فيلم "المستعمرة".. وميراث الأسئلة المعلقة
القاهرة
-رامي
عبد الرازق*
مع تولي بريشا تاتل خبيرة المهرجانات الدولية، مسؤولية
الإدارة الفنية لمهرجان
برلين السينمائي هذا
العام، ظهر على أجندة البرامج الخاصة للدورة الماسية من البرينالة عنوان
مسابقة جديدة تحت مسمى
Perspectives
أو وجهات نظر، والتي تمنح جائزة لأفضل عمل أول، وهي مسابقة تُقام بالشراكة
مع مهرجان جورج واشنطن السينمائي، ويصل عدد الأفلام المشاركة في نسختها
الأولى هذا العام 14 فيلماً روائياً، سيفوز واحداً منها بجائزة قيمتها 50
ألف يورو.
من بين الـ14 فيلماً المشاركين، يأتي الفيلم الروائي الطويل
الأول للمخرج المصري الشاب محمد رشاد "المستعمرة" بعد تجربته الوثائقية
الملفتة قبل سنوات "النسور الصغيرة" مع المنتجة هالة لطفي، وكيانها
الإنتاجي "حصالة"، وبدعم من مهرجان الجونة السينمائي وصندوق البحر الأحمر.
"المستعمرة"
لا يقدم قصة بالمعنى التقليدي، الفيلم كله يبدو كقطاع عرضي من حياة شخصيات
تؤرقها رغبات سائبة، لا تكاد تستقر أو تعرف التحقق، يمكن اختصار القصة في
حكاية الأخوين "حسام" و"مارو" اللذان يذهبان للعمل في المصنع الذي توفى
والدهما وهو يعمل به، وهناك تفوح رائحة موت الأب مشبعة بالسر والأسئلة!.
حكاية الأسئلة
المزيد من الحكايات لا يعني أن لديك فيلماً ملفتاً لديه
الحق في أن يبقى في رأسك، ليست الحكايات هي التي تُبقي الأفلام في رؤوسنا
بل الأسئلة، وكلما ظلت الأسئلة معلقة كحكايات غير مكتملة، كلما بقي الفيلم
كأثر مربك في ذاكرتنا التي تميل إلى الخمول والنسيان.
يصنع رشاد في تجربته الروائية الأولى فيلماً عن ميراث
الأسئلة المعلقة، هو حكاية الأسئلة، وليست حكاية عبر الأسئلة! محور هذه
الأسئلة هو شخصية الأب الغائب، وهو ما يؤكد على كونها ميراث، ويزيد من
كونها معلقة!.
يبدأ "المستعمرة" صوتياً قبل أن يظهر المشهد الأول، مؤثر
صوتي يتكرر في المشهد الأخير أيضاً مع اختلاف السياقات الظاهرية، لكن بنفس
وقع السؤال المعلق، نسمع في المشهد الأول صوت الأم المستجيرة من وقوفها
بمفردها في مواجهة ولدين هما ميراثها الثقيل إثر رحيل الأب، والذي نظل لا
نعرف حتى النهاية هل كان موته بسبب الإهمال أم عن عمد!.
ينطلق الشجار قبل بداية المشهد -كأننا ندخل مقطع حياتهما
البائسة في لحظة تحول- "حسام" يؤنب أخاه الأصغر "مارو" الذي يرفض الذهاب
للمدرسة متمرداً في طفولة، بينما نراه في المشهد التالي، وهو ينزع مطواة
قرن الغزال من جنبه دلالة على رغبته ترك طريق الانحراف الذي كان يسير فيه،
هذا قوس بداية جيد يمكن تتبعه حتى النهاية، وتحديداً بتأمل عينا "مارو"
المعلقتين على سؤال مفتوح، ممسكاً بالمطواة/ميراث أخيه الهارب، بعد اتهامه
بالثأر للأب، مفكراً في سؤال المستقبل المعتم كلية.
"أنت
رميت حاجة أبوك؟".. هكذا يسأل "حسام" أخاه الأصغر عقب عودته للبيت بعد وفاة
الأب، يبدأ الفيلم بسؤال الميراث، ميراث الأب الراحل، دولابه المغلق على
بقاياه في المصنع، تاريخه الغامض المتقاطع مع تاريخ "حسام" المتلخص في
مطواة قرن الغزال التي يتركها في دولاب منزله قبل الذهاب للمصنع، الكاب
الذي يعثرون عليه في دولاب الأب، فيقوم "حسام" بتضييقه ليناسب رأس "مارو"،
حكايات الأب الغائب التي يتبادلها زملائه كأنه حاضر بينهم، يتابع الولدين
الحكايات، وتعلو وجوههما أسئلة كثيرة عن والدهما وسر رحيله! كأنهما لا
يدركان كيف يتجاوبان مع ذكراه المعلقة على سؤال الرحيل المربك والسري.
"المستعمرة"
"المستعمرة"
هو اسم المكان الموجود به المصنع القديم الذي كان يعمل به الأب، وهي منطقة
تقع ما بين مدينتي القاهرة والإسكندرية، نرى لافتة تشير إليها في البداية،
صفة القدم الملحقة بالمصنع لا تعني الأصالة! بل آثار الزمن المتهالك
والمتصدع في كل ركن، يبدو المصنع أقرب للأطلال منه لبيئة عمل نشطة ومنتجة،
بل لا يبدو أنه ينتج شيئاً سوى الأسئلة والأسرار، كأنه محط عبودية من دون
عمل، أطلال ما بعد الأب وما بعد حتى الأسئلة المعلقة، ما بعد الحياة
القصيرة غير المفهومة، التي لم تترك سوى أثر غير طيب يلوح في عيون الزملاء
خوفاً من أن يباح به فيتسبب في المزيد من الألم والأسرار المقلقة والسخيفة.
حين نرى المصنع بزوايا التصوير العديدة التي قدمها رشاد
نتساءل: هل يمكن أن تنتج هذه الأطلال سوى خردة بشرية!، نفوس منهكة وأسرار
كامنة وعلاقات مبتورة وعيون لا تنام!.
أين تقع "المستعمرة" بالنسبة لمن لا يعرف المكان؟، لا يوجد
بحر أو علامة جغرافية مميزة، "المستعمرة" حيث إنتاج مجهول، وطفل يعمل محل
أباه! وتمرد مستمر ضد ما هو مستتر، هل مات الأب كمداً. أما انتقاماً؟
إهمالاً من المهندس المسؤول أم تلاعب بالماكينة من أجل رد الاعتبار حسب ما
يشاع عن الزميل المتورط في سر الموت!.
ثمة تعمد واضح لبعض التجريد، ليس فقط في الجغرافيا، ولكن في
الشخصيات نفسها، وفي اللغة القابضة على الصمت أكثر من البوح، حوار الفيلم
مقتصد، محتقن، فاتر حتى بين الأم وأبنائها، تطلق الشخصيات الجمل كأنها
متعبة، مثقلة بالأسرار والغضب والكبت الطويل.
"مارو"
"مارو"
ينظر إلى "حسام" على اعتبار أنه مثله الأعلى، لا لشيء سوى لأن "حسام" بلغ
مرتبة الحرية التي يتمناها، يراوده هاجس التحرر الكامل من سطوة الأم
المتمثلة في مرضها (رجل الفيل)، وهو مرض يشوه هيئة الساق، ويجعلها في حاجة
لدهانات مستمرة لا يقوم بها سوى الابن الأصغر الراغب في الانفلات من
البداية.
يرتدي "مارو" تيشيرت "حسام" دون استئذانه، كأنه يقول له
أريد أن أكون في حذائك، يراقب سكناته، يتبعه كتلميذ يتعلم، ينتشي داخلياً
عندما يصطحبه "حسام" لجلب الحشيش من أجل مهندس المصنع البارد.
يبدو "مارو" في مستواه المجازي مثل سؤال ملح، لا يتوقف عن
إطلاق علامات الاستفهام، طفولي وراغب في التصالح مع العالم بالعثور على
إجابات مريحة، حتى لو لم تكن مقنعة بالنسبة له، يسأل "حسام" عن الثأر لأبيه
والجبل -الجبل هو استعارة معروفة تخص إيواء الخارجين عن القانون- وساكنيه.
يعيدنا السؤال عن الجبل لحزمة التجريد المتعمدة، "مصنع-
بيت- جبل- طريق" رغم ألف ولام التعريف، إلا أن المحددات غائبة، والجغرافيا
لا تشغل بال الأسئلة ولا الشخصيات، هي متورطة فيها؛ لأنها واقعها ولا
يعنيها تحديده أو تأطيره.
نعود لـ"مارو"، نراه يقف على الطريق منتظراً أن "يقضي" حسام
الحشيش من صديقه الديلر بعد أن طلب منه المهندس بالأمر المباشر مساعدته في
ذلك، بحكم خلفية" حسام" المعروفة بالنسبة للمهندس، أنه ابن ليل ومنحرف حسب
ما كان أباه الغائب يحكي.
لفهم جانب كبير من الحركة الداخلية في الفيلم، علينا تتبع
العلاقة بين لقطات "حسام" و"مارو"، على سبيل المثال حين يسأل صديق الأب
الذي ساعد "حسام" في الهروب بعد مقتل المهندس (هتعمل إيه؟) لا نرى رد
السؤال على وجه "حسام"! بل نرى "مارو" وهو نائم على الرمل، كأن السؤال موجه
له هو وليس لأخيه! أو كأن "حسام" في هذه اللحظة هو "مارو" المستلقي نائماً
في تعب وإعياء.
التتبع يجعلنا ندرك في مستوى ما، أن "حسام" و"مارو" أقرب
لشخص واحد، أحدهما شاب والآخر طفل، لا يجمع بينهما فقط الرغبة في الثأر
للأب أو محاكمة غيابه القسري، ولا يجمع بينهما التيشيرت ولا المطواة التي
ينتهي الفيلم و"مارو" يحدق في الفراغ ممسكاً إياها، يجمع بينهما كل هذا
وأكثر، حتى في علاقتهما بالأم التي يتصالح معها "حسام" بالجلوس أسفل قدمها
المصابة بدل "مارو" ودهانه لها.
محاكمة الأب
في فيلمه الأول "النسور الصغيرة"، يضع محمد رشاد أباه
الحرفي -الذي كان عاملاً في مصنع ذات يوم- في دائرة سؤال المحاكمة الوجودية
لفكرة الأبوة ومفهومها وسياقتها الملتبسة على الشاب السكندري صاحب الطموح
الإبداعي والحالة الطبقية المزعجة وغير المريحة، يقارن بين أباه وآباء
أصدقائه، يستحضره ويغيبه عدة مرات مستعيناً بتقنيات البوح والمجاز في
الفيلم التسجيلي.
وفي تجربته الروائية الأولى يحضرنا الأب مرة أخرى، في غيبته
القسرية، كسؤال وجودي جديد! يحاكمه "حسام" من أول مشهد معنفاً أمه عن أسلوب
تربية "مارو" المنفلت والمتمرد، ثم يعاود محاكمته عندما يكتشف أن الأب قبل
رحيله لم يترك حكاية عن انحراف "حسام" إلا وسردها لزملائه، وهو سبب توجس
"حسام" منهم بعدما وجدهم يتبادلون الحكايات بأريحية، من دون خجل أو ذوق
نسبي.
يظل الأب حاضراً في غيابه حتى النهاية، فلا ندري هل تسببت
الماكينة في وفاة مهندس الصيانة، الذي أصبح بالنسبة لـ"مارو" و"حسام" هو
المتهم الأساسي في موت الأب بالإهمال أو التراخي المتعمد، أم أن "حسام" قرر
أن يستجيب لسؤال "مارو" التأنيبي "جاي تتشطر عليّا ومش عارف تجيب حق
أبوك!"، حين يعاتبه "حسام" على اشتباكه مع شاب أكبر منه في المصنع بحكم
احتقانه الدائم كطفل فقد أباه من دون سبب مفهوم بالنسبة له.
"عبير"
أكثر ما يفسده ميراث الأسئلة هو الانشغال عن الحياة
بالإجابات التي قد لا تأتي!.
تفوح "عبير" -زميلة "حسام" الشابة في المصنع- بقدر من الأمل
المحجوب خلف جهامة الواقع، ترصده يوم وفاة الأب، وتشغله بالمكالمات
الغامضة إلى أن يحدد شخصيتها.
يأمل فيها إلى حد الرغبة في أن ينفلت من دسامة الحزن
والغموض بين ذراعيها الرقيقين، واللذان لا تملكان أن تدفع عنه هماً ولا
سؤال.
نراه وهو يحتضنها وسط رمادية المصنع وبؤس جدرانه، فتضاف إلى
حزمة الأسى التي نستشعره، حين نرى "حسام" وهو يستعد للصعود إلى الجبل مرة
أخيرة، وربما من دون رجعة، يضاف سؤالها "إيه اللي حصل يا حسام؟" إلى سؤال
الأم الذي سوف يظل معلقاً في رأس "مارو" طويلاً "أخوك فين؟".
*
ناقد فني |