من نجم وسيم إلى صانع سينما مستقلة... إرث روبرت ردفورد
شارلوت أوسوليفان
النجم الأسطوري، الممثل والمنتج والمخرج والناشط، رحل عن
عمر 89 سنة، بعدما أمضى مسيرته يوظف شهرته بحكمة ويبرهن على تنوع قدراته
أمام الكاميرا. لكن على رغم فداحة الخسارة، فإن بصماته ما زالت ماثلة بوضوح
في ملامح صناعة السينما اليوم
ملخص
روبرت ردفورد جسد أحد أبرز وجوه السينما الحديثة بفضل حضوره
المميز وتنوع أدواره بين الرومانسية والسياسية والتاريخية، وأثبت نفسه
أيضاً كمنتج ومخرج حائز الأوسكار وناشط بيئي مؤثر. من خلال تأسيسه مهرجان
"صندانس" منح الأفلام المستقلة منصة عالمية، وألهم أجيالاً من المخرجين
والنجوم مثل تارانتينو وكلوني، وترك إرثاً فنياً غنياً وراسخاً ظل ماثلاً
حتى رحيله عن 89 سنة.
في عام 1972 شبهت الناقدة السينمائية اللاذعة بولين كايل، روبرت
ردفورد بالكلبة
الشهيرة في عالم السينما "لاسي"، معتبرة أنه بدد موهبته المبكرة وأصبح
مشرقاً أكثر مما ينبغي. لكن السخرية ارتدت عليها؛ فالممثل الذي تحول إلى
ناشط ومنتج ومخرج حائز الأوسكار، وإن لامس أحياناً حافة الرتابة، لم ينغمس
فيها أبداً. لقد تبناه مخرجون من موجة السينما الجديدة كما من هوليوود
الكلاسيكية، وكان لأفضل أدواره أثر في إعادة شحن المشهد السينمائي.
وبصفته أحد مؤسسي مهرجان "صندانس"
Sundance،
فتح الباب أمام الأفلام المستقلة لتصل إلى جمهور واسع. النجمة ميريل ستريب،
التي شاركته بطولة الفيلم الرومانسي الشهير "خارج أفريقيا"
Out of
Africa
عام 1985، وصفته قائلة: "كان الفتى الذهبي للسينما الأميركية، لكنه كان
يترك دوماً مساحة لكي يبرز الآخرون". ولعل أبرز المستفيدين من منصة
"صندانس" كانوا كوينتن تارانتينو، وستيفن سودربيرغ، ونيكول هولفسنر وراين
كوغلر. وهكذا، مع رحيله
صبيحة الثلاثاء
الماضي في منزله بولاية يوتا عن عمر89 سنة، يبقى الدين المستحق له كبيراً.
لم تكن حياة ردفورد مفروشة بالورود؛ فقد ولد في حي فقير
بلوس أنجليس وفقد والدته القادمة من تكساس، ("الركيزة الأقوى في العائلة")،
وهو ما زال في سن المراهقة. ومع ذلك، ابتسم الحظ للشاب الحالم بالتمثيل عبر
سلسلة من الأدوار اللافتة في أعمال ميلودرامية تعج بالنجوم. ففي فيلم "داخل
ديزي كلوفر"
Inside
Daisy Clover
الصادر عام 1956 شارك البطولة مع نتالي وود (وهو الفيلم الذي لفت أنظار
المنتج آلان جي باكولا، الذي عمل معه لاحقاً في "كل رجال الرئيس"
All
the President’s Men)،
وكان ردفورد آسراً في دور النجم السينمائي ويد لويس، مزدوج الميول الجنسية،
متقناً بريق الشخصية وطيشها الجذاب. ثم عام 1966 (ومع وود أيضاً)، جسد في
فيلم "هذا العقار محكوم عليه"
This
Property Is Condemned
شخصية أوين، الموظف في السكك الحديد الذي يطغى عليه السأم والبرود الوجودي.
وحين ينطق جملته الشهيرة: "ليس لدي حلم"، يرتجف المشاهدون. أوين الذي بدا
جميلاً وهشاً في آن معاً، كان لغزاً غامضاً حتى بالنسبة إلى نفسه.
جاءت بعد ذلك محطة صغيرة لكنها محورية في فيلم "المطاردة"
The
Chase
الصادر عام 1966، حيث لفت ردفورد الأنظار بدور بابر ريفز، السجين التكساسي
الهارب الذي يعود إلى بلدته الفاسدة، فيما يحاول الشريف كالدر الذي يجسده
مارلون براندو فرض النظام. المشهد الوحيد الذي جمع ردفورد وبراندو في نهاية
الفيلم جاء مشحوناً بالإثارة، لا بتفاعل الرجلين مباشرة، بل بازدراء بابر
لوالدته الباكية (تؤديها مريام هوبكنز)، في مشهد بدا وكأنه يحرق الشاشة.
بعدها نال ردفورد أول بطولة مطلقة عام 1967 في الفيلم
الكوميدي الرومانسي "حافي القدمين في الحديقة"
Barefoot in the Park
للمخرج نيل سايمون، مع جين فوندا المتألقة. وكان ردفورد قد جسد شخصية بول
براتر المتعجرف على المسرح سابقاً، لكنه بدا في الفيلم مرتاحاً وهو يقدم
نفسه بصورة ساخرة. ويتألق بشكل خاص في المشهد الذي يترنح فيه ثملاً في ساحة
واشنطن سكوير. وكما فعلت غريس
كيلي في
"المجتمع الراقي"
High
Society،
كان ردفورد في أفضل حالاته حين جسد شخصية متزمتة ووسيمة في الوقت نفسه،
بحاجة ماسة إلى أن تتحرر. ببساطة، كان توقيته لإبراز الكوميديا لا يضاهى.
بلا شك، كان فيلم "بوتش كاسيدي وصبي صندانس"
Butch
Cassidy and the Sundance Kid
الصادر عام 1969 نقطة التحول في مسيرة ردفورد. لم ترغب استوديوهات هوليوود
في مشاركة الممثل الذي كان حينها في أوائل عقده الثالث، لكن زميله في
البطولة بول نيومان أصر على أنه الأنسب لفيلم الويسترن الذكي والمرح هذا،
وكان على حق. جسد ردفورد دور مسلح خارج عن القانون وكأنه في حال سكر، ساخر
دائماً ومتقلب المزاج أحياناً، يعيش "الصبي" اللحظة بكل تفاصيلها، ومع ذلك
يخفي تحت وجهه المبتهج لمحة من الحزن. اعتماده المتزايد على بوتش وعلى
المرأة التي يعشقانها (تجسدها كاثرين روس) كان مؤثراً. عند التدقيق في بعض
الأفلام "الكلاسيكية" يتبين أنها رجعية للغاية (مثل "حدث ذات مرة في الغرب"
Once
Upon a Time in the West).
أما هذه الصداقة الرجولية، فتصمد أمام أي تدقيق نقدي. تقول شخصية إيتا بليس
التي تجسدها روس: "لن أشاهد موتك. سأفوت هذا المشهد إن لم يكن لديك مانع".
وكانت اللقطة الثابتة في النهاية مؤثرة دائماً، ومع رحيل البطلين الرئيسين،
تصبح أكثر إيلاماً.
إلى جانب النجاح التجاري الكبير، فاز الفيلم بأربع جوائز
أوسكار. استثمر ردفورد شهرته الجديدة بحكمة، وأظهر قدرته على التنوع
واهتمامه المتزايد بالسياسة من خلال أفلام مثل "المرشح"
The
Candidate
(1972)، و"اللدغة"
The
Sting (1973)،
و"كيف كنا"
The
Way We Were
(1973)، و"ثلاثة من أيام الكوندور"
Three
Days of the Condor
(1975)، و"كل رجال الرئيس" (1976). ولاحظوا كيف أن أداءه غالباً ما يبدو
طبيعياً بشكل مذهل، كأنه نسي أن الكاميرات تعمل من حوله، ويختبر ببساطة
كيفية اللعب داخل المشهد، سواء بتحريك شفتيه بانفعال ونطق هراء (كما في
دوره كناشط يساري يتورط في حملة سياسية يديرها ديمقراطيون ساخرون في التحفة
الساخرة التي أخرجها مايكل ريتشي "المرشح"، أو بإطلاق حماسة تشبه الزئير
الضعيف أثناء عمله على الآلة الكاتبة (في دور الصحافي المتأهب بوب
وودورد في
الفيلم الدرامي المتوتر والمنخفض الجودة لكن المثير للإعجاب حول فضيحة
ووترغيت "كل رجال الرئيس").
من الناحية الأخلاقية، تميل شخصيات ردفورد إلى الانحراف
والتمرد. كثير منها محتالون أتقنوا الابتسامة المزيفة، وعدد لا بأس به منها
متكبرون وانتهازيون أو نرجسيون. ففي فيلم "متزلق المنحدرات"
Downhill Racer
(1969)، يُظهر الطموح الأولمبي في شخصية البطل ديف تشابيليت بلا رحمة
وانغماس في الذات، فيظل المشاهد يتوقع أنه سيعاقَب أو يتم التخلص منه، لكن
لا شيء من ذلك يحدث؛ فهو، مثل سمكة قرش، يواصل المضي قدماً بلا توقف. أما
في الفيلم الرومانسي التاريخي "كيف كنا"، فيجسد ردفورد دور كاتب طموح يخون
الناشطة اليهودية المتحمسة التي تؤديها باربرا سترايسند، ويهجرها هي
وطفلهما الرضيع. يا له من حقير! هل تذكرون كيف كانت الكلبة "لاسي" الوفية
تنقذ الموقف دائماً؟ لكن هذا لا ينطبق على الغالبية العظمى من الرجال الذين
اختار ردفورد تجسيدهم.
كما أشرت سابقاً، ليس سجل ردفورد السينمائي خالياً من
العيوب. ففيلم "غاتسبي العظيم"
The
Great Gatsby
(1974)، يعتبر إخفاقاً باهتاً، وكان أداء ردفورد فيه ضعيفاً، والسبب يعود
إلى أنه لم يقنع بدوره كرجل رومانسي يائس. فالمليونير الذي صنع نفسه بنفسه
من ابتكار الروائي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد من المفترض أن يكون مولعاً
بدايزي بوكانان (تجسدها ميا فارو)، لكن من المستبعد أن يبدو جاي كاتسبي
الذي يؤديه ردفورد مستعداً للمخاطرة بكل شيء من أجل هذه الفتاة
الأرستقراطية المحبة للحفلات، فهي بالكاد تحرك مشاعره. قالت جين فوندا ذات
مرة إن ردفورد لم يكن يحب التقبيل على الشاشة وكان لديه "مشكلة مع النساء".
كل ما يمكن تأكيده هنا هو أن الحماسة التي قدمها ردفورد في هذا الفيلم
بالكاد كانت تكفي لإثارة أي شيء.
أما أفلام مثل "خارج أفريقيا" (1985)، فقد حققت نجاحاً
هائلاً، لكنها لم تُظهر قدراته التمثيلية على نحو متفرد. في دور الصياد
الراقي دينيس، يجذب قلب ميريل ستريب الشخصية الدنماركية الحساسة، ويبدو
مغرياً بالكامل - بخاصة في المشهد الذي يغسل فيه شعرها ببطء - لكنه في
الوقت نفسه يبدو مصاباً بالملل. فهو يجسد شخصية خيالية ويعي ذلك تماماً.
وفي المقابل، في فيلم "عرض فاحش"
Indecent Proposal (1993)،
للمخرج أدريان لاين، يبدو ردفورد كما لو كان يسير في أحلامه بلا رغبة في أن
يوقَظ.
إلا أنه كان منخرطاً بالكامل في فيلم "كل شيء مفقود"
All Is
Lost
(2013)، إذ تكاد كلماته تعد على الأصابع. الفيلم الذي كلف منتجه جيه سي
تشادور 8.5 مليون دولار، أسند إلى ردفورد الذي كان في عمر الـ77 حينها دور
بحّار حياته مهددة، يحاول النجاة من البحر الذي يكاد يبتلعه. كل كثافة
أدائه السابقة حاضرة هنا، فيما تشعر شخصيته عديمة الاسم بالغرق في مياه
المحيط الهندي. كما حافظ ردفورد على الأداء الآسر نفسه تقريباً في آخر دور
بارز له في فيلم روائي طويل "الرجل العجوز والبندقية"
The
Old Man
&
the
Gun
(2018)، من إخراج ديفيد لويري. يؤدي دور لص مصارف أنيق وهادئ، يتقلب بين
الإرهاق والانبهار من أكاذيبه الأنانية. شخصية فورست تاكر، صاحب الشعر
الذهبي الكئيب، على وشك أن تقع فريسة للزمن. وعندما يستخدم الفيلم لقطة
فلاش باك من فيلم "المطاردة"، لإظهار تاكر الشاب، يبدو حقاً كما لو أن
ردفورد الإنسان وردفورد الخيالي قد اندمجا في شخصية واحدة.
اشتكى ردفورد، في مناسبات عدة، من أن وسامته الشقراء أعاقت
تقديره الجاد كممثل. صحيح أن وارن بيتي وبول نيومان، صاحبي الشعر الداكن
والوسامة المماثلة، لم يواجها القدر نفسه من الانتقادات - هناك قصص تروى عن
أن أحد مديري شركات الإنتاج قال عن ردفورد ذات مرة "إنه مجرد أشقر آخر في
هوليوود. ارمِ عصا من النافذة في ماليبو وستصيب ستة مثله". ومع ذلك، أثبت
ردفورد مراراً وتكراراً أنه بعيد كل البعد من الوسامة السطحية الفارغة.
وكان جزء من ذلك من خلال انتقاله إلى العمل خلف الكاميرا.
حصد فيلم "أناس عاديون"
Ordinary People (1980)
أربع جوائز أوسكار، من بينها أفضل فيلم. وربما لم يكن ردفورد يستحق جائزة
أفضل مخرج، خصوصاً أنه تنافس مع مارتن
سكورسيزي عن
"الثور الهائج"
Raging
Bull،
إلا أن الفيلم يعج بمشاعر معقدة ومظلمة، ويحتوي على أداء رائع لماري تايلر
مور في دور أم باردة وعاجزة عن التواصل مع ابنها المراهق المعذب.
إذاً، ما الإرث الذي سيتركه ردفورد في النهاية؟ تجاوب
الجمهور بحذر مع محاولاته الإخراجية الأكثر جدية وتعثراً (حتى أشد المعجبين
بالليبرالية و/أو توم كروز قد يغفو قليلاً أثناء متابعة فيلم "الإثارة"
الحربي الذي أخرجه عام 2007 حول أفغانستان "أسود وحملان"
Lions for Lambs)،
وربما يعرف المشاهدون الشباب ردفورد فقط كشخصية الرجل الصلب في فيلم "كابتن
أميركا: جندي الشتاء"
Captain America: The Winter Soldier
(2014). مع ذلك، تعلم كثير من الممثلين الوسيمين من نموذج ردفورد، من براد
بيت إلى جورج كلوني؛ فباختيارهم نصوصاً ذكية وظهورهم وكأنهم مستمتعون
بوسامتهم، حافظ هؤلاء النجوم على مسيراتهم المهنية، تماماً كما فعل ردفورد.
وإلى جانب ذلك، كان ردفورد ناشطاً بيئياً ملتزماً، وتجرأ
على اتخاذ أخطار سياسية واقتصادية كللت بالنجاح. ففي فيلم "بوتش كاسيدي
وصبي صندانس"، يقول بوتش عن "الصبي": "إنه يسلك طريقه الخاص". تبدو هذه
الكلمات الأربع صالحة أيضاً لوصف الرائد الحكيم تشارلز روبرت ردفورد الابن.
© The Independent |