سلمى وقمر حميمية العلاقة وأسئلة التلقي
بقلم: خالد ربيع السيد
الحالة الانسانية الحميمة التي أدخلتنا فيها المخرجة
والكاتبة عهد كامل من خلال فيلمها 'سلمى وقمر' ـ عرض في مهرجان البحر
الاحمر السينمائي 4 ـ ربما جعلتنا نستعيد بعضاً من ذكريات علاقاتنا
الانسانية الصادقة التي جمعتنا بأشخاص خارج نطاق الاسرة والجيران والزملاء،
فكثير منّا، أو هكذا أظن، لديه شخص عبر في حياته وأثر فيها، خصوصاً أولئك
الذين يعيشون معنا، ولم ندرك انهم مهمون ومؤثرون في مصائرنا إلا عندما
يفارقونا.
الفيلم يصور قصة 'حقيقية' لفتاة صغيرة تعيش في مدينة جدة
وعلاقتها بسائقها السوداني، الذي منحها الحب الأبوي دون أن يتصنعه، على
خلفية حنينه لابنته التي تركها في بلاده وجاء الى السعودية طلباً للعمل
والرزق، ومن ثم نمت العلاقة بين السائق "قمر" والفتاة "سلمى" خلال السنين
الفاصلة بين الطفولة والمراهقة.
الأمانة الفنية في رصد الزمن
بناء الفيلم يرتبط بالمشاعر والعواطف المبنية على فعل
تبادلي انساني نائي عن المنافع المادية، فليس سلمى مدفوعة بفعل نفعي ولا
قمر منجذب بهاجس استحواذي، كونها علاقة شعورية حسية تهتم بالمفردات
الواقعية أكثر من اهتمامها بما يمكن أن يكون أو ينبغي أن يكون في الخيال.
لذلك يرتكز الواقع على عمود الفيلم؛ فهو باعثها ومكونها؛ حيث إنه ينتمي الى
الرومانسية الكوميدية بتداخل الواقعية المعاشة، وليس الرمزية.
هذا التوليف لا يحتمل الهفوات في السيناريو ولا التساهل في
الحبكات البينية في التفاصيل الزمنية، وبعدها عن الواقع يشكل صدمات صغيرة
تفصل المشاهد عن حالة الاندماج.
كان بالإمكان تدارك هفوات بعض المشاهد؛ بضبط خلفيات
وموجودات الحقبة الزمنية؛ بالتمحيص والتأكد من العناصر الدرامية التي
تكونها ـ الملابس والديكورات الداخلية والهياكل البصرية الخارجية وأيضاً
منطوق الكلمات... الفيلم عمل على ضبط معظم هذه العناصر لكنه غفل عن توليفات
اساسية وأحياناً هامشية عابرة؛ ليست ذات أهمية للمشاهد المنسجم مع الحالة
والقصة، لكنها مشوشة للمشاهد المتماهي مع زمن وقوع الاحداث والمراقب
للصغائر والكبائر فهي تكمل العمل المجوّد.
هذا يجعلنا نقول أن صناعة أي فيلم يحكي قصة تدور في مرحلة
زمنية سابقة يتطلب التروي والاختبار والتأكد من كل تفاصيله التي نشاهدها
امامنا، فهذه التفاصيل هي جوهر الخطاب الزمني للفيلم.
ساعة أحمد مظهر في فيلم الناصر صلاح الدين
دار بخلدي بعض التساؤلات، وهي بأي حال من الاحول لا تنتقص
من جمالية الفيلم الإنسانية، ولا تعاكس الانطباع العام لدى المشاهدين عندما
عرض الفيلم لأول مرة وثاني مرة، وهذه التساؤلات لا تقلل من البعد التخيلي
الذي عاشته المخرجة الكاتبة عهد كامل لاستعادة تفاصيل مرت بها.
هذه التساؤلات تتوخى التحريض نحو التجويد وعدم العجلة في
غزل أنسجة الحبكات الفلمية لدى الصناع في المستقبل؛ وبالتالي يخرج ثوب
الفيلم أنيقاً لا يشتت المشاهد عن فحواه وقصته.
وتنطلق التساؤلات من نظرية الفيلم التي تهتم بالحاضر الذي
يمثله النص حيث تُستخدم البنيوية كإطار لفحص كيفية مساهمة العناصر الصغيرة
في صناعة الأفلام.
وفي ذاكرتنا خطأ ساعة أحمد مظهر في فيلم الناصر صلاح الدين، وما ترتب عليه
من حرمان الفيلم آنذاك من جوائز عالمية.
أمثلة عابرة مهمة
إذن بالعودة الى فيلم سلمى وقمر نتساءل: هل كانت التلميذات
في الثمانينات والتسعينات، وهن في المرحة الابتدائية ثم الثانوية، يصففن
شعورهن بهذه الطريقة (ظاهرة في البوستر) أين الضفائر وديل الحصان الشائعة
في ذلك الوقت؟ وهل كانت الطالبات يخرجن من المدرسة وشعورهن مكشوفة، وغطاءات
رؤسهن على كتوفهن؟
هل كن يحملن حقائبهن على ظهورهن، كما هو في عصرنا الحالي؟
هل حقائب الظهر كانت موجودة؟
وهل كن يتقن اللغة الانجليزية وفق "الآكسنت" الامريكي، وهن
لم يغادرن البلاد ولم يتلقين تعليمهن في الخارج، حتى لو كن درسن في مدارس
أجنبية داخل جدة وينتمين لطبقة ثرية؟
هل كان الشكل العام للناس والفتيات في الأماكن العامة (محل
الآيس كريم) مثلاً، بهذا الشكل؟
ونحن نعلم أن رجال الحسبة في تلك الفترة يحكمون الشارع بشكل
مطبق، بل أن الأعراف الاجتماعية المدنية كانت تحكم ظهور الناس في الأسواق
والأماكن العامة.
هل سيفوّت المشاهد لقطة عابرة تصور لوحة سيارة، وكأنها لوحة
من ايامنا الحالية؟
ثم هل (الرمية) او الأغنية التي كان يرددها السائق قمر:
الليل ليل العديل والزين.. الليل العديله ويا رسول الله ...الخ يرددها
الشباب السوداني؟
نحن نعرف انها رمية تنشد في السيرة(الزفة) ولا تتغنى بها
سوى النساء والفتيات في زفة العروس والعريس السوداني أو في حفل الحناء، ومن
المستحيل أن يرددنها الرجال او الشباب. وهي مثل الرمية التي ترددها النساء
في الزفة ببعض دول الخليج: ألف الصلاة والسلام عليك ياحبيب الله محمد. هي
رمية نسائية خالصة لا دخل للرجال فيها.. كيف فات على مصطفى شحاتة وعلى أمجد
ابوالعلاء الانتباه لذلك الخطأ؟ وكان يمكن اختيار اغنية اخرى ببساطة، بنفس
الدقة التي تم فيها اختيار النضارة التي يرتديها قمر والتي واكبت المرحلة
الزمنية، وربما خلقت بعض اللبس مع المكياج وظهور خصلة أنيقة من الشيب تزين
صفحة شعره.
نعم، في تلك الايام كانت الطبقات الثرية من المجتمع
الجداوي، تقيم حفلات ساهرة بعيد عن الأضواء العامة، عالم خاص مختبئ وراء
أسوار القصور الفارهة، ولكن تلك الحفلات كانت تُحكم بكثير من الضوابط
الاخلاقية، لدرجة ان الآباء والامهات يكونون موجودين، ولا يسمحوا بأي تصرف
خارج عن الحدود.. الحفل الذي صوره الفيلم يحمل شيء من المجون العصري
ومبالغات وشيء من عدم الحقيقة.
ثم نجد بعض الكلمات والألفاظ التي ترددت في الفيلم ولم تكن
مستعملة في الثمانينيات ولا التسعينيات، مثل كلمة 'شغف' و'يحمّس' وغيرها؛
وتدخيل الكلمات الانجليزية أثناء الحديث، حتى لو كان أبناء الطبقة
الاجتماعية المخملية المقصودون. هذه الهفوات وغيرها؛ كان ينبغي تجويدها
وتحريها من الغربة المصطنعة.
الحاجة لمستشار بصري
هناك دراسات محكمة أجراها نقاد عالميون ودارسون رصينون
تناقش مثل هذه المرئيات (والهفوات) في السينما التاريخية، أذكر منهم "بروس
بلوك" في كتابه:
القصة المرئية
(إنشاء
الهيكل البصري للأفلام السينمائية والعروض التلفزيونية والوسائط الرقمية)
ترجمة: علي زين.
لا سيما وأن بلوك مستشار بصري، كانت مهمته عبر 30 سنة ولا
زالت تحري ومراقبة كل ما يرد على الشاشة.
أجزم بأن صناع الأفلام السعوديون بحاجة ماسة الى مستشارين
بصريين، أو يقومون بأنفسهم بتكليف من يثقون فيه ليراقب بصرياً ودلالياً،
كخطوة أساسية فيما بعد الإنتاج وتأصيل تفاصيل العمل.
في كل الأحوال ندرك تماماً أن العاملين في مجال الرواية
والفيلم يواجهون مشكلة في غاية الأهمية: الزمان وكيفية التعامل معه وتوظيفه
في سرد الأعمال الأدبية والفنية ـ الدراميةـ بالإضافة إلى تناول البحوث
والدراسات المتعلقة بالزمان دارمياً وفلسفياً باعتبار النحث في الزمن هو
العمود الفكري والعملي للفيلم.
في المقابل؛ أصيل كل الأصالة ان يتحدث 'قمر' بلهجة سودانية
حقيقية؛ ليس فيها أية تداخلات من اللهجة السعودية الجداوية، وكذلك فعل أمجد
ابوالعلاء، وفعلت الممثلة رنا علم الدين بلهجتها الشامية الهجينة بين
الفلسطينية واللبنانية، وهذه توقيع يحسب للمخرجة عهد كامل، وأيضاً جميلة
خلفيات قصة والد ووالدة سلمى، وشعورها بالعجز عن تقديم العون لأبناء
فلسطين.. وخلفية خوفها من الغرق في بركة السباحة بسبب حادثة قديمة. وكذلك
الاشارة الى الفن والغناء الاصيل، (من غير ليه) لعبدالوهاب‘ واستحضار نشوة
الجمهور العربي وقت ظهور الاغنية.
وبالتالي تقدير كبير لمؤلف الموسيقى: مارك قدسي، ومهندس
الصوت: إيمانويل زوكي، اللذان أبدعا في توقيع التلوينات الموسيقية المصاحبة
والتلوينات الحسية الصوتية التي أضافت الكثير للانسجام في المشاهدة وتأجيج
المشاعر في اللقطات المرحة والمؤثرة.
لذلك، الحميمية السردية للفيلم تبدو في أرقى حالاتها، بينما
لا تجاريها المصداقية الدرامية، في حين كان التمثيل بمجمله موفقاً
وطبيعياً: رولا دخيل الله، مصطفى شحاته، رنا علم الدين، قصي خضر.
ماستر سين عابر..كيف ذلك؟
بقي أن أشير الى ضعف المشهد الذي يصور والد سلمى وقد فارق
الحياة بسبب سكتة قلبية مفاجأة وصادمة للمشاهد، فمثل هذه الاحداث المفصلية،
يتم تقديمها بما يجعلها مشاهد أساسية، ماستر سين، وليس بالكيفية المباغتة..
لا انتقص من رؤية المخرجة في معالجة هذا المشهد؛ ولكن الدراما المبنية على
إحداث أثر في السياق السردي تتطلب الامعان في تجسيد مثل هذا المشهد، ليترك
أثره المنشود عند المشاهد.
أخيراً، تحية تقدير للمخرجة عهد كامل على وفائها لسائقها
وعلى امتاعنا بهذا الفيلم بإيقاعه المدروس بمونتاج حيوي يسترعي انتباه
المشاهد طوال دقائق الفيلم ، لا سيما أن فيلم، يتطلب قراءة وتحليلاً
عميقاً، وليس مقالة عابرة كهذه. |