ملفات خاصة

 
 
 

كلوديا كاردينالي امرأة بألف حياة وحياة

هوفيك حبشيان - المصدر: "النهار"

رحيل أيقونة الجمال السمراء

كلوديا كاردينالي

   
 
 
 
 
 
 

عند النظر في مسيرتها، يصعب ألا نتوقّف عند غرابة انطلاقتها واستثنائية حضورها وتماسك خياراتها المهنية التي جمعت بين الجرأة الغربية والحشمة الشرقية.

لم تسعَ كلوديا كاردينالي، الراحلة عن 87 عاماً، لأن تكون "رمزاً جنسياً"، رغم أن صورتها التصقت بذاكرة جيل آبائنا وأمّهاتنا بوصفها إحدى أيقونات الجمال على الشاشة. في الستينات، ذلك الزمن الذي لمع فيه نجم بريجيت باردو وجاين فوندا، رآها كبار المخرجين أبعد من كونها جسداً مثيراً ووجهاً فاتناً.

في عينيها، اكتشف بيار باولو بازوليني "جمالاً متوحّشاً". شبّهها لوكينو فيسكونتي بـ"القطّة التي تعتقد بأنه يمكنك جعلها أليفة، لكن سرعان ما تتحوّل إلى نمرة". سرجيو ليوني، من جهته، صنع منها تمثالاً يذوب في الذاكرة في فيلمه "حدث ذات مرة في الغرب"، حيث وقفت وحدها، كامرأة صلبة، وسط رجال قساة وصحراء لا ترحم.

رغم نجوميتها، بقيت قريبة من الناس. لا تتكلّف. تفضّل الحديث عن السينما كفعل محض جمالي. لم تُغرِها هوليوود. كانت تعرف الفرق بين "الحرفي" و"الفنّان"، وتصر دائماً على أن المخرج هو سيّد العمل. صنعت شخصيتها المهنية على التوازي مع التزام إنساني صامت ينبذ الاستعراض.

عند النظر في مسيرتها الحافلة التي تجاوزت النصف قرن وعشرات الأدوار، يصعب ألا نتوقّف عند غرابة انطلاقتها واستثنائية حضورها وتماسك خياراتها المهنية التي جمعت بين الجرأة الغربية والحشمة الشرقية. هذه السليلة لعائلة إيطالية كانت هاجرت من صقلية إلى تونس، التي عاشت طفلة خجولة تختبر حدود القوة من خلال مراهقة صبيانية، لم تحلم يوماً بالسينما، ذلك انها أرادت أن تكون معلّمة في الصحراء. الصحراء التي أحبّتها، وكانت لا تزال تحتفظ بشيء منها في طباعها وسلوكها.

اللقاء الأول مع الشاشة جاء من باب المصادفة، أو من "باب البيكيني"، كما روت مراراً. حضرت إلى مسابقة انتخاب "أجمل إيطالية في تونس" من دون أن تكون مرشّحة للقب، فاختارها أحدهم وقلّدها الوشاح. بعدها سافرت إلى مهرجان البندقية، حيث بدأ الإعلام يتعامل معها كظاهرة. لا بسبب موهبتها، التي لم تكن قد ظهرت بعد، إنما بسبب البيكيني الذي كانت ترتديه. ففي تلك الأيام، لم يكن البيكيني شائعاً بعد. حضورها لفت، وانهالت عليها العروض. لكنها، لسبب لم يكن واضحاً حتى لها، كانت ترفض. لم تنجذب إلى الأضواء فوراً، لكن في النهاية خضعت، أو ربما قادها قدرها. أولى خطواتها الحقيقية على الشاشة كانت في "جحّا"، إنتاج تونسي فرنسي، إخراج جاك باراتييه، إلى جانب عمر الشريف. دور صغير، لكن الحضور كان واعداً. الممثّلة السمراء ذات الملامح المتوسطية والعينين الغامضتين دخلت الكادر. لم تغادره أبداً.

ضمن ظروف اختيار غير تقليدية، أسندها ماريو مونيتشيللي دوراً في ”المجهولون المعتادون“ عن شلّة تستعد لعملية سرقة، فيلم جمعها بفيتوريو غاسمان وتوتو وأتاح لها أول لقاء مع مارتشيللو ماستروياني. بيد ان التحوّل الفعلي في مسيرتها كان مع "روكو وأخواته" (1960)، رائعة لوكينو فيسكونتي، وإن باطلالة متواضعة. في مشهد يتوسط فيه العنف بين الإخوة، أمر فيسكونتي الممثّلين أن ينتبهوا على "الكاردينالي". عرفت يومها أنها لم تعد مجرد وجه عابر. في تلك السنوات، أي عقد الستينات، عملت كاردينالي مع أعظم مخرجي أوروبا: فيسكونتي، فيلليني، ليوني، كومنتشيني وبولونييني (خمس مرات)، وغيرهم. كلٌّ من هؤلاء أسند إليها أدواراً مختلفة تماماً، وكأنها بالفعل تجسّد مبدأ "كلّ النساء في امرأة واحدة“.

1963 عامٌ ذهبي في مسيرتها، مثّلت في فيلمين هما من روائع السينما الإيطالية: "ثمانية ونصف" لفيلليني و"الفهد" لفيسكونتي. الأول، يتناول مخرجاً يهرب إلى خياله، حيث تجسّد كاردينالي المرأة المثالية، الحلم، الملهمة. والثاني، حكاية انهيار الطبقة الأريستوقراطية وصعود البورجوازية الجديدة، وفيه لعبت دور أنجليكا إلى جانب برت لانكاستر وألان دولون. الفيلم نال "السعفة الذهب" في كان

كان صوتها علامة فارقة. أضفى عليها هالة من النضج، الغموض، والأنوثة القوية. صوت خفيض، عميق، "صوت رجل تقريباً" كما وصفته، اضطرها إلى الدبلجة في بداياتها، ليس فقط بسبب طبيعة الصوت، بل لأنها لم تكن تتقن الإيطالية بعد. حتى تدخّل فيلليني، وأصرّ على أن يُسمع صوتها الحقيقي، من دون أن تهمّه لكنتها الفرنسية.

في مواجهة مد الإغراء المتمثّل آنذاك في صوفيا لورين وجينا لولويريجيدا، رفضت كاردينالي أن تعري جسدها على الشاشة، واعتبرت ذلك شكلاً من أشكال "بيع الجسد". لم ينفع معها الإقناع، ولا المغريات. اختارت أن تحافظ على حدودها. قالت: "أنا ضد فكرة التعري في الأفلام. لا أحبّه. انطلق من مبدأ أنه إذا تخيلتَ ما تحت ملابسي، فسيزداد الجانب الإيروسي فيّ“. هذا كله لم يمنعها من أن تصبح ”بريجيت باردو السمراء“، لكن على طريقتها ”اللاتينية ”الخاصة

لم يكن الغموض، بالنسبة لها، استراتيجيا تسويقية بقدر ما كان جزءاً من شخصيتها وطبيعتها. حرصت على أن تبقى حياتها الخاصة في الظلّ، بينما كانت تملأ الشاشات بحضورها الأخّاذ.

تنقّلت بين سينمات العالم: من هوليوود إلى فرنسا، من روسيا إلى البرتغال فتونس. عملت خارج بلادها مع فريد بوغدير، يرجي سكوليموفسكي، ريتشارد بروكس، فيليب دو بروكا، بلايك إدواردز،  هنري هاثاواي، فرنر هرتزوغ، واللائحة طويلة. عام 2012، انضمت إلى عالم البرتغالي مانويل دو أوليفيرا، عميد السينمائيين (توفى عن 106)، في "جيبو والظلّ" آخر أفلامه، بعد أن وصفها في مهرجان البندقية بأنها ممثّلته المفضّلة. تركت له بطاقة شكر، فاختارها للدور. بسيطة إلى هذا الحد كانت مسيرتها: من شكر إلى شراكة فنية.

لم تجرب كاردينالي الإخراج، لكنها تعلّمت كلّ شيء على البلاتوهات. كانت تعرف، بسبب الخبرة، إن كانت الإضاءة صحيحة أو الكادر مناسباً، من دون أن تتدخّل. اختارت أدوارها بناءً على ما في النص من ملامح، لكنها اعتبرت أن الأهم من الدور هو اللقاء بالمخرج. عن الذين عملت وإياهم، قالت: "يسكنونني جميعاً. أسمع أصواتهم أحياناً وهم يوجّهون لي التعليمات". نجوميتها ولدت من تفاعل عضوي مع هؤلاء. صنعوا صورتها، وهذه الصورة بقيت.

رغم شهرتها على نطاق واسع، لم تنسَ من أين أتت. تونس كانت حاضرة دائماً في ذاكرتها، بطفولتها وأحيائها وبحرها وعائلتها. لكن كانت تزورها وتنزعج: "شواطئ قذرة وساحات مهملة"، قالت في حواري معها عام 2012. كما تحدّثت عن قوارب الموت التي تحمل الشباب إلى صقلية، عن بلد لا يوفر لسكّانه الحد الأدنى، عن وجع صامت وحزن عميق.

"هويتي هي هوية العالم"، أعلنتها بوضوح. ولعلها بذلك تختصر ما كانت عليه فعلاً: امرأة تشبه المتوسط في تعدّده وتناقضاته، ابنة أفريقيا، وصوت أوروبا، وعين الشرق، وجسد "الفاتنة العذراء". ممثّلة بلا وطن، أو بكلّ الأوطان، أو كما تقول: "إني حصيلة كلّ الأمكنة التي قصدتها، وكلّ الأدوار التي تقمّصتها”.

حتى في خريف العمر، حافظت على إيقاع عمل معين. كأن العمر تفصيل لا يغيّر في جوهرها. "أحب الزمن ومخلّفاته، وأكره مَن يعبث به"، قالت، في اشارة إلى عدم هوسها بالشباب.

تنقّلت بين سينمات العالم، لكن لم تجرِ وراء الشهرة أو المال. بحثت عن "الناس، قضاياهم، ثقافاتهم". كلّ فيلم، وكلّ بلد، ترك فيها شيئاً. من مشاهد التصوير في درجات حرارة تحت الصفر، إلى الرحلات في الصحراء، إلى المشي وحدها في شوارع أميركا، كانت دوماً تتأمّل وتراقب وتتعلّم.

عندما نُسأل اليوم "ما الذي يبقى من كلوديا كاردينالي؟"، نجد صعوبة في حصر الإجابة في صورة أو مشهد. ما يبقى هو مدرسة في الأداء، في الاختيارات، في السلوك المهني، في الوعي بالذات وبالآخر. ممثّلة استطاعت أن تكون أكثر من "جميلة" على الشاشة. في زمن كانت فيه المرأة كثيراً ما تُقترح كعنصر جمالي أو مكمّل، حفرت كاردينالي في شخصياتها لتقدّم نساءً معقّدات، حقيقيات، من لحم ودم وتاريخ ورصيد من المعاناة.
"
يستهويني أن أرى وحدة الحال بين الناس". في هذه الجملة تكمن فلسفتها. لم تكن تبحث عن الراحة أو التكرار، بقدر ما سعت إلى المغامرة. آمنت بالمصير، لكنها لم تترك الأمور للمصادفة. رفضت أدواراً، تمردت على سلطة الجمال، التي أرادها الآخرون قيداً لها، بدلاً من أن تكون امتداداً لحريتها. كانت "الكاردينالي" امرأة سبقت عصرها، وواجهته بكامل أنوثتها وشراستها. من تونس إلى روما، فمن البندقية إلى هوليوود، عاشت ألف حياة وحياة، على الشاشة وخلفها
.

 

####

 

كلوديا كاردينالي يوم حاورتها "النهار": كلّ شيء بدأ مع البيكيني!

هوفيك حبشيان - المصدر: "النهار"

من تونس إلى فرنسا، ومن صحراء الغرب الأميركي إلى قلب موسكو، سافرت، تحوّلت، وعاشت حيوات لا تُحصَى.

التقيتها في مهرجان أبوظبي عام 2012، كما يلتقي المرء طيفاً من زمن آخر. ببساطتها المعتادة، روت لي تفاصيل من سيرتها الحافلة. ممثّلة من طينة نادرة، تحبّ الكاميرا وتعرف كيف تنأى عن الضوء عندما يجب. من تونس إلى فرنسا، ومن صحراء الغرب الأميركي إلى قلب موسكو، سافرت، تحوّلت، وعاشت حيوات لا تُحصَى. في الآتي، نصّ لقاء جمعني بكلوديا كاردينالي التي غابت أول من أمس عن 87 عاماً.

        أيزعجكِ إن التقطت زميلتنا بعض الصور لنا خلال المقابلة؟ 

إطلاقاً. لا أجد ما هو أكثر طبيعيةً من أن أقف أمام العدسة وأبتسم. أنا أحبّ الكاميرا.

        ويبدو أن الكاميرا تحبّكِ أيضاً. بدايةً، اشتهرتِ، من بين أمور كثيرة، بقدرتك على الفصل بين حياتك المهنية والخاصة. هل كان النجاح حليفك في هذا المجال؟

نعم، لطالما حرصتُ على هذا. لا أحبّ الخلط، ولا أحتمل الاستغلال. لا تنسَ أنني منخرطة منذ سنوات طويلة في عدد كبير من القضايا الحقوقية والإنسانية. فأنا سفيرة الأونيسكو منذ وقت بعيد، وأدافع عن قضايا المرأة، الطبيعة، الحرية، وحتى مرضى السيدا يشغلون حيّزاً من اهتمامي، كما أن لأطفال كمبوديا مكانة خاصة في قلبي. لذا، حضوري في الفضاء العام شيء، وحياتي الخاصة شيء آخر تماماً. ربما لهذا السبب لم أتزوج قط.

        لطالما اعتبرتِ الغموض أحد محرّكاتكِ الإبداعية. تحبّين إبقاء جزء منك في الظلّ

هذا صحيح. خذ مثلاً أنني لم أخلع ملابسي يوماً أمام الكاميرا. إني ضد فكرة التعري في السينما. لا أرتاح لذلك. أؤمن أن الغموض أكثر إثارة في بعض الأحيان: حين يتخيّل المُشاهد ما يخفيه القماش، قد تتعزّز لديه الرغبة، وتزداد الطاقة الإيروسية.

        لكن هذا لا ينطبق على كلّ الحالات. التعري مهم أحياناً

ربما. قد تكون محقّاً. لكن بالنسبة لي، كان موقفي واضحاً دوماً. لا أريد أن "أبيع" جسدي، ولا أن أقدّمه كوسيلة للفت الانتباه. ثم إنني، في مسيرتي، لم ألاحق الأدوار يوماً. هي التي كانت تطرق بابي.

        هل تعتبرين فعلاً أن التعري في السينما شكل من أشكال "بيع الجسد"؟!

نعم، بكلّ وضوح. كثر من المخرجين اختاروني، ثم حاولوا إقناعي بضرورة الظهور عارية. لكن أحداً لم يقدّم لي سبباً مقنعاً لتبديل موقفي. علّمني هذا الرفض أن أقول كلمة "لا"، بكلّ اقتناع وثبات. لا ازال أذكر مشهداً في "ذات زمن في الغرب"، حين يدخل هنري فوندا لممارسة الحبّ معي. كان ذلك أول مشهد حميمي له، والمفارقة أن زوجته كانت تتابع التصوير من خلف الكواليس! (ضحك).

        لكن في المقابل، هناك مَن اختاركِ تحديداً لما تمثلينه من طهرانية واضحة. أستحضر هنا المخرج هنري فرنوي، الذي أراد ممثّلة أشبه بالعذراء لتجسيد دور والدته في فيلمه السيري "مايريغ".

آه نعم، طبعاً. خصوصاً أن الفيلم يصوّرني في البداية كامرأة في الخامسة والثلاثين، ثم تمتد الشخصية بي حتى التسعين، حين تصبح غير قادرة على المشي من دون عصا. كان الدور بالغ الصعوبة، لكنه منحني فرصة نادرة: التحوّل. وأنا أعشق التحوّل في التمثيل. الإنسان العادي يعيش حياة واحدة، أما الممثّل فله أن يحيا عشرات الحيوات. وهذا ما دفعني دوماً إلى التمثيل: أحبّ أن أكون "سواي". أن أعيش امرأة نبيلة، ثم امرأة من عامة الناس، ثم عاهرة. لم تبقَ سيدة إلا وارتديتُ جلدها. التمثيل يتطلّب من الممثّل أن يكون قوياً من الداخل، أن يعرف مَن هو تماماً. لأنه إن لم يتشبّث بهويته الحقيقية، تآكل وانهار. على الممثّل أن يكون "الآخر" أمام الكاميرا، وأن يعود إلى ذاته ما إن يُنهي المشهد.

        بالنسبة لي، ستبقين دائماً جيل. [توضيح: جيل هي الشخصية التي أدّتها في رائعة سرجيو ليوني "ذات زمن في الغرب" (1968)].

(ضحك) كانت تجربة استثنائية على المستويات كافة. تخيّل أنني كنت المرأة الوحيدة في فيلم يعجّ بالرجال القساة، وسط صحراء قاحلة. قبل فترة وجيزة، عُرض الفيلم في ريميني أمام جمهور فاق العشرة آلاف مُشاهد. عزف إنيو موريكوني الموسيقى التي ألّفها خصيصاً للفيلم، وكانت أمسية لا تُنسَى. يكفي أن أسمع اسم موريكوني حتى أعود عقوداً إلى الوراء، على إيقاع ألحانه التي تحملني بعيداً من كلّ ما هو آني وعابر.

        أخبريني عن سرجيو ليوني. ألم يكن قاسياً أو متطلباً خلال التصوير؟

إطلاقاً. لكنه كان يلومني دائماً لأنني لا آكل كثيراً! هو كان عاشقاً للطعام، يقدّره ويتلذّذ به بكلّ حواسه.

        وهل يمكن رفض الطعام في موقع تصوير فيلم من نوع "الوسترن سباغيتّي"؟

(ضحك) معك حقّ. خصوصاً أن هذه التسمية لم تكن دائماً منصفة، بل استُخدمت في بعض المرات كمصطلح ساخر، للتقليل من قيمة أعماله.

        خلافاً للعديد من الممثّلات، جئتِ إلى السينما بالمصادفة. حلمكِ الأصلي كان أن تصبحي معلّمة، أليس كذلك؟

تماماً. لم أكن أرغب في أن أُدرّس في أي مكان عادي، بل في الصحراء! نعم، قد أكون مجنونة قليلاً… فأنا أعشق الصحراء، مساحتها الواسعة، صمتها وشمسها. بداياتي كانت غير متوقّعة. كلّ شيء بدأ مع البيكيني! كنتُ في حفل انتخاب "أجمل إيطالية في تونس"، ولم أكن حتى مرشّحة. فجأةً، جاء أحدهم، ولفّ حولي وشاحاً كُتب عليه "أجمل إيطالية". ثم استُدعيت إلى مهرجان البندقية. ذهبتُ إلى هناك مرتديةً البيكيني (ضحك). في نهاية الخمسينات، لم يكن ارتداء البيكيني أمراً مألوفاً في إيطاليا. انهال عليّ المصوّرون والباباراتزي، وسرعان ما توافدت العروض من كلّ الاتجاهات. لكنني كنت أقول "لا" في كلّ مرة. حتى أن إحدى الصحف نشرت عنّي مقالاً عنوانه: "الفتاة الصغيرة التي ترفض السينما". كنت أحلم بأن أكون مستكشفة. لكن، حين أفكّر في الأمر اليوم، أجد أن هذه المهنة مدّتني بما هو أكثر من الاستكشاف: لقد منحتني فرصة لاكتشاف نفسي، واكتشاف الآخرين كذلك. صوّرتُ أفلامي في كلّ أصقاع الأرض، من أوستراليا إلى الولايات المتّحدة، مروراً بروسيا وكندا

        السينما تتيح هذا النوع من الترحال

نعم، لكن ما أحبّه في السفر ليس التنقّل في ذاته، بل ما يتيحه من لقاءات واختلاط بالناس، الاحتكاك بثقافاتهم وقضاياهم. أنا لستُ سائحة بالمعنى السطحي. هذه الرحلات أغنتني كإنسانة. أؤمن بأن الحياة، في جوهرها، تبادل مستمر: أخذ وعطاء.

        عندما نطالع فيلموغرافيتك، يصيبنا شيء من الدهشة، بل الهلع أحياناً: بولونييني، فيسكونتي، كومنتشيني، فيلليني… أسماء صنعت مجد السينما الإيطالية. تغيّرت السينما كثيراً منذ ذلك الزمن. هل تشعرين بالحنين إلى تلك المرحلة؟

بالطبع. كلّ الذين ذكرتهم لا يزالون يعيشون في داخلي. أسمع أصواتهم أحياناً، كأنهم ما زالوا يوجّهون لي التعليمات في كواليس التصوير. أفتقدهم، جميعاً، والوحشة لا توصف. ولا أتحدّث هنا كممّثلة وصلت إلى نهاية مشوارها، إنما كمشاهدة لم تعد تجد في السينما الحالية ذلك الشغف وتلك الأصالة. لي مع هؤلاء ذكريات لا يمحوها الزمن. في منزلي، أحتفظ بصورة لماورو بولونييني، الذي أخرجني في "أنتونيو الوسيم"، إلى جانب مارتشيللو ماستروياني. في ذلك الفيلم، كان على مارتشيللو أن يؤدّي شخصية رجل يعاني العجز الجنسي. تصوّر! وحدث أن واجهنا انتقادات شديدة من أهل صقلية الذين لم يتقبّلوا فكرة أن رجلاً صقلياً قد يكون عاجزاً جنسياً! (ضحك)

عملتُ أيضاً مع جان بول بلموندو، ثم مع فيتوريو غاسمان، وألان دولون في "روكو وأخوته“ لفيسكونتي. في أحد مشاهد هذا الفيلم، وجدتُ نفسي فجأةً في خضم شجار عنيف بين الأخوة، وكدتُ أُصاب جسدياً. فما كان من فيسكونتي إلا أن صرخ في وجه الممثّلين: "انتبهوا على الكاردينالي!" (ضحك). أدركتُ عندها أنني لستُ مجرد "وجه" في الفيلم، وأن فيسكونتي قد يرى فيّ ما هو أبعد من ذلك. وفعلاً، اختارني لاحقاً لأدوار رئيسية في "الفهد" و"ساندرا" وسواهما. كان فيسكونتي يقول عنّي دائماً: "هي مثل القطّة، تظن أنك روّضتها، لكنها في لحظة قد تنقلب إلى نمرة!" (ضحك).

        اللافت أنكِ، رغم هذه المسيرة الطويلة، لم تنتقلي إلى الإخراج كما فعلت بعض زميلاتك

لم أكن أفكّر في الإخراج. كنتُ أختار أدواري انطلاقاً من الملامح المكتوبة في السيناريو، لكن ما كان يهمّني أكثر من الدور نفسه هو لقاء المخرج. أحدّثك عن زمن كان فيه المخرج هو "السيّد" الحقيقي على البلاتو، لا سيما في أوروبا. مع الوقت، صرتُ أُميّز بين الحرفي والفنّان، وكانت لي فرصة نادرة في العمل مع كبار السينمائيين الذين تركوا أثراً خالداً في تاريخ الفنّ، وفي قلوب جمهور سينيفيلي راقٍ ومتطلب. نجوميتي لم تكن وليدة المصادفة، بل منبثقة من هؤلاء، ومرتبطة بهم ارتباطاً عضوياً. وهذه ليست حالي وحدي، بل ما ترويه أيضاً كثيرات من الممثّلات الإيطاليات اللواتي مررن في تجربة مثل تجربتي.

لم أكن "عابرة سبيل" في أفلام تجارية. هؤلاء المخرجون رسموا صورتي على الشاشة، وهذه الصورة باقية إلى الأبد. صحيح أنني لم أُخرج، لكن الخبرة التي اكتسبتها على مر السنين، سمحت لي بأن أفهم لغة البلاتو. اليوم، عندما أكون في موقع التصوير، أعرف إن كان التقنيون يؤدّون عملهم جيداً: أعرف متى تكون الإضاءة صائبة، ومتى يكون الكادر مناسباً، وغير ذلك من التفاصيل. ومع هذا، كنتُ دائماً أذعن لرؤية المخرج. لأنني أؤمن، كما قلت مراراً، بأن المخرج هو صاحب العمل الحقيقي، والمسؤول الأول والأخير عنه.

        حين عبرتِ المحيط لتؤدّي أدواراً في أفلام أميركية، هل شعرتِ بالفارق بين سينما "تؤلّه" المخرج، وأخرى كثيراً ما منحت المنتج الكلمة العليا؟

سأجيبك بطريقة غير مباشرة. كأي امرأة مستقلّة، بلا سائق خاص ولا طاقم أمني يحيط بها، كنتُ أتمشّى ببساطة في شوارع أميركا. أوقفتني الشرطة وسألتني: "إلى أين أنتِ ذاهبة؟" فأجبتُ: "لا أفعل شيئاً سوى المشي!“. طبعاً، هذا لم يكن مألوفاً في هوليوود. كانت تلك طريقتي في القول: أنا غريبة عن هذا العالم، ولا أنتمي اليه بالكامل.

        تزعجكِ مظاهر البهرجة والبروتوكولات المبالغ فيها، من سجّادة حمراء ومواكب ومرافقين...؟

المبالغات، نعم، تزعجني. لكنني لا أعارض فكرة السجّادة الحمراء في ذاتها. قد تكون ممتعة وتمنح فرصة سريعة للقاء الجمهور والمعجبين. ما لا أطيقه هو رؤية النجوم محاطين برجال ضخام العضلات، كأنهم في حالة طوارئ دائمة. هذا، بالنسبة لي نقيضٌ للفنّ، نقيضٌ للثقافة والفكر.

        هل لا يزال في داخلك شيء من طفولتك في تونس؟

بالطبع. لم أنسَ يوماً من أين أتيتُ، ولا العائلة التي نشأتُ فيها. ولدتُ في عائلة عظيمة، كنّا أربعة إخوة وأخوات: كلود، بلانش، برونو وأدريان. وما إن وصلنا إلى إيطاليا، حتى تغيّرت أسماؤنا: أصبحتُ كلوديا، بلانش صارت بيانكا، وأدريان صار أدريانو. (ضحك). كنت طفلة خجولة جداً، وفي الوقت نفسه... مسترجلة. أذكر أنني، خلال تنقّلي من البيت إلى المدرسة، لم أكن أصعد إلى القطار حين يكون مركوناً، بل أنتظر أن يبدأ بالتحرك، ثم أقفز! (ضحك). كان هاجسي الأكبر أن أثبت أن المرأة أقوى من الرجل.

        من بين ملامحك الفريدة: نبرة صوتك، وهي قريبة من نبرة جانّ مورو

في البدايات، عانيتُ كثيراً من صوتي. في أفلامي الأولى، كانوا يدبلجونه. أولاً، لأنني لم أكن أتحدّث الإيطالية بطلاقة، وثانياً لأن صوتي كان خافتاً، مائلاً إلى الرجولة. تخيّل أنني كنت أشاهد نفسي على الشاشة، بأصوات لا تشبه صوتي حتى! كان الأمر غريباً، لكنني تصالحتُ مع الفكرة لاحقاً. صرتُ أقبل صوتي كما هو.

        تحملين في داخلك ثقافات متعدّدة، لكن... إلى أين تنتمين؟ ما هي البقعة الجغرافية التي تعبّر حقاً عن هوية كلوديا كاردينالي؟

هويتي هي العالم. كلّ مكان زرته، وكلّ فيلم مثّلتُ فيه، وكلّ شخصية تقمّصتها، أصبحت جزءاً من تكويني. أنا ابنة هذه الرحلة، هذه الفسيفساء. أن أمثّل في فيلم لميخائيل كالاتوزوف في روسيا، حيث تبلغ الحرارة أربعين تحت الصفر، هذا ترك أثراً فيّ، أنا التي ولدت في أفريقيا، على ضفاف المتوسط. لا يوجد مكان في هذا العالم لا يقول عنّي شيئاً. إني شخص متفائل بطبعي، وما زلتُ أؤمن بإمكان أن يحيا أبناؤنا في عالم موحّد، أكثر عدالةً وتسامحاً. لكن، في الآونة الأخيرة، شعرتُ بحزن عميق، ومرارة لا تُحتمَل، مع ما يحدث في عالمنا. كنتُ في سوريا قبل سنوات قليلة، وترك هذا البلد في داخلي انطباعاً رائعاً. اليوم، وأنا أتابع ما يجري هناك من تدمير وقتل، قلبي يغمره الأسى. وقبل ثلاثة أسابيع، زرتُ تونس، هذا البلد الذي أعشقه، والذي أحبّ العودة إليه بين حين وآخر. جذور عائلتنا هناك منذ ثلاثة أجيال. ما رأيته في تونس أقلقني. صحيح أنها تمر في مرحلة انتقالية، لكنني صُدِمتُ: شواطئ قذرة وساحات مهملة. هل تعلم كم من التوانسة عبروا البحر في قوارب الموت إلى صقلية، بحثاً عن حياة؟ هذا مؤلم، محزن، ولا يُحتَمل. لن أقول أكثر من ذلك. قررتُ أخيراً ألا أنخرط في السياسة. لأن أي موقف أعبّر عنه قد يُستَغل، ولا أريد أن أكون أداة في يد أحد.

        مثّلتِ أخيراً في "جيبو والظلّ" لمانويل دو أوليفيرا. كيف جرى اللقاء بينكما؟

قبل ثلاث سنوات، في مهرجان البندقية، خلال إحدى الندوات، قال إنني "ممثّلته المفضّلة" رداً على سؤال معين. في اليوم التالي، تركتُ له بطاقة شكر في الفندق. وفي ما بعد، اتّصل بي وعرض عليّ دوراً في فيلمه! (ضحك). هكذا، بكلّ بساطة. خلال التصوير، منحنا حرية كبيرة، أنا وباقي الممثّلين. لكن ضمن ضوابط واضحة. عملتُ في حياتي مع أنماط مختلفة من المخرجين: بعضهم يتناقض كلياً مع الآخر. فيسكونتي مثلاً، كان يعرف تماماً ماذا يريد. كان يُخرج كما لو أنه يُخرج مسرحية. كلّ شيء محسوب. أما فيلليني، فكان النقيض الكامل: كلّ شيء كان ارتجالياً، لا سيناريو مكتوب، بل رؤية تنمو على البلاتو. أذكر أنه حين التقيته أول مرة، قال لي: "أنتِ ملهمتي". شعرتُ بذهول من هذا الاعتراف. وهو للمناسبة، مَن قرر ذات يوم أن يكفّ عن دبلجة صوتي، رغم لكنتي الفرنسية. لم يأبه لذلك. فيسكونتي كنت جد مقربة منه. نتحدّث طويلاً في الأدب والتاريخ والفكر. كان مثقّفاً واسع الاطلاع، أرادني رمزاً للإيروسية في السبعينات. وكان، في كلّ مناسبة، يغمرني بالهدايا، وليس أي هدايا!

        هل بقي شيء في هذا الوجود يلهمك؟

ما زلتُ أحبّ الخطر. لا أطيق السهولة في المهام الملقاة عليّ. يستهويني أن أرى الناس في حالة تناغم، في وحدة حال. ربما أبدو مثالية، لا بأس… هذه أنا. أفضّل أن أكون إيجابية وأُخطئ، على أن أكون سلبية وأُصيب.

        قرأتُ أنكِ تؤمنين بالمصير، وبأن الأقدار تلعب دورها في رسم مساراتنا

أؤمن بالمكتوب. إذا عُرض عليّ فيلم ثم سُحِب منّي، لا أحزن. أقول ببساطة: هذا قدري. هكذا كُتب، ولا جدوى من مقاومته. رغم تقدّمي في السنّ، ما زلتُ أحتفظ بإيقاع حياتي الفنية: أربعة أفلام في العام. وأصاب بدهشة في كلّ مرة يُطلب فيها إليّ، وأنا في الرابعة والسبعين، أن أشارك في أفلام جديدة. أحبّ الزمن ومخلّفاته، وأكره كلّ محاولة للعبث به. شدّ الوجه؟ أكرهه. أعتبره خيانة للزمن. الزمن يشكّلنا لا يدمّرنا، يُنضِجنا، ويرسم ملامحنا الأكثر صدقاً. في الأخير، نحن ما تصنعه الأيام منّا.

 

النهار اللبنانية في

25.09.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004