حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

مهرجان كان السينمائي الدولي الثاني والستون

كان 2009

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

ثلاثة أفلام إيراني وتايواني وأوسترالي في مهرجان «كان»

الموسيقى تترجم العالم والحضيض هو الأصل

نديم جرجورة/ «كان»

لم تكن عطلة نهاية الأسبوع الفائتة شبيهة بالأيام السابقة لها، على شاطئ «بولفار كروازيت»، في المدينة الفرنسية الجنوبية «كان». فبعد يومين ماطرين، ارتدت السماء لونها الأزرق الصافي، وأطلّت الشمس بحرارتها المرتفعة، دافعة الناس إلى التمدّد على الرمل، بعضهم أشباه عراة، وجاعلة الاحتفال بالعام الثاني والستين للمهرجان السينمائي الأهمّ في العالم مزيجاً من الفن والعيش والتواصل المتحرّر من أي حاجز أو ارتباك. وبعد انطلاقة جميلة للدورة الحالية هذه، استمرّ محبّو السينما في البحث عن مقاعد تتيح لهم مشاهدة أنماط متفرّقة من العناوين الحديثة الإنتاج، التي تُعرض للمرّة الأولى في العالم بعد إنجازها، والموزّعة على المسابقة الرسمية والبرامج الأخرى، التي لا تقلّ أهمية عن الفئة المخصّصة بالمنافسة الحادّة، أحياناً، للحصول على «السعفة الذهبية»؛ على الرغم من أن بعض النقّاد رأى أن أفلاماً مختارة لبرنامج «نظرة ما» مثلاً تستحقّ التنافس على هذه الجائزة الأولى، من دون أن ينسى الأهمية الجمالية والفنية والثقافية للبرنامج المذكور نفسه، مشيراً إلى الفيلم الإيراني الجديد لبهمن غوبادي «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية» مثلاً، و«شمشمون ودليله» للأوسترالي وارويك ثورنتون أيضاً، اللذين نالا تصفيقاً حادّاً من النقّاد والصحافيين الذين شاهدوهما في اليومين الفائتين.

بين التلاعب الجميل للطقس بزائري «كان»، والأمسيات المفروشة على سهر ومتابعة ليلية لأفلام يكاد عددها لا ينتهي؛ وبين بحث عن جديد بصري ومتعة تتيح للمرء أن يكتشف معنى أن يكون المهرجان احتفاءً حقيقياً بالحياة والسينما معاً؛ تمضي أيام الدورة الثانية والستين لمهرجان «كان» بشكل عادي (قياساً إلى عادته السنوية في تحويل المدينة إلى حيّز للإبداع المتنوّع)، مع أن عدد القادمين إلى المدينة ومهرجانها تضاءل، بشكل ملحوظ، عن أعدادهم في الدورات السابقة، كما أكّد زملاء وأصدقاء عديدون تابعوا هذه الدورات، وباتوا قادرين على إقامة مقارنة جدّية وواقعية. مع هذا، بدت أفلامٌ عدّة مثيرة للنقاش النقدي، ومحرّضة فعلية للتمتّع بالصُوَر البديعة التي تلتقط نبض الحياة وتوتراتها، ومعاني الانفعال والعشق والعنف والجريمة، وتفاصيل العيش على الحدّ الواهي للموت، ومغزى المواجهة الدائمة والحتمية بين التنوير والظلامية المتمثّلة بأصولية دينية أو بتزمّت اجتماعي. بدت أفلامٌ عدّة انعكاساً للمأزق الإنساني وسط الانكسار والخيبة، أو تصويراً بديعاً للتحدّي والانبعاث من داخل البشاعة إلى أقصى الجمال.

العالم السفلي

يُمكن القول، باختصار شديد، إن توغّل الفيلم الجديد للإيراني بهمن غوبادي، «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية» (بحسب الترجمة الإنكليزية للعنوان الفارسي)، في عالم موسيقى «أندرغراوند» في إيران اليوم، أفضى إلى تعرية جانب أساسي من مأزق المجتمع الإيراني القابع في سطوة السلطة السياسية/ الدينية، بحراكه التحرّري الذي يحاول شباب إيرانيون صنعه عبر الموسيقى والغناء. ذلك أن هذين الفنين يعكسان، بألحانهما وكلماتهما وأنغامهما وعشق الشباب لهما، حجم التمزّق الداخلي في البنية المجتمعية كما في الذات الإنسانية. في حين أن الفيلم نفسه مرآة صادقة وشفّافة وحيوية وقاسية لهذا البؤس القاتل، من دون التورّط الفني بالتنظير أو الثرثرة البصرية، خصوصاً أن اللغة المستخدمة في تحقيقه حافظت على بساطة جميلة غلّفت عمق الغضب والتوتر والارتباك.

شكّل الفيلم صدمة جميلة وقاسية، لاستعانته بالأسلوب العفوي والبسيط الذي اشتهرت به الغالبية الساحقة من الأفلام الإيرانية الخارجة على النظام الإنتاجي السائد والمرتبط بالمؤسّسات الحاكمة؛ من دون أن يفقد عمقه الدرامي والجمالي في قراءة اللحظة الإنسانية الآنية. شكّل محطّة مثيرة للتساؤل عن الواقع الحالي في إيران المرتبكة أمام تحوّلاتها القاسية وانغلاقها السياسي/ الديني وتحدّيها العالم، لأنه ناقش واقعاً شبابياً إيرانياً، يحتفل بالموسيقى والغناء احتفاله بالعيش والحلم بالحرية والانعتاق من وطأة الظلم الحياتي والاجتماعي الذي يقيم فيه هؤلاء الشباب. شكّل لحظة استكشاف جديد للمشهد الإيراني، على الرغم من الحصار المضروب على البيئة المجتمعية وناسها، لأن المخرج ترك عدسة الكاميرا تلتقط تفاصيل القصّة الحقيقية، معيداً صوغ الفيلم في غرفة المونتاج، كي يتلاءم وموقفه من الحدث، أو كي يُقدّم الحدث نفسه كما هو، من دون أن يستقيل من دوره كسينمائي فذّ وجميل في تصويره البؤس والألم والتمزّق والرغبة القصوى في التحرّر من سطوة الحصار المضروب على شباب إيرانيين، وجدوا في الموسيقى والغناء (راب) منفذاً للتنفيس عن الاحتقان الخطر في صدورهم وعقولهم وانفعالاتهم.

في هذا الفيلم، اختار غوبادي نمطاً وإيقاعاً مختلفين عن أفلامه السابقة، لأنه حاول الاقتراب قدر المستطاع من إيقاع ودينامية الحياة المتقلّبة والمتحرّكة في طهران. أراد أن يُظهر العاصمة من منظار مختلف. الموسيقى، خصوصاً نصوص الأغاني أوحت إليه إيقاع الفيلم: «أعشق الموسيقى. لو لم أصبح مخرجاً، لكنت أصبحت موسيقياً أو مغنياً. أتقن عزف موسيقى «كوبايي»، وأصدقائي يقولون إن صوتي ليس سيئاً. أنا الآن بصدد تسجيل ألبومي الأول. كنتُ قلقاً جداً أثناء التصوير، لأني لم أكن أملك تصريحاً به. معاينة أمكنة التصوير والتصوير نفسه فيما بعد تمّا بواسطة ثلاث دراجات نارية. بدأت العمل من دون تحضير مسبق. كان عليّ تصوير المشاهد بسرعة، وفي حالة طوارئ جدّية، كي لا ينتبه رجال الشرطة إلينا، فريق العمل وأنا، أثناء اشتغالنا. لديّ شعور أني، في سبعة عشر يوماً فقط (مدّة تصوير الفيلم) تقدّمت في العمر سبعة عشر شهراً. إنها شروط مرعبة تلك التي نمرّ بها أثناء إنجاز أفلامنا».

وودستوك

عاد المخرج التايواني آنغ لي إلى نهاية الستينيات المنصرمة (إلى العام 1969 تحديداً)، باحثاً عن جذور أحد أبرز النشاطات الفنية في الولايات المتحدّة الأميركية، الذي أسّس منعطفاً حقيقياً في المسار التاريخي للمجتمع الأميركي، بعد اندلاع أحداث أيار 1968 في فرنسا، والتحوّلات الاجتماعية والثقافية والإنسانية والحياتية التي زُرِعت في قلوب ملايين البشر وعقولهم وانفعالاتهم. أراد أن يستكشف آلية التأسيس لهذا التحوّل، عندما اختار شخصية إليوت تيبر (ديمتري مارتن)، الشاب الأميركي اليهودي المتخصّص بهندسة الديكور الداخلي، المقيم مع والديه والمرتبك جرّاء عيشه لحظة تحوّل حياتي وإنساني من دون أن يتّخذ القرارات الملائمة لطموحاته وأحلامه، محوراً لفيلم مصنوع بتقنية التوثيق، ومغلّف بأسلوب روائي سردي، لا يخرج على الخطّ التاريخي للأحداث، ولا يغرق في التسطيح، بل يحافظ على المعطيات الواقعية كي يرسم ملامح مرحلة وتفاصيل ذاكرة لا تزالان فاعلتين، إلى حدّ ما، في الوجدان الجماعي للمجتمع الأميركي على الأقلّ. ذلك أن «اكتساح وودستوك» (المسابقة الرسمية) شهادة بصرية عن معنى المواجهة السلمية لملايين الشباب الأميركيين ضد الحرب والسياسة، والدفاع عن الحرية والجنس والتحرّر المطلق من قيود البيئة الغارقة في الدم والعنف والموت. لم يُصوّر الحدث نفسه، بل حفر في التفاصيل المتفرّقة التي بدّلت وجه أميركا والتاريخ، في ظلّ حرب فيتنام، واحتدام النزاع القائم بين إسرائيل والفلسطينيين إثر هزيمة الأيام الستة (1967) وارتفاع حدّة المواجهة الصامتة في حرب الاستنزاف بين إسرائيل ومصر، بالتزامن مع إحدى أهم الرحلات الأميركية، حينها، إلى القمر. فهذه كلّها مُقدَّمة في المشاهد الأولى من الفيلم، الذي يدخل سريعاً في الحياة اليومية المملّة في المدينة الأميركية «غرينويتش فيلاج» القريبة من نيويورك، قبل أن تنقلب الأمور كلّها رأساً على عقب.

والحدث، إذ رسم معالم التحوّل الجذري في بنية التفكير الشبابي وآلية عيشهم اليومي منعتقين من أي قيد، عُرف باسم «وودستوك»، تلك الحفلة الموسيقية الصاخبة التي دفعت كثيرين إلى التعرّي، بالمعنيين المادي والروحي، من أي صنمية أو تبعية أو انسحاق أمام أي قيد أو تقليد. والتحوّل، إذ جعل وجه أميركا يتغيّر، شبابياً على الأقلّ، رُسم بشفافية صادقة في فيلم لم يغرق في التنظير، ولم يسقط في الأدلجة، ولم يقع في المحظور الخطابيّ الساذج. أبعد آنغ لي حدث الحفلة الموسيقية/ الغنائية نفسها عن المشهد، لأنه أراد تقديم صورة مختزلة وواقعية ومكثّفة (درامياً وفنياً) للمخاض الذي أفضى إلى لحظة التحوّل، إذ وجد في المخاض طريقه إلى استكشاف المسار المطلوب للانتفاض ضد طغيان الفساد والقمع والجهل والخيبات. وهو، إذ شدّد على القطيعة القائمة بين إليوت ووالديه، أو بالأحرى بين إليوت ونفسه تحديداً، أراد أن يعيد صوغ الحكاية السابقة للحدث من خلال شخصية الشاب الذي لعب دوراً أساسياً في صنعه.

شمشمون ودليله

هنا أيضاً، يُمكن القول إن الفيلم الروائي الطويل الأول هذا للأوسترالي وارويك ثورنتون، صورة قاسية عن حجم التمزّق الإنساني، والاستسلام للخيبة، والتقوقع في العزلة والقهر. فالقرية المرمية في اللامكان حيز طبيعي للروتين القاتل المقيم في طرقاتها الرملية وغبارها الفاسد ووسخها المقزّز، وناسها القلائل الذين يميلون إلى صمت مدوّ وعادات بدوا كأنهم لا يُتقنون غيرها. والشخصيتان الأساسيتان، شمشون (روان مكنمارا) ودليله (ماريسّا غيبسون)، متورّطتان حتّى الموت البطيء في المناخ العابق بالضجر والضيق والانهزام والتبعية. في حين أن الحدث الدرامي لم يرو قصّة ولم يرسم معالم أناس أو بيئة، بقدر ما أتقن تحويل العمل إلى حالات إنسانية متداخلة ومتصادمة بعضها مع البعض الآخر، من خلال المسار الحياتي لهاتين الشخصيتين نفسيهما. والأجمل من هذا كلّه، غياب الحوارات، لإضفاء مزيد من القسوة والألم الذاتي على المُشاهد وعلاقته بالفيلم، كي تكتمل لعبة السينمائي في إحكام قبضته على النصّ والصُوَر والمشاهدين معاً.

في مئة دقيقة، يذهب الثنائي العاشق بصمت إلى تخوم العذاب الداخلي والبحث عن مخرج من ورطة العدم وقسوة الطبيعة وفراغ الدنيا ووجع الحياة. يذهب إلى الاستسلام الأقصى للدمار الداخلي، لأنه ظنّ أن النزول، بطريقة حادّة، إلى جحيم الأرض، سيكون ملاذاً له من بشاعة البيئة المقيم فيها، من دون أن يدري أن هذه البشاعة قادرة على التحوّل إلى جمال ما، طالما أن الحبّ حاضرٌ، وطالما أن الاختبارات اليومية، وإن كانت قليلة، متمكّنة من دفعه إلى تبديل أسس حياته. في مئة دقيقة، ساد الصمت على الشاشة الكبيرة، كسيادته على الحياة وأنماطها، والتغييرات وأشكالها. فالعبور في مطهر الأرض، والأرض مطهر من الجحيم الذي تصنعه هي أيضاً، محتاجٌ إلى تضحيات شارفت، في أحيان عدّة، تخوم الموت، إن لم يكن الموت نفسه. والولادة الجديدة نابعة من الغرق في أسفل الدنيا، قبل أن يتحقّق الانعتاق من القذارة.

بدت صناعة «شمشون ودليله» بسيطة للغاية: كاميرا تلتقط الروتين اليومي لمجموعة من الناس، من دون ملل. إضاءة تعيد رسم الوجوه والملامح نفسها، كأنها ترغب في نسج خلفياتها لإكمال صورتها. توليف قاس لا يملّ من تكرار الحالات/ اللقطات نفسها، تأكيداً على تكرار الحياة نفسها قبل أن يُقدم المرء على كسره والتحرّر منه. والقصّة، إذ تختفي في نسيج الحالة بدلاً من أن تكون ركيزة درامية للفيلم، تحفر عميقاً في الذات الإنسانية وتحوّلاتها، وتتوغّل في جذور الخلق، لأنها سردت محنة الإنسان في بؤسه، قبل أن يعثر على خلاصه.

السفير اللبنانية في 18 مايو 2009

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)