اضغط للتعرف على صاحب "سينماتك" والإطلاع على كتبه في السينما وكل ما كتبه في الصحافة Our Logo
 

    حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار   

رندا الشهال.. مفاجأة الرحيل

 

وداعاً رندا

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

 

مجــرد غيــاب

عباس بيضون

 
     
  

تنطفئ رندة الشهال على سرير في مستشفى فرنسي. لا تعرف إذا كان هذا عام الموت. لا تريد أن تفكر أن هناك أعواماً للموت، إن الموت ينشط أحياناً. ليس الموت وباء ولا مرضا، تفكر أن هذا من سقط الأدب، وأنت لن تتخلص من المسألة على هذا النحو. لن تقول لنفسك إنه عام الكارثة، فالكوارث تجرف وأنت عندئذ لن ترى من شدة الإعصار. سيكون عليك أن تبصر وأن تفتح عينيك جيداً لئلا تفقدهم في الخوف، لئلا تفقدهم في تلك الاستعارة الكبيرة، أو تسلمهم للطوفان وتروح ترتجف من أن يكون اقترب منك. أن تتكلم عن العاصفة كأن لا وقت يعد لتسمي أحداً وكأن الأشجار جميعها تتساوى في الريح. لن تتكلم عن الغرق، سيكون عليك مع ذلك أن تبدأ من الأول. مي غصوب على سرير في مستشفى لندني، جوزف سماحة على سرير في لندن، محمود درويش على سرير في الولايات المتحدة، والآن رندة الشهال على سرير في مستشفى فرنسي. لن يكون هناك عام للموت وسنرتجف مع ذلك لأننا لا نرى شيئا سوى أن الناس تقع. ما من إعصار لكن الناس تقع. بهدوء أكثر من أي وقت آخر يغادرون، لا يتركون لنا أي إنذار حقيقي ويختفون بدون صوت. أهذا هو الموت. إذن، صمت كامل، فاصل غير ملحوظ ومجرد اختفاء. لن يكون هناك عام للموت لكننا مطوقون، مطوقون تقريباً باللاشيء، باللامنظور لهذه القوى على الغياب فوراً وبدون إشعار. لا يمكن أن نتكلم عن معركة، لم يكن شيء في وزن روح مي غصوب هو الذي أخذها. لم يكن شيء في خصوبة جوزف سماحة هو الذي أخذه. لم يكن شيء في حجم خيال محمود درويش هو الذي أخذه، وليس شيء في سحر رندة الشهال هو الذي أخذها. لم يكن هناك أي معركة. مجرد غياب، شيء لا قوة له وليس له عينان ولا سحر فتنة هو الذي أخذهم. شيء هو فقط فقدان أو صفحة بيضاء أو حتى نسيان، هل يجرؤ على ان نصدق الموت الى هذا الحد. هل يمكن أن ندير حديثاً معه، أن نتكلم إليه كما لو كنا اثنين، أن نصارعه حقاً. فعل ذلك محمود درويش غير مرة لكنه أضاف قصيدة أخرى. لقد أعاره خياله وصوته وربما عينيه، وقد رأيناه بصوت محمود وعينيه انيسا بالتأكيد. لم يخف من قصيدة محمود درويش، لكن حين غدا الموت بلا قصيدة خفنا حقاً. كان علينا أكثر من أي مرة أخرى أن نسمع صوت درويش الجميل طوال ليال في رؤوسنا ولا نصدق. كان علينا أن نشعر بعيون رندة الشهال وزقزقتها في دواخلنا ولا نصدق. لا نعرف من أين يأتي كل ذلك. هل بات صوت محمود درويش معادلاً للموت، هل باتت سماحة مي غصوب وانتباه جوزف معادلين للموت. هل باتت رأرأة عيني رندة وزقزقتها معادلتين للموت، هل هناك ما يخيف الآن في الصوت والضحكة حتى نسعى لطردهما من أنفسنا.

انطفأت رندة الشهال على سرير فرنسي. البعض يحسب أننا حين نمدح الجمال نمدح الطبيعة، وأن المرء يمدح بصفات أخرى. لا أعرف ماذا للإنسان وماذا للطبيعة، ولا أريد أن أمتدح رندة لكن الجمال الذي لم نستحقه هو أول ما ننتبه بعد الغياب الى أنه عاش غريباً بيننا واننا في شقائنا المعلن وغير المعلن وكركبة حياتنا لم نلحظه، وأن عينين ليس مثلهما عينان غابتا بدون أن تلون وجودنا بهما. نقص الجمال عندنا بغياب رندة لكن غيابها أيضاً كان توديعاً للجمال وللطبيعة ولكل ما يشعرنا الآن بأننا عشنا في النقص الكبير، وأن حياتنا المستعجلة كانت بسبب ذلك، بلا طعم. لتكن أيضا لحظة نصرخ فيها من عطشنا للجمال. لتكن لحظة نعرف أننا نتصحر بدونه. لتكن لحظة ندم على حياة انقضت في الصعب والصراع العقيم ولنشكر أن عينين جميلتين وجدتا بيننا.

رندة الشهال انطفأت وهي في هذه السينما اللعينة التي لا تكبر ولا تلبث أن تعود الى البداية وتستأنف البداية ، »السينما اللبنانية«. ولا يسعنا الآن أن نعرف كم بداية أهدت رندة الى السينما اللبنانية، وكم بداية كان يمكن أن تهدي. إذا فكرنا أن الأحلام تظل تعمل. اذا فكرنا ان الجرأة تظل في الجو. فإن رندة الشهال كانت ورشة احلام. كان في وسعها ان تصدمنا بما لا يقدر اكثرنا خيالا على ان يتصوره، مثلا اصولي مثلي جنسيا. حروب تخترق التابو الطائفي. حب مكتوم بين درزيه لبنانية »او سورية« ودرزي مجند في الجيش الاسرائيلي. سيرة عائلية ذاتية. لم يكن التأني مثاليا في هذه السينما اللعينة التي تحتاج الى من يهمزها لتنطلق. كان واضحا ان لا شيء حقيقيا لتبنى عليه وان على كل ان يبدأ من نفسه. كان الجميع روادا ومؤسسين وعليهم ان يرتجلوا ويبتكروا في كل خطوة وان يتسامحوا مع هفوات البداية. لا بد من ان رندة كانت المثابرة الاولى في هذه السينما التي تقتل الصبر. المثابرة والقادرة على ان تجترح كل مرة معجزة جديدة، علما بأن كل فيلم جديد معجزة. قادها جموح أكيد الى ان تصارع تابو تلو تابو الطائفة والدين والاسرة والكليشيه القومي، والى ان تضع افلاما بقوة الجموح نفسه وقدر اقل من الصبر. لقد سبقت لكن تعثرت بالدرجة نفسها. سينما رندة الشهال هي بالتأكيد حياتها، ولا بد لغرام كبير كهذا من ان يكون مثمرا. لكن المرأة التي سعت الى تحقيق نفسها في السينما قدمت نموذجا فريدا لامرأة. لم يكن التمهل افضل صفات امرأة احرقت في كل اطوارها مراحل ومحطات واندفعت كالشعلة. لا التمهل ولا الصبر وعلى طريق العجلة شطحت كثيرا. لم تكن نموذج البرجوازية الجميلة ولا ابنة العائلة ولا.. ولا. لا بد من انها صارعت مثالها وسددت الى صورتها كل مرة ضربة جديدة. لا بد من انها كانت مجنونة سينما. على الاقل ومن أجل فيلم كانت لا تبالي بأن تحطم اساطيرها الخاصة وتتعدى نفسها. اليسارية النورية التي باشرت مع رعيل كامل من اليسار السينمائي سينما بديلة كما قيل يومها، لم تنحبس يوما في هذا النطاق. لقد قادها شغف كبير الى مواضع فجة ليس تحريكها بالأمر السهل، والى موقع اشكالي يصعب تحديده. كانت تبدأ في الغالب من استفزاز، من صورة مناقضة وقلما تهتم الى اين يقودها ذلك. في الغالب كان يتركها وسط طريق اشكالي واحيانا بلا خاتمة واضحة وبنصف رسالة او بلا رسالة، واحيانا كثيرة كان هناك شبه ضياع على الطريق وغموض نسبي. الا ان رندة الطائشة كانت ايضا رندة الجميلة. جمالها اعطى حتى لعثراتها فتنة. كانت الجميلة التي، مع كل ما حطمته، بدت اكثر جمالا.

في هذه السينما الملعونة الشقية، ناضلت رندة الشهال وكان لا بد لنضالها من ان يكون ككل مصائر هذه السينما، مرا وشائكا. لا شيء يمثل لبنان اليوم اكثر من هذه السينما، انها بعجزها عن ان تتجاوز البداية تشبهه في مأزقه، ومثله هي تكدس الوعود وتنفخها في لحظة. لكن موت رندة يشير من بعيد الى هذه المعركة، كما يشير اكثر الى انها لم تكن على غير طائل. لقد أُنتج حلم مهدد، واذا شطحنا قليلا قلنا ان الحلم بحاجة الى هذه التضحية، الى هذه العروس الفادية، لينجو. احتاج الى ان اقول لك شيئا يا »نهلة« ولا أجد ما أقوله، ان صداقتي الصامتة منذ زمن بعيد لن تكون اليوم أفضل كلاما. لن تنقصك هذه الصداقة في حدادك الكبير، لكني، من أجلي، اتصور اني ادخل مجددا بيتكم القديم ولا أعرف ماذا اصنع بعد ذلك بنفسي.

السفير اللبنانية في 29 أغسطس 2008

 
     
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2008)