منذ بدايتها الأولى، كانت منة شلبي حالة خاصة في السينما
المصرية، ممثلة شابة دخلت إلى الشاشة محمّلة بصدق غير متكلف، وموهبة فطرية
لفتت الأنظار سريعاً، ثم مضت في رحلة طويلة أثبتت خلالها أنها ليست مجرد
وجه جميل، بل قوة فنية قادرة على أن تضع بصمتها في كل ما تقدمه.
ولعل اللافت في مسيرة منة شلبي، التي يكرمها مهرجان الجونة
في دورته الجديدة بعد عام من تكريم مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول حوض
البحر المتوسط لها، أنها لم تعتمد على شهرة سريعة أو أدوار متشابهة، بل بنت
اسمها خطوة خطوة، اختارت أدوارًا صعبة، وخاضت مغامرات فنية لم يتجرأ عليها
كثيرون من جيلها، حتى أصبحت اليوم واحدة من أكثر الممثلات تأثيرًا في
السينما المصرية والعربية.
ولدت منة شلبي في بيت يحمل الفن في تفاصيله، فقد تربت على
يد والدتها الفنانة المعتزلة زيزي مصطفى التي منحتها الكثير من الدعم منذ
الصغر، ورأت فيها موهبة تحتاج إلى رعاية وتشجيع، ومنذ طفولتها الأولى،
انجذبت منة إلى الأضواء، لا بمعنى الشهرة وحدها، بل بما تمثله الكاميرا من
مساحة للتعبير واللعب والتجريب، ومن هنا كان الطريق إلى التمثيل بالنسبة
لها طبيعيًا، كأنها كانت تسير نحوه دون أن تخطط لذلك.
لم يكن دخول منة شلبي إلى السينما مخططًا له بقدر ما كان
ثمرة صدفة سعيدة، وهي طالبة في معهد الفنون المسرحية سمعت أن المخرج الشاب
وقتها خالد يوسف يبحث عن وجوه جديدة لفيلمه الأول «العاصفة» عام 2000، ذهبت
إلى الاختبار في شركة مصر للأفلام العالمية، وحصلت على فرصة صغيرة ككومبارس
متكلم بمشهدين، وشاركت مع سميحة أيوب في مسلسل «سلمى يا سلامة» لتبدأ أولى
خطواتها الفنية.
جاء التحول الحقيقي حين وقفت أمام محمود عبد العزيز في فيلم
«الساحر»
(2001).
لم يكن الدور كبيرًا، لكنه أخرج كل ما لديها من صدق وعفوية، فخطفت الكاميرا
ببراءتها وجرأتها في آن واحد. هناك أدرك النقاد والجمهور أن وجهًا جديدًا
يطل على السينما المصرية، وجهًا مختلفًا لا يعتمد على جمال المظهر وحده، بل
على حضور قوي وإحساس طاغٍ بالشخصية. يمكن القول إن «الساحر» كان الميلاد
الحقيقي لمنة شلبي كممثلة، إذ فتح لها أبوابًا أوسع ولفت أنظار المخرجين
إليها لتبدأ مرحلة جديدة من أدوار البطولة والصعود السريع.
منذ تلك اللحظة، كان واضحًا أن منة شلبي لا تنوي أن تكتفي
بأدوار تقليدية، بل أرادت أن تختبر نفسها في كل تجربة، لذلك نراها تتأرجح
بين أدوار رومانسية رقيقة في أفلام مثل «عن العشق والهوى»، وتجارب جريئة
وغير مألوفة مثل «بحب السيما»، إلى جانب أدوار إنسانية عميقة في أفلام مثل
«نوارة» الذي شكّل علامة فارقة في مسيرتها. هذه المرونة في التنقل بين
الألوان المختلفة من الأدوار جعلتها واحدة من أكثر الممثلات تنوعاً،
وأكسبتها احترام النقاد والجمهور معا.
لكن وراء كل نجاح كان هناك جهد ومعاناة وتجارب شكلت شخصيتها
الفنية، ففي كثير من الأحيان، وجدت منة نفسها أمام تحديات تتعلق بالصورة
النمطية للمرأة في السينما المصرية، وكيفية تجاوزها، فكانت تبحث دائمًا عن
شخصية غير عادية، امرأة تحمل أبعادًا إنسانية مركبة، لا مجرد دور مكمّل
للبطل أو واجهة جمالية للفيلم، وقد عبّرت في أكثر من مناسبة عن رفضها
للأدوار السطحية، مؤكدة أنها تريد أن تقدم ما يترك أثرًا في الجمهور، حتى
وإن كان ذلك يعني المجازفة بمشاريع غير مأمونة النجاح.
واحدة من السمات التي جعلت منة شلبي مختلفة هي قدرتها على
التوحد مع شخصياتها، وفي رصيدها اليوم أكثر من ستين فيلمًا، تنقلت خلالها
بين أنماط شديدة الاختلاف، وكأنها قررت منذ البداية ألا تقع في فخ التكرار،
فمن يشاهدها في فيلم «بحب السيما» يرى شابة تمثل جيلًا متمردًا يبحث عن
ذاته وسط عائلة متشددة، لتكشف عن موهبة قادرة على ملامسة المحظور من دون
ابتذال، ثم تأتي بعد سنوات قليلة لتظهر في «عن العشق والهوى»، حيث قدمت دور
الحبيبة الرقيقة التي تعيش صراعًا بين مشاعرها والقيود الاجتماعية، فبدا
أداؤها مفعمًا بالعاطفة الصادقة التي جعلت الجمهور يتعاطف معها بلا تحفظ.
ولم يكن فيلم «ويجا» مجرد تجربة رعب شبابية عابرة، بل محطة
أثبتت فيها منة أنها قادرة على قيادة شريط جماهيري يحقق نجاحًا تجاريًا
واسعًا، من دون أن تفقد صدقها الفني، أما في «أحلى الأوقات»، فقد جمعتها
الكاميرا مع حنان ترك وهند صبري، وكان الثلاثي بمثابة صوت لجيل كامل من
الفتيات اللواتي يعشن التحولات الاجتماعية في بداية الألفية الجديدة.
في «هي فوضى» كسرت منة الحاجز مجددًا، إذ واجهت مع يوسف
شاهين وخالد يوسف أكثر القضايا حساسية في المجتمع المصري، فساد الشرطة،
شخصية المعلمة التي لا تخشى قول الحق، والتي تتعرض للظلم والتهديد، قدمتها
بجرأة جعلت الدور محفورًا في ذاكرة السينما السياسية المصرية.
أما «بيبو وبشير»، فكان تجربة خفيفة ظاهريًا لكنها حملت
بعدًا إنسانيًا عن التعايش بين ثقافات مختلفة داخل مصر، وأثبتت أن منة
قادرة أيضاً على الكوميديا الرومانسية، وفي «إذاعة حب» و«كلم ماما»، أظهرت
جانبها الكوميدي العفوي، لتؤكد أن خفتها أمام الكاميرا لا تقل قوة عن
طاقتها الدرامية.
جاء فيلم «بنات وسط البلد» مع المخرج الكبير محمد
خان ليضع
منة في سياق مختلف تمامًا، ففي هذا العمل، تحولت من فتاة صاخبة في «كلم
ماما» إلى شابة تواجه قسوة المدينة، بكل ما تحمله من أحلام مؤجلة وخيبات
متراكمة، اختار خان أن يصور القاهرة بعيون بناته، ومن بينهن منة، ليجعلها
وجهًا معبرًا عن جيل كامل من الفتيات اللاتي وجدن أنفسهن في مواجهة مجتمع
يتغير بسرعة أكبر من قدرتهن على استيعابه، فكان الفيلم شهادة ميلاد فنية
ثانية لها، رسّخت صورتها كابنة صادقة للمدينة، تحمل براءة وقلقًا في آن
واحد.
لكن قمة النضج الفني جاءت مع «نوارة»، حيث جسدت شخصية
الخادمة البسيطة التي تعيش أمل التغيير بعد ثورة يناير، ثم تصطدم بالواقع
المرير، فأداؤها في هذا الفيلم لم يكن تمثيلًا بالمعنى التقليدي، بل معايشة
كاملة لشخصية «نوارة»، حتى بدت كأنها خرجت من قلب الحارة المصرية، الفيلم
أعطاها مساحة لتفجر كل طاقاتها، وحصدت عنه جوائز دولية أكدت مكانتها كأفضل
ممثلة في جيلها.
وفي «الأصليين»، تعاونت منة مع مروان حامد في تجربة بصرية
وفكرية غير تقليدية، حيث لعبت دورًا غامضًا مليئًا بالرمزية، وأظهرت قدرة
على التعمق في النصوص التي تحتمل أكثر من قراءة، ولا يمكن إغفال دورها في
«تراب الماس»، المأخوذ عن رواية أحمد مراد، حيث قدمت شخصية مركبة تتحرك بين
خطوط التشويق والجريمة، وقدمتها بوعي كامل بتفاصيل الشخصية الداخلية.
وشكّل التعاون بين منة شلبي وأحمد حلمي واحدًا من أبرز
المحطات في مسيرتها السينمائية، ليس فقط بسبب النجاح الجماهيري الكبير
للأفلام التي جمعتهما، بل أيضاً لما أظهرته هذه الأعمال من انسجام فني
وقدرة على خلق كيمياء خاصة على الشاشة. فمنذ ظهورهما الأول معًا، بدا أن
هناك تناغمًا فطريًا بينهما، جعل المشاهد يصدق العلاقة بين الشخصيات التي
يقدمانها، سواء في إطار كوميدي أو درامي.
يُعد فيلم «كده رضا» (2007) علامة بارزة في هذا التعاون، إذ
لعب حلمي دور ثلاثة توائم، بينما قدمت منة شخصية البطلة التي تدخل حياتهم
لتكشف عن صراع نفسي واجتماعي معقد. في هذا العمل، أثبتت منة أنها قادرة على
الوقوف أمام ممثل يملك حضوراً طاغياً وكاريزما جماهيرية، وأنها ليست مجرد
ظل للبطل، بل طرف مكمل للمعادلة الدرامية. وبفضل أدائها الطبيعي وحضورها
الصادق، تحولت منة إلى عنصر أساسي في نجاح الفيلم الذي يُعد من كلاسيكيات
الكوميديا الحديثة في السينما المصرية.
بعدها جاء فيلم «آسف على الإزعاج» (2008)، ليأخذ التعاون
بينهما إلى مستوى أعمق. هذه المرة لم يكن العمل كوميديًا خالصًا، بل مزيجًا
من الدراما النفسية والكوميديا السوداء. لعبت منة دورًا حساسًا في قصة شاب
يعاني اضطرابًا نفسيًا معقدًا، وجسدت شخصية صارت بمثابة المرآة التي تكشف
هشاشة حلمي الداخلية. في هذا الفيلم تحديدًا، أظهرت منة نضجًا فنيًا
ملحوظًا، إذ جمعت بين الرقة والقوة، لتمنح الشخصية بعدًا إنسانيًا يتجاوز
حدود الحكاية السينمائية. لقد أثبتت أنها لا تقل قيمة عن حلمي في قدرته على
لمس وجدان الجمهور، وأنها شريكة حقيقية في النجاح الفني.
في فيلم «خيال مآتة» (2019)، ورغم أن مساحة مشاركة منة شلبي
بدت محدودة مقارنة بتجاربها السابقة مع أحمد حلمي، فإن حضورها أضفى على
العمل لمسة خاصة ساعدت في تحقيق التوازن داخل الحكاية، ظهورها كان بمثابة
عامل دعم درامي للشخصية الرئيسية، حيث أدت دورًا موجزًا لكنه مكثفًا، يؤكد
قدرتها على ترك بصمة حتى في المشاهد القليلة.
ما يحسب للفيلم أيضًا أنه حافظ على روح الكوميديا التي
أحبها الجمهور في الثنائي، لكنه قدّمها في قالب مختلف، أكثر ميلًا إلى
المزج بين المغامرة والخيال. وهنا، برزت مرونة منة شلبي كممثلة لا تتردد في
خوض تجارب متنوعة، حتى لو كانت في أطر غير تقليدية أو بأدوار ليست بطولة
مطلقة. لقد أظهرت أن قيمة الممثل ليست دائمًا في حجم الدور، بل في أثر
الحضور.
وتُعد تجربة «شوكة وسكينة» من العلامات اللافتة في مسيرة
منة شلبي، لأنها خاضت من خلالها مغامرة غير معتادة بالنسبة لنجمة في
مكانتها، وهي بطولة فيلم قصير في وقت كانت قد رسخت فيه حضورها كواحدة من
أهم نجمات السينما والدراما في جيلها، هذه الخطوة أكدت أن منة ليست أسيرة
لمعادلة النجومية التقليدية، بل فنانة تبحث عن التحدي واختبار أدواتها في
مساحات مختلفة، حتى لو كانت محدودة زمنيًا، وبمشاركتها في العمل مع آسر
ياسين، أثبتت أن قيمة التجربة الفنية تكمن في جرأتها وصدقها، لا في طول
الفيلم أو حجم إنتاجه.
أهمية «شوكة وسكينة» في مسيرة منة شلبي أنها أبرزت جانبها
التجريبي، ووضعتها في مواجهة مباشرة مع تحدي النص المكثف والحوارات القليلة
التي تتطلب أداءً متماسكًا ودقيقًا، فقدمت شخصية غامرة بالتفاصيل الإنسانية
الصغيرة، ما جعل الفيلم، رغم قصر مدته، يترك أثرًا كبيرًا في ذاكرة من
شاهده. نادرًا ما تقبل نجمة في مكانتها أن تخوض مغامرة من هذا النوع، لكن
منة أظهرت أنها فنانة لا تنظر إلى حجم العمل بقدر ما تهتم بقيمته، وهو ما
جعل «شوكة وسكينة» تجربة خاصة تضيء جانبًا مختلفًا من مسيرتها المتنوعة.
ويُعد فيلم
«الهوى
سلطان»
محطة مميزة في مسيرة منة شلبي، إذ جمع بين حضورها الفني العفوي وبين رغبتها
في خوض تجارب غير مألوفة، شخصية «سارة» التي جسدتها بدت للوهلة الأولى
بسيطة وعادية، امرأة من الطبقة الوسطى تقضي أيامها بين عمل روتيني وذكريات
شكلتها الأغاني والمسلسلات الكلاسيكية، لكنها في العمق حملت انعكاساً لجيل
كامل يعيش حالة من الرضا الظاهري والركود الداخلي. ما ميّز أداء منة شلبي
أنها حولت هذه الاعتيادية إلى قوة درامية، وجعلت المشاهد يراها في تفاصيله
اليومية من دون أي افتعال.
الفيلم لم ينجح فنيًا فقط، بل حقق أيضًا إيرادات كبيرة في
شباك التذاكر، وهو ما رسّخ مكانة منة شلبي كنجمة قادرة على الجمع بين
التقدير النقدي والجاذبية الجماهيرية. وفي سياق مسيرتها، جاء «الهوى سلطان»
ليعيد التأكيد على مرونتها كممثلة تتنقل بين الأدوار بخفة وذكاء، ويبرهن
على قدرتها على أن تكون ابنة صادقة للطبقة الوسطى، تنقل هواجسها وأحلامها
المعلقة على الشاشة. بهذا الدور، لم تقدّم منة قصة رومانسية تقليدية فحسب،
بل منحت جمهورها تجربة إنسانية حميمة، عززت صورتها كنجمة تبحث دائمًا عن
المختلف وتضيف إلى رصيدها الفني بصمة جديدة.
في الدراما التلفزيونية أثبتت أنها لا تقل حضورًا، فقدمت
«حارة اليهود» بجدية أثارت إعجاب النقاد، و«واحة الغروب» حيث بدت في شخصية
مركبة شديدة العمق، ثم «في كل أسبوع يوم جمعة» الذي وضعها في موقع عالمي
بترشحها لجوائز الإيمي الدولية، لتكون أول ممثلة مصرية تصل إلى هذه
المكانة. هذا الترشيح لم يكن مجرد تكريم فردي، بل كان اعترافا بقدرة
الممثلة المصرية والعربية على المنافسة في أرفع المحافل العالمية.
إلى جانب موهبتها، هناك جانب آخر في شخصية منة شلبي ساعدها
على التميز، وهو تواضعها وصدقها الإنساني. فهي لم تسع يوماً وراء الأضواء
لأجل الأضواء، بل كانت تدرك أن الشهرة الحقيقية تأتي من الأعمال التي تبقى،
لا من الضجة الإعلامية العابرة. لذلك ظلت علاقتها بالصحافة والإعلام
متوازنة، بعيدة عن الفضائح أو السعي وراء الظهور الدائم.
جوائزها وتكريماتها العديدة لم تكن مجرد أوسمة على جدار، بل
كانت انعكاسًا لمسيرة طويلة من الاختيارات الصعبة، فقد حصلت على تكريمات من
مهرجانات عربية ودولية، واعتبرها النقاد ممثلة جيلها الأولى، وهو تقدير لم
يأت من فراغ، بل من تراكم أدوار صنعت ذاكرة خاصة لدى الجمهور.
اليوم، وبعد أكثر من عقدين في عالم الفن، تبدو منة شلبي في
موقع خاص جدًا، فهي ليست مجرد ممثلة شابة صعدت بسرعة، ولا مجرد نجمة اعتادت
على تكرار نفسها، بل فنانة صنعت مسيرة متفردة، مزجت فيها بين الجرأة
والموهبة والصدق. ومن خلال هذه المسيرة، أصبحت رمزًا لجيل جديد من الممثلات
اللواتي لا يخشين مواجهة التحديات، ولا يكتفين بالنجاح التجاري وحده، بل
يسعين وراء الفن الحقيقي.
ربما يمكن القول إن سر منة شلبي يكمن في تلك القدرة على أن
تكون قريبة من الناس، هي لا تؤدي أدوارًا فحسب، بل تعيشها بصدق، حتى يظن
المشاهد أنها تنقل له شيئاً من حياتها الخاصة، وفي ذلك يكمن سحرها، إذ تجعل
الجمهور يصدقها في كل مرة، سواء كانت تجسد امرأة عاشقة، أو مقهورة، أو
ثائرة، أو حالمة. |