تونس -بين أروقة الزمن وتحت أنوار الشاشة الفضية، تبرز أيام
قرطاج السينمائية كأحد أهم المهرجانات التي تعيد تشكيل المشهد الثقافي
والسينمائي في العالم العربي وإفريقيا.
وفي دورتها الخامسة والثلاثين، التي تقام من 14 إلى 21
كانون الأول (ديسمبر) الحالي، تعيد هذه التظاهرة الفنية صياغة الحكايات
الإنسانية عبر عدسات صانعي الأفلام، مقدمة فضاء للتنوع والإبداع يجسد شعار
"السينما بوابة الإلهام".
الأردن ضيف "ٍسينما تحت المجهر"
في دورة العام الحالي في "قرطاج
السينمائي"، تحتل
السينما الأردنية مكانة بارزة من خلال قسم "سينما تحت المجهر". فمنذ نجاح
فيلم "ذيب" للمخرج ناجي أبو نوار، الذي ترشح لجائزة الأوسكار، بدأت السينما
الأردنية في الانتقال إلى الساحة الدولية. أفلام، مثل "إن
شاء الله ولد"
لأمجد الرشيد و"بنات عبد الرحمن" لزيد أبو حمدان، تظهر قدرة المبدعين
الأردنيين على معالجة قضايا مجتمعية معقدة بأساليب مبتكرة. كما تبرز أفلام
قصيرة مثل "الحرش" و"وذكرنا وأنثانا" مواهب الجيل الجديد، مما يؤكد استمرار
ازدهار الصناعة السينمائية في الأردن.
وستعرض 12 فيلما بالشراكة مع الهيئة الملكية الأردنية
للأفلام تضم ستة أفلام روائية طويلة، وهي "إن شاء الله ولد" إخراج أمجد
الرشيد (2023)، "ذيب" إخراج ناجي أبو نوار (2014)، "بنات عبد الرحمن" إخراج
زيد أبو حمدان
(2021)، "الحارة" إخراج
باسل غندور (2020)، "فرحة" إخراج دارين ج. سلام (2021)، و"إن شاء الله
استفدت" إخراج محمود المساد
(2016).
كما يضم فيلما وثائقيا طويلا بعنوان "حلوة يا أرضي" إخراج
سارين هيراباديان (2023)، وخمسة أفلام روائية قصيرة، وهي "وذكرنا وأنثانا"
إخراج أحمد اليسير (2023)، "الحرش" إخراج فراس الطيبة (2023)، "سكون" إخراج
دينا ناصر (2023)، و"البحر الأحمر يبكي" إخراج فارس الرجوب
(2023).
فلسطين في قلب المهرجان
تبقى السينما الفلسطينية محورا أساسيا في أيام قرطاج؛ حيث
تعرض أفلام فلسطينية مجانا للجمهور التونسي في شارع الحبيب بورقيبة. إضافة
إلى ذلك، تكرم العام الحالي في أيام قرطاج السينمائية أفلام، منها "الجنة
الآن" و"عمر" اللذان رشحا للأوسكار وحصدا جوائز عالمية، وتسرد الأفلام
حكايات عن المقاومة الفردية والجماعية بجرأة سردية وبراعة إخراجية. أبو
أسعد، الذي بدأ مسيرته بفيلم "منزل ورقي"، يستمر بتقديم بأعماله التي تمزج
بين الإيقاع السينمائي والرسائل الإنسانية العميقة.
كما يعد فيلم "أحلام عابرة" لرشيد مشهراوي أحد أبرز
المشاركات في هذه الدورة، حيث يبرز قصص اللاجئين الفلسطينيين من منظور
إنساني حميمي.
وتفتتح أيام قرطاج السينمائية سلسلة عروضها للعام الحالي
بالفيلم اللبناني "واهب الحرية" للمخرج قيس الزبيدي، والفيلم الفلسطيني "ما
بعد" للمخرجة
مها الحاج.
مسابقات متنوعة تعكس ثراء الإبداع السينمائي
تتنافس مجموعة من الأفلام الروائية الطويلة التي تعكس تنوعا
فنيا وثقافيا غنيا تضم 15 فيلما، هي: "ديمبا" لمامادو ديا، "القرية
المجاورة للجنة" لمو هراوي، "الرجل ميت" لأوام أمكبا، "هانامي" لدينيس
فرنانديز، "الزرقاء" للمخرج داود أولاد سيد، "طمس" لكريم موسوي، "فرانز
فانون" لعبد النور زحزح، "سيدر" لميرا شعيب و"إلى عالم مجهول" للمهدي فليفل.
كما تتضمن "البحث عن مخرج للسيد رامبو" لخالد منصور، "سلمى"
لجود سعيد، "مع العين» لمريم جعبر، "عائشة" لمهدي البرساوي، "النسل الأحمر"
للطفي عاشور. و"برج الرومي" للمنصف.
فيما تضم مسابقة الأفلام الروائية القصيرة 17 فيلما هي:
"أحلى من الأرض" لشريف البنداري، "وراء الشمس" لريان مسردي، "آيو" ليولاند
إيكل وفرانسواز إيلونج جوميز، "شيخة" لأيوب اليوسفي وزهوة الراجي، "في ثلاث
ظلمات" لحسام السلولي، "في صالة الانتظار" لمعتصم طه، "ليزا واكسول" ليورو
مباي، و"ماكون" لنايت منت.
إلى جانب: "مانجو" لرندة علي، "ليني أفريكو" لمروان لبيب،
"بعد ذلك لن يحدث شيء" لإبراهيم عمر، "روج" لساهر موصلي، "على الحافة" لسحر
العشي، "بالا بيكم" لنجيب أولبصير، "والدك… على الأغلب" للأخوين طلبة، "أين
أنت؟" لمحمد كوتة و"الزنتان" للهاشمية أحمدة.
وفي مسابقة الأفلام الروائية الطويلة يشارك 13 فيلما هي:
"رفعت عيني إلى السماء" لندى رياض وأيمن الأمير، "متى ستأتي أفريقيا؟"
لديفيد بيير فيلا، "داهومي" لماتي ديوب، "112" لشدري ماكا جويل، "ذكريات
وأحلام" لمحمد إسماعيل، "جنين جنين" لمحمد بكري و"مارون عاد إلى بيروت"
لفيروز سرحال.
كما يشارك أيضا: "ماتيلا" لعبد الله يحيى، "نادار: ساغا
والو" لعثمان وليم مباي، "شهيلي" لحبيب العايب، "تونغو سا" لنيلسون
ماكينغو، "كوماندر أكشن" لكمال الجعفري، و"الرجوع" لانتاجريست الأنصاري.
احتفاء عالمي ومحلي في أيام قرطاج السينمائية
في دورة العام الحالي، تسلط أيام قرطاج السينمائية الضوء
على المخرج التونسي جيلاني السعدي، الذي يمثل أحد أبرز الأصوات السينمائية
في تونس. أعماله المتميزة؛ مثل "عصيان" الحاصل على التانيت البرونزي في
دورة العام 2021، و"عرس الذيب" الذي نال جائزة لجنة التحكيم في 2006 وجائزة
أفضل فيلم إفريقي في مهرجان السينما الإفريقية بميلانو العام 2007، تعكس
عمق اهتمامه بالمهمشين والهامش.
السعدي، الذي نشأ في أجواء حركة نوادي السينما التونسية
وشارك في تأسيس "نادي سينما بنزرت"، تأثر بالأعمال الكلاسيكية الكبرى التي
ألهمته لتطوير أسلوبه الخاص.
ومن إيران، يأتي المخرج محسن مخملباف؛ أحد أعمدة الموجة
الجديدة للسينما الإيرانية.
أعماله، مثل "قندهار" الذي اختير ضمن أفضل 100 فيلم في
تاريخ السينما وفقا لمجلة "تايم"، و"سلام سينما" و"صرخة النمل"، حملت قضايا
إنسانية إلى منصات المهرجانات الكبرى مثل كان والبندقية. يقدم مخملباف في
هذه الدورة مجموعة من أفلامه، إلى جانب "ماستر كلاس" مفتوحة لمحبي السينما
والمخرجين الواعدين.
فيما يعود المخرج الجزائري مرزاق علواش بفيلميه الأخيرين
"الصف الأول" و"ما كان والو"، مستعرضا رؤيته للواقع الاجتماعي الجزائري.
منذ فيلمه الأول "عمر قاتلاتو"، الذي أحدث ثورة في السينما الجزائرية العام
1977، وحتى أفلامه اللاحقة مثل "مغامرات بطل" و"باب الوادي سيتي"، يعرف
علواش بقدرته على مزج البساطة السردية مع العمق الاجتماعي. الجوائز التي
حصدها، بما في ذلك ثلاثة من "تانيت" أيام قرطاج السينمائية، تؤكد مكانته
كواحد من أبرز الأصوات السينمائية في المنطقة.
السينما التونسية: حكاية صعود وتفرد
تتميز السينما التونسية بتاريخ طويل من الإبداع المتجدد،
حيث انطلقت جذورها في العام 1922 مع المبدع سمامة شكلي الذي أخرج فيلمه
القصير الأول "زهرة"، تبعه العام 1924 بفيلم "عين الغزال" الذي شاركت فيه
ابنته هايدي بدور البطولة. هذه البداية جعلت تونس من أولى الدول الإفريقية
التي تقتحم عالم السينما بروح محلية.
في العام 1949، وقبل الاستقلال بسبعة أعوام، كانت تونس تملك
أحد أكبر عدد من نوادي السينما في إفريقيا، ما أسهم في خلق بيئة سينمائية
نابضة. طاهر شريعة، الذي قاد اتحاد نوادي السينما، كان شخصية محورية في
ترسيخ السينما التونسية، حيث أنتج أول فيلم روائي طويل تونسي بعنوان
"الفجر" لعمر الخليفي العام 1967.
كما أنه كان القوة الدافعة وراء إنشاء "أيام قرطاج
السينمائية" العام 1966؛ المهرجان الذي بدأ كحدث يعقد كل عامين حتى العام
2014، قبل أن يتحول إلى حدث سنوي تلبية لاحتياجات الجمهور وصنّاع السينما.
ولم تكن السينما التونسية مجرد تقليد للسينما التجارية
السائدة، بل سعت منذ البداية لتكون منصة لتناول القضايا السياسية
والاجتماعية والثقافية بروح إبداعية. على عكس الأنماط الملحمية والشعبية
التي ظهرت في بلدان مغاربية أخرى، ركزت السينما التونسية على الأفلام
الفردية التي تحمل بصمة خاصة لمخرجيها. من هنا، أصبحت السينما التونسية
لوحة غنية بأساليب متنوعة، كما يظهر في اختلاف النهج بين ناصر خمير ونوري
بوزيد.
وأحد أبرز عوامل تميز السينما التونسية كان تسامح الرقابة
السينمائية، مقارنة ببقية الدول العربية. هذا التسامح سمح بتقديم مواضيع
جريئة. وبين العامين 1986 و1996، عاشت السينما التونسية عصرها الذهبي، حيث
اجتاحت أفلام مثل "الصمت" و"عصفور السطح" و"صيف حلق الوادي" الشاشات
المحلية والدولية.
ومع نهاية التسعينيات، بدأت السينما التونسية تواجه تحديات
جديدة. انتشرت القنوات الفضائية المقرصنة، مما أثر بشكل كبير على عدد رواد
السينما.
وتوقفت الإعلانات التلفزيونية للأفلام الوطنية، ما حد من
التواصل مع الجمهور. وبالرغم من استمرار دعم وزارة الثقافة، ظل الإنتاج
محدودا عند ثلاثة أفلام طويلة سنويا، من دون وجود مركز وطني للسينما أو
شبكات توزيع حديثة.
ورغم التحديات، برز جيل جديد من المخرجين، مثل رجاء عماري
ونداء شطا، الذين أدخلوا أساليب جديدة وأفكارا مبتكرة. هذه الموجة الجديدة
تمثل الأمل في استعادة مكانة السينما التونسية كقوة إبداعية على المستويين
الإقليمي والعالمي، منتظرة إصلاحات هيكلية تسهم في نهضتها مجددا.
وتظل السينما التونسية رمزا للإبداع العربي والإفريقي، حيث
تعكس قوتها في معالجة القضايا الاجتماعية والإنسانية، مع الحفاظ على طابعها
الفني المميز. ومع استمرار الجهود لتعزيز الإنتاج السينمائي ودعمه، تبقى
تونس وجهة سينمائية عالمية تستحق الإشادة. |