من بين 9 أفلام عربية مشاركة هذا العام في الدورة الماسية لمهرجان
برلين السينمائي (13-24
فبراير)، تقدم المخرجة الفلسطينية عريب زعيتر، تجربتها الوثائقية الطويلة
"يلا باركور" بعدما اُفتتح الفيلم عالمياً في مهرجان نيويورك للأفلام
الوثائقية نوفمبر الماضي، ثم عربياً في الدورة الخامسة لمهرجان البحر
الأحمر السينمائي في ديسمبر.
ويشهد قسم البانوراما في برلين 2025، عرضه الأوروبي الأول،
وهو أحد أهم أقسام المهرجان بعد المسابقة الدولية.
الفيلم مدعوم من عدة جهات، منها مهرجان مالمو، ومؤسسة
الدوحة للأفلام، بالإضافة إلى مؤسسة البحر الأحمر، حيث يعرض في برينالة 75،
بجانب تجربة "يونان" المدعوم من صندوق البحر الأحمر وسوق البحر الأحمر في
المسابقة الرسمية، وكذلك فيلمان مدعومان من صندوق البحر الأحمر ولودج البحر
الأحمر، هما "المستعمرة" و"الشمس ترى كل شيء" ضمن أقسام "وجهات نظر"
للأفلام الأولى، و"سوق الإنتاج المشترك".
رسالة طويلة إلى الأم
ينتمي
"يلا باركور" إلى ما يمكن أن نطلق عليه تسجيلية المعايشة، فالفيلم الذي
يبدأ مع صوت المخرجة، وهي تجلس وسط صور أمها في حديث أشبه برسالة طويلة
تبوح لها فيها عن هواجسها، فيما يخص الذاكرة والمدينة الجدلية البعيدة
والحاضرة في خواطرها، يعود بنا إلى عامي 2015 و2016، أي قبل نحو عشر سنوات،
عندما بدأت عريب في التواصل مع أحمد مطر، لاعب الباركور المراهق آنذاك،
والذي امتدت علاقتهما لما يقرب عقد كامل، مانحة كل منهما زاوية للخوض في
مغبات الأسئلة المعلقة في رقبة واقع محلي ودولي مرتبك وشائك وغير مفهوم،
واقع يخص مدينة لا تشبه أي مدينة أخرى في العالم. غزة!.
تعتبر تسجيلية المعايشة واحدة من أكثر أنواع الفيلم
الوثائقي المكتنزة بالوقت والأسئلة، يستمر فيها التصاق المخرج بموضوعه أو
رؤيته للعالم من زاوية شخص أو حكاية، لمدة زمنية لا يعلم متى تنتهي، بعد
شهر أو بعد سنين.
تشبه المعايشة لوحة -كتلك التي نرى عريب ترسمها على نافذة
منزلها الأميركي حيث تقيم- يضاف لها لون أو رتوش أو خطوط جديدة كلما تراكمت
الاحتكاكات، أو أفرز الواقع والحياة المزيد من الحكايات والمنحنيات
الوجودية غير المتوقعة.
من بين هياكل السرد العديدة في التجارب السينمائية تسجيلية
كانت أو روائية، ثمة هيكل يعتمد على أن يخوض صوت السرد في الحكي إلى شخص
ما، لا يحكي للمتلقي الجالس خلف الشاشة، بل لشخص يجلس خلف ذاكرته، هذا
الهيكل السردي تختاره زعيتر انطلاقاً من أزمتها الشخصية، أو كما تلوح بها
في بداية الفيلم في الحديث عن لهجتها الفلسطينية، والتي كانت محط سخرية من
أقارب أبويها في مدينة نابلس، لأنها لا تشبه لهجتهم الأصلية، بل لهجة
مغتربة اكتسبتها من عيشتها الطويلة في الشتات المربك.
تقرر عريب أن تحكي لأمها المبتسمة في ألبومات الصور
العائلية عن شخص لا تعرفه الأم، لكن يربط بينها وبينه عنصرين أساسيين،
تستخلصهما عريب من صدفة عثورها على فيديوهات الشاب التي يصور فيها نفسه
ومجموعته من لاعبي الباركور الشبان في المدينة المحاصرة، الذاكرة والشاطئ
البعيد.
تختصر عريب في البداية كيفية عثورها عليه، عقب الافتتاحية
التي تلخص فيها غربتها واغترابها، بتصويرها لأركان منزلها الأميركي
والحديقة الثلجية التي يطل عليها -رمز لسؤال الغربة الباردة- تنتقل إلى
مكالمتها الأولى معه عبر "سكايب"، وبداية تعارفهما الذي سوف يؤطر لها
أسلوبية المعايشة الطويلة، التي سوف تصبح شكل تجربتها في خلط ما يخص أزمتها
الشخصية أو سؤال الشتات اللاإرادي مع أسئلة الخروج والهرب التي تؤرق الشاب
الصغير.
جغرافيا الحطام
على الفيديوهات القصيرة التي يصورها أحمد من غزة ويرسلها
لعريب تبدأ علاقتهما الأثيرية الشفافة، نشاهد أحمد وهو يمارس الباركور
متدرباً على شاطئ غزة الرملي، نفس الشاطئ الذي يحمل لعريب ذكرى ابتسامة
أمها التي تتنسم حضورها، عبر استدعاء حكاية زفاف خالها هناك قبل سنوات.
تتقاطع مشاهد التدريب على القفز فوق الرمال مع ذكريات عريب
القليلة عن المكان، الباركور هو رياضة القفز فوق الأسطح العالية وما بين
المباني والأعمدة، هكذا يبدو أحمد في مستوى ما من المجاز في الفيلم هو نفسه
عريب، أو قناعها السردي الذي ترتديه كي تحكي حكايتها هي الخاصة المتشابكة،
والمشتبكة مع قصة أحمد رغم تناقضهما الظاهري.
في أكثر من موضع، يتأرجح سؤال مجازي مهم: هل يمكن أن نتبادل
الأماكن؟ تسأله عريب تارة، ويسأله أحمد تارة! هذا السؤال يعكس أزمة عريب
الداخلية في الحكاية، ويؤطر مخاوف أحمد عن ماهية الحلم المنتظر، انطلاقاً
من تدريباته على الباركور، هل الخروج من غزة هروب أم نجاة؟ وبالنظر إلى وجه
عريب المنعكس على شاشة اللاب توب حين تشاهد فيديوهات أحمد يمكن أن نرى
انعكاس السؤال عليها: هل أنا مغتربة أم هاربة؟.
تكرر عريب اللقطة كأنها لازمة بصرية -انعكاس صورتها على
الفيديوهات- وتبدو في مستواها المجازي وكأنها تتماهى مع أحمد وفريقه، تسافر
أثيريا إليهم، إلى غزة، حيث تراقب نشاطهم المفعم بأمل مستحيل.
تستعرض لنا فيديوهات أحمد ليس فقط عبر شاشة اللاب توب، بل
بالانتقال المباشر إلى هناك، وما يفترض أنه ركام الحروب المتتالية على
المدينة المحاصرة، يتحول إلى هياكل نابضة بالحياة والقفزات، حين تدب عليها
أقدام الشباب، وكأنهم يعيدون تشكيل جغرافيا الحطام التي خلفتها قنابل
السجان الدموي، أو على حد صوت عريب "هالشباب حولوا كل مكان في غزة لساحة
لعب".
تتمكن عريب من الربط بين غزة والأم الغائبة المفتقدة، عبر
تتابع اللقطات الذي ينتقل من مشاهد الفيديوهات المصورة إلى صور الأم،
عيناها، ابتسامتها التي توحي بأن ما تحكي عنه عريب يصلها حيث هي، الابتسامة
التي صارت جزءاً من بوصلة السرد بالنسبة لعريب، فكلما عرضت جانب من
فيديوهات الشباب، انتقلت إلى الأم تسألها هل يروقها الأمر؟، وهل استطاع
هؤلاء الشبان أن يبثوا النبض في عروق المدينة التي لا تخلو من دماء جديدة
مهما أريق منها؟.
المدينة التي ستظل
يمكن اعتبار الفيلم في سياق ما بعد 7 أكتوبر وثيقة بصرية عن
المدينة التي حاولوا أن يحطموها، المدينة التي كانت، وستظل تعود كما كانت
في كل مرة.
تقف المخرجة أمام شاشة كبيرة تعرض لقطات من الدمار الجحيمي
للمدينة التي لا تموت، تقف مثل شبح -مظلل- كأنها هناك وبعيدة في الوقت
نفسه، وقفتها توحي بالعجز والرغبة في أن تفعل شيئاً أكثر من مجرد المشاهدة!
فتعود إلى فيلمها، والمواد المصورة التي يمدها بها صديقها الشاب. كأن العمل
على الفيلم يعيد ترميم المدينة، أو على الأقل يحول دون محوها بالكامل!.
يأتي سرد الفيلم بصوت عريب وهي تحكي مع طيف أمها ونحن نتابع
هذا الحديث من طرف واحد، ولكن هناك صوت آخر مهم جداً وجزء أساسي من
الحكاية، صوت أحمد مطر، الصوت الذي تتركه عريب يبوح بحيرته تاركاً الأسئلة
تطفو فوق كل الأسطح التي يقفز بينها، أو فوق سطح البحر الذي نراه جزءاً من
حيرته أو مجازاً لها.
عندما يتمكن أحمد من الحصول على دعوة للسفر إلى أوروبا من
أجل أن يغادر كما فعل أصحابه من قبل، وبعد أن يظل ليوم كامل أمام المعبر
منتظراً أن ينادوا على اسمه ولا يحدث، وبينما نرى السماء من خلف الأسلاك
الشائكة وكأنها محبوسة هي الأخرى، عقب كل هذه المشاهد المتواترة تمنحنا
عريب لقطة علوية للبحر، والشباب هائمون فيه، طافين من دون هدى ولا مرسى،
حيث تكرس زاوية عين الإله العلوية مجاز المراقبة المحايدة أو التخلي الذي
يشعر به أحمد وفريقه، فهم هائمون فوق بحر السؤال الصعب: متى نخرج؟ متى
نعيش؟ وهل سنعود يوماً؟.
وتجيب عريب بالنيابة عنهم وهي تتحدث مع أمها "بعد ما تركنا
فلسطين، وكل ما الوقت مر، كل ما ابتسامتك انطفت".
عام 2023
صحيح أن أحمد نجا من "القيامة"، هل حد تعبير عريب حين
استطاع أخيراً عقب سنوات أن يخرج إلى أوروبا وتحديداً السويد، وحقق له
الباركور وظيفة ومكان وسط قوائم اللاجئين الطويلة والبطيئة، إلا أن سؤال
المغادرة لا يترك رأسها، سؤال الشتات والعودة المفتوح على مستقبل شديد
الغموض، هذا المستقبل الذي تترك عريب لأبنائها أن يرسموه في النهاية
بأنفسهم.
ينتقل الفيلم زمنياً من 2015 و2016 إلى 2023، ما قبل 7
أكتوبر، ليمنحنا ملخصاً عن الواقع الجديد لأحمد، والذي أصبح يشبه واقع عريب
أو ماضيها عقب المغادرة.
كانت عريب طوال الفيلم تصور نفسها وهي ترسم على نافذة بيتها
في واشنطن خطوطاً تشبه البحر ورمال غزة، حيث وقفت الأم تبتسم للمرة
الأخيرة، تؤرقها الذاكرة والشاطئ البعيد، ثم في النهاية حين تشعر بالتعب أو
لا نهائية سؤال الشتات والعودة، تمسح بهمة كل ما رسمته، لكنها في اللقطة
الأخيرة نراها تترك أبنائها الصغار -مجاز المستقبل- يرسمون البحر من جديد،
وربما طريق العودة التي قد تحدث ذات يوم.
وعلى مشهد أطفالها وهم يرسمون فوق نافذة البيت الأميركي
الجميل تنهي رحلة المعايشة الطويلة لأسئلتها، وأسئلة أحمد: هل الخروج نجاة
أم هروب؟ وهل العودة شجاعة أم جنون؟ أسئلة استطاعت عريب أن تدمج فيها الخاص
بالعام بالمشكوك في يقينه، ونقلت إلى المتلقي مراوغة الإجابات الصعبة
والحائرة، فأحمد رغم النجاة من الموت، الذي طال جزءاً كبيراً من فريق
التصوير الخاص بالفيلم، حين نراها تهدي لهم في النهاية عملهم الذي لم
يشاهدوه، إلا أن جل ما ظل يفكر فيه هو أن يعود إلى أحضان أمه زائراً أو
باكياً، تماماً كما تفتقد عريب أمها، ليس فقط منذ رحلت، ولكن من اللحظة
التي غادروا فيها فلسطين إلى الشتات المؤرق بعيداً عن الشاطئ الجميل الذي
ابتسمت عليه الأم ذات يوم.
*
ناقد فني |