ملفات خاصة

 
 
 

روبرت ردفورد، قوة أميركا الناعمة

هوفيك حبشيان - المصدر: "النهار"

عن رحيل أسطورة هوليوود

روبرت ريدفورد

   
 
 
 
 
 
 

كان ردفورد، سواء على الشاشة أو خارجها، تجسيداً للوجه المشرق من أميركا.

يحمل اسم روبرت ردفورد، الذي رحل أول من أمس عن 89 عاماً، نغمة خاصة ترنّ في الأذن، كأن في تكرار الحرفين الأولين من اسمه وكنيته وقعاً موسيقياً جذّاباً. وربما لأن كلمة فورد في المخيال الأميركي تستدعي مفاهيم القوة والريادة.

كان ردفورد، سواء على الشاشة أو خارجها، تجسيداً للوجه المشرق من أميركا: القيم التي قامت عليها، النضال من أجل العدالة، الاهتمام بالبيئة، ورفض الانغماس في قشرة الوسامة السطحية التي طالما أغرَت جمهور السينما. لم يكتفِ بأن يكون "الجميل الأشقر"، إنما قدّم أدواراً عبّر من خلالها عن شكوك جيله وقلقه الوجودي وهواجسه، وهذا كله جزء لا يتجزأ من أفلامه التي يناهز عددها السبعين. باختصار: كان ردفورد قوة أميركا الناعمة.

تألّق نجمه في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، بارزاً كبطل كاريزمي يحافظ دوماً على مسحة من التواضع، مثاليّ الرؤية، لكن دون أن تغيب عنه بصيرة الواقع. كان في خصام دائم مع السلطة والمؤسسة، وخصوصاً في الأعمال التي جمعته بالمخرج سيدني بولاك (رحل عام 2008 وكان يكبره سنتين)، حيث جسّد شخصيات تصارع قوى كبرى، من دون أن تفقد إنسانيتها. ولمجرد أن يُدرَج اسم ردفورد في أعلى ملصق فيلم، تستحضر الذاكرة على الفور الدراما السياسية أو الثريللر المسيس، وهو نوع غالباً ما "تورّط" فيه هذا الليبيرالي المناصر للبيئة، الذي وإن كان ميّالاً إلى الجمهوريين في بداياته (زمن جيرالد فورد، الخ)، إلا أنه وقف لاحقاً في صف الديموقراطيين، مسانداً باراك أوباما في حملته الانتخابية.

في سجل هذا النجم، الذي كانت أولى خطواته في عالم السينما عام 1960، نجد عدداً من كلاسيكيات السينما الأميركية التي تعيدنا إلى روح الستينات، مثل "المطاردة" لآرثر بن و"باتش كاسيدي وساندانس كيد" لجورج روي هيل، وهما فيلمان أطلقا ردفورد إلى مصاف النجوم الكبار، وجمعاه بعمالقة تلك المرحلة أمثال مارلون براندو وجاين فوندا وبول نيومان، وغيرهم من رموز الشاشة. في حين رسّخ "ذا ستينغ"، مكانة ردفورد كأحد أبرز نجوم هوليوود، وذلك في ثاني تعاون له مع روي هيل – المخرج الذي طواه النسيان اليوم. في هذا الأخير، قدّم ردفورد دور جوني هوكر، بعد أن أبدع سابقاً في دور اللص ساندانس كيد. الفيلم، الذي يدور في أجواء انتقامية تنقلنا إلى عالم نيويورك السفلي، حصد سبع جوائز "أوسكار"، وأُدرج لاحقاً ضمن محفوظات مكتبة الكونغرس الأميركي تقديراً لأهميته الثقافية والتاريخية والجمالية.

السينما الأميركية في السبعينات شهدت فصلاً جديداً: "نيو هوليوود". بين دنيرو الذي كان يعبّر عن التخبّط الأميركي وداستن هوفمان "الأنتي هيرو" الأبدي ودنيز هوبر رمز الثقافة المضادة، برز ردفورد كثائر يحمل مناقبية عالية، ملتزم مبادئه. أفلامه حقّقت إيرادات عالية رغم انها حملت رسائل ولم تكن محض ترفيهية. صحيح انه ظلّ على مسافة من "هوليوود الجديدة"، لكن كانت روحه مشبّعة بالنزعة التمردية التي انطوت عليها موجة السبعينات.

يتجلّى هذا في الفيلم البديع، "جيريميا جونسون“ لسيدني بولاك، حيث يجسّد دور جندي سابق ينسحب من صخب العالم الحديث ليحيا منعزلاً في جبال كولورادو، بعيداً من البشر، في مواجهة الطبيعة القاسية، وتحت رحمة الصقيع. هناك، يخوض صراع البقاء، في واحد من أكثر أفلام السينما الأميركية احتفاء بالطبيعة. الفيلم، الذي عُرض لأول مرة قبل أكثر من نصف قرن، لا يزال يحتفظ بسحره إلى يومنا هذا. إنه نوع فريد من "الوسترن الثلجي"، حيث تصبح الحياة مقاومة أبدية، والموت لمن يرضخ أو يستسلم. مع هذا الفيلم، أعطانا ردفورد درساً وجودياً بليغاً، قبل أن يتحوّل إلى الممثّل المفضّل لدى بولاك. ولم تكن تضحياته قليلة. فقد تخلّى عن أجره من أجل إنجاز هذا العمل الصعب، وتحمّل إرهاقاً نفسياً وجسدياً لا يُقاس، مدفوعاً بإيمانه العميق بما يقدّمه من فنّ.

وكيف يُمكن أن ننسى "كما كنّا" لبولاك، الذي جمع ردفورد بـباربرا سترايسند في واحدة من أجمل الثنائيات الرومنطيقية في السينما الأميركية؟ الفيلم يستند إلى علاقة حبّ معقّدة بين كاتي الناشطة الشيوعية، وهوبل الكاتب الوسيم واللامبالي، في قصّة تتقاطع مع أجواء الحرب العالمية، ثم تصطدم بظلال المكارثية التي خيمت على هوليوود. كانت تلك العلاقة، بما تحمله من تباين طبقي وإيديولوجي، انعكاساً لأسئلة جيله: الحبّ، الالتزام، الحرية

في "أيام كوندور الثلاثة"، عاد ردفورد مجدّداً إلى التعاون مع بولاك، ووقف أمام فاي داناواي في فيلم سياسي تشويقي، يؤدّي فيه دور محلّل في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ينجو بأعجوبة من مذبحة تطيح زملاءه، بعد كشفه لمؤامرة. يتحوّل الفيلم إلى مطاردة محتدمة، تنتهي بنشر الحقيقة عبر الصحافة.

"كلّ رجال الرئيس" لآلن ج. باكولا، من أبرز أعماله الملتزمة. انه أحد الصحافيَين (الثاني جسّده داستن هوفمان) اللذين قادا تحقيق فضيحة "ووترغيت" التي أطاحت الرئيس نيكسون، في واحدة من أقوى لحظات تلاقي السينما بالصحافة والسياسة. وثيقة سينمائية حية عن قوة الصحافة واستقلاليتها.

لم يكتفِ بولاك بهذه المحطات مع ردفورد، بل أسند إليه مراراً أدواراً تعكس التمرد والتمسّك بالقيم والشكّ بالمؤسسات وحسّ المسؤوولية. في "الفارس الكهربائي"، سيؤدّي دور نجم سابق في سباقات الخيل، يفضح الفساد الذي ينخر المؤسّسات والشركات الراعية، في فيلم يخلط بين الرومنطيقية والهجاء السياسي.

هذا التعاون المتين مع بولاك سيتكرر سبع مرات، ويبلغ إحدى ذراه في "خارج أفريقيا"، الذي جمعه بـميريل ستريب في دراما شاعرية تجري أحداثها في كينيا الاستعمارية، على خلفية قصّة حبّ غير متوقّعة، وصراعات داخلية وخارجية، بين الطبيعة والبشر، بين العاطفة والواجب. الفيلم حصد سبع جوائز "أوسكار"، وأثبت مرة أخرى قدرة ردفورد على تجسيد الأدوار المركبة بشاعرية مدهشة. أما محطّة الختام في هذا المسار مع بولاك، فكانت مع "هافانا" (1990)، فيلم ذي نكهة نوستالجية عن كوبا خلال الثورة، حيث تشتبك السياسة بالعاطفة في مزيج صاخب من الألوان والمواقف.

كلّ بطل من أبطال بولاك يتّبع المسار نفسه تقريباً: يبدأ عازباً، وسيماً، مكتفياً بذاته. ثم يلتقي امرأة ذات مثالية ذائدة، وغالباً ما تكون ميريل ستريب أو جاين فوندا أو باربرا سترايسند، يقع في غرامها، فتبدأ بينهما رحلة مشتركة تتخطّى الأزمات، سواء كانت رهائن أو محامين فاسدين أو استعماراً في أفريقيا. ومع نهاية الفيلم، يصبح الرجل شخصاً "أفضل"، لا فقط من نفسه السابقة، إنما من شريكته التي ساعدته في اكتشاف ذاته. وقد لخّص بولاك هذا النمط بالقول: "عادةً، إنه الشخص نفسه في أماكن مختلفة. أحياناً في أفريقيا، أحياناً في الغرب... وهذا الشخص هو غالباً روبرت ردفورد". 

في التسعينات، وبعدما اكتسح الشاشة أبطال جدد بعضلات مفتولة، عاد ردفورد ليحجز مكاناً في شبّاك التذاكر من خلال فيلمين حققا نجاحاً جماهيرياً لافتاً، وإن لم يكونا من قمم تجربته الفنية: "عرض غير لائق" لأدريان لاين و"قريب وشخصي" لجون أفنت. هاتان التجربتان، وإن لم تُرضيا النقّاد كثيراً، إلا أنهما عكستا بوضوح تحوّلات جيل كامل من الممثّلين الذين بدأ نجمهم بالأفول، بين مَن اعتزل، ومَن مات، ومَن دُفع إلى الهامش
لم يرضَ ردفورد بأن يكون مجرد وجه جميل أو نجم سابق. فقد ترك بصمة لا تقلّ أهمية خلف الكاميرا، كمخرج. أسّس مهرجان ساندانس (ولاية يوتا)، الذي تحوّل إلى المنصّة الأبرز للسينما المستقلّة في أميركا، وداعماً حقيقياً للسينمائيين من خارج المنظومة التجارية لهوليوود. أما في الإخراج، فكانت له تجربة تستحق التقدير، وإن لم ترقَ في استمراريتها وحجمها إلى تجربة كلينت إيستوود، لكنها حملت في طيّاتها حساسية فنية واهتماماً عميقاً بالإنسان
.

منذ باكورته "أناس عاديون" (1980)، إخراج ردفورد، الذي تناول انهيار عائلة بورجوازية تحت وطأة الحزن بعد وفاة الابن الأكبر، أثبت الممثّل أنه صاحب مشروع. فاز الفيلم بـ"أوسكار" أفضل مخرج وأفضل فيلم، ونال إشادة نقدية واسعة شجّعته على مواصلة هذا الطريق. رغم تفاوت نجاحاته الإخراجية لاحقاً، برز بعض أعماله بجمالياته ورهافته، مثل: "النهر يجري من خلاله"، الذي أطلق براد بيت إلى النجومية، و"هامس الخيول"، مع كريستين سكوت توماس، فيلم رقيق يتناول الألم والشفاء والعلاقة المعقّدة بين الإنسان والطبيعة. بإجمالي تسعة أفلام من توقيعه كمخرج، استطاع ردفورد أن يبرهن أن المضمون عنده لا يقلّ أهمية عن الشكل، وأن الفنّ في نظره ليس مجرد نجومية وامتيازات، بقدر ما هو فعل ثقافي، موقف من العالم وتفاعل حيّ مع العصر.

 

النهار اللبنانية في

17.09.2025

 
 
 
 
 

مشروع روبرت ردفورد بين التمثيل والإخراج والالتزام السياسي

بوسامة كلاسيكية وحضور كاريزماتي عبر أكثر من نصف قرن من التاريخ الأميركي

هوفيك حبشيان 

ملخص

خلف ملامحه الرزينة وصوته الواثق، يقف روبرت ردفورد الراحل عن 89 سنة، كأحد أكثر وجوه الشاشة الأميركية تمثيلاً لصراع القيم.

بدأت إطلالات روبرت ردفورد التمثيلية في مطلع الستينيات، ولم يحتج إلى وقت طويل قبل أن يحتك بالكبار فارضاً نفسه بهدوء. بوسامة كلاسيكية وحضور كاريزماتي، استطاع أن يعبر أكثر من نصف قرن من تاريخ بلاده، حاملاً مشروعاً فنياً طويل النفس، تقاطع فيه الأداء التمثيلي والطموح الإخراجي مع الموقف السياسي والالتزام الثقافي. مشروع لم يكن مؤطّراً بأدلجة جاهزة، إنما متحرك بحس إنساني أقرب إلى الطبيعة التي جعلها أفقاً أخلاقياً وجمالياً لتجربته كلها.

ثلاثة أفلام صنعت ردفورد في بداياته: "المطاردة" لآرثر بن، حين وقف إلى جانب مارلون براندو وجاين فوندا وأنجي ديكنسون، ثم جاء "باتش كاسيدي وساندانس كيد"، التعاون الأول مع المخرج جورج روي هيل، ليمنحه دفعة أكبر ويضعه في ثنائية شهيرة مع بول نيومان، لكن النقلة النوعية التي كرسته كوجه أساس في هوليوود كانت في "ذا ستينغ"، ثاني شراكته مع روي هيل، في هذا العمل، أُسند شخصية جوني هوكر، المحتال الذكي في قلب نيويورك الثلاثينيات، في حبكة تتقاطع فيها الخدعة مع الانتقام، الفيلم حصد سبع جوائز "أوسكار"، وأصبح لاحقاً جزءاً من الأرشيف الوطني الأميركي.

منذ بداياته، أظهر ردفورد استعداداً للتضحية من أجل ما يؤمن به، فيلم "جيريميا جونسون" لسيدني بولاك مثلاً، كان ساحة اختبار لقدرة الممثل على الصمود في وجه الظروف القاسية، جسدياً ونفسياً، انطلاقاً من تجربة جندي سابق (ردفورد) قرر الهرب إلى الطبيعة والعيش في حضنها، إنها واحدة من هذه التجارب السينمائية التي جعلته يعي أن حياة الممثل غير محصورة بالمجد الباطل والجوائز والسجادة الحمراء بقدر ما هي تحديات متواصلة للتجديد والارتقاء. في هذا الوسترن غير التقليدي الذي أحدث قطيعة مع ثوابت هذا النوع السينمائي، أدى دوراً شبه صامت، أراد من خلاله تشكيل صورة أخرى عن أميركا، أكثر عمقاً وأصالة. 

ردفورد من جيل شكّلت حرب فيتنام وعيه السياسي. في مقابلة، يتذكّر: "عندما كنت شاباً، لم أكن ناضجاً فكرياً، لكن عندما أصبحت مراهقاً، اندلعت حرب فيتنام... عندها أدركت الدور الذي يمكن أن يؤديه الفن على صعيد المجتمع، ولم أكن أفكر في السياسة حتى زرت أوروبا... بالنسبة إليّ، كانوا مجرد رجال مملين يرتدون البدل، لكن عندما وصلت إلى أوروبا، بدأت أفهم السياسة أكثر وأفهم الطبيعة البشرية، وعندما عدت أصبحتُ شديد الانتقاد لسياسات بلدي". 

انطلاقاً من هذا، يصعب تناول ردفورد غداة رحيله، من دون الحديث عن تعاونه مع المخرج سيدني بولاك (1934 - 2008)، وهو أهم تعاون له مع مخرج، علماً أنه كانت نشأت صداقة بينهما بعدما جمعهما فيلم مستقل في بداياتهما، معاً شكّلا واحدة من أكثر الثنائيات تأثيراً في سينما السبعينيات والثمانينيات، وأثمرت عن سبعة أفلام بين 1966 و1990، العلاقة التي ربطت بينهما تجاوزت التعاون المهني، لتصبح شراكة فكرية ذات نكهة أخلاقية، بدأ هذا التعاون مع "هذا العقار مغلق" الذي يحملنا إلى زمن الكساد الكبير في أميركا الثلاثينيات.

شابة حالمة (ناتالي وود) تسعى إلى الهرب من واقعها البائس في بلدة صغيرة، لكن حبها لشاب مختلف (ردفورد) يصطدم بطمع والدتها، فتنتهي قصتها بالهرب إلى المجهول بعد انكسار الحلم، تلاه "كما كنّا"، حين لعب ردفورد إلى جانب باربرا سترايسند دور الحبيب اللامبالي وسط علاقة حب تتخللها التوترات السياسية والطبقية، الحرب المكارثية والصراعات الأيديولوجية خلفية متداخلة مع الحب نفسه. ثم جاء "أيام كوندور الثلاثة" مع فاي داناواي، ثريللر سياسي يتحول إلى مرآة للواقع الأميركي في عصر النفط والاستخبارات، ردفورد هنا موظف صغير في جهاز كبير، يكتشف صدفةً مؤامرة تفوق قدرته، لكنه يصرّ على فضحها عبر الصحافة، متحدياً آلة السلطة، أما في "الفارس الكهربائي"، فيظهر بدور رياضي متقاعد يفضح الفساد المستشري. السيناريو بسيط ظاهرياً، لكنه يخفي تحليلاً لانهيار القيم في المجتمع المعاصر، كان بولاك في تلك المرحلة ينجز أفلاماً عن أميركا انطلاقاً من موقع الحرص والنقد لا من موقع العداء. 

ثم جاء "خارج أفريقيا"، النقطة الأعلى في تعاونهما، حين تم تحويل قصة حب غير متوقعة بين ثرية دانماركية (ميريل ستريب) ومغامر بريطاني (ردفورد) في كينيا الاستعمارية إلى تأمل سينمائي في صدام الثقافات والعزلة والتضحية. حقق الفيلم إيرادات عالية، تجاوزت كل ما حققته أفلامهما السابقة معاً، ونال سبعة "أوسكارات" من بينها أفضل فيلم، أما ختام شراكتهما، فكان "هافانا"، الذي يحمل عبق الحنين إلى كوبا في فترة الثورة، حيث تتداخل السياسة مع المشاعر في تركيبة حيوية.

عن تجربته مع بولاك، قال ردفورد: "جمعتنا علاقة سينمائية رائعة أعواماً طويلة، بدأت عام 1960 واستمرت حتى عام 1990. كانت تجربة تعاونية، كان سيدني المخرج وأنا الممثل، ولكن خلف الكواليس كنا نعمل معاً على السيناريو، كما أننا ربينا أطفالنا معاً. أخذنا على عاتقنا مشاريع صعبة جداً، كثيراً ما عرف سيدني كيف يجمع عناصر الفيلم كلها، وهذا ما منحني حرية الأداء، وثقت به جداً، إذ كان هناك راحة وثقة وولاء من كلا الجانبين". 

التماهي بين السينما والالتزام السياسي بلغ ذروته مع "كل رجال الرئيس" لآلن جاي باكولا، أحد أهم الأفلام السياسية في السبعينيات الذي أعاد تمثيل لحظة مفصلية في التاريخ الأميركي: فضيحة ووترغيت، انطلاقاً من سرد لقصة تحقيق صحافي، أصبح الفيلم بياناً لفكرة الدفاع عن الحقيقة، وجذب في نهاية مشواره داخل الصالات أكثر من 33 مليون مشاهد، أدى فيه ردفورد دور الصحافي بوب وودوارد الذي فجر قضية ووترغيت مع زميله كارل برنستين (داستن هوفمان). 

الأثر الحقيقي لردفورد بدءاً من مطلع الثمانينيات لم يكن أمام الكاميرا، إنما خلفها. تأسيسه معهد "ساندانس" الذي تحول لاحقاً إلى مهرجان (يأتي الاسم من الشخصية التي أداها في فيلم جورج روي هيل) جعل منه أحد أبرز الداعمين للسينما المستقلة في أميركا، فاتحاً المجال لأصوات بديلة خارج آليات الإنتاج الهوليوودي، كان يؤمن بأن الفن لا يُختصر في الاستوديوهات الضخمة، بدءاً من هذه الفترة أيضاً، انطلقت مسيرته كمخرج وقدّم طوال أربعة عقود تسعة أفلام روائية طويلة، كان أولها "أناس عاديون"، الذي فاز عنه بجائزة "أوسكار" أفضل مخرج وأفضل ممثل، وذلك منذ تجربته الإخراجية الأولى، الفيلم يتناول الحال النفسية لعائلة بورجوازية بعد فقدان ابنها. 

منذ البداية، أظهر ردفورد اهتمامه العميق بالشرط الإنساني: الفقد، التصدع، العزلة، البحث عن الحقيقة، مما انعكس على رؤيته الإخراجية، في "النهر يجري من خلاله"، فتح الباب أمام براد بيت، وفي "هامس الخيول"، قدّم معالجة شاعرية لعلاقة الإنسان بالطبيعة، فيما هو وقف خلف الكاميرا وقبالتها إلى جانب كريستين سكوت توماس، يمكن القول إن تجربته الإخراجية كانت انتقائية، لكنها اتسمت دوماً برهافة حس وصدق شعوري واضح، بحث من خلالها عن الأصالة، لكن النجاح التجاري كان أيضاً على الموعد، على رغم أدائه اللافت في عدد كبير من الأدوار، لم يُتوَّج بجائزة "أوسكار" لأفضل ممثل، إلا أن الأكاديمية سعت إلى تدارك هذا الغياب، فمنحته في عام 2002 "أوسكاراً" فخرياً عن مجمل أعماله، في خطوة تعويضية أشبه باعتراف بمكانته وتأثيره في السينما الأميركية، لا سيما المستقلة منها. 

 

الـ The Independent  في

18.09.2025

 
 
 
 
 

شاشة الناقد:

خمسة أفلام سياسية من بطولة روبرت ردفورد لا غنى عنها

لندنمحمد رُضا

The Candidate

★★★☆

• إخراج: مايكل ريتشي

دراما سياسية (1972)

قبل أن يلجأ المخرج مايكل ريتشي إلى الكوميديا، حقق بضعة أفلام ذات معنى سياسي، من بينها «المرشّح». روبرت ردفورد هو محام بعيد عن السياسة، لكنه يقبل ترشيح نفسه لانتخابات الكونغرس من دون أجندة سياسية. يعلم أن فرصه في الفوز مرشحاً للحزب الديمقراطي ضئيلة، لكنه يستمر وسط مشكلات متعددة مع الإعلام والعائلة، ملاحظاً أن خطاباته تحظى باهتمام، وأن فرصه في الفوز ترتفع. بدلاً من الالتزام بالشعارات، ينضم إلى الفساد السياسي القائم. روبرت ردفورد رائع في هذا الدور، والفيلم يسعى لكشف بعض ما يتخلل الترشيحات الأميركية من أهواء ومصالح شخصية. إخراج ماهر لموضوع مهم.

Three Days of the Condor

★★★☆

* إخراج: سيدني بولاك

* تشويق سياسي (1975)

كاتب سيناريو هذا الفيلم هو لورنزو سمبل، الذي وضع سيناريو فيلم تشويقي سياسي سابق بعنوان «The Parallax View» (إخراج ألان ج. باكولا). كلاهما عن إنسان بسيط تتفتح أمامه حقائق خطرة. في «منظر زائغ» (مع وورن بايتي في البطولة)، صحافي يكتشف هوية من يغتال القضاة. في «ثلاثة أيام من الكوندور»، يبدأ بطله (ردفورد) موظفاً في فرع لأرشيف الـسي آي إيه» CIA). يخرج لشراء الطعام له ولزملائه، وحين يعود يكتشف مقتلهم جميعاً. هو الآن وحيد، والأهم أن شخصاً عادياً عليه الآن مواجهة من يريد اغتياله ليصل إلى بقية رفاقه. رغم الرغبة في تحقيق فيلم جماهيري بمحتوى سياسي (ولو أن هذا المحتوى ليس واضحاً)، يُسجل للفيلم التيمة النقدية وتمثيل ردفورد الجيد.

All the President’s Men

★★★★

* إخراج: ألان ج. باكولا

* تشويق سياسي (1976)

تحت إدارة بارعة يوفرها المخرج باكولا، يؤدي ردفورد دور الصحافي بوب وودارد، الذي نزع وزميله كارل برنستين (دستِن هوفمن) في تحقيقاتهما القناع عن مؤامرة حاكها رئيس الجمهورية ريتشارد نيكسون وشركاؤه للتجسس على الحزب الديمقراطي وبعض أعضائه في الكونغرس. يتابع الفيلم حيثيات التحقيق الذي قام به الصحافيان، مستنداً بأمانة إلى الكتاب الذي وضعاه لاحقاً تحت العنوان نفسه («كل رجال الرئيس»). على الرغم من أسلوبه شبه التسجيلي، فإن المخرج أجاد صنع فيلم مشوّق ومهم في دائرة اهتماماته عن القوى السياسية الخفية، كما فعل سابقاً في «كلوت» (مع جين فوندا ودونالد سذرلاند) و«منظر زائغ».

Brubaker

★★★

* إخراج: ستيوارت روزنبيرغ

* دراما سجون (1980)

يصب الفيلم في القناعات السياسية لروبرت ردفورد، ولو أنها هنا في إطار سجن يُديره فاسدون ومنتفعون. ينتحل بروباكر (ردفورد) شخصية سجين ليتعرّف على ما يحدث فيه، وما يكتشفه مفزع في كل ناحية من نواحي الحياة في ذلك المكان. يعلن عن حقيقة شخصيته، ويتولى إدارة السجن بهدف محاربة الفساد والعنصرية التي تسوده. سيكتشف بروباكر، في نطاق عمله، مقبرة جماعية لمساجين مقتولين. هناك مؤامرات ضده، لكن المساجين يرونه بطلاً رغم وجود قوى داخلية وخارجية تعارضه.

All is Lost

★★★★

* إخراج: ج. س. شاندور

* مغامرة (2013)

ظاهرياً، «كله ضاع» فيلم بعيد عن السياسة، لكنه ضمنياً يحمل موضوعاً لا يمكن تفسيره كاملاً إلا على أساس سياسي. بطل الفيلم (ردفورد) بلا اسم، في مركب ينساب فوق بحر لا نهاية له. يفيق من سباته ليكتشف أن مركبه مثقوب والماء يتسرب إليه. هو وحيد وضائع ومهدد. يسهو من التعب، وفي كل مرة يستيقظ فيها يجد أنه فوّت فرصة للنجاة. الفيلم رمز لحياة رجل يجد نفسه في أزمة. الرجل بلا اسم، والمركب يغرق، والنوم يعترض نجاته، ثم الفرص الضائعة للنجاة. كل ذلك يُترجم إلى حياة هذا الرجل بلا اسم في المجتمع الذي تركه وراءه عندما أَمَّ البحر. الفيلم ممتاز التنفيذ وواسع المدارك حول حياة تتسرب إثر كل حلم أميركي. في الوقت نفسه، ربما كان إدراك ردفورد نفسه أن ما سعى إليه سياسياً تبخر مع الزمن.

ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز

 

الشرق الأوسط في

18.09.2025

 
 
 
 
 

من نجم وسيم إلى صانع سينما مستقلة... إرث روبرت ردفورد

شارلوت أوسوليفان

النجم الأسطوري، الممثل والمنتج والمخرج والناشط، رحل عن عمر 89 سنة، بعدما أمضى مسيرته يوظف شهرته بحكمة ويبرهن على تنوع قدراته أمام الكاميرا. لكن على رغم فداحة الخسارة، فإن بصماته ما زالت ماثلة بوضوح في ملامح صناعة السينما اليوم

ملخص

روبرت ردفورد جسد أحد أبرز وجوه السينما الحديثة بفضل حضوره المميز وتنوع أدواره بين الرومانسية والسياسية والتاريخية، وأثبت نفسه أيضاً كمنتج ومخرج حائز الأوسكار وناشط بيئي مؤثر. من خلال تأسيسه مهرجان "صندانس" منح الأفلام المستقلة منصة عالمية، وألهم أجيالاً من المخرجين والنجوم مثل تارانتينو وكلوني، وترك إرثاً فنياً غنياً وراسخاً ظل ماثلاً حتى رحيله عن 89 سنة.

في عام 1972 شبهت الناقدة السينمائية اللاذعة بولين كايل، روبرت ردفورد بالكلبة الشهيرة في عالم السينما "لاسي"، معتبرة أنه بدد موهبته المبكرة وأصبح مشرقاً أكثر مما ينبغي. لكن السخرية ارتدت عليها؛ فالممثل الذي تحول إلى ناشط ومنتج ومخرج حائز الأوسكار، وإن لامس أحياناً حافة الرتابة، لم ينغمس فيها أبداً. لقد تبناه مخرجون من موجة السينما الجديدة كما من هوليوود الكلاسيكية، وكان لأفضل أدواره أثر في إعادة شحن المشهد السينمائي.

وبصفته أحد مؤسسي مهرجان "صندانس" Sundance، فتح الباب أمام الأفلام المستقلة لتصل إلى جمهور واسع. النجمة ميريل ستريب، التي شاركته بطولة الفيلم الرومانسي الشهير "خارج أفريقيا" Out of Africa عام 1985، وصفته قائلة: "كان الفتى الذهبي للسينما الأميركية، لكنه كان يترك دوماً مساحة لكي يبرز الآخرون". ولعل أبرز المستفيدين من منصة "صندانس" كانوا كوينتن تارانتينو، وستيفن سودربيرغ، ونيكول هولفسنر وراين كوغلر. وهكذا، مع رحيله صبيحة الثلاثاء الماضي في منزله بولاية يوتا عن عمر89 سنة، يبقى الدين المستحق له كبيراً.

لم تكن حياة ردفورد مفروشة بالورود؛ فقد ولد في حي فقير بلوس أنجليس وفقد والدته القادمة من تكساس، ("الركيزة الأقوى في العائلة")، وهو ما زال في سن المراهقة. ومع ذلك، ابتسم الحظ للشاب الحالم بالتمثيل عبر سلسلة من الأدوار اللافتة في أعمال ميلودرامية تعج بالنجوم. ففي فيلم "داخل ديزي كلوفر" Inside Daisy Clover الصادر عام 1956 شارك البطولة مع نتالي وود (وهو الفيلم الذي لفت أنظار المنتج آلان جي باكولا، الذي عمل معه لاحقاً في "كل رجال الرئيس" All the President’s Men)، وكان ردفورد آسراً في دور النجم السينمائي ويد لويس، مزدوج الميول الجنسية، متقناً بريق الشخصية وطيشها الجذاب. ثم عام 1966 (ومع وود أيضاً)، جسد في فيلم "هذا العقار محكوم عليه" This Property Is Condemned شخصية أوين، الموظف في السكك الحديد الذي يطغى عليه السأم والبرود الوجودي. وحين ينطق جملته الشهيرة: "ليس لدي حلم"، يرتجف المشاهدون. أوين الذي بدا جميلاً وهشاً في آن معاً، كان لغزاً غامضاً حتى بالنسبة إلى نفسه.

جاءت بعد ذلك محطة صغيرة لكنها محورية في فيلم "المطاردة" The Chase الصادر عام 1966، حيث لفت ردفورد الأنظار بدور بابر ريفز، السجين التكساسي الهارب الذي يعود إلى بلدته الفاسدة، فيما يحاول الشريف كالدر الذي يجسده مارلون براندو فرض النظام. المشهد الوحيد الذي جمع ردفورد وبراندو في نهاية الفيلم جاء مشحوناً بالإثارة، لا بتفاعل الرجلين مباشرة، بل بازدراء بابر لوالدته الباكية (تؤديها مريام هوبكنز)، في مشهد بدا وكأنه يحرق الشاشة.

بعدها نال ردفورد أول بطولة مطلقة عام 1967 في الفيلم الكوميدي الرومانسي "حافي القدمين في الحديقة" Barefoot in the Park للمخرج نيل سايمون، مع جين فوندا المتألقة. وكان ردفورد قد جسد شخصية بول براتر المتعجرف على المسرح سابقاً، لكنه بدا في الفيلم مرتاحاً وهو يقدم نفسه بصورة ساخرة. ويتألق بشكل خاص في المشهد الذي يترنح فيه ثملاً في ساحة واشنطن سكوير. وكما فعلت غريس كيلي في "المجتمع الراقي" High Society، كان ردفورد في أفضل حالاته حين جسد شخصية متزمتة ووسيمة في الوقت نفسه، بحاجة ماسة إلى أن تتحرر. ببساطة، كان توقيته لإبراز الكوميديا لا يضاهى.

بلا شك، كان فيلم "بوتش كاسيدي وصبي صندانس" Butch Cassidy and the Sundance Kid الصادر عام 1969 نقطة التحول في مسيرة ردفورد. لم ترغب استوديوهات هوليوود في مشاركة الممثل الذي كان حينها في أوائل عقده الثالث، لكن زميله في البطولة بول نيومان أصر على أنه الأنسب لفيلم الويسترن الذكي والمرح هذا، وكان على حق. جسد ردفورد دور مسلح خارج عن القانون وكأنه في حال سكر، ساخر دائماً ومتقلب المزاج أحياناً، يعيش "الصبي" اللحظة بكل تفاصيلها، ومع ذلك يخفي تحت وجهه المبتهج لمحة من الحزن. اعتماده المتزايد على بوتش وعلى المرأة التي يعشقانها (تجسدها كاثرين روس) كان مؤثراً. عند التدقيق في بعض الأفلام "الكلاسيكية" يتبين أنها رجعية للغاية (مثل "حدث ذات مرة في الغرب" Once Upon a Time in the West). أما هذه الصداقة الرجولية، فتصمد أمام أي تدقيق نقدي. تقول شخصية إيتا بليس التي تجسدها روس: "لن أشاهد موتك. سأفوت هذا المشهد إن لم يكن لديك مانع". وكانت اللقطة الثابتة في النهاية مؤثرة دائماً، ومع رحيل البطلين الرئيسين، تصبح أكثر إيلاماً.

إلى جانب النجاح التجاري الكبير، فاز الفيلم بأربع جوائز أوسكار. استثمر ردفورد شهرته الجديدة بحكمة، وأظهر قدرته على التنوع واهتمامه المتزايد بالسياسة من خلال أفلام مثل "المرشح" The Candidate (1972)، و"اللدغة" The Sting (1973)، و"كيف كنا" The Way We Were (1973)، و"ثلاثة من أيام الكوندور" Three Days of the Condor (1975)، و"كل رجال الرئيس" (1976). ولاحظوا كيف أن أداءه غالباً ما يبدو طبيعياً بشكل مذهل، كأنه نسي أن الكاميرات تعمل من حوله، ويختبر ببساطة كيفية اللعب داخل المشهد، سواء بتحريك شفتيه بانفعال ونطق هراء (كما في دوره كناشط يساري يتورط في حملة سياسية يديرها ديمقراطيون ساخرون في التحفة الساخرة التي أخرجها مايكل ريتشي "المرشح"، أو بإطلاق حماسة تشبه الزئير الضعيف أثناء عمله على الآلة الكاتبة (في دور الصحافي المتأهب بوب وودورد في الفيلم الدرامي المتوتر والمنخفض الجودة لكن المثير للإعجاب حول فضيحة ووترغيت "كل رجال الرئيس").

من الناحية الأخلاقية، تميل شخصيات ردفورد إلى الانحراف والتمرد. كثير منها محتالون أتقنوا الابتسامة المزيفة، وعدد لا بأس به منها متكبرون وانتهازيون أو نرجسيون. ففي فيلم "متزلق المنحدرات" Downhill Racer (1969)، يُظهر الطموح الأولمبي في شخصية البطل ديف تشابيليت بلا رحمة وانغماس في الذات، فيظل المشاهد يتوقع أنه سيعاقَب أو يتم التخلص منه، لكن لا شيء من ذلك يحدث؛ فهو، مثل سمكة قرش، يواصل المضي قدماً بلا توقف. أما في الفيلم الرومانسي التاريخي "كيف كنا"، فيجسد ردفورد دور كاتب طموح يخون الناشطة اليهودية المتحمسة التي تؤديها باربرا سترايسند، ويهجرها هي وطفلهما الرضيع. يا له من حقير! هل تذكرون كيف كانت الكلبة "لاسي" الوفية تنقذ الموقف دائماً؟ لكن هذا لا ينطبق على الغالبية العظمى من الرجال الذين اختار ردفورد تجسيدهم.

كما أشرت سابقاً، ليس سجل ردفورد السينمائي خالياً من العيوب. ففيلم "غاتسبي العظيم" The Great Gatsby (1974)، يعتبر إخفاقاً باهتاً، وكان أداء ردفورد فيه ضعيفاً، والسبب يعود إلى أنه لم يقنع بدوره كرجل رومانسي يائس. فالمليونير الذي صنع نفسه بنفسه من ابتكار الروائي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد من المفترض أن يكون مولعاً بدايزي بوكانان (تجسدها ميا فارو)، لكن من المستبعد أن يبدو جاي كاتسبي الذي يؤديه ردفورد مستعداً للمخاطرة بكل شيء من أجل هذه الفتاة الأرستقراطية المحبة للحفلات، فهي بالكاد تحرك مشاعره. قالت جين فوندا ذات مرة إن ردفورد لم يكن يحب التقبيل على الشاشة وكان لديه "مشكلة مع النساء". كل ما يمكن تأكيده هنا هو أن الحماسة التي قدمها ردفورد في هذا الفيلم بالكاد كانت تكفي لإثارة أي شيء.

أما أفلام مثل "خارج أفريقيا" (1985)، فقد حققت نجاحاً هائلاً، لكنها لم تُظهر قدراته التمثيلية على نحو متفرد. في دور الصياد الراقي دينيس، يجذب قلب ميريل ستريب الشخصية الدنماركية الحساسة، ويبدو مغرياً بالكامل - بخاصة في المشهد الذي يغسل فيه شعرها ببطء - لكنه في الوقت نفسه يبدو مصاباً بالملل. فهو يجسد شخصية خيالية ويعي ذلك تماماً. وفي المقابل، في فيلم "عرض فاحش" Indecent Proposal (1993)، للمخرج أدريان لاين، يبدو ردفورد كما لو كان يسير في أحلامه بلا رغبة في أن يوقَظ.

إلا أنه كان منخرطاً بالكامل في فيلم "كل شيء مفقود" All Is Lost (2013)، إذ تكاد كلماته تعد على الأصابع. الفيلم الذي كلف منتجه جيه سي تشادور 8.5 مليون دولار، أسند إلى ردفورد الذي كان في عمر الـ77 حينها دور بحّار حياته مهددة، يحاول النجاة من البحر الذي يكاد يبتلعه. كل كثافة أدائه السابقة حاضرة هنا، فيما تشعر شخصيته عديمة الاسم بالغرق في مياه المحيط الهندي. كما حافظ ردفورد على الأداء الآسر نفسه تقريباً في آخر دور بارز له في فيلم روائي طويل "الرجل العجوز والبندقية" The Old Man & the Gun (2018)، من إخراج ديفيد لويري. يؤدي دور لص مصارف أنيق وهادئ، يتقلب بين الإرهاق والانبهار من أكاذيبه الأنانية. شخصية فورست تاكر، صاحب الشعر الذهبي الكئيب، على وشك أن تقع فريسة للزمن. وعندما يستخدم الفيلم لقطة فلاش باك من فيلم "المطاردة"، لإظهار تاكر الشاب، يبدو حقاً كما لو أن ردفورد الإنسان وردفورد الخيالي قد اندمجا في شخصية واحدة.

اشتكى ردفورد، في مناسبات عدة، من أن وسامته الشقراء أعاقت تقديره الجاد كممثل. صحيح أن وارن بيتي وبول نيومان، صاحبي الشعر الداكن والوسامة المماثلة، لم يواجها القدر نفسه من الانتقادات - هناك قصص تروى عن أن أحد مديري شركات الإنتاج قال عن ردفورد ذات مرة "إنه مجرد أشقر آخر في هوليوود. ارمِ عصا من النافذة في ماليبو وستصيب ستة مثله". ومع ذلك، أثبت ردفورد مراراً وتكراراً أنه بعيد كل البعد من الوسامة السطحية الفارغة.

وكان جزء من ذلك من خلال انتقاله إلى العمل خلف الكاميرا. حصد فيلم "أناس عاديون" Ordinary People (1980) أربع جوائز أوسكار، من بينها أفضل فيلم. وربما لم يكن ردفورد يستحق جائزة أفضل مخرج، خصوصاً أنه تنافس مع مارتن سكورسيزي عن "الثور الهائج" Raging Bull، إلا أن الفيلم يعج بمشاعر معقدة ومظلمة، ويحتوي على أداء رائع لماري تايلر مور في دور أم باردة وعاجزة عن التواصل مع ابنها المراهق المعذب.

إذاً، ما الإرث الذي سيتركه ردفورد في النهاية؟ تجاوب الجمهور بحذر مع محاولاته الإخراجية الأكثر جدية وتعثراً (حتى أشد المعجبين بالليبرالية و/أو توم كروز قد يغفو قليلاً أثناء متابعة فيلم "الإثارة" الحربي الذي أخرجه عام 2007 حول أفغانستان "أسود وحملان" Lions for Lambs)، وربما يعرف المشاهدون الشباب ردفورد فقط كشخصية الرجل الصلب في فيلم "كابتن أميركا: جندي الشتاء" Captain America: The Winter Soldier (2014). مع ذلك، تعلم كثير من الممثلين الوسيمين من نموذج ردفورد، من براد بيت إلى جورج كلوني؛ فباختيارهم نصوصاً ذكية وظهورهم وكأنهم مستمتعون بوسامتهم، حافظ هؤلاء النجوم على مسيراتهم المهنية، تماماً كما فعل ردفورد.

وإلى جانب ذلك، كان ردفورد ناشطاً بيئياً ملتزماً، وتجرأ على اتخاذ أخطار سياسية واقتصادية كللت بالنجاح. ففي فيلم "بوتش كاسيدي وصبي صندانس"، يقول بوتش عن "الصبي": "إنه يسلك طريقه الخاص". تبدو هذه الكلمات الأربع صالحة أيضاً لوصف الرائد الحكيم تشارلز روبرت ردفورد الابن.

© The Independent

 

الـ The Independent  في

21.09.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004