حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

رؤى وثائقية لكوكب ينهار

"عتمة المدينة"، "إذا سقطت شجرة"، "مشروع نيم" و"الجبل الأخير"

قيس قاسم

الأفلام الوثائقية الأربعة، التي نستعرضها هنا بتكثيف شديد، تعود في مرجعيتها الى مدرستين: أميركية وإنكليزية. مدرستان سينمائيتان جمعتهما العراقة وفرقهما الأسلوب، لكنهما وفي هذة الحزمة من "أفلام البيئة" تشاركا الموضوع الحيوي، فصار من الصعب علينا تلمس الفوارق "الأسلوبية" بينهما بوضوح. ربما، لدرجة تقارب رؤية صانعيها للمادة الوثائقية المطروحة للبحث، والتي تمس حقيقة وجودنا البشري ومستقبله على كوكب مهدد كله بالزوال، رأيناها تذهب الى البحث عن أسباب وجود هذة الأخطار المحدقة بنا والتي كثيرا ما نغفل عن بعضها، في غمرة إنشغالاتنا اليومية. إلى أن يأتينا مخرج سينمائي كإيان تشيني وينبهنا الى خطر يحيط بنا، لكننا، وبتصالح شديد، نتعايش معه. فمن منا ظل مهتما بالليل ونجومه، وبالعتمة وغيابها، بوجود الملايين من المصابيح الكهربائية في كل مكان نُقيم فيه؟ سؤال "عتمة المدينة" العميق يبدأ بسيطاً أول الأمر، يطرحه تشيني كنوع من الحنين الى الماضي الى طفولته التي كان يمضي فيها ليال وهو يراقب بـ"تلسكوبيه" البسيط السماء الصافية، يعد نجومها، ويشكل من وحي مجراتها صوراً تلهمه خيالاً ينام في ظله. لكنه الآن وفي شبابه في مدينة نيويورك لا يرى تلك السماء ولا عتمتها المبهرة فالأضواء الصناعية الساطعة تحجب السماء وما فيها. وبالتدريج، مثل رجل يدخل الى عمق البحر منطلقاً من شاطئه، يبدأ في السؤال عن سر غياب الليل وما يتركه من أثرٍ فينا. يذهب الى محلات لبيع المصابيح الكهربائية ليتعرف على ميول الناس وماذا يريدون من أنواعها، ليكتشف وجود مصابيح من عصر أديسون مازالت موجودة حتى اللحظة لكن أحداً لا يسأل عنها. فالكل يريد مصابيح كبيرة وهاجة، وأصحاب المحلات التجارية يريدون إستبدال نجوم السماء بنجومهم الصناعية. لقد تغيرت حياتنا كلها وتحدد الكثير من مساراتها وفق وجود المصابيح فيها. فالمعامل اعتادت اليوم العمل ليل نهار والمطاعم تشرّع أبوابها حتى الصباح. وماذا بعد؟ لقد تَبيّن وعبر أحاديث الأطباء والباحثين ان مناوبات العمل الليلي تسبب أمراضاً سرطانية، وخاصة سرطان الثدي عند النساء وتُغير من سلوك الحيوانات الغريزي، فلا تعود تسترشد بحركة الماء ولا بضوء القمر، بينما لا ينام الناس حينما يحل الظلام. لقد غَيَرت المصابيح حياتنا وأمسى ضوؤها يسيّرنا وفق ما يريد، وما يريده لنا مُنتجوها! لكن هل سيُسَلم الناس أقدارهم إلى أصحاب المشاريع والأغنياء من الناس ليقرروا ونيابة عنهم شكل العالم الذي يعيشونه؟ في تجربة الناشط البيئي الأميركي دانييل ماكغوان، نجد رداً ضمنياً بالنفي على السؤال. فهذا الشاب ارتضى قضاء سبع سنوات في السجن على أن يرى أصحاب الشركات الصناعية العملاقة أحراراً يفتكون بالأرض وثرواتها من دون رحمة أو مساءلة. عن تجربته المثيرة، اقترح علينا المخرج مارشال كوري نصاً سينمائياً، تضمن عنوانه اسم الحركة التي انتمى اليها وسُجن بسبب نشاطه فيها: "إذا سقطت شجرة (قصة جبهة تحرير الأرض)". بدأ بتصوير وقائع الأيام الأخيرة لماكغوان وهو محتجز في شقته، وقد ربطت الشرطة في أسفل قدمه عداد إلكتروني يَسهل من خلاله مراقبة تحركاته، ومن خلال أحاديثه والوثاثق الشخصية المصورة تعرفنا على تاريخه الشخصي وعلى نشاطه في منظمة أصرت الـ "سي آي أي" على وصفها بالإرهابية، والأشد خطورة على الأمن الداخلي الأميركي. جاء تأسيس "جبهة تحرير الأرض" كرد فعل على وحشية تعامل أصحاب شركات قطع الأشجار مع الغابات البكر وعلى وحشية تعامل رجال الشرطة مع المحتجين ضدهم، ولهذا بدأت مجموعة منها بالتخطيط لضرب المصالح المالية لشركات هدفها النهائي جني الأموال. فقامت بحرق بعض مكاتبها ومعداتها وغيرها، لكنها لم تتسبب أبدا بموت أحد. مع هذا، أصرت السلطات القانونية الأميركية على اعتبارها منظمة إرهابية أسوة بـ"القاعدة"، وهذا ما حاول الشريط نفيه، عبر إتاحته الفرصة لهؤلاء لعرض رؤيتهم للمشكلة وفلسفتهم في الحياة. وبذلك وفر القناعة الكافية للمشاهد بعدالة ما يفكرون وببعدهم الشديد عن مفهوم الإرهاب الملتبس، الذي ترهب به السلطات الأميركية وممثلو المصالح المالية فيها كل من يقف في وجهها. وما زاد من أهمية تجربة ماكغوان  مقدار إخلاصه لقناعاته حين رفض الوشاية بزملائه في التنظيم وقبِل السجن بدلاً من خيانتهم وخيانة قيم تنحاز وبقوة الى الحياة نفسها.

بقدر مختلف وأقل راديكالية جاءنا فيلم الإنكليزي  جايمس مارش "مشروع نيم" وكيف تساوى فيه سوء الكائن البشري على اختلاف مستوياته التعليمية والمهنية، حين تحركه أنانيته لا إنسانيته. فصاحب المشروع العلمي، البروفسور هربرت تيريس، أراد أن يبرهن قدرة الحيوان على تعلم لغة البشر، فاختار لهذة التجربة الشمبانزي نيم، الذي انتزعه طفلاً من حضن أمه. لقد خضع هذا الحيوان ومنذ أوائل السبعينات لتجارب عديدة عاش خلالها مع عائلة أميركية سرعان ما تركته بعد أن علمته التدخين وشرب الكحول. ثم مر على عدة معلمات للغة الصم والبكم تركن العمل بدورهن بعد تعرضهن لجروح شديدة سبّبها الشمبانزي. وبعد سنوات، تخلى صاحب المشروع عن الفكرة كلها بعد فشل نتائجها وطلب نقله الى مكان أخر، يعيش فيه الكثير من أبناء جنسه. لكنه، وعلى الرغم من ذلك، لم يستطع التلاؤم معها فهو لم يعد شمبانزيا ولا إنسانا فإنتهى به المطاف في قفص ظل فيه حتى مماته. قصة الشمبانزي نيم ليست ترفا لأن صاحب الفيلم الوثائقي المهم "رجل فوق سلك" يعرف جيدا كيف يظهر مشاعر الندم الإنساني التي جاءت هذة المرة عبر اعترافات من شاركوا في التجربة وأحسوا بذنبهم في إيذاء حيوان أُريد له وبالقوة ان يكون بشرا. لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد. فالجبال نفسها لم تسلم من يد البشر، لأن بعضهم أراد التنقيب عن الفحم في أحشائها بـ"طرق عصرية" تنهار فيها بسهولة وتنهي وجود من يعيش بجوارها، كما يعرضها علينا بيل هايني في فيلمه "الجبل الأخير" والذي يكفي لعرضه هنا قول موجز: حفريات شركات "ماسي أنرجي" الأميركية المنقبة عن الفحم في جبال منطقة أبالاتشيا دمرتها ودمرت حياة سكانها بالكامل. والكاميرا التي قامت بتصويرها قالت كلمتها بعمق، عبر أسلوب مبهر، عرض التناقض عبر لقطتين متتاليتين: الأولى واسعة تظهر جَمال الجبال ووعورتها وثانية وقد  تحولت بفعل آلات الحفر الى أرض قاحلة مخيفة. كل لقطة في هذا الفيلم صرخة احتجاج تستحق المشاهدة. فهناك دوماً أفلام وثائقية لا ينفع الحديث عنها  كثيرا بقدر أهمية الذهاب اليها ومشاهدتها.

من داخل المهرجان في

13/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)