حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان برلين السينمائي الدولي الستون

صالة لواحد

وجهة نظر يابانية في الإمبراطور هيروهيتو

محمد رُضا

فيلمان من السينما اليابانية الجديدة تم عرضهما في إطار مسابقة مهرجان برلين السينمائي الذي تنتهي دورته الحالية في الحادي والعشرين من الشهر الجاري. الأول عنوانه "كانيكوسن" وهي كلمة يابانية غير مترجمة والثاني "يرقانة الفراشة" او "اليسروع" كما في المناجد. كل واحد من هذين الفيلمين له بالطبع أسلوبه وحكايته المختلفين كل عن الآخر، لكن الموضوع واحد في الزمان والمكان: الحرب العالمية الثانية وحكم نظام الإمبراطور هيروهيتو.

وهناك لقاء ثالث: كلاهما يساريان ينتقدان الحرب لجانب نقدهما النظام وأوّلهما يذهب لدعوى أن النظام الشيوعي هو الأجدى لليابان من سواه، في حين يبدأ الفيلم الثاني بـ "اللوغو" الخاص بشركة الإنتاج: نجمة حمراء على كاميرا مرفوعة كسلاح.

 فيلم "كانيكوسن" من إخراج سينمائي يطلق على نفسه إسم سابو، وأحداثه  تقع في البحر في مطلع الأربعينات. سفينة صيد  تشرف عليها شركة تبيع محصولها من الصيد الى الحكومة. داخل السفينة آلات لصنع المعلّبات تُدار عجلاتها الثقيلة باليد. وذلك ليس مصدر الشكوى، بل الطريقة التي يعامل بها أصحاب الشركة وأزلامها المعدودين كل البحّارة والصيّادين العاملين. الضرب والقتل والإذلال يستمر من مطلع الفيلم الى أن يخطب أحد البحارة في رفاقه طالباً منهم التمرّد والإضراب. كان هذا البحار هرب من السفينة فالتقطته سفينة صيد روسية وشهد على متنها بحارة سعداء يرقصون ويغنون ويُعاملون معاملة يتمنّاها لنفسه ولرفاقه فقرر العودة لنشر هذه المبادئ.

النهاية وخيمة هنا فهو سيدفع ثمناً لأفكاره الجديدة لكن الفيلم يوعز بأن الاضطهاد والفوارق الاجتماعية والطبقية هو بعض الأسباب التي أدّت لتفسّخ ثم انهيار النظام الياباني. الفيلم يذهب الى حد السخرية من المبدأ البوذي الذي يؤمن بالتقمّص ففقراء السفينة يحدوهم الأمل بالعودة الى الحياة بعد موتهم كأثرياء. ما لم تمنحه لهم الحياة الحاضرة سوف تمنحها لهم حياة أخرى على الأرض. كل ما على الواحد منهم أن يموت وهو يتخيّل نفسه من عائلة ثرية وسيعود كما تخيّل نفسه. إذ يعمد المخرج سابو (وكان هناك فتى هندياً مثّل في أفلام أميركية وهندية كثيرة في الخمسينات باسم سابو لكن لا علاقة لسابو هذا الفيلم به) الى هدم هذه الفكرة ينتقي مشاهد بعينها للسخرية منها. حين يتحدّث البحّار عن فقره ننتقل الى مشهد له في قريته يعكس ذلك الفقر، وحين يتخيّل آخر نفسه ثرياً، ننتقل الى مشهد له يلعب كرة اليد في ثياب بيضاء متوهّجة وبيئة مسالمة. تعبيرياً، هذه النقلات ساذجة وبدائية، لكن الإصرار عليها يضعها في لحمة الفيلم من دون تأثير سلبي على صعيد العمل بأسره.
إنه فيلم أجواء مكانية محدودة فمعظم الأحداث تقع في باطن السفينة باستثناء تلك اللقطات الصغيرة والسريعة المستخدمة للتعبير عن حلم او رغبة. لكن المكان الواحد لا يحد من قدرة الفيلم على استلهام الزمن الذي تقع فيه الأحداث والمخرج قد يبدو غير قادر على نسيج فني أرقى، لكنه بالتأكيد يعرف ما يقوم به وما يريد قوله وينجزهما في نجاح مقبول.

الرجل الزاحف

ينتهي "كانيكوسن" بموت البحّار الذي تأثر بالأفكار الروسية وأراد بث روح الثورة بين العمّال، وينتهي بطل "اليسروع" بالموت انتحاراً. ولو تم ذلك قبل نهاية الفيلم بساعة لانتهت معاناتنا نحن.

إنه فيلم خاص  للمخرج كوجي واكامتسو الذي أنجز 115  فيلماً او نحوها منذ العام 1963 وحقيقة أنه لم ينل عن أي منها أي جائزة رئيسية (حظي بخمسة جوائز هامشية وبجائزة من مهرجان طوكيو كأفضل فيلم في قسم "عيون يابانية" الجانبي عن فيلمه السابق "الجيش الأحمر" سنة 2007.

وهو مخرج لديه موقفاً سياسياً وطليعياً يعبّر عنه في مجمل أفلامه. مثل "الجيش الأحمر" فإن "يرقانة الفراش" يستعين بوثائقيات ويدور عن شخصيات تعاني من الوضع السياسي الذي فرض عليها خيارات قليلة. على عكس، هذا فيلم من 85 دقيقة  بينما أجبرنا "الجيش الأحمر" على الجلوس ثلاث ساعات. لكن خير الكلام ليس ما قل ودل هنا. هذا الفيلم الجديد فيه نحو ثلث ساعة من المادّة التي لا تتكرر حواراً او صوراً والباقي ذات الصور وذات العبارات ثم ذات المواقف تدور كما لو كانت ملصقة بدولاب  سيّارة تلف حول نفسها ولا تأتي، عند هذا الناقد على الأقل، بأي جديد يوسع إدراكاً او يضيف حالة جديدة فوق ما تم تسجيله من حالات.

يبدأ الفيلم بمشاهد وثائقية للحرب اليابانية- الصينية سنة 1940 ثم يدلف المخرج من تلك الوثائقيات الى مشهد حي نرى فيه ثلّة من الجنود اليابانيين يركضون وراء ثلاث فتيات صينيات. بطل الفيلم سيغتصب واحدة ويقتلها. مع انتهاء هذا الفصل التمهيدي ننتقل الى قرية لا يكترث المخرج لتصويرها حتى كديكور قد يُشيع بعض الراحة حين النظر اليها. ذلك الجندي عاد الى قريته مقطوع الأطراف مثل سلحفاة بلا قوائم. مشوّه الوجه. فاقد الصوت (وربما السمع) ولم يبق منه سوى البدن والرأس ... والرغبة الجنسية التي يفرضها، رغم ما هو عليه، على زوجته الصبورة والتي تعمل في حقل الرز وتطبخ وتطعم وتشرف على تنظيف زوجها وتلبية رغبته الجنسية.

الزوج بات يُعتبر الآن "إله الحرب". إنه أمر ساخر لكنه مؤلم معاً. القرية تنظر الى الزوجة كنموذج للتضحية لكن لا أحد، باستثناء المشاهدين، يعلم مدى تضحيتها الفعلية ومعاناتها النفسية التي تعيشها. في أحد المشاهد تهوي على صدر زوجها ضرباً متسائلة لم عاد من الحرب حيّاً. في أخرى تتظاهر أمام الناس بأنها سعيدة بالتضحية التي تقوم بها وتطلب من زوجها أن يشاركها الظهور (فوق عربة صغيرة وبلباسه العسكري) لكي تحصد إعجاباً أعلى من الناس.

كل ذلك جيّد ويحمل في طيّاته مادّة إنسانية وسياسية مهمة خصوصاً حين معاينة احتمال أن يكون الجندي رمز لليابان في الزمن الإمبراطوري والزوجة رمز للشعب الذي عانى من نظام الإمبراطور هيروهيتو الذي انتهى حين استسلمت اليابان للقوات الأميركية في صيف 1945 بعد إلقاء قنبلتين نوويّتين عليها. أمر يذكره الفيلم في النهاية مع مزيد من الوثائقيات. لكن عند هذا الحد ومع ذكر عدد الضحايا اليابانيين كما سواهم في الحرب العالمية الثانية (بالملايين طبعاً) تجد نفسك لا تزال تتساءل عما إذا كان من الكافي أن تأتي وجهة الفيلم اليسارية والمعادية للحرب في الدقائق الأخيرة من الفيلم لتقديره حق قدره.

كوجي واكامتسو  يستخدم التفعيلة الواحدة مرّات كثيرة. لديه وضع إنساني مؤلم (ومؤلم بالنظر اليه) وبضعة رموز ينتقل اليها صوتاً او صورة طوال الوقت، كتلك الكلوز أب لمقالة تشيد بالمجنّد العاجز وتصفه بالبطل القومي، او مثل تلك النياشين او تلك الوثائقيات. او كالعودة الى مشهد الاغتصاب لتأكيد دوره وفعله. او مثل تكرار الزوجة القول لنفسها او له "أنت لا شيء تفعله سوى الأكل والنوم، الأكل والنوم، الأكل و....". البعض قد يرى هنا ضرباً من النجاح في إيصال رسالة، لكن بالنسبة لهذا الناقد فإن الأمر لا يعدو حشواً لموضوع كان يجب أن يُعبّر عنه إما بتوسيع إطاره ليضم شخصيات وأحداث أكثر (لا يعني ذلك فيلماً كبير الحجم) او لمعالجة فنية راقية كما الحال مع فيلم ألكسندر زوخوروف "الشمس" الذي أشبع الشاشة بخطابه حول اليابان والفترة ذاتها ولو في حدود متابعة الإمبراطور هيروهيتو في أيام حكمه الأخيرة. ذات المخرج، بالمناسبة، قدّم قبل ذلك فيلماً رائعاً بعنوان "أم وإبن" حول رجل وأمه المريضة التي لا تستطيع الحراك يعيشان في كوخ قرب نهر في البرية. على عكس هذا الفيلم، ينضح ذاك بالسكون الخلاّب والمشاهد المتأمّلة والجماليات المتكوّنة من موضوع تنجح العلاقات الإنسانية فيه بالبروز بأقل قدر من المحاولات.

الجزيرة الوثائقية في

18/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)