ملفات خاصة

 
 
 

محمد الروبي يكتب عن:

(زياد الرحباني)

والمسرح حين تصبح الخشبة مرآة للناس والسلطة

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

(مش مهم المسرحية، المهم إنو عم نحكي.. والمهم أكتر إنو حدا عم يسمع).. بهذه الجملة، التي اختتم بها مسرحيته الأولى (نزل السرور)، التي قدمها من تأليفه وإخراجه عام 1974، لخّص (زياد الرحباني) عالمه المسرحي بإيجاز بليغ، كاشفًا عن فلسفة فنية ترى في المسرح حوارًا مفتوحًا، لا عرضًا مغلقًا.. وهو ما سيبقى نهجا لكل مسرحياته التاليات.. (المهم إنو عم نحكي.. والمهم أكتر إنو حدا عم يسمع).

شخصيًا، أرى – وقد يختلف معي كثيرون – أن (زياد الرحباني)، الذي غادرنا منذ أيام، ورغم تعدّد مواهبه وتشعّب إسهاماته، كان المسرح هو ذروة عطائه الإبداعي، ومنصته الأخصب، التي صبّ فيها رؤيته للعالم، وهموم الناس، وسخريته اللاذعة من السلطة والمجتمع والنفاق.

فمنذ بداياته المبكرة، بدا زياد وكأنه وُلد وفي قلبه خشبة مسرح، وعلى الرغم من أنه حمل اسما ثقيلا (ابن فيروز وعاصي الرحباني) كما يُحمل الصليب في العلن، إلا أنه سرعان ما شقّ لنفسه طريقًا مختلفًا، لا يُشبه الرحابنة بل الناس.. طريقًا يعتمد اليومي لا الأسطوري، ويمنح للضحك مرارة، وللحزن سخرية، وللفن موقفًا لا استعراضًا.

قد يُصنّف مسرح ( الرحباني) زياد ضمن ما يُعرف بـ (الكباريه السياسي)، ذلك الفن الذي يوظّف السخرية والارتجال والموسيقى في نقد الواقع السياسي والاجتماعي، لكن هذا التصنيف، رغم وجاهته، يبقى شكليًا، لأن زياد تجاوز القوالب الجاهزة لهذا الشكل المسرحي.

فهو لم يقدّم اسكتشات هجائية سطحية، بل نسج دراما مركّبة، فيها من البساطة ما يضمن التوصيل، ومن العمق ما يضمن البقاء.. شخصياته ليست كاريكاتورية، بل بشر من لحم ودم، يحملون قهرهم، هشاشتهم، تناقضاتهم، وضياعهم.

إن شئنا الدقة، يمكن القول إن (زياد الرحباني) عرّب الكباريه السياسي، ومنحه نبرة لبنانية وعربية أصيلة، تمزج السياسة بالوجدان، والسخرية بالمأساة، والضحك بالأسى المؤجل.

البداية: (سهرية – 1973)

في عام 1973، قدم (زياد الرحباني) مسرحيته الأولى (سهرية)، التي جسدت مزيجاً فريداً من السخرية الحادة والنقد الاجتماعي والسياسي، لتكون صوتاً صريحاً للمواطن اللبناني العادي وهمومه اليومية وتحدياته المجتمعية في ظل ضغوط متزايدة.

اعتمد (زياد الرحباني) في هذه المسرحية على اللغة العامية اللبنانية، التي أعطته قوة وواقعية في التعبير، مما جعله قريباً من الجمهور وراسخاً في ذاكرة المسرح اللبناني كصوت نقدي شجاع ومختلف.

(نزل السرور – 1974)

في العام التالي، 1974، واصل (زياد الرحباني) رحلته المسرحية من خلال (نزل السرور)، وهى مسرحية سياسية كوميدية تناولت الفوارق الطبقية من خلال قصة عمال يستولون على مطعم شعبي في محاولة لتحقيق العدالة الاجتماعية.. حمل العمل رسالة واضحة عن الصراع الطبقي والعدالة الاجتماعية، مع لمسات من الكوميديا التي جعلت النقد أكثر تأثيراً وأقرب إلى الجمهور.

(فيلم أميركي طويل – 1980)

مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، برزت قوة التعبير في أعمال (زياد الرحباني) بشكل أكبر، وأثبت ذلك من خلال مسرحية (فيلم أميركي طويل) التي عرضت عام 1980.. جرت أحداث المسرحية في مستشفى للأمراض النفسية، حيث استُخدم المشفى كرمز للحالة التي بلغها لبنان من الفوضى والاضطراب الطائفي والسياسي والاقتصادي.

استخدم (زياد الرحباني) هذا الإطار ليرسم صورة سوداوية لكنها ساخرة، تعكس واقع الوطن الذي انهار تحت وطأة الحرب المستمرة، من خلال لغة حوارية عامية مليئة بالعبث والسخرية والنقد اللاذع.

(شي فاشل – 1983)

في مسرحية (شي فاشل) التي قدمها عام 1983، تابع (زياد الرحباني) سرد تجربته النقدية للواقع اللبناني، لكن هذه المرة في مرحلة ما بعد الحرب، من خلال حوارات تدور بين شخصيات منهكة في مقهى شعبي.. المسرحية تركز على الحالة النفسية والاجتماعية لشعب يعاني من آثار الحرب، وتعكس شعور الإحباط واليأس، مع جرعة لا تقل من السخرية السوداء.

العودة بعد غياب: (بخصوص الكرامة والشعب العنيد – 1993)، و(لولا فسحة أمل – 1994)

بعد غياب عقد كامل عن المسرح، عاد (زياد الرحباني) في التسعينيات بأعمال تعكس حال لبنان الجديد بعد انتهاء الحرب الأهلية.. في (بخصوص الكرامة والشعب العنيد – 1993)، تناول زياد بأسلوب ساخر موضوعات الكرامة والوطنية، مع رؤية نقدية لحالة المجتمع اللبناني المتغير. وتبعها بـ (لولا فسحة أمل – 1994)، التي تكمل ذات النهج وتقدم قراءة أخرى للمآلات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها اللبنانيون.

في الأخير يمكن القول أن النهج المسرحي لزياد الرحباني يتميز بعدة سمات بارزة جعلت منه علامة مميزة في تاريخ المسرح اللبناني والعربي على حد سواء،منها:

 أنه اعتمد اللغة العامية بشكل رئيسي، ليجعل صوته أقرب إلى الناس وأكثر صدقًا في التعبير عن واقعهم ومشاعرهم.

كما وظّف الرمزية والعبث بشكل بارع، مستعينًا بأماكن رمزية مثل المقاهي والمشافي، وبمواقف تحمل طابعًا عبثيًا يعكس حالة الاضطراب الاجتماعي والسياسي التي عاشها المجتمع. ولم يكن مفارقًا أن يدمج بين الكوميديا الحادة والدراما الاجتماعية، ليخلق توازنًا يسمح له بطرح قضايا وطنية وإنسانية بطريقة تجمع بين السخرية والجدية في آنٍ واحد.

توجيه نقده الاجتماعي

الشخصية الدرامية عند (زياد الرحباني) ليست بطلًا بالمعنى التقليدي، بل هي وجه من الوجوه التي نراها كل يوم: موظف متوتر، بائعة هوى، عامل بسيط، مهرّج مكسور.. هؤلاء هم من يصنعون النص، ويملؤون الخشبة بوجعهم، لا بشجاعتهم فقط.

 أما الموسيقى فكانت عنصراً سرديًا محوريًا في أعماله، حيث أدمج الأغاني داخل المشاهد لتصبح تعبيرًا مباشرًا عن الحالة النفسية والسياسية للشخصيات والمجتمع.

وعلى الصعيد النقدي، لم يتردد زياد في توجيه نقده الاجتماعي والسياسي بشكل مباشر وصريح، مع تركيز خاص على معاناة الطبقات الشعبية والتحديات التي تواجه الوطن بشكل عام.

أظن أن أهم ما في مسرح (زياد الرحباني) أنه لا يسترضي جمهوره، بل يصفعه بالحقيقة، ويدفعه إلى أن يضحك ويحتجّ في آنٍ معًا.. المسرح عنده ليس وسيلة للهروب من الواقع، بل غوص عنيف فيه، لكشف المستور، وهزّ الكراسي، وتقليب الطاولات.

نعم رحل (زياد الرحباني)، لكن خشبة مسرحه ما زالت تقف شاهدة على زمن مضى، وعلى شعب عرف كيف يضحك على ألمه، ويحكي عن وطنه بأبسط الكلمات وأصدقها.

 

موقع "شهريار النجوم" في

20.08.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني لم يضع الوطن والحبيبة في الخزانة

جاكلين سلام

لم يرحل زياد الرحباني عن عالمنا بتاريخ 26 يوليو 2025 بفراق الروح عن الجسد، بل أخذ حضوره الثقافي والفني والنقدي يتكرس ويلفت انتباه الناس في العالم العربي وخارجه ولذلك كانت هناك وعلى امتداد العالم العربي والخارج تجمعات ولقاءات للاحتفاء بحياته النضالية والفنية وتكريمه بعد غيابه. رسالته التي حملها فكره في شتى الصيغ الفنية تهمنا، كفقراء، غرباء، أغنياء وأغبياء، مؤمنين أو لا. والاحتفاء بصنيعه الفني تكريم صانعي الفنون في حياتهم وفي غيابهم وتذكير بما ينقص المجتمع من بديهيات. زياد الرحباني قلعة فنية إنسانية حتى وإن اختلف الكثيرون معه في التوجهات السياسية والأسلوبية الفنية. فنحن نختلف حتى مع أنفسنا بين مرحلة وأخرى والنقد ليس اصطياد أخطاء بل نداء للعلاج والانتباه. وعلى لسانه وبصوته وصلت السخرية كفن إلى قمة الإبداع النقدي الاجتماعي السياسي

سمعت تعليقا على حفل تأدبينه الباهر “لقد انتصر الفن على السياسة” بحضور زعماء الأحزاب والفنانين والعشاق الصغار والكبار.  كنت حاضرة بدموعي وصمتي في ذلك اليوم أمام شاشة التلفزيون، أعزي نفسي والأم العظيمة فيروز وأتذكر رجلاً كان حبيبي ورحل عن العالم...تذكرت حين كنا نقضي سهرات أسرية وشخصية بين سماع موسيقى وأغاني زياد والتراشق بالجمل الساخرة الناقدة من مسرحياته الطويلة ( نزل السرور، وبالنسبة لبكرا شو، وفيلم أمريكي طويل....والعقل زينة

لم تكن سوريا بعيدة عن لبنان، ولكن كاسيتات ومسرحيات زياد كانت تصلنا تهريب ونتبادلها مع الأصدقاء، في الثمانينيات في عهد الأسد الأب-النظام المباد. ولا تزال سوريا قريبة لكنهم يهربون الكبتاغون والسلاح عبر الحدود ذاتها فيما سوريا تحترق وتتمزق ويعيث فيها المغول الجدد تدميراً بمعول الطائفية الذي كرس زياد جزءا من أعماله في نقده وتبيان أثره على حياة الشعب في لبنان أيام الحرب الأهلية وما قبل وبعد

لمذا أحببتُ زياد الرحباني... أقول: لأنه كان حقيقياً/ كان مكشوفاً/ كان عاشقاً/ كان يريد السلام ويعشق المرأة والوطن. ولأنه كان متمرداً على الخط الاجتماعي، وكانت حبيبته “كارمن لبس” معه تعيش بعقد زواج الحب بين عاشقين. كان زياد الفنان حقيقياً في ضعفه وشعوره بالخيبة وانعدام الأمل في جبهات الدولة اللبنانية والشرق قاطبة، لكنه لم يكن ازدواجياً مثل رجال آخرين من أقصى اليسار واليمين ممن يضعون حبيباتهم وبناتهم في الخزانة، ويعيشون ازدواجية معتلة من أجل الحفاظ على برواظ تقليدي اجتماعي بلا روح. ولم يكن زياد جباناً في نقد نفسه والكبار في صالونات الفن والسياسة

كولكتيف.... في أحد اللقاءات التلفزيونية معه، لفت نظري المشروع الذي طرحه وكان يريد العمل على تحقيقه مع الحزب الشيوعي اللبناني والفصائل الأخرى، وهو تدشين تجمع يحمل اسم ( كولكتيف) ليصار الى خلق منصة عمل مشترك يضم الفرقاء على اختلافهم وخلافهم ولتوحيد الجهود للعمل الإنساني المشترك من أجل رفع سلام الإنسان وحقه في الحرية والعيش بكرامة. لم يتحقق ذلك المشروع ، وتلك الفكرة صعبة نحتاج إلى تفعيلها كل من منبره سواء أكنا من سوريا، لبنان، العراق، مصر، أو كندا...

وكل أغنية وكل تذكير بمسرحياته تجعلنا ننتبه إلى عوزنا وفقرنا وقهرنا، وتدلنا في الآن ذاته على أحلامنا المشتركة في إعلاء رسالة الفن بكل الصيغ وكي تصل بلادنا إلى مفهوم الدولة بدلا من أن تبقى مسرح جرائم وقتل طائفي.

 المتفرد الذي كسر النسق

كان مسرحه وموسيقاه وأغانيه ظاهرة تفوقت على الركود واللإنساق والتكرار، بل صار ونقطة علام في خريطة الابداع اللبناني. كان يصنع حداثة مغايرة للسائد ويطورها دون أن يجلس في الإطار الذي صنعه الكبار من قبله. وغني عن الذكر بأنه منذ طفولته وهو يتشرب الموسيقى العربية والعالمية في بيت والديه (فيروز وعاصي الرحباني)

الخروج عن القافية والنسق ثم عن الأسلوب كلها ضرورات لخلق نص مغاير عن السائد المكرور حتى وأن كان القديم جميلاً وله مرتكزاته الإبداعية المتحققة.  وجنح ابداع زياد الى حيث لم يعرف من قبل. التجديد يتم على مستويات عدة، والمأزق عند المبدع يكون حين هناك هوة بين ذائقة المتلقي ومعرفته في هذا  الحقل وذاك

عن زياد: ولد زياد الرحباني في بلدة أنطلياس، قضاء المتن، في محافظة جبل لبنان. هو الابن البكر للموسيقار عاصي الرحباني (1923- 1986) والمطربة نهاد حداد -المعروفة باسم فيروز- (مواليد 1935). كان والده جزءًا من ثنائي “الأخوين رحباني” (عاصي ومنصور الرحباني) اللذين شكّلا ظاهرة بارزة في المسرح الغنائي اللبناني منذ خمسينيات القرن العشرين.

 

الصباح العراقية في

27.08.2025

 
 
 
 
 

شمس البارودي تنشر فيديو للراحل زياد الرحباني:

فنه وموسيقاه صدى لكل ما هو جميل

مصطفى القصبي

نشرت الفنانة شمس البارودى مقطع فيديو على صفحة التواصل الاجتماعى للموسيقار الراحل زياد الرحباني، وعلقت قائلة: "ممكن نروق مع الناس الراقية دى ونسمع موسيقى هذا العبقرى رحمة الله عليه".

وعلقت شمس البارودى على الفيديو: "زياد العبقرى، زياد الرمز، فنه وموسيقاه صدى لكل ما هو جميل".

زياد الرحباني من أبرز الفنانين المجددين في الموسيقى العربية والمسرح السياسي الساخر، هو ابن الأسطورة فيروز والموسيقار الراحل عاصي الرحباني، ونشأ في بيئة فنية متميزة سرعان ما انطلق منها ليؤسس أسلوبه الخاص الذي يمزج بين العمق الفني، والفكاهة السوداء، والنقد السياسي الجريء.

اشتهر زياد الرحباني بمسرحياته التي عكست الواقع اللبناني بأسلوب ساخر وذكي، حيث تميّزت أعماله بالجرأة والتحليل العميق للمجتمع، إلى جانب موسيقاه الحديثة التي أدخلت عناصر الجاز والأنماط الغربية إلى النغمة الشرقية بأسلوب طليعي.

وعُرف زياد الرحباني بمواقفه السياسية الواضحة، وكان من أبرز الأصوات الفنية اليسارية في العالم العربي، حيث تبنى التوجه الشيوعي فكريًا وفنيًا، وجعل من أعماله منبرًا يعكس قضايا الإنسان العربي في ظل الحرب، والقمع، والتناقضات الاجتماعية.

 

اليوم السابع المصرية في

29.08.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني… تلك الأغنية التي حملت أوجاع الناس

عدنان زقوري

في 25 من يوليوز 2025، رحل زياد الرحباني، غاب الجسد، غير أن غيابه لا ينفي حضوره، سيظل زياد الرحباني صاخبا في عقولنا رغم وفاته، سيظل بموسيقاه وموقفه ونقده وسخريته حاضرا في الذاكرة، في الأغنية، في المسرح الذي جسد آلامنا وأحلامنا وآمالنا

رحل زياد الرحباني

رحل زياد جسدا، لكنه بَقي فِكرا، على حد تعبير غسان كنفاني، تسقط الأجساد لا الفكرة”. صوتُه سيظل معلقا على جدران ساحة النجمة في وسط بيروت، وستحملهُ الذاكرة إلى شارع الحمرا، وسيُكتب اسمه بحبر الخلود بأروقة متحف سرسق.

أن تكُون موسيقيا أو مُلحنا أو عازفا، لم يكن يعني فقط، عند زياد، أن تُطرب أو أن تبدع ألحانا، لكن أن تَحمل قضية وموقفا، وزياد اختار الانحياز للحرية، للإنسانية، للفقراء والكادحين اختيار سيجعلهُ حيا في ذاكرة المقهورين.

البدايات

وُلد زياد الرحباني في الأول من يناير 1956 في بلدة أنطلياس، قضاء المتن بمحافظة جبل لبنان.

من حُسن حظ الرجل أنه وُلد في بيت مُشبع بالموسيقى والفن، فهو الابن البكر للموسيقار عاصي الرحباني، و”سيدة الصباح”، كما يُحب محبوها وصفها، فيروز”… في هذا البيت الغارق بالموسيقى، وُلد ونشأ زياد الرحباني، لكن الفتى لم يقُل كان أبي، بل كان المتمرد الذي أراد أن يَخط لنفسه مسارا آخر.

تلقى زياد تعليمه الابتدائي في مدرسة “جبل أنطلياس” الكثالوليكية”، قبل أن يتنقل إلى مدرسة “اليسوعية” في بيروت.

إلى جانب ذلك، درس زياد الرحباني الموسيقى الكلاسيكية والجاز، وتعلم التأليف الموسيقي ذاتيا معتمدا على تأملاته في أعمال والده وعمه.

من بوابة الأدب، بدأ زياد الرحباني مسيرته الفنية، إذ كتب بين عامي 1967 و1968 نصوصا شعرية بعنوان صديقي الله، والتي رأى فيها النقاد بداية لموهبة شعرية متدفقة، قبل أن يُحول الدفة نحو الموسيقى والتأليف المسرحي.

برزت موهبة الرحباني الموسيقية في سن الخامسة عشر من عمره، حين لحّن أولى أغنياته بعـنوان ضلّك حبيني يا لوزية” سنة 1971. إلا أن الشارع اللبناني والعربي سيعرفُ زياد الرحباني، حين لحن أغنية سألوني الناس” التي أدتها والدته فيروز سنة 1973… الأغنية التي كتب كلماتها منصور الرحباني، عبرت عن مشاعر فيروز خلال غياب زوجها عاصي الرحباني بعد دخوله المستشفى.

الأغنية كانت جزءا من مسرحية “المحطة”، والتي سيلعبُ فيها زياد دور الشرطي… ستؤسس لعلاقة فنية بين فيروز وابنها زياد وترسمُ ملامح مسيرة فنية بينهما، كان أبرزها  “عندي ثقة فيك، ضاق خلقي، حبوا بعضن، أنا عندي حنين، والبوسطة في شراكة فنية استثنائية جمعتهما.

في مسرحيةميس الريم، سيظهر بشكل جلي أسلوب زياد الرحباني المفارق لمدرسة والديه. حينها، وفي سن الــ 19، لحن زياد الرحباني المقدمة الموسيقية للمسرحية، وأدخل خلالها أساليب تلحين غير معتادة على عروض الرحابنة، فكان يمزج بين الموسيقى الحزينة والمتأملة الهادئة.

بين المسرح والتلحين والعزف

أحدث زياد الرحباني تحولا مهما في شكل المسرح اللبناني، إذ ابتعد به من النمط التخيلي ، إلى مسرح يعكس حياة الناس اليومية، خصوصا في ظل أجواء حرب أهلية أكلت الأخضر واليابس، ليصبح زياد صوتا يعبر عن آلام وآمال جيل تقاذفته أهوال الحرب والضياع.

قدم مسرحيات لاذعة وناقدة، من بينها: “بالنسبة لبكرا شو، نزل السرور، فيلم أمريكي طويل، بخصوص الكرامة والشعب العنيد، ولولا فسحة الأمل“. أعمال مسرحية كُتبت بلغة الناس، بأتراحهم وأفراحهم، لكنها مست موضوعات عدة، كان أبرزها النقد الجارح للطائفية والفساد الذي ينخرُ السلطة، بل وانتقد بأسلوب عبثي وضع المثقف والسياسي والنخبة في ظل الحرب.

إلى جانب ذلك، أصدر مجموعة من الألبومات التي حملت ألحانه: “أنا مش كافر، إلى عاصي، مونودوز، هدوء نسبي“… إصدرات بصمت على تحولات فارقة في مجرى الموسيقى العربية، إذ أدخل عناصر الجاز والأنماط الغربية إلى الموسيقى الشرقية، ما شكل نهجا جديدا في الموسيقى العربية.

زياد الرحباني… الوجه الثاني

إلى جانب الموسيقى والفن، عُرف زياد الحرباني بعلاقته الطويلة بالسياسة، حيث كان شيوعي الهوى، وظل منخرطا في الحزب الشيوعي اللباني طول حياته… اصطفاف يساري بالموقف لا بالنظري، فجاءت بذلك أعماله وخرجاته وتصريحاته لاذعة.

كان انحياز الرحباني إلى الفقراء والمظلومين بوصلة مواقفه كُلها. لم يتردد الرجل في السخرية من الجميع، حتى في أشد لحظات الحرب، ما أظهر جرأة وقدرة دون مواربة أو مراوغة.

ساند القضية الفلسطينية منذ بداياتها، وأدان مجازر المخيمات، وانتصر لمقاومة كل من الاحتلال والاغتراب الهوياتي، ورفع صوته عاليا ضد الفساد في وطنه، وتعرية تناقضات السياسيين بسخرية سوداء.

رغم نقده الساخر، كان الرجل يُحس بحرقة على البلد.

من تعليقاته الساخرة اللافتة أيضا، قوله إن “الإنسان متى عرف الحقائق سقط عن سرير الأحلام”. وقال في سياق مماثل وبأحاسيس مليئة بالشكوك والأشواك: “حائرٌ أنا بين أن يبدأ الفرح وألاّ يبدأ مخافةَ ينتهي”.

انتقد الرحباني بشدة استغلال الناس باسم الدين ودعوتهم لتقبل حياتهم البائسة من منطلق الصبر والبلاء، فقال

أنا مش كافر بس الجوع كافر

أنا مش كافر بس المرض كافر

أنا مش كافر بس الفقر كافر والذلّ كافر

أنا مش كافر

لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا فيّي

كل الإشيا الكافرين

يللي بيصلّي الأحد ويللي بيصلي الجمعة

وقاعد يفلح فينا على طول الجمعة

هوّ يللي ديّن قال وأنا يللي كافر عال

راجعوا الكتب السماوية راجعوا كلام القادر

جسد زياد المثقف والمبدع، معنى الإخلاص والثبات على المواقف… معنى أن تصطفَّ بعيدا عن البحث عن أي مكاسب مادية أو امتيازات.

وقف زياد على نفس المسافة من الجميع، عارض اليمين وانتقد اليسار… لم ينتصر قط لغير لبنان والناس… ونفسه

جاي مع الشعب المسكين

جاي تعرف أرضي لمين

لمين عم بموتوا ولادي بأرض بلادي جوعانين

يصعب جدا أن تُلخص حكاية زياد الرحباني في بضعة سطور، وصعبٌ جدا أن تلخص معنى كل ذلك الحزن الذي اجتاح الناس عند إعلان وفاته. لكن، لنقل… هو ذاك الإنسان الذي ظل صامدا.

 

موقع "مرايانا" في

30.08.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني .. العبقري المشاغب بين السخريَّة والابداع

د.عصام عبد العزيز المعموري

يقال إن العبقرية تكمن في رؤية ما لا يراه الآخرون، وهي القدرة الاستثنائية على التفكير في مجال معين، وتترجم غالباً الى أفكار أو أعمال تتجاوز حدود المألوف وهي ليست مجرد موهبة، بل تمثل رؤية فريدة وعميقة للعالم، وغالباً ما تقترن بالقدرة على التأثير وتغيير المفاهيم السائدة، وفي سياق زياد الرحباني، فان عبقريته تظهر في مزجه بين الموسيقى والمسرح والسياسة والسخرية، وفي خلقه لأسلوب خاص لا يشبه أحدا.   

أما الابداع فهو تحويل تلك الرؤية الى واقع، وتحويل ما هو مألوف الى ما هو غير مألوف، يتجلى في قدرته على توليد موسيقى وكلمات ومواقف تتحدى القوالب الجاهزة وتطرح تساؤلات عميقة بأسلوب ساخر، ومن المثير للدهشة هو أنه لا توجد شخصية لبنانية تم نعيها كما زياد الرحباني ولا تسأل لبنانياً مهما كان اتجاهه ودينه ومذهبه، الا يؤكد عبقريته.

بين العبقرية والابداع تحرك زياد الرحباني، الفنان الذي لم يكن يوماً تقليدياً، كان مشاغباً 

بالفطرة، ساخراً بالفن، حمل قلمه وعوده ليعيد رسم خريطة الفن اللبناني والعربي، لا ليرضي، بل ليقلق، ويربك، ويضحك، ويطرح الأسئلة، فهل كان شغبه مجرد تمرد؟ أم عبقرية تتجلى في أكثر أشكالها صراحةً وصدقاً ؟.

تقول والدته فيروز عنه بأنه يحمل الكثير من جنون الرحابنة، قد يقول البعض بأن زياد الرحباني توفرت له كل عناصر الابداع ولا فخر له في تألقه الفني  لكونه ابن المطربة الكبيرة فيروز والموسيقار عاصي الرحباني وبالتأكيد سيتأثر بهذه البيئة الفنية التي نشأ فيها، لكن ذلك لم يمنعه من شق طريقه بأسلوبه الخاص ليصبح من أبرز المجددين في الموسيقى العربية الى جانب بصمته في المسرح السياسي الساخر، من خلال أعمال جمعت بين الجرأة والعمق والسخرية اللاذعة.

يتسم المبدعون كما يوثق ذلك علم النفس الابداعي بجملة من الخصائص النفسية منها الخيال الواسع والقدرة على التخيل وفي حالة زياد الرحباني يمكن ملاحظة هذا الخيال في نصوصه المسرحية، التي تمزج السياسة بالمسرح والفكاهة، وفي موسيقاه التي لا تخضع للقوالب التقليدية.

وان الاستقلالية الفكرية هي السمة الثانية للمبدعين استناداً لعلم النفس الابداعي وفي حالة زياد الرحباني فانه تمرّد حتى على المدرسة الرحبانية التي نشأ فيها وخلق لنفسه صوتاً فنياً خاصاً. أما السمة الثالثة فهي الفضول والانفتاح على التجربة، فكان زياد دائماً فضولياً تجاه السياسة والمجتمع والفن، وكان يدخل عناصر جديدة في أعماله باستمرار.

أما السمة الرابعة فهي القدرة على التناقض والتعقيد، وهذا يتجلى في ازدواجية شخصية زياد، فهو ابن الرحابنة لكنه ناقد لهم، هو موسيقي محترف، لكنه ساخر من صناعة الفن، هو فنان شعبي، ونخبوي في ثقافته.

والسمة الخامسة فهي الحساسية العاطفية العالية والتعقيد الداخلي، فالسخرية عند زياد ليست فقط وسيلة للضحك، بل مرآة لألم داخلي وحساسية عالية تجاه الواقع العربي

أما السمة السادسة فهي الاستقلالية الفكرية والتمرد على الأعراف، فانه لم يتبع النموذج التقليدي في العلاقات، سواء في زواجه من دلال كرم، أو في اعلانه لاحقاً أن لديه ابناً غير شرعي، أو في معيشته لمدة خمسة عشر عاماً مع كارمن لبس، دون زواج رسمي، وهذا لا يمكن فصله عن طبيعته التمردية واستقلالية في التفكير والتي تظهر أيضاً في الفن، وهو بالرغم من خلفيته المسيحية، فقد كانت مواقفه السياسية وآراؤه راديكالية بالنسبة لبيئته اليمينية في مرحلة شبابه.

والسمة السابعة للمبدعين هي روح الشغب وكسر التابوهات، فانه كسر أكثر من تابو: الديني، الاجتماعي، السياسي، وغير ذلك، وحياته العاطفية كانت انعكاساً لرفضه للمجتمع الأبوي التقليدي الذي يحدد كيف يجب أن تكون العائلة والعلاقة والحب.

والسمة الثامنة استناداً لعلم النفس الابداعي فهي العناد، فقد رفض زياد رحباني اجراء عملية جراحية تدفع تكاليفها الحكومة اللبنانية قبل أيام من وفاته، وقد جاء ذلك على لسان وزير الثقافة اللبناني.

أما السمة التاسعة فهي الرفض الداخلي ورفض الزيف إذ إن المبدع الحقيقي يسعى للصدق لا المثالية، ويعيش كما يشعر، لا كما يتوقع منه. وللتعرف على مدى مطابقة هذه السمة مع شخصية زياد الرحباني فان زياد لم يكن يحاول أن يبدو مثالياً، بل كان دائماً صادقاً، ولا يبالي بقبول المجتمع

اما السمة العاشرة فهي المرونة المعرفية، والتي تتمثل بالقدرة على الانتقال بين أنماط التفكير المختلفة: من المنطقي الى الحدسي، ومن التحليلي الى الإبداعي.

هذه السمة تجعل المبدع قادراً على ربط أشياء تبدو غير مرتبطة. وبالنسبة لزياد الرحباني، فانه كان يدمج السياسة بالمسرح والموسيقى والنقد الاجتماعي في عمل فني واحد.

أما السمة الحادية عشرة للمبدع فهي الدافع الداخلي، فالإبداع الحقيقي لا يولد من أجل الجوائز أو الاعجاب، بل من رغبة داخلية في التعبير والخلق.

المبدعون يستمرون في انتاجهم حتى دون تشجيع خارجي. وللتعرف على مدى مطابقة هذه السمة على زياد الرحباني فان زياد لم يكن يسعى دائماً لإرضاء الجمهور، بل كان يعبّر عما يشعر به بصدق، حتى لو أغضب البعض.

 

الصباح العراقية في

10.09.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004