حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

عنف متفلّت يأتينا من كل صوب

"مدينة القتال" و"الفصل الأخير ـ وداعاً نيكاراغوا" و"المكان الأصغر"

قيس قاسم

لا يخفي الأميركيون إعجابهم بالألعاب الرياضية العنيفة، كالمصارعة الحرّة والملاكمة. افتخروا دائماً بكونهم صنّاع الكثير منها، والمروّجين لها، وإن لم تنشأ كلّها عندهم في الأصل. لكنها، بصورتها النهائية التي نُشاهدها اليوم، طُبعت بطابعهم المحلي، على الرغم من انتشارها العالمي، ما يشير، بشكل مبطّن، إلى مكانة "ثقافة العنف" في المجتمع الأميركي، بوصفها أحد مكوّنات الضمير الجمعي للأمّة. ربما من هذة الزاوية حاول المخرجان مايكل توكر وبيترا أبيرلين النظر إلى الرياضة الجديدة، "فنون المواد المختلطة"، التي اختُصرت باسم "أم. أم. أي."، بتناولهما إياها في فيلمهما "مدينة القتال" ("مسابقة الأفلام الوثائقية").

اللعبة الجديدة التي ظهرت في جنوب ولاية لويزيانا الأميركية وُصفت بـ"المثيرة للجدل"، لكونها جمعت ألعاب فن الدفاع عن النفس بأخرى امتازت بالعنف والدموية. لهذا، انقسم الناس بين مُحِبّ ورافض شديد لها. هذا ما أدركه المخرجان، فأرادا تجسيده سينمائياً، مع معرفتهما الأكيدة بصعوبة تناول مثل هذة المادة الوثائقية بـ"موضوعية"، كون الجدل لا يزال دائراً حولها بحدّة. لكنهما أرادا بعملهما، قبل كل شيء، إبعاد الموقف أو "الحكم المسبق" إزاء اللعبة نفسها. ثم، بعد العمل على تشكيل كامل صورتها وما فيها من إلتباسات، ذهبا إلى قاعات التدريب، وأخذا عيّنات من شباب بدوأ ممارستها، وجميعهم توّاقون للفوز يوماً بأحسن ألقابها. أولى الخطوات للعمل على تسجيل يوميات "مدينة القتال"، وفق نظرة سينمائية غاية في الحياد. حصيلة المتابعة مثيرة للدهشة: آمن الشابان دوستن بويرير وألبرت شتاينبك، على الرغم من خروجهما للتوّ من السجن، وتمتّعهما بروح شفّافة، وبرغبة في إكتساب لقمة عيشهما من ممارسة رياضة، بقيمها الروحية. ساعدهما على ذلك مُدرّبهما كريدور، بصرامته وضوابطه. تسجيلات تدريباتهما ومشاهد بعض مباريات خاضوها، أكسبت الفيلم طابعاً كلاسيكياً تعود مرجعيته التقنية إلى أفلام كثيرة دارت أحداثها حول رياضيين، وبشكل خاص مصارعين وملاكمين. غير أن تَميّزه كامن في عرض جانبين متناقضين بتوازن عال: الأول إنساني، متعلّق بذوات بشرية تنشد البحث عن معنى، وأخرى تُقدّم حقيقة أن هذة الألعاب، مع كل ما قيل عنها، تبقى دموية ومثيرة لغرائز العنف الكامنة داخل جمهور جاء خصّيصا لإشباع حاجته منها.

ليت العنف بقي محصوراً في حلبات المصارعة. لكنه خرج من قمقمه، ووصل إلى مناحي حياتنا كلّها، وإن ظلّت أكثر مناطق نشاطه حيوية تلك التي تتعلّق بالمصالح المالية والسياسية، التي أجبرت، ذات مرة، سينمائياً وصحفياً سويدياً للعيش أكثر من ربع قرن مُعذَّب الضمير بسبب ماض أثقل كاهله، فشرع في العمل على التخلّص منه، وعلى كشف الحقيقة لراحة نفسه إلى الأبد، ومعه راحة أرواح ضحايا ساهم، من دون قصد، في موتهم، بينما ظلّ المُسبِّب الحقيقيّ حراً، حتى مجيء اللحظة المناسبة، المتأخّرة ربما، للكشف عن وجهه أمام العالم. هذا كلّه مرتبط بالقصّة الحقيقية للصحفي السويدي بيتر تربيونسون، كما رواها في فيلمه الوثائقي "الفصل الأخير ـ وداعاً نيكاراغوا" ("مسابقة الأفلام الوثائقية")، التي بدأت في العام 1984، عندما فجّر أحد عملاء جبهة "ساندنستا" النيكاراغوية قنبلة وسط حشد من الصحافيين حضروا مؤتمراً لباستورا، أحد القادة المعارضين لها في منطقة "ريو سانت خوان"، الواقعة على الحدود الكوستاريكية النيكاراغوية، متسبِّبةً بمقتل سبعة أشخاص، وعشرات الجرحى. بعد بحث مضن وخطر، توصّل الصحافي السويدي إلى الحقيقة التالية: طلب أحد مسؤولي الحكومة النيكاراغوية منه ضمّ صديقه المُصوِّر الدانمركي بير أنكر هانسين إلى المؤتمر الصحفي، وهذا ضمن مخطط التفجير، لعلمهم المسبق بـ"علاقتي الجيّدة به، وبمعرفتي إياه"، كما قال تربيونسون، الذي أضاف أنه لم يكن يعرف أنهم يُريدون منه أن يكون وسيطاً في عملية إرهابية، قتلت أبرياء كثيرين.

في ساعة ونصف الساعة، تحدّث الصحافي معبّراً عن مشاعره وعلاقته كمراسل صحافي بشعب نيكاراغوا، الذي أحبّه. لكنه وجد نفسه في مواجهة غير متكافئة مع رجال سلطتها، الذين جاءوا بإسم المساواة والعدالة، بينما أفضت ممارساتهم إلى تدمير بلد، اغتنوا فيه، وتسبّبوا بتعذيب أناس كثيرين فيه، وزوّار قدموا إليه، من بينهم المراسل تربيونسون، الذي عاد بعد ربع قرن من الزمن ليكشف الحقيقة.

قد لا تشبه عودة السويدي عودة المهجّرين من قرية سينيكرا السلفادورية، بعد أكثر من عقد على تركها. لكنهما تلتقيان معاً على ثيمة العنف ووحشية الحروب. عاد الناس إلى قراهم بعد إجبارهم على الرحيل منها، خوفاً من الموت الذي نشره "جيش الحرس الوطني" في مناطقهم، حاصداً أرواحاً بريئة، ذنبها أن الثوّار السلفادوريين لجأوا إلى الجبال المحيطة بها أثناء قتالهم الجيش الحكومي. بنى هؤلاء البناة الرائعون قريتهم فوق رماد حرائقها. هؤلاء البسطاء عادوا إلى بساطتهم، ويعيشون بتوافق مع الطبيعة، وانسجام بين بعضهم البعض، في محاولة للتصالح مع الذات ومع العالم. لكن، هناك وجع وحزن لا يزالان عالقين في الروح، جرّبت المخرجة المكسيكية تاتيانا هوزو الاقتراب منهما، في محاولة أقرب إلى عملية تأهيل نفسيّ منها إلى صنع فيلم وثائقي. تركت الكاميرا الخاصّة بها تصوّر حياة الناس كما هي، وتركت الناس يتحدّثون عن الماضي والمنفى الإجباري الذي عاشوه في وطنهم. مع مرور الوقت، كانت قصصهم تُروى أمامنا وفق تجربة كل واحد من المتحدّثين مع نفسه لا مع الكاميرا، في ما يشبه الاعتراف بعذابات التجربة وقسوتها. ولعلّ أكثرها إيلاماً، تلك التي ارتبط بها عنوان الفيلم "المكان الأصغر" ("مسابقة الأفلام الوثائقية")، وهي تدور حول الفلاحين الذين لجأوا إلى كهوف الجبال مع وصول الجيش إليها، ودخلوا عميقا فيها، ليصلوا إلى أمكنة ضيقة لا تزيد مساحة الوقوف بين جدرانها المظلمة عن سنتمترات عديدة. كان عليهم التزام الصمت المطبق داخلها خشية استماع الجيش أصواتهم. لهذا، كان تحسّس الأيدي الممسكة بعضها ببعض بقوّة الوسيلة الوحيدة للتواصل فيما بينهم، والشعور بأن الذي يقف إلى جانبه لا يزال حيّاً. المكان الأضيق داخل أرواح سكّان القرية السلفادورية أيضاً، وليس هناك من سبيل للتخلّص منه إلاّ بالانفتاح على الطبيعة الرائعة المحيطة بهم، وعلى عالم يستحقّوا أن يعيشوا فيه بسلام.

من داخل المهرجان في

13/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)