العام 1789: في ذاك العام، بدأ فجر الثورة الفرنسية يبزغ. بل بالأحرى، بدأ الفجر يتمدّد زارعاً بذور التغيير. غير أن المقيمين في «قصر فرساي» استمرّوا بالعيش كما اعتادوا، في حياة لا مبالية ووقحة إزاء الحدث، وبعيداً عن «الضجّة» الهادرة في باريس. وعندما وصل نبأ الاستيلاء على «باستيل»، فرغ القصر بعد هروب النبلاء والخدم. أما سيدوني لابورد، القارئة الشابّة الوفيّة كلّياً للملكة، لم تشأ تصديق ما سمعته من أنباء. المحميّة من قِبَل الملكة ماري ـ أنطوانيت، كانت مطمئنة إلى أن لا شيء يُمكن أن يُصيبها. كانت تجهل أنها تعيش الأيام الثلاثة الأخيرة إلى جانبها. الفيلم الفرنسي الثاني المُشارك في المسابقة الرسمية، التي تخضع للجنة تحكيم برئاسة السينمائي الإنكليزي مايك لي، حمل عنوان «لي وحدي» لفردريك فيدو: علاقة معقّدة ومتداخلة بين غايل وفنسان، على مدى ثمانية أعوام، عاشت غايل خلالها أسيرة فنسان، إذ «مثّل» كل واحد منهما «كل شيء» بالنسبة إلى الآخر. فجأة، تحرّرت غايل. غيرأن حريتها شكّلت تحدّياً إضافياً لها: لقد سعت جاهدة للحصول عليها مجدّداً، أو لحمايتها بالأحرى، أو لاكتسابها ثانية، إزاء أهلها والعالم الذي بدأت تكتشفه. هناك ما يشي بسؤال أخلاقي: معنى الحرية الفردية، في مقابل حاجة البعض إلى التملّك.

أفلامٌ عديدة داخل المسابقة الرسمية وخارجها. الذاهب إلى برلين لحضور مهرجانها مدعوّ إلى وليمة سينمائية ضخمة، لا شكّ في أنه سيخرج منها متخماً بجماليات وهواجس، أو مُحرَّضاً على إعمــال العقل في مقاربة العناوين وأشكالها. هذه عادة المهرجــان: اختيار عدد كبير من الأفلام، وتوزيعها على برامج ومــسابقات واحتفالات واستعادات وغيرها. العدد الكبير غالباً ما يحمل تنويعات جميلة مثيرة لمتعة العين، وسؤال العقل.

كلاكيت

بين الناقد والموزِّع

نديم جرجورة

هل يحقّ للموزّع السينمائي أن يفرض قرارات معيّنة على الصحافيّ أو الناقد السينمائي، مُطالبا إياه، مثلاً، بنشر تعليقه في وقت محدّد، يتزامن وموعد إطلاق العرض التجاري لهذا الفيلم أو ذاك؟ وإلاّ، فإنه يحرمه من المُشاهدة المسبقة للفيلم في «عرض صحافي»، إذا لم يوافق على تنفيذ رغباته وقراراته؟

من أسس العلاقة القائمة بين صانعي السينما وناقدي نتاجاتها، هناك عُرفٌ معمولٌ به منذ سنين طويلة: إتاحة الفرصة للناقد أو الصحافي السينمائي لمُشاهدة الفيلم في عرض خاص، قبل إطلاق عرضه التجاري، لتوفير مادة مهنية للتعليق عليها أو لتقديمها إلى قارئ/ مُشاهد، إما قبيل موعد بدء العرض التجاري، وإما بالتزامن معه. هذا عُرفٌ معمولٌ به في شتّى أنحاء العالم. انتقل العُرف إلى لبنان تحديداً، لأن الموزّعين اللبنانيين للأفلام الأجنبية مرتبطون، مهنياً، بالموزّعين الأجانب. هؤلاء الأخيرون هم الذين يفرضون شروطهم وأجنداتهم على الموزّعين اللبنانيين والعرب، لأن لهم خططاً معيّنة، ومصالح خاصّة، تحتّم عليهم تحديد مواعيد إطلاق العروض التجارية في أوقات معيّنة.

لكن، إلى أي مدى يُمكن للعلاقة القائمة بين الموزّع المحليّ والناقد/ الصحافي السينمائي أن تصل؟ أحياناً، يتمنّى الأول على الثاني عدم التعليق على الفيلم قبل موعد محدّد، لأسباب إنتاجية أو توزيعية. في المهرجانات التي تختار أفلاماً تُعرض للمرّة الأولى، بات المسؤولون يفرضون شرطاً واحداً على العاملين في مواقع إلكترونية فقط: «رجاء، لا تُعلّقوا سريعاً على الفيلم بعد مشاهدتكم إياه في عرضه الصحافي، لأن العرض الجماهيري الأول سيُعرض لاحقاً». أحياناً أخرى، يقع صدام بين الطرفين. ربما لأن الناقد/ الصحافي السينمائي يرفض الخضوع لابتزاز الموزّع أو المنتج أو المخرج، متسلّحاً بحقّه في المُشاهدة المسبقة. هذا حصل مؤخّراً في هوليوود، عند عرض «الفتاة ذات وشم التنين» لديفيد فينشر: حدّد المنتجون موعداً للنشر فارضين على النقّاد التوقيع على تعهّد بذلك. أحد النقّاد رفض، وخالف «التعهّد» الموقَّع، معيداً طرح المسألة على النقاش.

في الغرب هناك نظام متكامل، له قواعده وأصوله، كما نزواته. المسألة محسومة: للناقد/ الصحافي حقّ في المُشاهدة المسبقة. في الكتابة في موعد يُحدِّده هو. احترام رغبة أو تمنّ مقبول. لكن الفرض مرفوض. التعهّد أيضاً. التحدّي والمنع. في لبنان، الأمر مختلف: هناك موزّعون منتبهون إلى معضلة القراءة. مقتنعون بأن الترويج التلفزيوني الدعائي أهمّ وأفضل من التعليقات النقدية، التي تُحلِّل وتُفكّك الصنيع الفني. مقتنعون بأن مُشاهدين لبنانيين كثيرين لا يقرأون. هؤلاء يتعاملون مع نقّاد وصحافيين بشكل عاديّ للغاية: شاهدوا واكتبوا وعلّقوا وافعلوا ما يحلو لكم. نجاح فيلم أو فشله حكرٌ على مشاهدين لا يقرأوان، ولا يُشاهدون برامج تلفزيونية خاصّة بالسينما.

المشكلة الأخرى: انزعاج موزّعين من مقالات نقدية ليست لصالح الفيلم. هل باتوا نقّاداً هم أيضاً؟
إنها معضلة. لكن البعض متصالح مع نفسه إزاءها.

السفير اللبنانية في

10/02/2012

 

الدورة الثانية والستون تفتح أرشيف 600 فيلم من الزمن الروسي ــ الألماني:

مهرجان برلين السينمائي بين ثورتين!

هوفيك حبشيان - برلين 

هذا المساء، تبدأ دورة جديدة من مهرجان برلين السينمائي، وهي دورة "غامضة" لا نعرف عنها الكثير، قد تصيب وقد تخيب. عناوين أفلام متنوعة، أسماء معروفة واخرى ناشئة او مطلّة حديثاً علينا، تكريم ميريل ستريب، نقاشات حول ما يجري في الميادين العربية، هذا كله يجعل من الـ"برليناليه"، حدثاً لا يمكن تكهنه أو محاصرته الا "على الأرض"، في حين يصعب الوصول الى استنتاجات دقيقة حول ماهية الاختيارات وقيمتها الفنية الا بعد مرور الأيام السبعة الاولى.

أولاً، لا بأس بالتأخر عند لجنة التحكيم: تشكيلة من المواهب الاستثنائية في مجالات مختلفة ومن أطياف متعددة، تبدو الهوة بينها كبيرة. يتردد دائماً: "قل لي ممّن تتألف لجنة التحكيم، أقل لك مَن يربح". هذه النظرية غير صالحة هنا. إذ يبدو ان مدير المهرجان، ديتر كوسليك، حرص على تشابك الاضداد. الرئيس ليس أقل من مايك لي، صاحب سعفتين في كانّ. انه واحد من جهابذة السينما الـ"بريتيش". الرجل الذي سيتبوأ هذا المنصب المرموق خلفاً لايزابيلا روسيلليني نعرف هواه جيداً. وهو كان اعلن العام الماضي في نقاش انه لا يُحب أن يقلَّد. معه في اللجنة: أنطون كورباين، المصور الهولندي البارع الذي أدهشنا بفيلمه "الأميركي"، بطولة جورج كلوني؛ أصغر فرهادي الحائز "الدبّ الذهبي" العام الماضي عن تحفته "نادر وسيمين: انفصال" (مرشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي)؛ فرنسوا أوزون، الفرنسي صاحب الخطّ المغاير في السينما الفرنسية المعاصرة. ينضمّ اليهما الكاتب الجزائري الفرنكوفوني بوعلام صنصال، اختير بعد اشهر قليلة على مكافأته في فرنكفورت بجائزة السلام الرفيعة. النجم الأميركي جاك غيلنهال هو الآخر سيصوّت ضمن لجنة تضم امرأتين، ليرتفع عددها الى ثمانية اعضاء: الممثلة الفرنسية شارلوت غينسبور والألمانية الساحرة باربارا سوكوفا (في الثانية والستين) التي عُرفت لأدوارها في أفلام لفاسبيندر وشلوندورف وفون تروتا.

هذه اللجنة مطالبة بمعاينة 18 فيلماً في السباق على الدببة، ضمن تشكيلة رسمية تضم 23 فيلماً، مقترحة على أهل برلين والوافدين من الخارج، من التاسع الى التاسع عشر من الجاري. لنبدأ من الكبار الذين لم يعد لهم شيء يثبتونه. في مقدمهم الأخوان تافياني اللذان، بعد خمسة أعوام على "مزرعة القُبّرة"، يعودان بـ"قيصر يجب أن يموت". دوكو دراما يتابعان من خلاله حياة سجناء وهم يستعدون لتقديم مسرحية "يوليوس قيصر" لشكسبير من داخل الزنزانة. يعد تافياني بطرح أسئلة تولد من التضارب بين الحرية التي يسعى اليها كل ممثل وانسان يعاني من تشنج الانغلاق.

قديرٌ آخر يسعى الى اصطياد الدبّ، اختير لافتتاح هذه الدورة الثانية والستين: بونوا جاكو وفيمله "الوداعات للملكة". المخرج الفرنسي يجمع ثلاثة من أجمل الوجوه: ليا سايدو، فيرجيني لودوايان وديان كروغر، مسنداً دور لويس الرابع عشر الى زميله كزافييه بوفوا. افلمة لرواية شانتال توما تعيدنا الى ماري انطوانيت خلال الثورة الفرنسية، لكن الحكاية منقولة من وجهة نظر الخدم الذين كانوا يحيطون بها.

يمكن الحديث منذ الآن عن مثلّث صيني في برلين 2012: "أزهار الحرب" لزانغ ييمو، سيكون مساهمة المخرج الصيني في المهرجان، لكن خارج المسابقة. الدعاية تؤكد أن الفيلم عن أناس عاديين يتحولون ابطالاً في ظروف استثنائية. ملحمة مهيبة في 145 دقيقة، انتجت بإمكانات كبيرة تجري حوادث الفيلم عام 1937 وتروي قصة حانوتي مصبّر جثامين (كريستيان بايل) يضطر الى حماية يتامى احد الاديرة وبعض العاهرات، من شرور الجيش الأمبرطوري الياباني. صيني آخر، خارج المسابقة ايضاً، نحن في انتظاره هذه السنة في ساحة بوتزدامر: تسيو هارك، الذي يستعين بالأبعاد الثلاثة لحكاية جديدة تتداخل فيها الفنون القتالية مع كوريغرافيا الاجساد اللينة لترتسم ملامح سينما يبقى هارك وفياً لها، مع اهتمام مستحدث بما يمكن أن تضفيه تقنية الأبعاد الثلاثة على الصورة. أما الصيني الثالث، فهو وانغ كوان، الذي شارك في المهرجان قبل عامين مقتنصاً الدب الفضيّ عن "منفصلان معاً". حكاية تندرج فصولها في آخر أيام الأمبرطورية الصينية، حيث تضطر امرأة صينية أن تناضل من أجل استعادة ملكية أرض صارت حلبة صراع بين عائلتين. ينقل كوان الى الشاشة رواية شين زونغشي، التي ظلت على اللائحة السوداء لسنوات طويلة لتضمنها مشاهد جنسية.  

هناك فيلم قد يعني اسم مخرجه ميغيل غوميز شيئاً عند متابعي جديد المهرجانات منذ بضع سنوات. غوميز هذا، البرتغالي الجنسية، سبق أن أنجز "شهر آب الحبيب" (2008)، والآن يشارك في برلين بفيلم "تابو" عن شخصين يكتشفان حقائق رهيبة مرتبطة بجارتهما، سيدة عجوز تموت فجأة تاركة خلفها حكاية حبّ وقتل جرت أحداثها في أفريقيا. قبالته، يقف الانكليزي جيمس مارش مع جديده "راقصة الظلّ". مارش طار صيته بعدما نال جوائز عدة منها "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي عن فيلمه الوثائقي "رجل على سلك". خيوط الدراما هنا تدور على كوليت، ارهابية سابقة تعمل لحساب الجيش الجمهوري الايرلندي، تتورط في علاقة مع الاستخبارات الانكليزية.

في زمن تتبادل فيه فرنسا وألمانيا الغزل السياسي، هناك سبع مساهمات لفرنسا في المسابقة، بين أفلام انتجتها كاملة أو جزئياً، في مقدمها: "لي وحدي" لفريديريك فيدو و"اليوم" لألان غوميس. هذا الأخير المولود لأب سنغالي وأمّ فرنسية والمهتم دائماً بموضوع أبناء المهاجرين في فرنسا، يتابع في جديده، اليوم الأخير في حياة رجل اسمه ساتشيه. من الأفلام المنتجة جزئياً مع فرنسا شريط بريانت مندوزا المنتظر جداً، لكونه يستعين للمرة الاولى بممثلة أوروبية هي ايزابيل أوبير. ترى، ما النتيجة التي سيخلص اليها "أسير"، خصوصاً انه من توقيع هذا المخرج الفيليبيني الذي لا يكف عن التصوير. الانتظار هو ما يلفّ ايضاً فيلم السويسرية أورسولا ماير، التي تأتينا بـ"شقيقة". واذا كانت ايران غائبة عن المسابقة، وهي كانت دائمة الحضور، فليست أوروبا الشرقية ذات حضور أهم، إذ تقتصر مساهمة هذه المنطقة على فيلم واحد هو "الرياح فقط" لبنس فليغوف: اربعة رجال يحالون على القضاء في بودابست لشنهم هجوماً على تسع قرى بين تموز 2008 وآب 2009، قُتل على اثرها ستة من الغجر.

في دورة تهيمن عليها الانتاجات المشتركة مع فرنسا وألمانيا، هناك ثلاثة أفلام أميركية في التشكيلة الرسمية: "أحمق" للغزير جداً ستيفن سادربرغ، ثريللر عن جاسوسة تقرر الانتقام بعد تعرضها لخيانة من موظفيها. وكذلك ستيفن دالدري، مخرج "الساعات"، الذي يعود أميركياً بفيلم "صاخب جداً وقريب بشكل غير معقول" (خارج المسابقة) المرشح لجوائز الـ"أوسكار"، عن حكاية تتفرع من 11 أيلول. أما الأميركي الثالث، فهو "سيارة جاين مانسفيلد"، رابع أفلام الممثل بيلي بوب تورنتون، الذي كان اعتكف عن الاخراج منذ أكثر من عقد. الشريك السابق لأنجلينا جولي سيكون عليه مواجهة الممثلة التي عاش معها بين 2000 و2003، كونها ستجيء الى برلين لعرض باكورتها "في أرض الدم والعسل" وهو انتاج بوسني ــ أميركي، ولد من محاولة لـ"إضفاء وجه انساني على حرب البلقان"، كما جاء في ملخص الفيلم.

الحضور الألماني في المسابقة يعتمد على ثلاثة أفلام: "باربارا" لكريستيان بيتزولد و"شكراً" لماتياس غلازنر و"منزل لنهاية الاسبوع" لهانس كريستيان شميد. السوداوية التي تمعن فيها هذه الدورة، انعكاساً لأوضاع حاضرنا المقيت، يخفف من حدتها حشد مجموعة افلام تحمل البريق الى قصر الـ"برليناليه" الغارق تحت الثلوج. منها "السيدة الحديد" لفيليدا لويد، مخرجة "ماما ميا"، التي تدير ميريل ستريب مجسِّدةً رئيسة الوزراء البريطانية سابقاً مارغريت تاتشر في فيلم عن سيرتها. في هذه المناسبة، ستنال ستريب "دباً" تكريمياً خاصاً مع اعادة ستة من أهم أفلامها كـ "خيار صوفي" لباكولا و"كرايمر ضد كرايمر" لروبرت بنتون. لن يسلم برلين من الزحف الهندي، اذ سيشارك شاه روخ خان فيه من خلال "دون ــ عودة الملك"، جزء ثان من الملحمة البوليوودية من توقيع فرهان أختر. ثمة حفلة غالا لهذا الفيلم الذي شاركت ألمانيا في دعمه مالياً. عدد من النجمات سيعتلين الخشبة أيضاً: تشارليز تيرون، شارلوت رامبلينغ، سلمى حايك...

هذا ليس كل شيء، فالمهرجان مزدحم بالأفلام في الأقسام المحاذية (فوروم وبانوراما، الخ)، وحافل بالاستعادات التي كانت الادارة دائمة الوفاء لها في هذا المكان العابق بالذاكرة. من "أكتوبر" ايزنشتاين الى "حياة الكولونيل بليمب وموته" لمايكل باول وأميريك بريسبرغر، تصفح جديد لأجمل لحظات السينما. وفي ما يُعرف بـ"البرليناليه سبيسيال" سيُعرض "محكومٌ بالاعدام" لفيرنير هيرتزوغ الذي التقط مجموعة بورتريهات عن أشخاص ينتظرون الموت في أروقة السجون. في القسم نفسه، فيلمان يبعثان على الحماسة، نظراً لأهمية مخرجهما: "شرارة الحياة" للأسباني البارع أليكس دو لا ايغليسيا، عن ملحق صحافي عاطل عن العمل ستشرع امامه أبواب النجاح بعد تعرضه الى اصابة في الرٍأس. أما الثاني فهو "مارلي" لكافين ماكدونالد، نصّ تسجيلي يعيد فتح ملف بوب مارلي سينمائياً.

برلين، كعادته، محكومٌ بعودة مستمرة الى الماضي، لذلك كان القرار بلمّ شمل الافلام التي انجزت في استوديوات "ميزهرابوم" التي اسسها خبير الأفلام الروسي موزيه ألينيكوف والشيوعي الألماني ويلي مونزنبرغ في مطلع العشرينات الماضي، بهدف رؤية أخرى للسينما، قبل أن يقتلع هذا الحلم من جذوره عندما تسلم هتلر وستالين السلطة في بلادهما. برلين يأخذ على عاتقه فتح بعض من هذا الارشيف الهائل المكوّن من 600 فيلم، تقول أشياء كثيرة عن تلك الحقبة. استوديو آخر يخطف الأضواء وهو "بابلسبرغ"، حيث صوّر أفلاماً مهمة مثل "عازف البيانو" لرومان بولانسكي و"القارئة" لستيفن دالدري. هناك جولات استكشافية في داخل الاستوديو تنظم لهذه المناسبة. وطبعاً لا ينسى المهرجان تيو أنغلوبولوس الذي عرض فيلمه الأخير "غبار الزمن" في هذه عاصمة الثقافة الألمانية قبل أن يرحل في حادثة مؤلمة قبل أيام. أخيراً، المهرجان الذي ينطلق بالثورة الفرنسية، سيفتح نافذة على ما يجري في الميادين العربية، انطلاقاً مما سمّته الصحافة الغربية بـ"الربيع العربي"، وذلك عبر شلة من الندوات والعروض يتقدمها الوثائقي "الثورة... خبر" لبسام مرتضى.

بن غزارا مات في الثانية والثمانين: كان صوتاً أكثر منه وجهاً

هـ. ح.

بعد أقل من سنة على رحيل صديقه ورفيق دربه الطويل بيتر فولك، اسمٌ آخر من الأسماء التي لمعت في هوليوود والعالم أجمع يهوي بصمت وأناقة وحكمة. بن غزارا مات اثر اصابته بسرطان البانكرياس يوم الجمعة الفائت، تاركاً خلفه أدواراً تشبه حياته المرة الحلوة. كان الرجل في الثانية والثمانين.

في السنوات الأخيرة، كانت الصورة التي تتبادر الى الذهن عندما نستعيد ذكراه الطيبة: اطلالته في فصل من فصول "باريس أحبك"، مع جينا رولاندز، زوجة جون كاسافيتس، هذا الذي نستطيع أن نلقّبه بالحبر الأعظم في السينما الأميركية المستقلة. جيرار دوبارديو وفريديريك أوبورتان جمعهما في هذا الفيلم القصير. كان في الخامسة والسبعين عندما أطل علينا مغازلاً رولاندز بسحر لا يقاوَم. كانت هذه تحية الى هذا الثنائي الذي سبق أن اجتمع أمام عدسة كاسافيتس. التفاتة موجهة الى شخوص مرّ عليها الزمن من دون أنّ يخبو جمالها، بل موجهة أيضاً وخصوصاً الى مفهوم آخر للسينما، لم تحمه الأيام المتتالية كما ينبغي لها أن تفعل.

غزارا، الايطالي الأصل، ابن مهاجر صقليّ قامت النهضة العمرانية في نيويورك أوائل القرن الماضي على أكتاف أمثاله، فهو من الأوائل الذين تجاوز حضورهم المظهر المغري والوسامة، لا بل كسره. كان صوتاً قبل أن يكون وجهاً، وهو ما يحسده عليه بيتر فولك في حلقة من حلقات "سينما سينما": "ليتني أمتلك صوته...". لم يكن شكله الخارجي ما كان عليه كلّ من مونتغوميري وجيمي ومارلون، لكن كان هناك شيء ينبع من عينيه تُرجم ذكورية معينة أتاحت له الاضطلاع بأدوار الرجل الذي يعرف ماذا يريد والحائر في آن واحد. كان اقرب الى همفري بوغارت منه الى داستن هوفمان، مع تلك السيكارة التي لا تفارق شفتيه. ثقافتان متضاربتان، واحدة أميركية طموحة والثانية صقلية محافظة، انصهرتا داخل الشاب المشغوف بالحياة والفنّ، فصنعتا ما كانت عليه شخصيته المركّبة: صنو لهذا المواطن العصري الذي اعتبر العالم ملكاً له لتحقيق ذاته من خلاله.

كان حبّ المسرح يجري في عروقه عندما التحق بـ"الأكترز استوديو" في الخمسينات. رفاقه جيمي دين وجيمس ستيوارت وستيف ماكوين وبول نيومان. لن يصل غزارا الى مرتبة أيٍّ من هؤلاء، لأسباب عدة، لكنه سيتولى تعطيل صورة الايطالي الوافد الذي عليه أن يعمل جاهداً للصمود في أرض جديدة. فالزمن آنذاك كان بدأ يطرح بدائل حياتية جديدة والفنّ صار ينتصر لمفاهيم كانت الى الآن مهمشة. انها بداية نهاية عصر البراءة، والسينما الأميركية لم تعد متقوقعة على ذاتها، بل تنصت الى ما يجري خلف المحيط، في قارة الأجداد المنسيين.

في هذا السياق، منح ايليا كازان غزارا دوراً في اقتباسه على خشبة برودواي لـ"قطة فوق صفيح ساخن"، فظهرت ألمعية ممثلنا في وضح النهار. ثم أسند اليه أوتو بريمينغر دور البطل المضاد في تحفته "تشريح جريمة" (1959). دور العسكري المتهم بارتكاب جريمة يبرئه منها المحامي الذي يتقمصه ستيورات، سيعرفه الى الجمهور العريض، دامغاً في اذهانهم هذا الجانب غير الظريف للشخصية، وهو شيء سيرتبط بغزارا طويلاً. دور ثالث في ادارة مواطنه ماريو مونيتشيللي ("دموع البهجة" ـــ 1960)، سيتيح له اعطاء الكلمة لآنّا مانياني، آنذاك نجمة السينما الايطالية.

وفي حين بدأ يدخل بيوت المشاهدين مع دور بول براين في المسلسل التلفزيوني "أركض من أجل حياتك" (1965 ــ 1968) أتاحت له المصادفة لقاء كاسافيتس الذي أعطاه بطولة ثلاثة من أهم افلامه في السبعينات المتألقة: "أزواج" (70)؛ "مقتل مراهن صيني" (76) و"ليلة الافتتاح" (78). في ادارة كاسافيتس الذي ربطته به علاقة قريبة حتى رحيله وصار أناه الأخرى، يكتشف غزارا السينما كمغامرة وليس كمهنة. كان يبدو مرتاحاً الى تقمص الشخصية الهامشية التي يصعب عليها ايجاد الطريق الى تحقيق الذات. شخصية مسكونة بعلة الوجود. غنيّ عن التوكيد ان رحيل كاسافيتس سيكون مدمراً بالنسبة الى غزارا، بعدما كان انفتح في عهده على عوالم أخرى...

في نهاية السبعينات، أحد رموز "هوليوود الجديدة" وجد فيه ضالته. انه الناقد والمخرج بيتر بوغدانوفيتش الذي منحه دورين مميزين في "القديس جاك" (1979) و"والكلّ كان يضحك" (1981). الجمهور سينبذ العملين. منذ ذلك الحين، سيترجح مساره بين أفلام تجارية بليدة، حيث استغلال لأصوله الايطالية مما يجعله حتماً "ضحية" شخصيات مافيوزية أو تابعة الى عصابات شيكاغو، ومحاولات تُرفع لها القبعة في تحرير الدور من سطوة التكرار.

غزارا كان متيماً بالمجازفة، ليس قولاً بل فعلاً، فظلّ يوفّق ما بين اهتماماته الثلاثة، السينما والمسرح والتلفزيون، خالصاً الى نتاج يتجاوز المئة فيلم بين الشاشتين. لم يكن يحبّ مكان اقامته نيويورك معتبراً اياها مدينة مسطحة، وكان يعتبر ان الممثل يُمكن أن يمارس مهنته في أي مكان من العالم. هذا الفضول هو الذي أخذه الى حضن السينما الاوروبية يوم مثّل (بالانكليزية وفي كاليفورنيا) دور الشاعر المدمن الكحول (من وحي تشارلز بوكوفسكي) في "حكاية جنون عادي" لماركو فيريري، فاستعان به بعد ذلك سينمائيون مثل لارس فون ترير وفنسنت غالو، في غمزات تكريمية، وايضاً الأخوان كوين مسندين اليه دوراً لا يُنسى في "الليبوفكسي الكبير". الفضول الجيني لمعرفة ما يجري وراء الأطلسي، لم ينتج منه فيلم من توقيعه فحسب ("خلف المحيط"، اخراجاً وتأليفاً ــ 1990) بل رماه في جوف قضايا مشتعلة، فلعب في فيلم رضا الباهي "السنونوة لا تموت في القدس" (1994)، بعد عشر سنين على اطلالته في "الذاكرة الموشومة" للمخرج نفسه.

النهار اللبنانية في

09/02/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)