حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

الحياة في أكثر من مكان

"فتاة الموديل" و"القوّة السوداء" و"مكان بين النجوم"

قيس قاسم

من مشهد عام للطبيعة البيضاء المتجمّدة في سيبريا، إلى دخول الكاميرا إلى قاعة مزدحمة بمراهقات كثيرات، ارتدين ملابس البحر للمشاركة في مسابقة تؤهّل الفائزات للحصول على عقد عمل مع شركة أزياء يابانية، يَظهر التناقض جلياً بين عالمين: أحدهما واقعي يعيش الناس العاديون فيه، وثانيهما "حلميّ" مليء بالأضواء والشهرة، لا نعرف إلاّ وجهاً واحداً منه يشعّ دائماً بالجمال، ويوحي بالثراء. أما أسراره وخفاياه فقلما عرفناها، وما يتسرّب منها يثير فينا إرتباكاً إزاء صعوبة فهم حالة مفادها أن في هذا العالم الجميل المبهر عذابات وتمزّقات لا تظهر إلى العلن إلاّ نادراً، لتشابك قوّة مصالح المنتفعين منه، وحرصهم على سرّية تفاصيله. لهذا، يُمكن اعتبار "فتاة الموديل" للمخرجين ديفيد ريدموند وأشلي سابين (مسابقة الأفلام الوثائقية)، أحد الأفلام الوثائقية القليلة التي عَرضت جانباً مستوراً من عملية استغلال المراهقات الشقروات في سوق "بيع الجَمال" العالمي.

ضوء الوثائقي يُسَلَّط قوياً على فتاتين: الأولى ناديا، في الثالثة عشرة من العمر، تعيش مع عائلتها الروسية الفقيرة بانسجام. رغبتها القوية في مساعدة أهلها دفعتها إلى المشاركة في المسابقة التي أدارتها الشابّة وفتاة الموديل السابقة أشلي، ومهمّتها الرئيسة تأمين فتاة صغيرة تتطابق مقاييس جسدها مع ذائقة أصحاب شركة ترويج الموديلات اليابانية وزبائنها، إلى جانب دورها كوسيط يُغري الفتيات بتحقيق أحلامهنّ في الحصول على المال والشهرة. لكن، في اليابان، سرعان ما تغَيّر الحلم هذا، بواقع آخر قاتم وحزين، عندما وجدت ناديا نفسها وحيدة في مطار طوكيو، لا أحد يسأل عنها. وعندما اهتدت بعد عناء إلى مقرّ الشركة، زُجَّت في غرفة ضيّقة فقيرة من دون مال، ولا لغة طبعاً، فعاشت عزلة تامة وغامضة. في مسار متواز، قدّم الفيلم تسجيلات فيديو قديمة، تشبه يوميات مُصوَّرة للوسيطة الأميركية، تُظهر أشلي مختلفة: أشلي المراهقة، التي مرّت في التجارب المؤلمة نفسها، عندما دخلت العالم هذا باكراً، وواجهت قسوته وحيدةً، كناديا تماماً.

أظهرت التجربتان جوانب معتمة من عالم "جميل" المظهر، ومصائر المشتغلين فيه ظلّت، وستظلّ دائماً، مُعلّقة بخيوط غير مرئية، تحرّكها أيادي تجّار يعاملون الفتيات وجَمالهن كأي بضاعة تُستخدّم لمدة زمنية محدّدة، تُرمى بعدها في سلّة المهملات. بعيداً عن العالم هذا، ذهب السويدي يوران هوجو أولسون للبحث عن واقع التمييز العنصري ضد الزنوج في الولايات المتحدة الأميركية، وأسباب بروز الحركات السياسية المناهضة له، كـ"القوّة السوداء" التي ظهرت في العقد السادس من القرن المنصرم. ولإدراكه صعوبة معالجة هذا الموضوع الواسع والشائك في وثائقيّ واحد، أخذ جانباً محدّداً منه، له علاقة بدور وسائل الإعلام السويدية في تغطيته خلال فترة زمنية محدّدة. لهذا، أسماه "القوّة السوداء: الشرائط الأرشيفية (1967 ـ 1975)" (مسابقة الأفلام الوثائقية)، مُستفيداً من الأرشيف السويدي، الذي اعتمده كقاعدة أساسية لفيلمه، مع إضافة تعليقات حديثة لشخصيات عاشت في تلك الفترة المثيرة من تاريخ المجتمع الأميركي الحديث، وساهمت فيها. والحصيلة: فيلم وثائقي مثير، فيه شهادات حية كثيرة، وتوثيق مهم لدور الصحافة السويدية في رصدها الأحداث الخاصة بنشاط الحركات السياسية والاجتماعية للسود، إلى جانب عرضه الدور التضامني لشعوب العالم مع الحقوق المدنيّة للسود في أميركا، التي عكست بدورها حجم اهتمام الشارع السويدي بها، وتعاطفه مع نضالات الشعب الفيتنامي، التي أغاظت لسعتها الإدارات الأميركية في الستينيات والسبيعنيات المنصرمة، إلى درجة دفعتها إلى إعلان قطع علاقتها الدبلوماسية مع السويد في العام 1972، إثر تصريحات القائد الاشتراكي الديمقراطي أولوف بالما، التي شبّه فيها قصف مدينة هانوي الوحشي بجرائم النازية في الحرب العالمية الثانية. أما تغطيتها الإعلامية، فوصفها مدير مجلة "تي. في. غايد" بأنها الأسوأ، وبانها تعبّر عن مزاج شعبي معاد لكلّ ما هو أميركي.

أضافت التعليقات الجديدة لبعض نشطاء الحركة على وثائقي يوران أولسون حيوية آنية، أغنت بدورها التسجيلات الأرشيفية على ما فيها من غنى. ولطبيعة مادة بحثه الوثائقية وتقارب موضوعيهما، بدا الفيلم كأنّه تكملة لفيلمه الأول "أنا أسود كفاية بالنسبة إليك"، عن المغنّي الزنجي بيلي باول، وكلاهما امتاز بالحيوية، إلى درجة يصلحان فيها أن يُقدَّما كمِثالين جيدين للإجابة على سؤال يُطرح دائماً حول الاستخدام الأمثل للأرشيف في الأفلام الوثائقية.

إلى ذلك، أنهى الهولندي ليونارد ريتل هلمريش ثلاثيته حول عائلة شمس الدين الأندونيسية، في "مكان بين النجوم" (مسابقة الأفلام الوثائقية)، بعد "عين اليوم" و"شكل القمر". به، انتهى من تجربة سينمائية رصدت بانوراميًا، عبر ثلاثة أجيال، الحياة في بلد آسيوي، أُعِدّ بين النماذج الحسنة للتعايش الديني، مع أن اقتصاديات العولمة وتأثيرات بعض الاتجاهات الدينية المتشدّدة، غيّرت شيئاً من طبيعة أهله المتسامحة، وطريقة عيشهم المتواضعة. مهّد هلمريش جزأه الثالث بمقاطع قصيرة من فيلميه الأولين، ليوحي لمشاهده بوحدة موضوعه وتسلسل زمن أحداثه، كما لو أنه فيلم روائي بأجزاء عدّة. له في هذا الحقّ كلّه، لأنه أنجز فيلماً وثائقياً ببناء درامي روائي، اعتمد على حكاية أحداثها تتسلسل من بداية إلى نهاية.

هذه المرّة، بدأت برحلة العجوز روميديا، التي انتزعها ولدها باكي من حقلها لمرافقته إلى بيته في أحد الأحياء الفقيرة في العاصمة جاكارتا، لرعاية حفيدتها تاري، ولتسهيل دخولها الجامعة. في ذلك البيت، اكتمل مشهد ثلاثة أجيال عاشت وتفاعلت في مدينة واحدة، وتأثّر كل جيل منها، بدرجات متفاوتة، بتأثيرات العولمة، التي دخلت إلى أفقر البيوت عبر أجهزة كهربائية وإلكترونية حديثة، مع الصعوبات كلّها التي يواجهها سكّانها في تأمين لقمة عيشهم، أو في حالة عائلة شمس الدين بتأمين أقساط دراسة ابنتهم في الجامعة، التي تأمل العائلة كلّها في دخول الحفيدة إليها، والخروج منها بشهادة قد تُحسِّن وضعهم الاقتصادي البائس. كل تناقضات الأجيال وتصادمها حاضرةٌ عبر تفاصيل رصدتها الكاميرا، وقدّمت صورة لأندونيسيا اليوم، المهدَّدة بتمزّق اجتماعي واقتصادي يُمكن أن يُعيدها إلى الوراء، كما عادت الجدّة إلى حقلها، تاركةً مدينة بدأ العفن يتسرّب إلى خلاياها.

جاكراتا بدأت تفقد صلاحيتها للعيش السوي، كما في "مكان بين النجوم". لهذا راحت الجدّة وصديقتها تتذكّران أغاني طفولتهما البعيدة، علماً أن إحداها "سعيدةٌ" تجعل النفسَ تأمل العثور لها على مكان بين النجوم، بعد أن ضاقت الأرض بها.

من داخل المهرجان في

15/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)