ملفات خاصة

 
 
 

الرحبانى الأخير

إبداعات لن تسقط بالتقادم

كتب طارق مرسى

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

فى برنامج مسجل للموسيقار الراحل «زياد الرحباني» طلب المذيع أن يوجه رسالة من القلب لأمه من الممكن اعتبارها  وصيته الأخيرة لها.. زياد قال بالحرف الواحد باللغة اللبنانية الفصحى: «لازم تظل تغنى لأن فى صوتك الحالى له طبقة بيتلحن لها كتير يقدر يؤدى ويقول بشكل ممتاز  ودعا زياد لأمه «فيروز» بطول العمر»... والسؤال هنا: هل تتحقق المعجزة وتعود فيروز للغناء؟ وهل أسطورة فيروز ستجدد نفسها وتكون مطربة المستحيل؟

علاقة «فيروز وزياد» كانت مليئة  بالمطبات والخلافات الحادة و«السوابق» ووصلت إلى حد القطيعة على المستوى الأسرى والفني، والمدهش أنها كانت جزءًا لا ينفصل مما قدماه من إبداع عبر أكثر من 40 عامًا هذا الإبداع لن يسقط بالتقادم.

ولأول مرة ما بنكون سوا

روعة الخلافات أنها شكلت إبداعات أسطورية ورسمت محطات مهمة فى مشواره كملحن ومسيرتها كمطربة، والأروع أنها ترجمت إلى أعمال من تأليفه عابرة للأجيال.

مسيرة زياد الرحبانى الفنية مع والدته فيروز بدأت فى سن مبكرة، حيث قام بتلحين أغنية «سألونى الناس» وعمره لا يتجاوز 15 عامًا، جاء هذا العمل فى فترة حرجة، فوالده عاصى الرحبانى فى عام 1972 كان يعانى من نزيف فى المخ خلال التحضير لمسرحية «المحطة»، ولم يقو على العمل فقرر التوقف عن التلحين واستكمل ابنه زياد الرحبانى المشوار من بعده، وحزنت فيروز كثيرًا حيث تعتبر المرة الأولى التى تفترق وتعمل فيها بعيدًا عن زوجها، وظهر هذا الحزن فى مقطع الأغنية الذى يقول: «ولأول مرة ما بنكون سوا»، ليكمل بعدها نجلها زياد مشوار والده ويضع الألحان لأغانى والدته بعد أن حققت الأغنية نجاحًا مدويًا وكتبت شهادة ميلاده ومولد موسيقار عملاق ليقود ثورة تجديد لمشروع فيروز الغنائي. وفى عام 1978 انفجرت الخلافات والمشاكل بين فيروز وزوجها عاصى الرحباني، حتى وصل الأمر إلى الانفصال، وأكمل ما تبقى من عمره مريضًا يرعاه أقرباؤه، حتى توفى يوم 21 يونيو 1986، ورغم الانفصال إلا أن خبر الرحيل صعق فيروز، وفى إحدى حفلاتها الغنائية غنت فيروز وسالت الدموع بغزارة منها، وهى تغنى مقطع أغنية «سألونى الناس» «بيعز على غنى يا حبيبي.. ولأول مرة ما بنكون سوا» وكأن الأغنية التى عبرت عن مشاعر فيروز خلال فترة غياب زوجها عاصي

كما وضعت حجر الأساس لزياد وأيضًا تتنبأ بمصير والده مع أمه، التى قدم لها مجموعة كبيرة من الأعمال من أبرزها «كيفك إنت»، و«ولا كيف»، و«عودك رنان»، و«قهوة»، وتقول كلمات أغنية سألونى الخالدة:

سألونى الناس عنك يا حبيبي.. كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا

بيعز على غنى يا حبيبي.. ولأول مرة ما بنكون سوا

قلتلن راجع إوعى تلوموني.. سألونى الناس عنك سألوني

غمضت عيونى خوفى للناس..يشوفوك مخبى بعيوني

وهب الهوى وما كان الهوى.. لأول مرة ما بنكون سوا

طل من الليل قلى ضويلي.. لاقانى الليل وطفى قناديلي

طل من الليل قلى ضويلي..لاقانى الليل وطفى قناديلي

ولا تسألينى كيف استهديت.. كان قلبى لعندك دليلي

واللى اكتوى بالشوق اكتوى.

كيفك  انت 

وكما كانت رائعة «سألونى الناس» تؤرخ لنهاية عصر عاصى وبداية عهد زياد فإن أغنية أخرى شهيرة خرجت من رحم أزمة كبيرة، لكن هذه المرة بين فيروز وزياد نتج عنها قطيعة عائلية وفنية استمرت عامين و3 شهور، والفصل الأول للأغنية الشهيرة بدأ حينما هجر لبنان ليتزوج بحبيبته دلال كرم، وسافر زياد ليلبى نداء قلبه ولم يكن قد أبلغ أحدًا بموعد عودته، وعندما عاد قابل والدته فيروز بالصدفة وسألته: كيف انت عم بيقولوا صار عندك ولاد، أنا والله كنت مفكرتك براة البلاد، وهذا المقطع كتبه زياد  من وحى حديثه مع فيروز وقام بتلحينه وعرضه عليها، وترددت فيروز قبل أن تغنيها وكيف أقنعها بها، وذهب زياد إلى زيارة فيروز فى منزلها ومعه شريط يحمل الأغنية بصوته وطلب منها أن تستمع لها، فقالت عندما تأتى الكهرباء ولكن أصر على أن تسمعها فى وجوده، حتى يوضح لها الكلمات، وجلست فيروز تستمع للأغنية فى سكون، ثم سألت زياد: «هيدى شو بدنا نعمل فيها» واستغربت فيروز الكلمات، خصوصًا ملا أنت فترك لها زياد الأغنية لتسمعها وتقرر، لكنها أخذت 4 سنوات حتى وافقت على غنائها، وما زالت الأغنية محفورة فى قلوب جميع محبى جارة القمر فيروز

من دون مصارى

 هذه الأغنية الشهيرة التى قدمها بصوته لحبيبته الثانية «كارمن لبس» كما قالت بنفسها فى حوار تليفزيونى بأن زياد كتب لها أغنية «بلا ولا شى» وذلك بعدما جمعتهما علاقة طويلة استمرت 15 عامًا، حيث وصفتها لبس بأنها زواج شفهى غير موثق على ورقة رسمية وكتب وغناها لها تعبيرًا عن حبه لها وتعبيرًا عن حبّ على مشارف الانقراض، حبّ نقي، عصيّ على المادة، ومجرّد من «المصارى والليرات والأراضى والمجوهرات»، إن كان لا يزال هناك من مساحة للحب فى حياتهم، الذين باتوا مكرَهين على عيش تجارب حبّ خالية من النزعة الاستهلاكية التى صبغت العلاقات بالكثير من المظاهر، وأفقدت الحب، أقلّه بالطريقة التى تصوّرها الأغنية، الكثير من صفائه، وتقول كلماتها:

بلا ولا شى ..بحبك بلا ولا شي

ولا فى بهالحب مصاري.. ولا ممكن فى ليرات

ولا ممكن فى أراضى ولا فى مجوهرات

تعى نقعد بالفى مش لحدا هالفي

حبينى وفكرى شوى .. بلا ولا شي

تعى نقعد بالفى مش لحدا هالفي.. حبينى وفكرى شوي

تعى نقعد تعى نقعد.. بلا جوقة أمك بيك

ورموش ومسكرة بلا ما النسوان تحيي

بلا كل هالمسخرة تعى نقعد بالفى مش لحدا هالفي

حبينى وفكرى شوى تعى نقعد بالفي

تعى نقعد بالفى مش لحدا هالفي

حبينى وفكرى شوى ..بلا ولا شي

زياد قدم أغنية «عندى ثقة فيك» من تأليفه وألحانه أيضًا لكارمن وأهداها لها فى عيد ميلادها وهذه الأغنية صارت من أشهر أغنيات فيروز، إن الحب ركيزة أساسية فى كتالوج زياد الرحبانى الغنائى إلى جانب قضايا الواقع الاجتماعى والسياسى فقد عبّر المجدد «زياد» عن مواقف مختلفة فى أغانيه، خاصة تلك التى غنتها فيروز، والتى تتناول قضايا اجتماعية وسياسية.

حبيتك بالصيف 

إبداع مدرسة الرحبانية بالوراثة، فزياد الرحبانى نفسه أعاد التاريخ، واستعاد قصة حب والده لولدته فى أغنية «حبيتك بالصيف» التى تقول:

«بأيام البرد وأيام الشتى.. والرصيف بحيرة والشارع غريق.. تجى هاك البنت من بيتها العتيق.. ويقلا أنطرينى وتنطُر ع الطريق.. ويروح وينساها وتدبل بالشتى».. وهى كلمات أغنية أشهر وأجمل ما غنت فيروز كتبها عاصى الرّحبانى والتى تلمس القلب لها قصة غريبة، بطلتها فيروز، حيث روى الرّحبانى فى أحد الحوارات الإذاعيّة قصّة أغنية «حبّيتك بالصّيف» قال عاصي: قبل أن نتزوّج ضربنا موعدًا لنسجّل أغنية، تأخّرتُ عن موعدنا، وللصّدفة أمطرت يومها، فيما كانت فيروز تنتظرنى على الرّصيف، فظلّت تعايرنى 20 سنة، وتقول: إنت نَطَّرْتَنى عالرّصيف تحت المطر.. فوجدت نفسى أكتب لها أغنية أقول فيها: حبّيتِك بالصّيف، حبّيتِك بالشّتى، ونطرتِك بالصّيف ونطرتِك بالشّتى. ثمّ عدّلناها إلى صيغة المخاطب المذكّر، لتناسب فيروز حين قرّرت أن تغنّيها».

عظمة آثار على الرمال

عظمة كتالوج فيروز الغنائى -الذى ينصح به الطب النفسى للتداوى «أنه كان يؤرخ لمسيرة حياة وقصص حب ملهمة كلها إبداع حتى قدما أغنيات فيها متعة للناس، راجعوا أغنية «شط اسكندرية» و«مصر عادت شمسك الذهب»، فقد كانتا ترجمة لحب المدرسة الرحبانية لمصر وللإسكندرية عروس البحر الأبيض التى شهدت شهر العسل لأشهر عروسين فى الوسط الفنى العربي، ومن شهر العسل عادا إلى بيروت ببشارة قدوم الابن العبقرى زياد الرحبانى لاستكمال كتابة تاريخ كله إبداع وحب بأغنيات خالدة، وهنا لا ننسى مقطوعاته الموسيقية مثل «آثار على الرمال» الذى وصفه عموم أكابر الفكر الغنائى بأنه واحد من المقطوعات الموسيقية العالمية، لاحظوا عنوانه ورسالته، وأيضًا مقطوعة «ميس الريم» فى المسرحية الشهيرة التى تحمل نفس الاسم، وأغان أخرى تعبر عن مواقف  وتغيرات مثل: «عودك رنان»، تعتبر من أوائل الأغانى التى لحنها زياد للرحبانية، وتُظهر تغييرًا فى أسلوب فيروز الغنائي، و«البوسطة»: تتحدث عن قضية اجتماعية هى نقل الركاب بالحافلات (البوسطة) وتأثيرها على الناس، و«أنا مش كافر»، تعبيرًا عن موقف شخصى لزياد تجاه قضايا دينية واجتماعية، و«يا جبل الشيخ»: أغنية وطنية تعبر عن صمود الشعب اللبناني. عبقرية زياد أيضًا استخدامه للأغنيات فى المسرح للتعبير عن مواقفه السياسية والاجتماعية، التى تناولت قضايا الطائفية، الحرب الأهلية، والواقع اللبناني، وكمنبر يعكس قضايا الإنسان العربى فى ظل الحرب، والقمع، والتناقضات الاجتماعية.  

 

####

 

زياد وسر الجين «25»

كتب د. هانى حجاج

أن تمر كالسحاب، تُنسى، بل ولا يتذكر أحد من أنت. لكنك فوق.. كالسحاب! أن تولد عبقريًا لكن تأثير الجين رقم 25 يزرع فيك مفاتيح النبوغ الكامنة فى الصبر، تتعلّم أن تكون رقم واحد حقًا لا مجرد لقب ذاتى المنح، وأن تصمد على اختلافك المحيّر الجالب للمتاعب، تتقبَّل شرارة الموهبة التى تجعل من يقترب منك إما يأتنس بنورك أو تلسعه نارك، كما تتقبَّل الموت بصدر رحب حتى ليبدو كأنك تتحدَّاه!

مولود بمعضلة الانقباض: القلق من اللا مثالية - اهتزاز داخلى عميق من الخوف ألا يكون النغم فى رأسه موافقًا اللحن الذى سيعزفه للناس. يبدأ بالارتعاش فى داخلنا حالما نشعر بالانفصال. لا نستطيع التفكير فى طريقة للخروج منه. المعرفة العقلية لا تكفي. لذا، علينا أن نتعرف على القلق مباشرةً. وفى اللحظة التى نُدخل فيها وعينا إلى الجسد، يبدو أن القلق، وللغرابة، يتبدد.

أنفاس الموسيقى هى المفتاح. إنها تُبطئ إيقاعاته العميقة. يمكنها أن تُدخله إلى «إيقاع مهيب». إنها تسمح بمزيد من الوعى فى يومك. السماح قوي. نُدخل وعينا إلى جسدنا المادى - إلى الأحاسيس وعدم الراحة فى جسدنا، مهما كان ما يحدث. لا تُبالِ بالمشاعر أو الأفكار، فهى ستأتى لاحقًا. نحن فقط نسمح لجسدنا أن يشعر بما يشعر به. الجسد هو انقباض الوعي. والقلق هو الاهتزاز الذى يُلهم سعينا نحو المعرفة العليا.

بمجرد أن تستقر أنفاسه ويستعيد بعض استقراره الداخلي، يمكنه الشعور بمشاعرك دون أن تطغى عليها. قد نبكي، نشعر بالحزن، أو الخدر، أو الغضب، أو الخوف. لكن الآن على الأقل، أصبحنا على تواصل مع مشاعرنا. يحدث القبول عندما نتذكر قلوبنا. يُذكرنا قلبنا بأن كل شيء على ما يرام. حتى فى خضم الألم، لا يزال كل شيء على ما يرام فى أعماقنا. وهنا نبدأ باستعادة الثقة. مع القبول، يبقى الأمل حاضرًا. القبول يُتيح لنا إمكانية حدوث التحول.

وبينما نواجه جراحنا، تصبح رحلتنا أوضح وأسهل - بينما ننتقل من درب الخوف إلى درب الحب... هكذا كانت مشاعر زياد طفلًا ومراهقًا وهو يُدرك أنه يرث تركة موسيقية هائلة من أمه، فيروز، ووالده وعمه، عاصى ومنصور الرحباني.

بلا ولا شي

من أصعب الأمور على البشر تقبّل جمال الحياة. نتجاوزها بسرعة كل يوم. لكن دون وقت للتوقف، ودون الموقف الصحيح، لا نتحرر أبدًا من عقليتنا المقيّدة والمدمنة. لكن الحياة التأملية تمنحك وقتًا للجمال. إنها تسمح لبعض من الجرأة بالعودة إلى روحك - المرح، والحب، والإبداع، والطبيعة النقية.

كل هذا الحب - مُخزّن فى حمضنا النووي. الحمض النووى الذى يتسرب عبر ذاكرة الأجداد. الحب العالمى هو احتضان الجرح الجماعي. إنه الطريق إلى الدين، إلى الله. لذا، نواصل الانفتاح والقبول. وسيقودنا الطريق إلى هناك، من تلقاء نفسه. وبينما ينفتح قلبنا على تجاربنا، يمكن للعقل أخيرًا أن يتخلى عنها. وعندها، يحدث السحر فى الاحتضان. بقلب مفتوح، يمكنك أن تُشعل شرارة تحولك الخاص، وكان زياد فى زيارات الكنيسة مع أسرته يتساءل عن كل ما يراه وأيضًا يحتفظ بكل ما يسمعه، لم تكن الترانيم تؤثر فيه نفس أثرها التقليدى فى المحيطين به من شجن وتأثر ديني، بل فهم أن بها ما يربطه مباشرة بألحان السماء لا ليسمعها تدندن فى أذنيه بل يستحضرها بنفسه من أعلى عليين.

فى شبابه يخوض تجربة الحب، يتمرد على الأب والعم (رغم تأثره بهما فى البدايات كما فى سألونى الناس وقديش كان فيه ناس) ينسحب ليستمد قوته من الماضى ومن حاضره ومن فكرة مجنونة عن المستقبل- من أخطائه، ومن التاريخ. إذا لم ندع وعينا يرتاح، فكيف سنرى ما يجرى فى حياتنا حقًا؟ هذا المفتاح الجينى مليء بالحكمة الطبيعية والأسرار والاكتشافات. ومع ذلك، ما لم نعطِ الأولوية لحياتنا الداخلية، فستكون حياتنا بلا حياة، وبلا حب.. أحب كل ما هو موسيقي، انغمس فى الطرب الشعبى اللبنانى والمصري، غرق فى الجاز، ولم ينس الكلاسيكيات.

لولا فسحة الأمل

إذا كنت من الفئة التى ينتمى إليها زياد الرحبانى وينشط لديهم أثر الجين 25 ستعرف أن اليقظة الذهنية هى أن تُدخل نفسك إلى اللحظة الراهنة بهدوء. إنها ببساطة مراقبة بيئتك الداخلية والخارجية، دون توقعات أو أحكام شخصية. إنها أيضًا تتعلق بالإبداع - استغلال غنى خيالك النشط. وأخيرًا، هى أن تتذكر الاحتفال بنجاحاتك الماضية، وأن تُقدّر ما تعلمته من أخطائك.

ممارسة اليقظة الذهنية عملية تُثرى الحياة. تبدأ بالانجذاب نحو التجارب التى تُثرى روحك، بدلًا من التجارب أو الإدمانات التى تُحفز حواسك ببساطة، أو تُفرط فى تحفيزها. مع مرور الوقت، تتحول الكارما الكامنة فى حمضك النووى بشكل منهجى إلى جوهر نقي. هذا الجوهر رائع لدرجة أنك ستجد نفسك تتوق إليه أكثر. انسحب زياد بهدوء من موسيقاه الحالمة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وسمعنا صوته على إذاعة «صوت الشعب»، فى أعمال إذاعية ساخرة لاذعة، عرض من خلالها يوميات الحرب، «العقل زينة»، «بعدنا طيبين قولوا الله»، و«تابع لشى تابع لشي».

وصفته مجلة الآداب اللبنانية بأنه صائد التحولات والانكسارات بعد إخراجه مسرحيتى لولا فسحة الأمل، وبخصوص الكرامة والشعب العنيد. نعترف أن أغلبنا يتعرّف على حياته وثراء أعماله لأنه انتقل إلى رحمة الله الآن كما قضت آفة حارتنا، لكن بعضنا يتذكر مقالًا كُتب عنه فى النيويورك تايمز وصفته بما يمكن ترجمته بملك الجاز الشرقي، ذلك لأن نوع الموسيقى التى كان يقدمها لا تنتمى إلى ما سبقها من كلاسيكيات ولا هى الجاز بشكله المعروف. تخرج الآن أصوات جانبية منفرة تتهمه بأشياء عجيبة منها أنه مجرد طفل مدلل ورث المجد من فيروز فعاش فى نعيم شهرة لا يستحقها، هؤلاء يتجاهلون موسيقاه ومقالاته وما كتبه للمسرح وأخرجه وكل ذلك توقف عدة مرات بسبب ضعف الإنتاج وعدم توفر التمويل، ولا تنس أنه فى أكثر الأوقات كان يخسر الجميع لا لسبب إلا لأنه حارب الطائفية فاتفقت الأحزاب المتناحرة على كراهيته!  

 

####

 

زياد الرحبانى

شجرة أَرز وموسيقى

كتب د.عـزة بــدر

فى كلماته مشاهد من حياة الناس، وأصوات الحكى فى الباصات، وعلى هدير البوسطة، والنقلات من ضيعة إلى ضيعة، فى لحظات اللقاء: «اشتقت لك.. اشتقت لى؟»، وفى لحظات الفراق

«أنا صار لازم ودعكن .. وخبركن عنى».

وفى دعوات الرجاء: «خليك بالبيت.. الله يخليك .. خليك بالبيت».

.. لغته من نبض كلمات الناس، وحياتهم اليومية.

وتنقلنا ألحانه إلى أجواء مختلفة، وفى أبهاء أعمدته الموسيقية التى تشكلت على مهل، بموهبة فذة مزج زياد الرحبانى  موسيقى الجاز السريعة الصاخبة بالموسيقى اللبنانية، وأصوات الدبكة فى الأعراس والسهريات، كما تأثر فى بعض ألحانه بالتراث الموسيقى المصرى، بألحان سيد درويش  وزكريا أحمد، أنصت لأصوات  العاشقين، وهم يلتقون  ويتودعون.. بكلمات  سريعة أخَّاذة أضفت عليها فيروز سمتها الخاص فأصبحت لغة الحب والمحبين.

فمن اكتمال الثقة والذوبان فى الحبيب إلى نفض اليدين من قصص الحب، وكأنها ما كانت سوى قطرات مطر على جاكيت!

.. أخذنا زياد الرحبانى يمينًا ويسارًا، غرامًا وفراقًا، تولهًا وانشطارًا بكلماته وألحانه: «عندى ثقة فيك/ عندى أمل فيك/ وبيكيفيك/ شو بَدّك يعنى أكتر بعد فيك».

.. توأم لغة التلاقى بعمق بألحانه، كما توأم لغة الفراق، وكلاهما مفعم بالشجن وبرائحة الكلمات، وسحر الموسيقى. «تصْدق معاي.. أصدق، ما بتصدق.. لاتصدق!

 قصة.. مش هاى .. مش قصة هاى.. مش فارقة معاى!».

إيقاعات عصرية

.. بذائقة عشقت الشعر العربى، واللغة المحكية اللبنانية بمذاقها الخاص، وعلى إيقاعات عصرية سريعة صارت جزءًا من حياتنا اليومية، تسمعها وأنت تشطر رغيف خبزك، فتصبح ألحان زياد وكلماته قسيمة الصباح، والخبز، وقشدة اللبن، وسهراية الليل، وأنجمه.

 تميل إليه بوجدانك فقد قاسمك محبة سيد درويش، وأعاد توزيع موسيقاه فى أغنية «أهو ده اللى صار»، وشدت بها فيروز وقاسمك الإعجاب بزكريا أحمد.. فكان دائما يذكره ويقول: «الريس زكريا».

.. شيء ما عفوى لكنه رصين، يتردد صداه فى خيالى ما بين لغة الزهور «شوف الزهور واتعلم.. شوف .. شوف .. شوف وأتعلم».

 من ألحان زكريا أحمد، وبين «بعت لك يا حبيب الروح.. بعت لك روحي/ وقلت لك: ما دام هتروح خد معاك روحى / بعت لك .. بعت لك.. بعت لك روحي»

من كلمات وألحان زياد.

.. ربما ترجيع الكلمات، ترددها، وعمق اللحن، والقفلات التى تُفتِّح فى وجدانى أكمام الورد، وأشواق الروح.

.. ومن لغة الزهور فى ألحان زكريا أحمد إلى لغة العيون فى ألحان وكلمات زياد، تلك النظرة العالقة بعينين نجلاوين فى وسط الزحام، فى باص صباحى مزدحم، الوصف القصصى، والنظرة التى لا تخطئ جمال العيون.

«نحنا كنا طالعين بها لثوب وفطسانين/ واحد عم ياكل خس/ وواحد عم ياكل تين / وفى واحد هو ومرتو/ ينالن ما أفضى بالُن/ ركاب تنورين/ مش عارفين عيونك يا عليا شو حلوين».

... نقل زياد كلماته وألحانه إلى مستمعيه كما ينقل العصفور فى فمه إلى عشه فرع نعناع جَرَّده من أوراقه، وظل عطره فى الرائحة.. فمرة يغمسها فى الشجن «صباح ومسا/ شي ما بيتنسى/ تركت الحب وأخدت الأسى».

ومرة ينقلها كرنات عُود.. تصحبها أنغام كالطلقات، «عودك رنّان .. رنة عودك إليّ/ عيدها كمان /ضلك عيد يا عَلي/ سَمّعنى العود ع العالى /عيدها كمان».

فإذا انتقلت مع زياد من مقام الشجن إلى مقام الفرح، فقد وثقت بموسيقاه، تحملك إلى عوالم مختلفة، تجسد لحظات يومك، تواسيك، وتربت على كتفك، أيًا ما كانت لغتك، فالموسيقى لغة كافية لعقد أواصر الصداقة بين الفهم العميق لمعانى الكلمات، والإدارك الكامل لتمام اللحن، وسحر الموسيقى.

 .. وما وجدت أغنية تّعبّر فى كلماتها ولحنها عن حيرة الفرد واغترابه مثل أغنية «شى عم بيصير»، امرأة تحكى، فرحانة بالحب لكنها خائفة من شيء ما، قاسٍ وقريب يشبه النبوءة فتصور الكلمات قلقها، وتتوجس الموسيقى مع خفقات قلبها، وتسارع نبضها: «بتمرق عليَّ كتير وبتخصنى بعرف ها القصص / حافظة ها القصص/ كل اللى قلته حلو / ومع إنه حلو /ليش بيضلوا إحساسى يقولى لأ/ فى شى بَدّه يصير/ فى شى عم بيصير».

لحظة اكتشاف 

عندما صدر ألبوم «كيفك أنت» عام 1991، كانت امرأة بداخل كل امرأة تحدث نفسها، تستعيد قصة حب قديمة، تضع المرآة على المرآة لترى نفسها أكثر، تباعدها وتقربها لترى هل المرأة الأولى فيها هى نفسها المرأة الأخيرة؟! تتساءل هل يمكن استعادة لحظة حب مضت، أو لحظة غضب ذهبت إلى حالها، ذكرى تعود قوية بهذا الشكل على أجنحة الموسيقى «بيطلع ع بالى إرجع أنا وياك / إنت حلالى إرجع أنا وياك/ أنا وأنت مَلا إنت / بتذكر آخر مرة شو قلتلي/ بَدّك ضَلى بَدّك فيكى تفلي/ زعلت بوقتها وما حللتها / إنو إنت هيدا إنت / بترجع ع راسى رغم العيال والناس / إنت الأساسى وبحبك بالأساس».

.. لحظة اكتشاف امرأة لحقيقة حبها، وما فعلته قسوة الفراق، وهتافها بالحب، وحقيقة إحساسها الداخلى «إنت الأساسى وبحبك بالأساس».

.. هذه اللحظة نفسها كانت لحظة اكتشاف شخصية وجماعية كما يقول «نديم قطيش» فيصف اللحظة التى أذيعت فيها الأغنية فيقول: «كان لبنان يستعد لدخول سلم مُلتبس، بعد حروب أهلية وغير أهلية طحنت «لبنان الفيروزي» وهو ما جعل الأغنية بمناخات الجاز الشرقى التى انطوى عليها سؤال شخصي وعام مفخخ بالأنا والنحن والأم والابن، والبلد والمدينة، عذوبة حارقة بلا استعراضات صوتية، هامش شخصى جدا جعل صوت فيروز يبدو كأنه يغنى للمرة الأولى من الداخل».

محطات عديدة فى حياة زياد جعلت منه هذا الاسم المضيء فى عالم الموسيقى والمسرح، بل والغناء، والتمثيل، والشعر، والكتابة الصحفية، فقد بدأ حياته الموسيقية بألحان أغنية «سألونى الناس عنك يا حبيبي»، لتغنيها فيروز بعد مرض والده عاصى الرحبانى، وعدم حضوره مسرحية «المحطة» فلحَّن زياد الأغنية التى تميزت بطابعه الموسيقى الخاص والذى شجع فيروز على التعاون معه فنيًا، فرافق صوتها ألحانه على مدى ست وعشرين أغنية منها: «بتذكرك بالخريف»، و«ما شورت حالي»، و«قصة صغيرة»، و«هدير البوسطة»، و«إلى عاصي»، و«إيه فى أمل»، و«بعت لك روحي»، و«أنا فزعانة» وغيرها

 شارك والدته فيروز فى أكثر من حفل غنائى إلا أنه عندما شاركها الغناء لثلاث ليالٍ فى مهرجان «بيت الدين» عام 2000 وصفت الليلة الأخيرة من المهرجان بأنها ليلة العمر

 ومهرجان بيت الدين هو مهرجان صيفى سنوى يقام فى قصر « بيت الدين» فى لبنان، تم إطلاقه وسط أجواء الحرب فى الثمانينيات، وانطلق إيمانًا بخصوصية لبنان الثقافية، وقوة الإبداع والحرية الفنية.

 كانت دعوة للحياة الطبيعية وسط فوضى الحرب الأهلية وقد شاركت فيروز، وزياد فى هذا المهرجان بقوة ولعديد من الحفلات

ومنذ هذا التاريخ كان لزياد إسهاماته العديدة فى الحياة الثقافية اللبنانية، فبرزت إبداعاته فى عالم الموسيقى، والمسرح العربى الحديث، ومن أبرز مسرحياته فى هذه المرحلة مسرحية «فيلم أمريكى طويل» عام 1980، وتدور أحداثها حول الواقع العبثى فى ظل الحرب

 وفى عام 1983 قدم مسرحية

 «شى فاشل»، والتى انتقدت النظام التعليمى، والفساد الإداري.

وتميزت مسرحياته بروح النقد الاجتماعى، والسياسى، وخاصة فى مسرحيتيه «بخصوص الكرامة والشعب العنيد » عام 1993، و«لولا فسحة الأمل» عام 1994، وقدم زياد أيضا بصوته الخاص مجموعة من الأغانى التى لاقت اهتماماً كبيرًا مثل «اسمع يا رضا»، و«بما إنو»، إلى جانب ألبومه «هدوء نسبي» الذى يراه النقاد تجربة استثنائية فى المزج بين موسيقى الجاز والطابع الشرقى

أسلوب لحنى 

تعاون زياد مع العديد من الشعراء فلحَّن قصائد لجوزيف حرب، وغنتها فيروز وهى: «حبيتك تنسيت النوم»، و«فيكن تنسوا»، و«أنا عندى حنين».

 كما لحَّن أغنية «جبل الشيخ» من كلمات سعيد عقل، و«وحدهن بيبقو» لطلال حيدر، وبالطبع لحَّن زياد من كلمات الرحبانية ومن أبرز هذه الأغنيات أغنية «قديش فيه ناس» والتى وصف د. محمد الشيخ ألحانها فى كتابه «فيروز وسيسيولوجية الإبداع عند الرحبانية من 1960-1980» فقال: «وكأن هذه الكلمات لا يمكن أن تُسمع إلا بهذا الأسلوب اللحنى، والأدائي، الذى أضاف إمكانيات هائلة فى التعبير عن الصورة الغنائية بشتى التقنيات الأدائية، والصوتية، والحسية، بلحن موح صاغه زياد فى مقام «رى ماجير» بشكل رومانسى مُعطر بالشجن، وبجملة لحنية خُصِّصت لآلة البيانو، كما استخدم الوتريات بشكل رائع».

 ويأتى وصف عاصى الرحبانى لابنه زياد، وما يتمتع به فنه من ابتكار وتجديد فيقول: «زياد هو فعلا ابن العائلة الرحبانية، وقد انطلق منها زياد، لا يكون رحبانيًا إذا لم يكوِّن عوالمه الخاصة، وشخصيته المميزة».

.. ويذكر موقع السينما . كوم أن زياد قد أسهم أيضا فى مجال الموسيقى التصويرية لبعض الأفلام مثل فيلم «نهلة» لفاروق بلوفة عام 1979، وفيلم «وقائع العام المقبل» لسمير ذكري عام 1985، و«متحضرات» لرندة الشهال 1999 و«طيارة من ورق» لرندة الشهال أيضًا عام 2003، و«ظلال الصمت» لعبدالله المحسن عام 2006.

 كما شارك زياد فى التمثيل فى فيلم «نهلة» وفيلم «طيارة من ورق».

 أما على المسرح فكان أول ظهور له فى مسرحية «المحطة»، كما قام بالتمثيل فى مسرحية «ميس الريم» حيث قدم مشهدًا حواريًا موسيقيًا مع فيروز، كما قام بتأليف موسيقى مقدمة تلك المسرحية والتى كشفت عن لمساته المجددة والمبتكرة.

... وقد أحب زياد الصحافة أيضا فكتب فى أكثر من جريدة لبنانية منها

«النداء»، و«النهار»، و«الأخبار»، وهى الجريدة التى كان له فيها عمود بعنوان «مانيفستو».

 كما كانت له عدة برامج إذاعية تُبث من إذاعة صوت الشعب فى لبنان ومنها

«ياه ما أحلاكم»، و«العقل زينة» وغيرهما.

.. من هذ ا الرحيق المعطَّر بالشعر، والموسيقى، والغناء، والتمثيل، والتلحين، والصحافة.. كان لزياد هذا الحضور فى الثقافة اللبنانية والعربية.

 وقد مُنِح اسم الراحل رياد الرحبانى وسام الأرز الوطنى من رتبة «كومندور».

.. سيظل زياد حاضرًا فى القلوب شجرة أرز وارفة المعنى، مفعمة بعطر الكلمة والموسيقى.

 

صباح الخير المصرية في

13.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004