حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم (أوسكار) ـ 2009

OSCAR

2009

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

حول الحالة الغريبة للسيد بنجامين بوتون

تأملات فى الموت والزمن والحياة

رمضان سليم

يقودك هذا الفيلم و الذي عنوانه (الحالة الغريبة للسيد بنجامين بوتون) إلى نبش الكنير من القضايا المتصلة بالسينما والأدب من ناحية، وكذلك القضايا المتصلة بمعالجة السير الذاتية علئ الشاشة أما عن الجانب الأدبي، فالفيلم يعتمد علئ قصة ليست قصيرة للكاتب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد ( 1896 ‏- 1950 ‏) نشرت عام 1922 ضد مجموعة قصصية وبنفس العنوان. وما كتبه الروائي في الأصل الأدبي يختلف بدرجة كبيرة عمآ قدم في الفيلم حتئ أنه يمكن القول بأن العامل الشترك بين الفيلم والقصة لا يعدو أن يكون حضور الفكرة الرئيسية فقط.

وكل ذلك يعني أن حقل الاقتباس مفتوح علئ مصراعيه، وأن الادعاء بضرورة التمسك بكل تفاصيل العمل الأدبي ليس إلا فكرة مغلوطة لا تخدم فن السينما بأي حال من الأحوال.

الجانب التأني هو مجال السير الذاتية.. والشخصية هناهى (بنجامين)وهى ليست شخصية عامة أو مشهورة منل غيرها من الشخصيات ، إنه تنخصية عادية من جانبها التاريخي والاجتماعي. لكنها صارت كذلك بسبب ظروفها الخاصة وغرابة نوعية حياتها، وبسبب هذه الغرابة، تحولت إلى شخصية ربما تكون عامة، أو علئ الأقل تستحق أن تروى قصتها وأن تذكر ضمن قصص السير الشخصية.

لقد ولد بنجامين كبيرا في السن ساعة مولده.. ليس من حيث الحجم ولكن من حيث الشكل الخارجي أولا، ثم عمره الفعلى الذي تجاوز 86 عاما. ومن الطبيعي أن يتدرج الأمر بعد هذه الفرادة أو الغرابة إلى السير بالاتجاه المختلف. أي أن يكون النمو بالعكس.. فيصغر بنجامين تدريجيا ومع مرور السنوات إى أن يصل إلى مرحلة الطفولة، ثم الموت بعد ذلك. والموت هنا صيرورة حاسمة ونهاية مستقرة وثابتة ولا يختلف الأمر كثيرا سواء بدأنا من النهاية أو من البداية.

لا تهمنا كثيرا البواعث التي جاءت وراء مسألة اختيار هذه الفكرة اوصياغتها بشكل قصصي.. فمن ضمن أصول كتابة القصة القصيرة بشكلها التقليدي أن يلتقط الكاتب فكرة مؤثرة أو دالة أو غريبة والمهم هو كيفية المعالجة بالدرجة الأولئ، وإذا عدنا إلى رواية غاتسبي العظيم 1925 احدى أهم روايات الكاتب وجدنا بطلها يبحت عن فكرة غريبة ويحاول تطبيقهابشكل استنما ري وتجاري، وبصرف النظر عن مقدار النجاح أوا لفشل. فالمهم هو البحت عن المختلف، اللافت للانتباه.

في هذا الفيلم ( الحالة الغريبة للسيد بنجامين) يبدو الأمر وكأنه مختلف.. ذلك أن التركيز قد انتقل إلى ما هو أبعد من غرابة الواقعة، وطال الأمر جوانب عميقة من الحياة بألوانها واشكالها المتباعدة والمتقاربة في نفس الوقت، ولكن في حدود ما تسمح به السينما، بحيت لايتحول الفيلم إلى لون من التأمل الفكري والفلسفي الذهني المعتمد علئ اللغة .. بما لا تستطيع الشخصيات أن تحمله معها وأن تعبر به عن مواقفها في الحياة وباتجاه بعضها.

لقد حاول الفيلم، من خلال السيناريو أن يضع خلفية لوقائعه، ونقصد بذلك خلفية تاريخية حقيقية، حتئ لا تذهب الغرابة المتخيلة بكل شيء ويصبح الفيلم أقرب إلى نوعية الخيال العلمي. وكان يمكنه أن يكون كذلك.

إن المرجعية الواقعية التاريخية قد اكسبت الفيلم قوة وجعلت شخصية بنجامين مجرد شخصية بشرية من لحم ودم، ليست أسطورة أو علامة اعجاز لها بعدها الديني، فمن خلال الأحدات سوف نرى احتفالا بانتهاء الحرب العالمية الأولئ وصخبا وحرك غير عادية. ومع عودة للجنود من الجبهات العسكرية ..من هؤلاء بوتون الأب.. الذي يريد أن يلتحق بزوجته لكي يطمئن علئ وليده الجديد . لكن عندما يصل المنزل، يجد زوجته علئ وشك الموت، لتوصيه خيرا بالطفل، بحيت يكون له مكان علئ الأرض… وبمجرد موتها نراه يهرع بالطفل إلى الشارع بغيةالتخلص منه.. ويكاد يلقيه في النهر لولا وجود أحد رجال التنرطة عرضا. ولذلك يتجه به نحو مكان أخر وهو عتبات منزل شبه معزولبه جلبة.. ليضعه هناك ومعه بعض النقود ليضمن علئ الآفل وجود من يعطف عليه.

إن الطفل الوليد يمكن اعتباره مشوها من حيت الشكل لكنه فعليا ليس كذلك، فهو كبير السن .. 86 سنة … عند ولادته وبه تجاعيد كنيرة وضحكته واضحة ويمكن لأهل النقد والتأويل أن يدركوا أن انتهاء الحرب العالمية ظاهري فقط.

ويبدو أمرا حسنا ..لكنها فعليا تترك وراءها الألم وها هو الطفل الشيخ يولد من رحم الحرب. ولد كبيرا بفعل الأهوال ليتدرج في الصغر كلما ابتعد عن مصائبها. إن بنجامين هو من نتاج حرب مثلما حدث مع طفل (طبل الصفيح) للكاتب الالماني غونترغراس.

‏تجد خادمة منزل المتقاعدين (الزوجة السمراء) كويني الوليد بنجامين وحيدا وتقبل به طفلا . هدية الرب لامرأة عاقر.. ويقبل به النزلاء في المنزل علئ مضض وأحيانا بلا مبالاة، وهم يدركون وكما أبلغهم الطبيب أن أيام الطفل معدودة، فهو يعاني من هشاشة العظام وقد ولد أعمى بسبب المياه الزرقاء في العيننين.

‏رغم ذلك فقد عاش بنجامين،بسلوكه الوديع فهوهادئ الطباع لا يكاد يشبه الأطفال وهو يلبس النظارات الطبية ويخلو رأسه من الشعر ولا يستطيع الحركة علئ قدميه ويستخدم كرسيه المتحرك. أيضا تعلم القراءة والكتابة وعلمته احدى نزيلات منزل المتقاعدين الموسيقئ.

‏لقد دخل بنجامين في بعض التجارب البسيطة ومن ذلك تجؤله في المدينة برفقة قزم تعرف عليه، واعتبار تلك الجولة مدخلا لعالم الحرية بالنسبة إليه.

‏و بالنسبة إلى الفتاة الصغيرة (ديزي) فجدتها تسكن البيت..تعرف علبها وصار بينها وبين بنجامين تواصل ولقد اعترف بنجامين بأنه قد أحبها منذ صغرها. كما أن جدتها كانت تقرأ لهما قصصا تسرد من كتاب للأطفال.

‏أما كويني فقد ذهبت إلى الواعظ الديني لتزيل عقمها، وهي تعرض حالة بنجامين علئ الواعظ الذي يسرع في أوامره ونداءاته الغريبة لغرض أن ينطلق بنجامين علئ قديمه.. وفعلا تم ذلك ولكن يكون القربان هو الواعظ نفسه الذي يموت إنر ذلك، وفي الحقيقة لا يركز الفيلم علئ هذه النقطة ولا يجعل من بنجامين صورة غرائبية بالمفهوم الديني، ولكن يمضي به نحو الواقع ويجعله يدرك بأنه ومع مرور الأيام يتدرج في نموه نحو الصغر فتزداد قوته ويتحس شكله كله، ولكن أحيانا يموت بعض الناس من

حوله ويدرك بالتالي أن حياته مختلفة.

‏إذا عدنا إلى بداية الفيلم، وجدنا أن المدخل يقود إلى وجه امرأة عجوز قعيدة سرير المرض والموت في المستتنفئ. وهي نفسها (ديزي) وقد جلست بقربها ابنتها كارولين.

‏ورغم ان العلاقة تبدومتوترة بين الأم وابنتها إلا أن الأم تشير الى مفكرة بعيدة فتتناولها الابنة وتشرع في قراءتها حسب طلب الأم. وهذه المفكرة تحتوي علئ كتابه وصور وتخطيطات، لنعرف بأننا ازاء قراءة لمذكرات بنجامين، مع تعليقات متداخلة من قبل الأم (ديزى) وهكذا يسير الفيلم من البداية إلى النهاية. أما خارج المستشفئ فإن العاصفة الشديدة تضرب بقوة (اعصار كاترينا 2005 ‏بنيو او رليانز وتظهر بعض الاشارات لذلك من خلال صوت العاصفة وتأثيرها علئ نافذة الغرفة.

‏بهذه الطريقة في السرد يمكننا أن تنذكر الفيلم الشهير (تايتنيك) عندما تسرد العجوز ما حد~ث لها ومن وجهة نظرها، وفي خط رومانسي يحاول هذا الفيلم أن يعيده من جديد ولو جزئيا، كما تذكرنا قصة الفيلم بأنها قريبة جزئيا من فيلم معروف وهو (فورست غامب) هنا لا تعلم (ديزى) بكل التفاصيل ولذلك اعتمد الفيلم علئ مذكرات خاصة لبنجامين تقرأهاالابنه وتعلق الام عليها بين الحين والآخر.

‏عندما يبلغ بنجامين سن القدرة علئ الحركة والاعتماد علئ النفس يغادرا لمكان الذي اعتاد عليه ويلتحق بزورق للصيد يديره كابتن (مايك) ليعمل فيه عملا خفيفا ليس إلا. ولكن صداقة تنعقد بينه وبين هذا الكا بتن الذي يدخله إلن عوالم جديدة لا يعرفها ..ومن ذلك أن يتعرف علئ النساء في ماخور يرتاده البحارة. ثم يتعرف علئ والده بوتون اد يعرفه والده من بعيد ويحاول الاقتراب منه لمعرفة ما حدث له. ثم بعد فترة معينة يعترف له والده بكل القصة ويكتب له عقدا بالتنازل عن مصنع يملكه.

‏من الوقائع التي يستند إليها الفيلم باعتبارها خلفية تاريخية ضرب ‏اليابانيين لميناء بيرل هاربر تم دخول الكا بتن مايك الحرب للمساعدة وعمله علئ اغراق احدى السفن اليابانية والفيلم يصوركل ذلك من وجهة نظر واحدة، وبطريقة سريعة لربط الواقعي بالمتخيل.

‏وهنا علينا أن تنذكر أن في بداية الفيلم تسرد العجوزدأيزى قصة صانع الساعات الأعمئ والذي فقد ابنه في الحرب فصنع لذلك ساعة ضخمة، علقت بالمحطة الرئيسية بنيويورك وقد كشف عن هذه الساعة في احتفال كبير وبحضور الرئيس الأمريكي (روزفلت). ولقد أعلن صاحبها أنها ساعة تسير عقاربها إلى الوراء لكي يأمل كل من فقد شخصا ما بأنه يمكن للزمن أن يعود وبالتالي لا يذهب الضحايا إلى الحرب فلا يتم فقدانهم.

‏لقد استخدم الفيلم طريقة ارجاع المتناهد إلى الخلف فعليا للتعبير عن ذلك، وبأسلوب مبتكر له جاذبية تنعكس علئ فكرة ارجاع الزمن والتي كان ميلاد بنجامين جزءا منها فهو لا يسير إلى الأمام ولكنه يعود

إلن الوراء.

‏إن فكرة ولادة بنجامين بهذه الطريقة وحياته المختلفة عن الآخرين تعكس شعورا بالألم من الحرب.. وأمنيه بأن يرتد الزمن إلى الخلف لتجنب مصائب الحرب العالمية الأولئ، وما هذا الطفل الوليد إلا رمزا لهدة الامنية.

‏يسعئ الفيلم من خلال سيناريو محكم إلى الاتصاق بالواقع فعليا بتقديمه للقصة الجانبية الحقيقية قصة

‏الساعة الفعلية رغم أن صانعهاقد اختفي بعد ذلك نهائيا.

إن الساعة هي صورة مشا بهة لحالة بنجامين نفسها.

‏ومن جانب أخر تكثر في الفيلم تفاصيل جانبية كنيرة وقصص فرعية ‏لايمكن أن نقول عنها بأنها جميعا ترفد سياق الفيلم، لكنها تنويعات تضيف أبعادا جوهرية وتجعل التسلسل لا يسير نحو غاية معينة أو نهاية محددة مهمة، فلا شك في أن وفاة بنجامين في النهاية عندما يصل إلن مرحلة الطفولة مسألة واضحة وليست نهاية مفاجئةولذلك كان لجوء الفيلم إلى الدوران والتطور بالعرض وليس بالطول. إن الغاية غير متمثلة في النهاية ‏التي يصل إليها الفيلم، ولكن في تقديم الزركشة والاكثار من التفريعات ذات الدلالة في المعنى داخل سياق الفيلم أو خارجه.

‏سوف نجد شخصيات كثيرة علئ هامش القصة الرئيسية، ومن ذلك مثلا ما ذكرنا، من قصة صانع الساعة الأعمئ. وكذلك قصة الكا بتن الذي صار صديقا لبنجامين ومات بعد ذلك وتحولت ملكية الزورق إلن بنجامين نفسه. إن الكا بتن مايك يتحدث عن نفسه باعتباره فنانا ظل الطريق في البحر وعلى جسده توجد وسومات كثيرة تشيرإالى ذلك وهو يفتخر بهذا الوشم ويعرضه للجميع.

‏هناك شخصية أخرى جانبية من البحارة تتعامل باستمرار مع الشا عرشكسبير وهناك رجل يسكن مع بنجامين في بيت المسنين يقول ويكرر باستمرار بأنه قد صعق سبع مرات بالبرق، وفي كل مرة نرى من قوله شدرات ‏هناك مطربة الاوبرا التي تموت فيدرك بنجامين معنن المو ت ا ثر ذلك. والأهم بالطبع شخصية (اليزابيت) وهي شخصية اضافية، مر بها بنجامين عندمأ ‏كان ينتقل بالزورق فلقد تعرف عليها في فندق صغير ووجدها زوجة لدبلوماسي تعاني الفراغ القاتل، وكان مفتاح العلاقة هو الكلام اليومي وفي الليل عندما تهدأ الحركة.. عن طريقها تعرف علئ الأكل الرفيع منل الكافيار منلا وصارت مع تكرار اللقاء عشيقة لكنها كانت مجرد لحظة برق خاطف، غابت علئ الفور وهذا الأمر يتكرر مع بنجامين دائماحيث كل ا اشخصيات التي يلتقي بها مؤقتة تمر به أو يمر بها ويكون بينهما فراغ طبيعي تعكسه طبيعة تكوينه ونوعية حياته العكسية.

‏أيضا هناك حالة من الفشل والخيبة تسيطر علئ الشخصيات التي يلتقي بها بنجامين ولو بشكل مؤقت

فهذه اليزا بيت منلا تحكي أنها قد حاولت عبور (المانش) سباحة ولكنها فشلت وهي بعد صغيرة السن.

‏إنها نفس المرأة التي يشاهدها بنجامين على شاشة التلفزيون عندما عاش مع ديزى لفترة ما في البيت الريفي يشاهدها وقد عبرت بحر الما نش وقد بلغت من العمر أكنر من ستين عاما، إذ لا مكان لعمر معين في تحقيق الأمنيات والغايات وخصوصا إذا كانت رؤيتنا للزمن نسبية.

‏يتعهد بنجامين بارسال صور الأمكنة التي يزورها إلى د أيزى وبالفعل تتجمع الصور لتضاف إلى المذكرات. تم يعود ويزورد أيزى في باريس حيث تعمل في فرقة رقص الباليه بعد أن تدربت فيه طويلا، ورغم أن حياتها بوهيمية وعلاقاتها العاطفية مشتابكة ومتعددة إلا أنها تنظر إلى بنجامين نظرة خاصة، وفوق ذلك فالعلاقة الرومانسية التي قدمها الفيلم، بها بعض لحظات الضعف، فلا أحد من التنخصيتين مخلص للآخر، بنجامين يزور الفتيات في باريس انر لقائه السلبي مع دأيزى، وهي تعيش حياتها أيضا مع أكنر من راقص.

‏رغم ذلك فإن العلاقة بينهما تنمو وتكون تمرة العلاقة طفلا صغيرا هو الفتاة التي تقرأ المذكرات (كارولين).

‏تموت كويني الأم المربية ويرحل الأب الفعلي ولا يجد بنجامين أمامه إلا الرحيل أيضا إذ لا يمكن لديز ى أن تربي طفلتها وترعاه هو أيضا وخصوص او أنة في الطريق إلى أن يصبح طفلا. يرحل بنجامين تاركا ابنته وتارك اديزى وحيدة لتتزوج برجل أخر ينتظرها. يزورهابنجامين بعد ذلك مرة واحدةويرحل. إن لحظات الغياب أطول من لحظات الحضور.

بعد سنوات يتم العنور علئ بنجامين صغيرا يكاد يكون فاقدا للذاكرة، به أمراض كنيرة ويبقى في نفس بيت المسنين ترعاه دأيزىمثل الام بعد أن كانت حبيبة وعشيقة إلى حين وفاته.

‏خارج غرفة المستتنفئ حيت ينتظر دأيزى أن تموت في أية لحظة، هناك اعصار تتصاعد خطورته باستمرار ويهدد بفيضان كاسح جماعي هذه المرة وليس فرديا. إن الموت هو النهاية الحقيقية لكل شيء مهما كانت نوعية البداية، ورغم ذلك فإن الطائر الصغير (الطنان) يحوم حول زجاج النافذة، إنه نفس الطاائر الذي يظهر بين الحين والآخر، والذي كانت وسوماته تملأ جسد القبطان مايك وهورمز للبقاء والتجدد والحياة، ورغم قسوة الموت التي تحاصر الأفراد فإن اعصار كاترينا 2005 ‏هو مرجعية واقعية أخرى للفيلم.

‏لقد اعتمد الفيلم علئ عدد من الشخصيات، وكان للممثلين الدور المهم في انجاحه وعلئ رأس هؤلاء الممثل (برآد بيت) في دور مختلف تماما فيه اعتماد علئ التقنية الحديثة. لكن كان للحضور الشخصي الأهمية القصوى في ربط الجمهور بهذه الشخصية وحالتهأ الغريبة. وهو استمرار لدور الممثل في (بابل ‏) وكذلك في فيلم (أدى القتال) وفيلم (اغتيال حبيبي جيس ‏ وبشيء من الاختلاف (الحرق بعد القراءة 2008 ‏) أما الممثلة المقابلة في الدور فهي كيت بلانشيت التي اشتهرت بدورها في فيلم (ملاحظات حول فضيحة) 2006 ‏وفيلم الطيار 2005 ‏وفيلم بابل 2006 ‏والفيلم الأهم اليزا بيت ( 200 ‏وكذلك سجائر قهوة 2005 ‏.

‏رغم صغر دورها وعدم حكريته إلا أن (جوليا ارومند) قد حافظت علئ الهدوء المطلوب منها وكبتت انفعالاتها قدر الامكان وخصوصا أن البرودة هي الجو العام الملائم لحركة الشخصيات، وطابع البرود هو طابع الشخصية الرئيسية. فهو يترك الأمور تسير بحسب مقتضياتها دون إلحاج أو اندفاع أو حماس مبالغ فيه. وهي تمثل حالة استمرار لهذه الشخصية (آبنته).

‏لقد اختفت هذه الممثلة قليلا منذ (امبراطورية انلاند 2006 ‏) لكنها عادت في فيلم (تشي، الجزء الأول والجزء الثاني) وهي تؤكد وجودها بهذا الدور بعد دورها فى فيلم الحجاب.

‏تبقى بعد ذلك الممثلة الرائعة(تيلدا سوينتون) وكان دورها من أقصر الأدوار إلا أن حضورها قد اكسب الفيلم عمقا واضحا، عمل السيناريو علئ تأكيده بتكرار المعااني المختلفةوتوزيع عدد من الشخصيات بين الحين والآخر.

‏أما المخرج ديفيد فيشر فهو صاحب التجربة اللافتة للانتباه بداية من فيلم (نادى القتال 1999 ‏) وفيلم (اللعبة ( 1997 ‏) وفيلم (الغريب 1992 ‏) والفيلم الأهم (سبعة 1995 ‏) ثم (غرفة الرعب 2002 ‏) وآخر أفلامه زوداياك ( 2000 ‏) وهو يعلو بأفلامه الى آفاق بعيدة مهما كان الموضوع.الدى يتناوله ‏كما قلنا الفيلم مليء بالتفاصيل والشخصيات والجزئيات ونجاحه هو جزء من حضور هذه الكثرة المتداخلة، والتي نجح السيناريو في ادماجها بطريقة واحدة، وكانت النتيجة فيلما للتأمل والبحث المستمر عن أوجه التداخل والتباعد بين مسائل الموت والحياة، بصرف النظر عن معرفتنا أو عدم معرفتنا بنوعية البدايات والنهايات.

سينما طرابلس في 21 فبراير 2009

 

المصارع بين الخسارة والربح خيط رفيع

رمضان سليم 

الصراع بين لعبتين

‏لأمد قصير شعرنا بأن هناك علاقة ما بين شخصية (راندى) في فيلم (المصارع) والممثل الذي قام بالدور (ميكي رورك).

‏ميكي رورك ممثل يمكن لمشاهد أن ينساه ويتغاضى عن ذكره فهو لم يقدم طوال حياته السينمائية أفلاما مهمة، رغم أنه قد بدأ مبكرا عام 1999 ‏بفيلم ستيفن سبيلبرج ( 1991 ‏) وهو المولود عام 1950 ‏وصاحب عشرات الأشرطة التي يغلب عليها طابع الحركة وحتى في هدا المجال لم يكن فمثلا بارزا وهو وقد بلغ الان خريف العمرو لا نجد في مجمل حياته الفنية أفلاما لها قيمة فنية كبيرة مثلما لم يجد المصارع (راندى) في آخر أيامه من يقف معه، انه يبقى خاسرا حتئ ولو كسب نتائج معظم المباريات.

‏لكن ميكي روركي وبعد سنوات من العمل، يجد من يقدم إليه هذا الدور لينقذه وهو لم يكن مظلوما كما يشير بعض النقاد لكنه فعليا ليس لديه أدوار ذات قيمة تؤهله للاقتراب من الجوائز العالمية.

‏فى مهرجان فينيسا 2008 ‏تحصل فيلم المصارع علئ الجائزة الذهبية، وكاد الممثل ميكي رورك أن يتحصل علئ جائزة أفضل ولكن القواعد والاجراءات الخاصة بالمهرجان لا تسمح بذلك، ليتحصل بعدها علئ جائزة القولدن جلوب للتمثيل وفي ذلك كل الكفاية.

‏ربما أجمل ما في فيلم (المصارع) أن المشاهد لا يتوقع أن يكون الفيلم بهذا المستوى، ربما بسبب الاسم والعنوان، وربما لأن عالم المصارعة لا يسمح بوجود أفلام، عدا تلك التي تقترب من الحركة والاثارة، رغم أن السينما قد نجحت في تقديم أفلام جيدة بخصوص لعبة الملاكمة مثل الثور الهائج وروكي بأجز ائه المختلفة ولكن المصارعة اقترنت فقط بالأعمال السطحية وباستخدام المصارعين نجوما في أفلام التشويق والاثارة.

‏يبدأ الفيلم بظهور بعض القصاصات من الصحف والمجلات والتي تظهر بطولات المصارع (راندى) أو (رام روبنسون) ثم بعد عشرين سنة نجد هذا المصارع وهو يستعد لمباراة جديدة. ولكن في ملعب محلي صغير، فقد تراجع اسمه ورغم ذلك مازال داخل حلبة المصارعة.

‏ومن خلال الصوت نسمع بعض الكحات المتوالية الدالة على مرض المصارع ‏كمايكشف الفيلم عن وجه داخلي يحمله هؤلاء المصارعين فهم أصدقاء وراء الكواليس وفي الواقع وهم أعداء وخصوم اشداء أمام الجمهور وعلى حلبة المصارعة، وسوف نرى راندي يعبر عن ذلك بعلاقاته الجيدة مع المصارعين الأصغر سنا منه بما فيهم خصومه ‏هناك تظاهر وخداع خارجي تمليه الظروف الخارجية فقط، ومن ذلك منلا استخدام راندي لسكين صغير يربطه بمعصمه، ثم يجرح جبهته لإسالة الدماء بقصد اثارة الجمهور والذي يجب أن يشاهد منظر الدم لأنه يعبر عن اقصى حالات العنف ‏يصور الفيلم أيضا الصعوبات التي يجدها راندي وقد بلغ خريف العمر فهو لا يتحصل إلا علئ أجر زهيد من المصارعة وقد أجبر علئ المبيت في سيارته بعد أن طرده صاحب البيت لأنه لم يدفع الايجار.

‏لا يسقط الفيلم كنيرا في الجانب الميلودرامي، فهو يحافظ علئ توازن مدهش بفضل القدرة علئ التحكم في سياقات الفيلم المختلفة وحصر المشاهد فى اقل نطاق ممكن ‏هناك وجهان لهذا المصارع الوجه الناجح (راندي) والوجه الفا شل دانزسكي وبقدر نجاحه في المصارعة يجد نفسه في الخارج رجلا محطما وفاشلا فهو قد هجر ابنته (ستيفاني) وتركها صغيرة، وهو ليس لديه إلآ بعض الأصدقاء. كما أنه يرتاد ملهى ليليا، ترقص به فتاة متوسطة العمر (كاسيدي) تقوم بدورها الممنلة (ماريزا توس) هي أيضا تستعرض جسدها للجمهور كما يفعل راندي. ورغم ذلك فهي أم لطفل صغير تربيه. وهي تحكم نفسها بمجموعة قوانين تضبط حياتها العملية فهي (راقصة تعري) لكنها تنظر إلى هذا الأمر علئ أنه مجرد عمل فقط. كما أنها تقوم بمهمة مجالسة الزبائن في الملهى الليلي، وهي بذلك تبيع الوهم والخداع للآخرين منلقا يفعل راندي، عندما يصطنع الاثارة علئ الحلبة لايهام الجمهور بالخطورة، بينما يبقى الصراع في أصله أقرب إلى الصنعة الاحترافية. إنها مباراة في ممارسة المهنة وفى التمثيل هناك أوجه شبه بين شخصية راندي وشخصية كاسيدي، ولقد ركز السيناريو علئ ذلك فبالاضافة إلى أن كليهما يستعرض جسده ويتلاعب بالجمهور بالاثارة،هناك أيضا أوجه شبه في الحياة. لأن لكل منهما حياته الاجتماعية المفصولة تماما عن طبيعة ‏المهنة التي يعمل بها. فهما من الواقع (رانزسكي في مواجهة بام).

‏يستخدم راندي الحقنة لتسكين الأوجاع ويلجأ إلى التدريب العنيف للحفاظ علئ رشاقته لتحقيق قدر من النجاح الشكلي أمام الجمهور.

‏كما أنه يعمل في حمل الصناديق داخل المحلات التجارية في الصباح والحقيقة لم يهتم الفيلم كثيرا بالمشهد الخاص بذلك، وبدا وكأن عمله من النوع البسيط وخصوصا وأن الصناديق صغيرة كما ظهرت علئ الشاشة وكان يمكن أن يكون العمل أكثر صعوبة.

‏سوف نجد أن السيناريو يختار له عملا بسيطا أيضا عندما يجعله عاملا ‏في محل للوجبات السريعة بعد أن ترك المصارعة. ولكن المهم بالنسبة للفيلم هو التعامل مع الناس.

‏هناك استعداد لمباراة متميزة مع المصارع (دايلان) حيت للمصارعين الحق في استخدام أنواع مختلفة من الأسلحة الصغيرة، منل الدبابيس والمسامير الصغيرة والأسلاك الشائكة.

‏وبطريقة ذكية تنتقل مشاهد الفيلم بين أحدات المصارعة فعليا، والمشاهد الموالية والتي يتم فيها استخراج القطع المعدنية من جسد المصارع راندي بادارة من الطبيب الخاص.

‏تكون هذه المباراة والتي كسبها راندي هى الفاصلة، فقد تهاوى المصارع علئ الأرض بعد أن خرج الجميع. وفي الصباح وجد نفسه في المستشفئ ليكتشف بأنه قد تعرض لأزمة قلبية حادة.

‏في الفيلم رشاقة من نوع متميز، والمشاهد محسوبة بدقة بحيت لا يشعر المتابع بالسأم من الفيلم والكاميرا تتعامل مع الأحدات بطريقة بسيطة ومعبرة ولا تقتنص إلا ما تحتاج إليه فعليا. فمثلا هناك مشهد قصير فيه سخرية من الراقصة كاسيدي ومن عمرها فهي الأكبر سنا بين الراقصات، والمشهد يبدو خارجيا لكنه يخدم السياق. لأن السخرية ‏تكاد تطال راندي نفسه باعتباره يعمل خارج عمره علئ نفس الخط مع الراقصة وهو يدافع عنها وعن نفسه المرحلة التا نية من الفيلم تبدأ عندما يهجر راندي المصارعة لأنه مهدد بالموت وربما احتاج إلى عملية جراحية في أية لحظة.

‏هذا الموقف جعل المصارع ينتقل من مكانه الطبيعي الذي عاش فيه معظم حياته والذي يعرفه جيدا فهو عالمه الصغير، جعله ينتقل إلى عالم أخر وهو الحياة الواقعية الطبيعية والتي يبدو ‏فيها فاشلا إلى أقصى حد.

‏لقد حاول الاقتراب من ابنته في البداية فطردته، وحاول للمرة الثانية وبمساعدة الراقصة كاسيدي، ومع تقديم بعض الهدايا المناسبة، وبالفعل نجح في تحقيق خطوة أولى، لكنه لم يستطع أن يستمر ذلك انه في الوقت الذي حدد فيه موعدا ثانيا للقاء مع ابنته عاش تجربة أخرى مع وفاقه من المصارعين، فهو لا يستطيع مغادرة هذه اللعبة فيبدأ بحضورها متسليا ‏ومتفرجا ثم متعاطيا لبعض المخدرات ثم في لهو مع احدى المعجبات به، يفقد موعده ‏مع ابنته. بسبب ذلك انقطعت الصلة تماما مع الابنة التي رأت فيه أبا فاشلا لا يمكن اصلاحه وهي بسببه ربما قررت هجر كل الرجال. لتعيش مع صديقة لها بعيدة عن ماضي طفولتها والذي لا تذكر شيئا منه فيما يظهر.

‏أيضا عندما حاول راندي الاقتراب من كاسيدي نجده يبتعد عنها فرغم التشابه الظاهري بينهما إلا انهما مختلفان فعليا. فهي (الراقصة) ناجحة في حياتها الظاهرية والداخلية أو تحاول أن تكون كذلك بينما هو المصارع لا يمكنه النجاح إلا علئ المسرح (مسرح حلبة المصارعة فقط).

‏في مشهد متميز يدعو الاب ابنته للخروج في نزهة في مكان ذكريات قديمة تم يرقصان سويا رقصة الاقتراب، ونلحظ هنا أن راندي يحاول أن يكون تلقائيا وطبيعيا، لكنه لا يستطيع. هناك قوة معينة تسحبه إلى عالم المصارعة بكل ما فيها من خطورة واستعراض وجمهور يتفاعل معه ويجعله مركز الاهتمام.

‏في هذا الاطار يبدو ميكي روركي ملائمأ للدور من الناحية الجسدية ‏ حيت نجد جسده متناسقا وشعره منسدلا علئ كتفيه.

‏وهو يجمع بين العمر المتوسط والشعور الداخلي بامكانية الاستمرار في العمل بميدان المصارعة.

‏ولهذا يجد نفسه عندما هجر اللعبة، غريبا عن الأمكنة التي يزورها ويتعامل معها. فهو يعمل في محل لبيع الأكل الجاهز. ويعاني فية الأمرين لأنه لا أحد ينظر إليه أو يبالي به. هو مجرد نكرة وأحيانا محل تعليقات ساخرة.نعم لا توجد تعبيرات في الوجه واضحة، لكن حشرجة الصوت وآلنظرات الخجولة جعلت الشخصية ضعيفة، رغم أنها شكليا ليست كذلك.

‏اختار كاتب السيناريو (روبرت سيجال) أن تكون لحظة النهاية متميزة وفعليا تبدأ عندما وجد (راندي) أمامه احدى الزبائن في المحل وهي تطلب طلبا صعبا ولا يرضيها شيء ومع البطءوالتأني والايقاع الهادئ يتحول قرار الرجوع للمصارعة إلى حالة غضب، ترتبط بالدم الذي سبق وان شاهدناه في المصارعة فقط. إذ يهوي راندي بقبضته علئ ألة فرم اللحم ويترك الدماء تسيل .. بينما تتساقط محتويات المحل أثناء خروجه وكأن جسده الذي يحمله معه لا يمكن تدجينه.

‏يقرر راندي العودة إلى المصارعة ا ن الحلبة اقرب ما تكون الى النداهة التى تشدة اليها ‏انه معزول وحيد ليس أمامه إلا أن يسترجع صخب الجمهور وانفعالاته. إن الحياة التقليدية العادية ليست لأمثاله ‏ لذلك نجده يستعد لمواجهة الخصم الذي انتظره طويلا.

‏لقد كان من المفترض أن يلتقي به فعليا، علئ أن تكون هي المباراة الختامية. ايتولا هو الخصم ومثل العادة هناك صداقة بين الخصمين، ورغم محاولة الفتاة كاسيدي الاقتراب منه مجددا والاعتذار له إلا أنه يمضي نحو غايته الأخيرة، وهو لذلك يلقي خطبه علئ الحلبة، مثلما يفعل أكثر المصارعين حاليا، وكأنها خطبة التوديع فهو قد مسك الشمعة من جهين مشتعلتين وقد آن له أن يحترف. ويصبح راندي بذلك بطلا ولا بطل في نفس الوقت.

‏يخرج راندي عن قواعد اللعبة ويدرك الخصم بأن ذلك يحدث بقصد فالمصارع يهدف إلى انهاء حياته والتعجيل بذلك وفي لقطة النهاية نراه يستخدم طريقته المعتادة في القفز من أعلى الحلبة لكي يقضي علئ خصمه، وفي الحقيقة هو يحطم قلبه الضعيف والذي لا يمكنه احتمال حيوية الجسد.

‏لا شك أن هناك اعتبارات أخرى لها علاقة بنجاح الفيلم ومن ذلك استخدام الموسيقئ واستخدام الصمت أحيانا. كما أن هناك عددا من الأ غنيات المصاحبة للأحداث. وهي أغنيات اكسبت الفيلم بعض الشاعرية وخصوصا الأغنية الأخيرة والتي جاءت في نهاية الفيلم وهي بعنوان (المصارع).

‏لم يقدم المخرج (دارين ارنو فسكي) في السابق إلا ثلاثة أفلام وهي النبع 2006 ‏قداس من أجل حلم 2000 ‏وفيلم بعنوان (بي) 1998 ‏ولعل أشهر أفلامه هو النبع ورغم هذه التجربة الفقيرة فإن فيلم المصارع يشعرك بأن المخرج قد استمد تجربته من مخرجين سابقين أمثال سكور سينزي وستانلىر كو بيرك وتيرانس ماليك وغيرهم.

‏من هفوات الفيلم وهده لاعتبارات خاصة فقط، استخدامه لعبة فيديو لدلا له علئ الصراع بين الأمريكي والعراقي في البداية، ثم استخدامه لها في النهاية حيث يشير كل مصارع الى دولة معينة ويحمل علما لها وبصرف النظر عمن ينتصر فى النهاية فان هدا التصور الشكلى المباشر قد سار خارج سيلق الفيلم باعتباره معاناة انسانية عامة ليس لها مرجعية سياسية ولا تحدها جغرافيا ولا تقف وراءها أية ملامح تدل على اغراض سياسية مبيتة أو غير مبيتة.

سينما طرابلس في 12 فبراير 2009

 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)