حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

مهرجان كان السينمائي الدولي الثاني والستون

كان 2009

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

«حوض الأسماك» للبريطانية أندريا آرنولد

في الجحيم الطبقي والعائلي

زياد الخزاعي

لم يشذّ جديد المخرجة البريطانية أندريا آرنولد «حوض الأسماك» (المسابقة الرسمية لمهرجان «كان») عن سابقه «شارع رد» (2006)، في انتصاره إلى بطلته التي تحاصرها ارتباكات ظروفها الشخصية. فكما كانت جاكي في «شارع رد» مكلومة بمصرع ابنتها الصغيرة وزوجها، الأمر الذي دفعها إلى إقصاء ذاتي عن الجميع، بمن فيهم أهل بعلها؛ فإن الشخصية الرئيسة في فيلمها الأخير تعاني تهافت علاقاتها العائلية، التي ترغمها على تكريس عدائيتها لمحيطها وأناسه ومحيطهم ومواقعهم. ويأتي خيار المخرجة في تشديد سوداوية المصيرين لإثبات أن الوقائع الاجتماعية في بريطانيا المرفّهة لا تخلو من فواجع عائلية، تصل في معظم الأحيان إلى تدمير مقصود وماحق للجسد كقيمة اعتبارية، وللأعراف كوحدة تآخي جمعية.

تتشارك البطلتان في محيط يشبههما بشراسته وتغريبيته لهما. إنهما كائنان لا يملكان تغييره، أو على الأقل إحداث رجّة حقيقية، تعيد بعض مسلمات الوعي بالمخاطر وإدراكها بشكل عملي. إنهما إجماع ثنائي على رفض ذاتي لقانون سلطوي، يسعى إلى تنظيم المجتمع بوسائله وقوانينه، ولا يضع في حساباته سوى رضوخ الجموع. فجاكي، الموظّفة في مركز للمراقبة عبر الكاميرات المبثوثة في زوايا المدينة الاسكتلندية غلاسكو، تستخدم تلك الأداة المتلصّصة لإقناع نفسها بقدرتها على الأخذ بانتقامها من الشخص الذي تسبب بموت ركني عائلتها، فتكتشف أن العين تلك لا تحوط بظروفه، بل تدلّها على مكانه وحسب. أما باقي الفعل، فعليها أن تنجزه بنفسها، حتى لو تطلّب الأذى الجسدي. وكلّما اقتربت من القاتل، وعت أن عليها تقديم المزيد، ولن يكون سوى جسدها الذي يرضخ لمواقعة الغريب جنسياً. في المقابل، تعيش بطلة «حوض الأسماك» المراهقة ميا (أداء مفاجىء لكيتي غيرفس) وسط مناكفات لا حدّ لعنفها. ذلك أن سعيها الشخصي كامنٌ في دفع الآخرين إلى الاعتراف بإمكانية قيامها بفعل يُطرَى ويُثمّن. أول هؤلاء، والدتها المتصابية (كريستون ويرينغ) التي لا تغيب الإهانة عن مقاصدها، وتقليل شأنها عن نزعتها المغرقة بالعدائية. إن المحيط العائلي لميا جحيم مصغّر للخارج الفقير الطبقة، وما المجمّع السكني الحكومي المتواضع المعمار سوى صندوقه الذي يجمع أقدار عائلات فقيرة، متشظّية العلاقات وميتة العواطف. أهل هذا الجحيم جميعهم يعانون اغترابه الذاتي الذي يُغرقه بالإدمان والفوضى والاستعداء. ميا الطرية العود تستخدم غطاء التعنيف لردّ عنف الآخرين المقابل، وتخوض لعبة مريرة بين توحّدها وخشيتها من الانضمام الى «القطيع الاجتماعي». عندما نقابلها للمرة الأولى، نراها في حالة قطع النفس، ذلك أنها توهمنا بإنهائها فعلاً عصابياً، بيد أن المخرجة آرنولد تفاجئنا بموهبة بطلتها في رقصة الـ«هيب هوب» الشبابية الوافدة على سكان المجمّعات، التي أصبحت إحدى علاماتها الثقافية في بريطانيا المعاصرة. وهي كذلك العنصر الأجنبي الوحيد في عالم الأسرة البيضاء هذه.

عالم لا يرحم

إن سعي البطلة المراهقة إلى الانسلاخ من واقعها المتهافت لا يُحل ضمن نسيجها، إذ عليها انتظار منقذ خارجي يُضفي على حياتها ويومياتها معانيَ أعمق، ويكشف عن عواطفها المقموعة. إنها تشارك بطلة «شارع رد» في تصميمها على الثأر: المراهقة، للإغفال المقصود من قبل الآخرين؛ والأم المكلومة بعجز القانون على استكمال معاقبة القاتل، الذي يُطلق سراحه إثر انتفاء الأدلّة. في الحالتين، تضع أندريا آرنولد بصيرتها السينمائية على كيفية تفكير بطلتيها وحيلتيهما في سن شرعيتهما، ضمن حدود مدينة تعاني أكبر معدل للفقر والإدمان في الجزيرة العجوز. والعمل التلصّصي لجاكي لا يبيح لها مراقبة أسرار الشارع فقط، بل يقودها إلى الانقلاب الكبير في حياتها المجدبة، كما هو قدوم الشاب كونور (المميّز مايكل فاسبندر، الذي عرف شهرته الفنية في تأديته شخصية بوبي ساندز في «جوع» لستيف ماكوين) في «حوض الأسماك»، الذي تسهّل له الأم العاشقة اقتحام عالم ميا المغرق بسوداويته، فتتحوّل الحكاية إلى صراع بين تضادين، يسعى كل منهما إلى تصحيح مسار الآخر. تجد الأم أن موظّف الأمن في إحدى الشركات يضمن لها إشباعاً جسدياً، هي في أمسّ الحاجة إليه، بينما ترى فيه ميا أباً مستنسخاً لآخر غاب منذ زمن بعيد، وطمست معالم شخصيته إلى الأبد. يُمعن الشاب في فسوق مكشوف مع السيدة، التي ما زالت تحمل نظارة شبابها الآفل، ولا يمنع نفسه في لحظة ضعف من اغتصاب ميا، التي تشعر أن فتح فخذيها له فعلٌ مختلف عمّا تفعله والدتها. إنه الحبيب المخفي في كيانها، والخافي عن هذا الكيان في آن. تنسى ميا أن مجامعات أوكنور ووالدتها تتمّ، كما حدث معها، وهو تحت تأثير الخمرة. فالشاب طارئ على الأسرة الصغيرة، كما هو طارئ بتأثيره على ميا، التي اتخذته حامياً لها من يأسها بلقاء من تُحب. بيد أن تجسيد هذا العاشق كشيطان لا يُنجز إلاّ باختفائه المفاجئ، الذي يدفع بها إلى اكتشاف سره: إنه أب عائلة متطامنة، تنتمي إلى طبقة أرقى، وتقطن في بلدة أنظف. عندما تقتحم المراهقة دارته، تجد أن مرض هذا الوحش يكمن في خيانته أبوّته وليس زوجته. هنا، يحدث انقلاب وعيها وسعيها إلى الانتقام، فتجد أمامها طفلته الصغيرة، فتخطفها لبثّ الرعب في قلب والدها المستعار. لكن هذا الانتقام يتحقّق بصورة أكثر راديكالية في حالة جاكي، بطلة «شارع رد»، لأنها تسعى إلى نطفته التي تحوّلها إلى شاهد إثبات على جريمته. بذلك، تتشابه المواقعتان الجنسيتان في عملي آرنولد، مع الكثير من الزخم المبرّر بالنسبة إلى ميا، التي تفهم لاحقاً أن المضاجعة السريعة كانت بمثابة استهانة كبرى لكيانها، إذ تحوّل جسدها الفتي إلى مغامرة أخرى سَهُلت على ساقط ضمير، وتجد أن عليها الدخول عبر زلّتها غير المقصودة هذه إلى العالم الحقيقي، عالم الكبار الذي لا يرحم، وهي برفقة شاب يسايرها طبقياً، حيث تكون هجرتهما إلى لندن إعلاناً عن مستقبل يشي بالاعتراف المنتظَر.

)كان(

السفير اللبنانية في 21 مايو 2009

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)