أنْ يختار روبرت
ريدفورد (1936
ـ 2025) أدواراً تتعلّق بالعملين الصحافي والتلفزيوني، في أزمنةٍ واضحة
المعالم في السياسة والاجتماع والمهنة والحياة، يعني أنّ هناك خلف الاختيار
موقفاً، ولتأدية الأدوار متعة تنبثق من التمثيل نفسه، فتبلغ من يُشاهِد
وينتبه ويتفاعل. أدوار الصحافة والإعلام التلفزيوني، رغم قلّتها، تمتلك نبض
مهنة وأخلاقياتها وأسئلتها، إضافة إلى انفتاحٍ على بيئة وسياسة وكواليس
عيشٍ وحروب، وتفاصيل غير ظاهرة كفاية.
بتأديته تلك الأدوار، القليلة نسبةً إلى لائحة طويلة من
الأفلام العامل فيها ممثلاً ومخرجاً ومنتجاً (يمارس في بعضها المهن الثلاث
في آنٍ واحد)، يُكمِل ريدفورد، بوعي أو بقناعة أو بغريزة، ما يلتزمه في
يومياته إزاء مسائل حيّة، يناضل من أجلها، إذْ يتّضح أنّ اختياره هذه
الأدوار غير محصور بوظيفة التمثيل من أجل مهنة، فكلّ شخصية في كلّ دور
تواجه تحدّيات، وتعاصِر ما سيُصبح لاحقاً منعطفاً في مسار تاريخ وحياة
وعلاقات، أو ميزةً "تدافع" عن المهنة بتحريرها من غوغائية، وبمواجهتها
تسلّطاً من إدارة تابعة لمصالح تجارية وسياسية واقتصادية، وبطرحها أسئلة
الأخلاق والواجب والضرورة، كما سؤال توقيت نشر تحقيق يكشف خفايا ويُعرّي
أفراداً ومؤسّسات، أو إذاعة خبر يؤثّر ويُصيب.
البداية مع شخصية روبرت
"بوب" وودورد (1943)،
التي يؤدّيها ريدفورد في "كلّ رجال الرئيس" (1976) لآلن ج. باكولا.
السيناريو (ويليام غولدمان) مستند إلى كتاب بالعنوان نفسه (1974)،
للصحافيين وودورد وكارل برنشتاين (1944)، العامِلَين في "واشنطن بوست"، زمن
اكتشافهما ما سيُعرف لاحقاً بـ"فضيحة ووترغايت" (1972 ـ 1974). الفيلم لحظة
تحوّل في مسار ريدفورد. تغيير شبه جذري في اشتغالاته، البادئة مطلع ستينيات
القرن الماضي. اللحظة مليئة بارتباكات وخضّات، وأميركا تعاني اهتزازات خطرة
في ذاتها.
الفيلم يُكمِل نصّ الكتاب، لكنَّ السينمائيّ فيه واضح
وباهر. الاشتغال عليه (الفيلم) محتاجٌ إلى وقتٍ، لجعل السيناريو حقيقياً.
يمضي ريدفورد أوقاتاً في مبنى الصحيفة لفهم مناخها، ومراقبة عاملين وعاملات
فيها ليتبيّن كيفية العمل وآلياته، واكتشاف النبرة، المرتبطة مباشرة بأصول
المهنة ومتطلبات
الصحافة الاستقصائية، والمتعلّقة بـ"اللكنة" الخاصة بمن يعمل في المؤسّسة.
استعادة المُشاهدة تُنبِّه إلى أداءٍ (داستن هوفمان يؤدّي دور برنشتاين)،
يُراد منه أنْ يعكس تقنيات الوظيفة، وثقل الفضيحة، وآلام الراهن في
السياسة، وحرب فيتنام، والفساد في كواليس السلطة.
أيْ إنّ الواقعي في الحكاية غير حاجبٍ السينما، ولا التركيز
على أصول مهنة الصحافة وأخلاقياتها وتقنياتها ومفرداتها، وأسئلتها أيضاً عن
الأصول والحقائق والواجبات والحقوق. بعض هذا يظهر في "حقيقة" (2015) لجايمس
فاندربيلت
(Truth):
دان
راثر (1931)، أحد أشهر مُقدّمي البرامج الإخبارية التلفزيونية في "سي بي
أس". مع منتجة برنامجه (60 دقيقة الأربعاء) ماري مايْبس (1956)، يواجِه
معضلة أخلاقية، تتمثّل بمدى صدقيّة مستندات ووثائق، تكشف أنّ جورج دبليو بوش
(1946)،
الرئيس 43 للولايات المتحدّة الأميركية (2001 ـ 2009) مُتهرّب من الخدمة
العسكرية، ومستندٌ إلى العلاقات المتينة لعائلته (تكساس) مع مراكز نفوذ،
تُتيح له عدم الالتحاق بالفصائل التي تُحارب في فيتنام.
يُمعن ريدفورد في إظهار مقوّمات الشخصية (راثر) في مواجهتها
تلك المعضلة: مادة صحافية/إعلامية تفضح رئيساً للبلد، لكنّ التسرّع في
نشرها يصنع مطبّاتٍ مهنية، لأنّها (المادة) تحتاج إلى تأكيداتٍ أكبر وأصدق.
مع كايت بلانشيت (سالي أتواتر/مايبس)، يبدو ريدفورد كمن يستمدّ حيوية تمثيل
وعمق أداء ممن يُشاركه البطولة، كي يكتسب مزيداً من حيوية وعمق.
مع ممثلة أخرى، ميشيل بفايفر، يؤدّي ريدفورد شخصية إعلامية
أخرى: وارن جاستس. رغم أنّها متخيّلة، على نقيض شخصيتي وودوورد وراثر؛ ومع
أنّ "لقطة مُقرّبة وشخصيّ
(Up Close And Personal)"
لجون آفنت (1996) مبنيّ أساساً على حكاية جيسيكا سافيتش (1947 ـ 1983)؛ يجد
ريدفورد حيّزاً بارزاً لأداءٍ، وإنْ يبقى احترافياً من دون جديد، يؤكّد
مجدّداً مدى التزامه مسائل حياتية ومهنية في اشتغاله السينمائي. وذلك عبر
دفاعٍ، موارب أو مباشر، عن أخلاقيات
المهنة وأصولها،
وعن تطويعها لخدمة وقائع وحقائق، وعن الجهد المطلوب للنجاح والشهرة. |