حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 2011

مقالات من داخل المهرجان

شهود الجوع والسخط

"صدقة الحصان الأعمى" للهندي جورفيندر سينغ  (مسابقة آفاق جديدة/جائزة لجنة التحكيم الخاصة)

زياد الخزاعي

مُقترباً من الشعر ورؤاه، أنجز مخرج "رجلان فوق قدميّ" (2007) الهنديّ الشاب جورفيندر سينغ نصّه المفعم بجمالية نادرة في السينما الهندية المعاصرة، الذي اقتبسه عن رواية "صدقة الحصان الأعمى" للكاتب غوريال سينغ (آفاق جديدة)، بشكل أنشودة حزينة للفاقة الريفية التي تحاصر فلاحيّ أعرق ديموقراطيات العالم، وأقدمها. هذا العمل القاسي بخطابه المسيّس، الغني بصُوَره ومَشَاهده، يذهب إلى أقصى حدود الاتهام للعسف الحكومي، الذي يُصّر على إهانة هؤلاء البشر القاطنين على حدود الغياب التاريخي لصراع الطبقات والطوائف والأقليات، عبر دعمه مُلاّك الأراضي الأغنياء ضد "عبيدها".

مدعوماً بأموال أحد أشهر المنتجين في الهند ماني كاول، سرد سينغ (مولود في نيودلهي قبل ثمانية وثلاثين عاماً)، حكايا متداخلة لأناس هذا المكان، الذي يعاني مناكفات السلطة وتجاهلها لمطالبهم بحياة عصرية، تُسهِّل يومياتهم العصيبة. في قلب البنجاب، في يوم ضبابي، شهدت عائلة مدقعة الفقر جرّافات الإقطاعي تُزيل منزلاً عشوائياً يقع عند حافة القرية، هو آخر ملاذاتها. رجل عجوز من أبناء المكان قرّر المشاركة في اعتصام صامت ضد الهجوم الغادر. تجمّع الفلاحون عند بقايا الجدار المُهدَّم، مهزومين وعاجزين عن تحقيق ردّ الفعل الواجب. إنهم الخاسرون دائماً.

في الصبيحة نفسها، بعيداً في شوارع المدينة الكبيرة، تُصَوَّر يوميات ميلو الإبن الشاب للرجل العجوز، وهو سائق عربة درّاجة هوائية تنقل الركّاب وبضائعهم. يقع في ارتكاب المحظور السياسي، المتمثّل بمشاركته في اعتصام نقابيّ لأقرانه ضد جور الحاكم وسلطته التي تفرض عليهم زيادة في ضرائب لا تتحمّلها إمكانياتهم، ولا تُنصِف عملهم المضني. وبينما نرى عجز الأب العجوز يتضخّم ويتعقّد، نشهد مصيبة ميلو خلال المواجهة الدامية التي ترتكبها قوات الشرطة. نتابع مع البطل الشاب النازف والمُهان وهو يجول في شوارع المدينة، مهزوز القناعات، ومفعم بالغربة التي تسبّبت بها الهروات والمذلّة. زيادة في هذه الأخيرة، يرفض أقرب أصدقائه استضافته لتمضية ليلته بعيداً عن عيون المخبرين. وكما ينتهي الأب العجوز مدحوراً على سريره الخشبي، يحقّق البطل الشاب انهياره الأخير بمعاقرة الخمرة مع أصدقائه، من دون أن يُراجِع برويّة موقفه الحياتي، وانتماءه الطبقي، للوقوف عند نصاعة حقّه الشخصي، والعمل على الفوز به. ميلو نموذج درامي باهر المعاني للخسران الفردي، والانصياع لقهر القوّة وبطشها. إنه كائن أمّي هشّ، على الرغم من تمتّعه بشجاعة فلاحية متوارثة، وهذه تعجز عن تغطية العنصر الناقص في كيانه، الذي يُرغمه على الفشل المتواصل. هل هذا قدر الفقراء؟ تتساءل الرواية، وتعمّق السؤالَ صُوَر المخرج سينغ، التي ظلّت حبيسة الضباب المرمي فوق رؤوس الشخصيات، مُحيلاً الأماكن إلى ما يُشبه جحيماً يُخفي مصائبه.

إن مَشاهد مدير التصوير ساتيت راي نيقبال مُدهشة، بجمالياتها التي تحتفي بالطبيعة الخلاّبة للبنجاب، وهي في الوقت نفسه إشارات إلى أن الشخصيات هذه لا ترى الطَلَق الطبيعي من حولها، لأنها مشحونة باصطراع أزليّ ضد الهتك الطبقي وفقره. وحده، صوت الرصاص في مشاهد ليلة خسوف القمر، التي لن نعرف مصدرها، أو ذلك الصدر المغدور الذي يتلقّاها، تُحوّل مزاج الفيلم الجميل التركيب إلى "نعي سينمائي" لطبقة لن تُنقذها حداثة الهند من الموت البطيء. إلى ذلك، لن تكون شعرية السرد التي اعتمدها سينغ مُفتعلة ضمن أجواء الذعر الذي يصيب الجميع، خصوصا والدة ميلو، التي تُقرِّر أنها أُهينت كقيمة إنسانية على أيدي أعوان الإقطاعي، والتي تغيب بقسوة داخل الضباب الكثيف، بينما يصرخ رجل داعياً إلى صدقات من أجل الحصان الأعمى، وهو تقليد ضارب في القِدَم، يستغلّ ليالي الخسوف، ويُثبت إشارات العجز وظلمته.

يلاحظ مشاهد فيلم سينغ أن هذا الأخير يُكثِر الصُوَر المقرَّبة لوجوه فلاحيه، التي تتفرّس في ملامحهم القاسية، وتحتفي بصمتهم الثقيل. قال سينغ: "الوجه الإنساني يشبه الفضاء الطبيعي. الواقع المعيش للوجه يعكس الزمن والتحمّل والمعاناة. إن رواية "صدقة الحصان الأعمى" سعت لاستحضار تأثير سنوات منسية من الصراع الطبقي، انعكست في جزئيات الأحداث الدائرة حولهم (الفلاّحون). إنها (الرواية) عن الشهود الصامتين المجرّدين من العزم اللازم في التغيير، أو التحكّم في مسار أقدارهم. إنها (الرواية) عن معادلة العنف المخفيّ للسلطة، وتبرّم السخط الذي ينعكس على وجوههم". 

من داخل المهرجان في

15/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)