ملفات خاصة

 
 
 

الفيلم البدوي «هوبال» جماليات السينما تقفز فوق حاجز اللهجة!

طارق الشناوي

البحر الأحمر السينمائي

الدورة الرابعة

   
 
 
 
 
 
 

اختار المخرج السعودى عبدالعزيز الشلاحى لحظة زمنية فارقة أوائل التسعينيات ١٩٩٠ التى شهدت الغزو العراقى للكويت وبداية المعركة للتحرير.

الشخصيات الدرامية قليلة جدا، ليبدو اتساع الصحراء وكأنه يلتهمها، تلك المساحات تمنح المخرج قدرة على أن يجعل الصحراء جزءا مكملا وحميما من الإطار التعبيرى والجمالى فى (الكادر).

يؤدى دور الجد إبراهيم الحساوى، يقدمه السيناريو أقرب إلى شخصية تمزج بين الحكمة والسحر والصرامة، فهو يرى أن كل ما نتابعه فى السماء من طائرات تحلق استعدادًا للمعركة، هى رسالة مضمرة من الله تعنى شيئا واحدا اقتراب الدنيا وفناء العالم، وعلى كل إنسان تحضير أوراقه النهائية، هكذا اعتبرها (شفرة) منحها له الله، إحدى علامات (الساعة)، وعليه مسرعًا أن يلوذ بالصحراء ليحتمى بها هو وأبناؤه، وكأنه يعود إلى رحم الدنيا من خلال مفردات البيئة الصحراوية، التى تخاصم المدنية، ونرى حتى العقارب صارت جزءًا من الحكاية.

البيئة الصحراوية تحمل صرامة الطبيعة، وأيضا صرامة فى البناء الدرامى للشخصيات، التى تعبر عن مواقف فى الخضوع المطلق، للجد الذى يمثل سلطة تصدر الأوامر المطلقة، وعلى الجميع الخضوع لها.

الصراع يبدأ مع اعتراض أحد الأبناء لتعلقه بمن يحبها وهى أيضا مريضة، تحتاج إلى رعاية طبية خاصة لا تتوفر فى الصحراء، وينضم إليه أيضا فريق آخر، الذروة تتحقق عندما يختفى الجد الثمانينى ويصبح مصيره مجهولًا، لا ندرى الحقيقة، هل رحل أم اختفى عن قصد أم أنه ضل الطريق؟.

ويبرق السؤال هل يظل الأبناء والأحفاد خاضعين له، هذا العمق يذكرنى بقصة قصيرة لدكتور يوسف إدريس أخرجها مروان حامد فى أول أفلامه الروائية (المتوسطة الطول) ٤٥ دقيقة، (أكان لابد يا لى لى أن تضيئى النور)، عندما أطال إمام الجامع السجود، ولم يجرؤ أحد على النهوض بدون إذنه، بينما هذه المرة تباينت ردود الأفعال بين الانصياع والتمرد، وظل المعنى عميقًا مسيطرًا على حالة الفيلم، المخرج (الشلاحى) سبق أن شاهدت له فيلمى (حد الطار) و(المسافة صفر)، دائما لديه إطلالة اجتماعية تتجاوز سقف السرد السينمائى، وفى عمق أفلامه دائما ما يمنح المتفرج مساحة لكى يعيد هو القراءة، ومن ثم اصطياد المعنى الكامن بين اللقطات، يبقى أن أقول لكم إن عنوان الفيلم (هوبال) يعنى حداء الإبل للارتباط الوثيق بينها والصحراء.

الفيلم يعرض رسميًا بالمهرجان ولكنه لا يتسابق على الجوائز، واللكنة التى ينطقون بها صحراوية وذلك لمنح الشريط قدرا كبيرًا من المصداقية، إلا أنها فى نفس الوقت تشكل صعوبة فى التلقى وتحديدًا لمن هم غير خليجيين، عمومًا اللهجة السعودية مفهومة، بينما عند استخدام لهجة صحراوية يصبح الحل الأمثل هو شريط أسفل الشاشة نقرأ عليه الحوار.

وبالمناسبة هذه الدورة شاهدت العدد الأكبر من أفلام المغرب العربى، تونس والجزائر والمغرب، وبها تتر للغة عربية مبسطة للحوار، لعب دور إيجابى جدا لصالح تلك الأفلام.

كان فى الماضى الاقتراب من تلك القضية يثير الغضب الممزوج بحساسية مفرطة، ولكن مهرجان (البحر الأحمر) تمكن هذه الدورة من القفز فوقها، والتقيت المخرج الجزائرى المخضرم، مرزاق علواش الذى عرض له فى المسابقة هذا العام فيلمه (الصف الأول) ووجدته سعيدا جدا بفكرة كتابة لغة عربية مبسطة تساهم فى التعاطى مع الحوار، لأنها أدت إلى اتساع جمهور الفيلم.

فى الماضى القريب كان الاشتباك مع هذه القضية وفتحها الملف فى المغرب العربى أشبه بتفجير لغم مدفون تحت الأرض منذ سنوات وقابل للاشتعال فى كل لحظة.. إنها الانتقال اللغوى من اللهجة العربية المحلية إلى اللغة العربية «الثالثة» المقصود– بتعبير– الثالثة المتداولة التى تقف بين الفصحى والعامية، ويطلقون عليها أيضًا «اللهجة البيضاء» يستوعبها كل مواطن عربى، كتابة الحوار باللغة العربية على الأفلام (المغاربية) أتصور أنها قد لعبت دورًا إيجابيًا لصالح معايشة تفاصيل الأفلام.

ما حدث فى «البحر الأحمر» بكتابة حوار الأفلام المغاربية على الشاشة، خطوة إيجابية قفزنا من خلالها على تلك الحساسية، على أمل أن تنتقل القفزات إلى كل المهرجانات العربية الأخرى بدون أدنى حساسية!.

 

المصري اليوم في

13.12.2024

 
 
 
 
 

سلمى وقمر حميمية العلاقة وأسئلة التلقي

بقلم: خالد ربيع السيد

الحالة الانسانية الحميمة التي أدخلتنا فيها المخرجة والكاتبة عهد كامل من خلال فيلمها 'سلمى وقمر' ـ عرض في مهرجان البحر الاحمر السينمائي 4 ـ ربما جعلتنا نستعيد بعضاً من ذكريات علاقاتنا الانسانية الصادقة التي جمعتنا بأشخاص خارج نطاق الاسرة والجيران والزملاء، فكثير منّا، أو هكذا أظن، لديه شخص عبر في حياته وأثر فيها، خصوصاً أولئك الذين يعيشون معنا، ولم ندرك انهم مهمون ومؤثرون في مصائرنا إلا عندما يفارقونا.

الفيلم يصور قصة 'حقيقية' لفتاة صغيرة تعيش في مدينة جدة وعلاقتها بسائقها السوداني، الذي منحها الحب الأبوي دون أن يتصنعه، على خلفية حنينه لابنته التي تركها في بلاده وجاء الى السعودية طلباً للعمل والرزق، ومن ثم نمت العلاقة بين السائق "قمر" والفتاة "سلمى" خلال السنين الفاصلة بين الطفولة والمراهقة.

الأمانة الفنية في رصد الزمن

بناء الفيلم يرتبط بالمشاعر والعواطف المبنية على فعل تبادلي انساني نائي عن المنافع المادية، فليس سلمى مدفوعة بفعل نفعي ولا قمر منجذب بهاجس استحواذي، كونها علاقة شعورية حسية تهتم بالمفردات الواقعية أكثر من اهتمامها بما يمكن أن يكون أو ينبغي أن يكون في الخيال. لذلك يرتكز الواقع على عمود الفيلم؛ فهو باعثها ومكونها؛ حيث إنه ينتمي الى الرومانسية الكوميدية بتداخل الواقعية المعاشة، وليس الرمزية.

هذا التوليف لا يحتمل الهفوات في السيناريو ولا التساهل في الحبكات البينية في التفاصيل الزمنية، وبعدها عن الواقع يشكل صدمات صغيرة تفصل المشاهد عن حالة الاندماج.

كان بالإمكان تدارك هفوات بعض المشاهد؛ بضبط خلفيات وموجودات الحقبة الزمنية؛ بالتمحيص والتأكد من العناصر الدرامية التي تكونها ـ الملابس والديكورات الداخلية والهياكل البصرية الخارجية وأيضاً منطوق الكلمات... الفيلم عمل على ضبط معظم هذه العناصر لكنه غفل عن توليفات اساسية وأحياناً هامشية عابرة؛ ليست ذات أهمية للمشاهد المنسجم مع الحالة والقصة، لكنها مشوشة للمشاهد المتماهي مع زمن وقوع الاحداث والمراقب للصغائر والكبائر فهي تكمل العمل المجوّد.

هذا يجعلنا نقول أن صناعة أي فيلم يحكي قصة تدور في مرحلة زمنية سابقة يتطلب التروي والاختبار والتأكد من كل تفاصيله التي نشاهدها امامنا، فهذه التفاصيل هي جوهر الخطاب الزمني للفيلم.

ساعة أحمد مظهر في فيلم الناصر صلاح الدين

دار بخلدي بعض التساؤلات، وهي بأي حال من الاحول لا تنتقص من جمالية الفيلم الإنسانية، ولا تعاكس الانطباع العام لدى المشاهدين عندما عرض الفيلم لأول مرة وثاني مرة، وهذه التساؤلات لا تقلل من البعد التخيلي الذي عاشته المخرجة الكاتبة عهد كامل لاستعادة تفاصيل مرت بها.

هذه التساؤلات تتوخى التحريض نحو التجويد وعدم العجلة في غزل أنسجة الحبكات الفلمية لدى الصناع في المستقبل؛ وبالتالي يخرج ثوب الفيلم أنيقاً لا يشتت المشاهد عن فحواه وقصته.

وتنطلق التساؤلات من نظرية الفيلم التي تهتم بالحاضر الذي يمثله النص حيث تُستخدم البنيوية كإطار لفحص كيفية مساهمة العناصر الصغيرة في صناعة الأفلام. وفي ذاكرتنا خطأ ساعة أحمد مظهر في فيلم الناصر صلاح الدين، وما ترتب عليه من حرمان الفيلم آنذاك من جوائز عالمية.

أمثلة عابرة مهمة

إذن بالعودة الى فيلم سلمى وقمر نتساءل: هل كانت التلميذات في الثمانينات والتسعينات، وهن في المرحة الابتدائية ثم الثانوية، يصففن شعورهن بهذه الطريقة (ظاهرة في البوستر) أين الضفائر وديل الحصان الشائعة في ذلك الوقت؟ وهل كانت الطالبات يخرجن من المدرسة وشعورهن مكشوفة، وغطاءات رؤسهن على كتوفهن؟

هل كن يحملن حقائبهن على ظهورهن، كما هو في عصرنا الحالي؟ هل حقائب الظهر كانت موجودة؟

وهل كن يتقن اللغة الانجليزية وفق "الآكسنت" الامريكي، وهن لم يغادرن البلاد ولم يتلقين تعليمهن في الخارج، حتى لو كن درسن في مدارس أجنبية داخل جدة وينتمين لطبقة ثرية؟

هل كان الشكل العام للناس والفتيات في الأماكن العامة (محل الآيس كريم) مثلاً، بهذا الشكل؟

ونحن نعلم أن رجال الحسبة في تلك الفترة يحكمون الشارع بشكل مطبق، بل أن الأعراف الاجتماعية المدنية كانت تحكم ظهور الناس في الأسواق والأماكن العامة.

هل سيفوّت المشاهد لقطة عابرة تصور لوحة سيارة، وكأنها لوحة من ايامنا الحالية؟

ثم هل (الرمية) او الأغنية التي كان يرددها السائق قمر: الليل ليل العديل والزين.. الليل العديله ويا رسول الله ...الخ يرددها الشباب السوداني؟

نحن نعرف انها رمية تنشد في السيرة(الزفة) ولا تتغنى بها سوى النساء والفتيات في زفة العروس والعريس السوداني أو في حفل الحناء، ومن المستحيل أن يرددنها الرجال او الشباب. وهي مثل الرمية التي ترددها النساء في الزفة ببعض دول الخليج: ألف الصلاة والسلام عليك ياحبيب الله محمد. هي رمية نسائية خالصة لا دخل للرجال فيها.. كيف فات على مصطفى شحاتة وعلى أمجد ابوالعلاء الانتباه لذلك الخطأ؟ وكان يمكن اختيار اغنية اخرى ببساطة، بنفس الدقة التي تم فيها اختيار النضارة التي يرتديها قمر والتي واكبت المرحلة الزمنية، وربما خلقت بعض اللبس مع المكياج وظهور خصلة أنيقة من الشيب تزين صفحة شعره.

نعم، في تلك الايام كانت الطبقات الثرية من المجتمع الجداوي، تقيم حفلات ساهرة بعيد عن الأضواء العامة، عالم خاص مختبئ وراء أسوار القصور الفارهة، ولكن تلك الحفلات كانت تُحكم بكثير من الضوابط الاخلاقية، لدرجة ان الآباء والامهات يكونون موجودين، ولا يسمحوا بأي تصرف خارج عن الحدود.. الحفل الذي صوره الفيلم يحمل شيء من المجون العصري ومبالغات وشيء من عدم الحقيقة.

ثم نجد بعض الكلمات والألفاظ التي ترددت في الفيلم ولم تكن مستعملة في الثمانينيات ولا التسعينيات، مثل كلمة 'شغف' و'يحمّس' وغيرها؛ وتدخيل الكلمات الانجليزية أثناء الحديث، حتى لو كان أبناء الطبقة الاجتماعية المخملية المقصودون. هذه الهفوات وغيرها؛ كان ينبغي تجويدها وتحريها من الغربة المصطنعة.

الحاجة لمستشار بصري

هناك دراسات محكمة أجراها نقاد عالميون ودارسون رصينون تناقش مثل هذه المرئيات (والهفوات) في السينما التاريخية، أذكر منهم "بروس بلوك" في كتابه:

القصة المرئية

(إنشاء الهيكل البصري للأفلام السينمائية والعروض التلفزيونية والوسائط الرقمية)

ترجمة: علي زين.

لا سيما وأن بلوك مستشار بصري، كانت مهمته عبر 30 سنة ولا زالت تحري ومراقبة كل ما يرد على الشاشة.

أجزم بأن صناع الأفلام السعوديون بحاجة ماسة الى مستشارين بصريين، أو يقومون بأنفسهم بتكليف من يثقون فيه ليراقب بصرياً ودلالياً، كخطوة أساسية فيما بعد الإنتاج وتأصيل تفاصيل العمل.

في كل الأحوال ندرك تماماً أن العاملين في مجال الرواية والفيلم يواجهون مشكلة في غاية الأهمية: الزمان وكيفية التعامل معه وتوظيفه في سرد الأعمال الأدبية والفنية ـ الدراميةـ بالإضافة إلى تناول البحوث والدراسات المتعلقة بالزمان دارمياً وفلسفياً باعتبار النحث في الزمن هو العمود الفكري والعملي للفيلم.

في المقابل؛ أصيل كل الأصالة ان يتحدث 'قمر' بلهجة سودانية حقيقية؛ ليس فيها أية تداخلات من اللهجة السعودية الجداوية، وكذلك فعل أمجد ابوالعلاء، وفعلت الممثلة رنا علم الدين بلهجتها الشامية الهجينة بين الفلسطينية واللبنانية، وهذه توقيع يحسب للمخرجة عهد كامل، وأيضاً جميلة خلفيات قصة والد ووالدة سلمى، وشعورها بالعجز عن تقديم العون لأبناء فلسطين.. وخلفية خوفها من الغرق في بركة السباحة بسبب حادثة قديمة. وكذلك الاشارة الى الفن والغناء الاصيل، (من غير ليه) لعبدالوهاب‘ واستحضار نشوة الجمهور العربي وقت ظهور الاغنية.

وبالتالي تقدير كبير لمؤلف الموسيقى: مارك قدسي، ومهندس الصوت: إيمانويل زوكي، اللذان أبدعا في توقيع التلوينات الموسيقية المصاحبة والتلوينات الحسية الصوتية التي أضافت الكثير للانسجام في المشاهدة وتأجيج المشاعر في اللقطات المرحة والمؤثرة.

لذلك، الحميمية السردية للفيلم تبدو في أرقى حالاتها، بينما لا تجاريها المصداقية الدرامية، في حين كان التمثيل بمجمله موفقاً وطبيعياً: رولا دخيل الله، مصطفى شحاته، رنا علم الدين، قصي خضر.

ماستر سين عابر..كيف ذلك؟

بقي أن أشير الى ضعف المشهد الذي يصور والد سلمى وقد فارق الحياة بسبب سكتة قلبية مفاجأة وصادمة للمشاهد، فمثل هذه الاحداث المفصلية، يتم تقديمها بما يجعلها مشاهد أساسية، ماستر سين، وليس بالكيفية المباغتة.. لا انتقص من رؤية المخرجة في معالجة هذا المشهد؛ ولكن الدراما المبنية على إحداث أثر في السياق السردي تتطلب الامعان في تجسيد مثل هذا المشهد، ليترك أثره المنشود عند المشاهد.

أخيراً، تحية تقدير للمخرجة عهد كامل على وفائها لسائقها وعلى امتاعنا بهذا الفيلم بإيقاعه المدروس بمونتاج حيوي يسترعي انتباه المشاهد طوال دقائق الفيلم ، لا سيما أن فيلم، يتطلب قراءة وتحليلاً عميقاً، وليس مقالة عابرة كهذه.

 

الـ FaceBook في

13.12.2024

 
 
 
 
 

«الذراري الحُمر».. عن المراهقين الذين لم يعودوا كذلك

أندرو محسن

من خلال فيلمين طويلين وعدة أفلام قصيرة، يؤكد المخرج لطفي عاشور كونه مهمومًا بشكل حقيقي بواقع المجتمع التونسي المعاصر، وأزماته خاصة السياسية منها، والتي تنعكس بشكل مباشر على المواطنين. عادة ما يختار شخصيات مهمشة ليصبحوا شخصيات رئيسية، ما يجعل في أفلامه شيئًا صادقًا وصادمًا في آن واحد.

«الذراري الحُمر» (2024) الحائز على جائزة اليُسر الذهبية لأفضل فيلم طويل في الدورة الرابعة  لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، يقدم قصة مبنية على وقائع حقيقية، تدور أحداثها في إحدى القرى الريفية في تونس. أشرف ( الممثل علي هلالي) ونزار (ياسين سمعوني) مراهقان يرعيان الغنم في منطقة يسيطر عليها بعض الجهاديين الذين يعتدون عليهما، ويصبح على أشرف أن يُوصل رسالة شديدة القسوة إلى أهله وأهل نزار، وعليها يترتب تغيّر كامل في حياته وحياة أهل القرية.

نهار مظلم

المتابع لأفلام لطفي عاشور، سيرى أنه يختار بدقة الأسلوب المناسب لعرض قصته، فبينما استخدم الكوميديا السوداء في «علوش»، واستخدم التحريك والفانتازيا في «نقطة عمياء»، فإن القصة التي يقدمها في «الذراري الحُمر» قاتمة ومظلمة ولهذا يختار أن يكون أسلوبه فيها صريحًا وواقعيًا لينقل لنا الأحاسيس التي يود التعبير عنها. عكس ما يمكن توقعه عند قراءة قصة الفيلم، والتي تسمح بأجواء مظلمة، فإن الفيلم يبدأ في نهار مشمس جميل، نشاهد خلاله أشرف ونزار يقضيان وقتًا مرحًا بين رعي الأغنام والاستمتاع بالبيئة المحيطة بهما. لحظات مثالية لمراهقيّن، يحاولان الابتعاد عن الكبار، والاقتراب من الخطر بحذر، لكن هذه الأجواء المبهجة لا تدوم، ولكن ورغم هذا لا يتحول الطابع البصري المشرق كثيرًا بعد وقوع المأساة مبكرًا في الفصل الأول من الفيلم، وهذا أول ما يلفت النظر إلى صورة الفيلم.

يتمسك عاشور بالشكل الواقعي في أغلب مشاهد الفيلم، وهكذا نشاهد تتابعات المأساة لدى أشرف وأهل القرية وفي الخلفية لا زالت الشمس مشرقة وهذا الاختيار إنما يثير التأمل في الكثير من عناصر الفيلم. أولها أن هذه المأساة -رغم قسوة تفاصيلها- هي جزء من طبيعة الحياة هناك؛ الخوف من بطش الجهاديين، وغياب حماية الدولة، أمر يعيش في كنفه أهل هذه القرية، وثانيها هو أن الظلام الذي تقدمه هذه الأحداث لم يستطع أن يسيطر بالكامل على نفسية أشرف أو حتى رحمة (وداد دبابي) صديقته هو ونزار. يتابع الفيلم وقع هذا الحدث على نفسية جميع أهل القرية، ليرصد تأثير التحولات على كل شخصية بشكل دقيق؛ الأمهات، والأشقاء، رجال القرية ونسائها. في هذه التتابعات نلمس وقع الأحداث وكأننا نعيش بينهم، نرى مِن تنهار تمامًا، ومَن يرفض التصديق، ومَن تحاول حماية المقربين لها، ومَن يلوم الشرطة التي لا تفعل شيئًا، ووسط كل هؤلاء يقف أشرف ليتلقى كل هذا ويتفاعل معه.

مراهق في منتصف العالم 

أشرف المراهق الذي خَرج توًا من مرحلة الطفولة، لا يزال يستكشف عالم الكبار، وإذا به يدخله بأسوأ طريقة ممكنة، فالحادث الذي مر به كان كفيلًا بإضافة الكثير من السنوات المرة إلى عمره وخلال لحظات قليلة. يحكي المخرج لطفي عاشور عن العملية الطويلة لاختيار الأطفال المناسبين للدور، وطيف أنهم كانوا يمنحون بضع دقائق فقط لكل طفل أمام الكاميرا لاختباره، بينما كلمه المسؤول عن عملية اختبارات الممثلين تشير إلى أن أحد الأطفال جذبه تمامًا، حتى أنه استكمل الحوار معه أمام الكاميرا لمدة أربعين دقيقة! كان هذا الطفل هو علي هلالي الذي فاز بالدور.

يدرك صناع الأفلام وربما المشاهدون أيضًا صعوبة وقوف وتحريك الأطفال أمام الكاميرا، فماذا إذا كنا نتحدث عن دور شديد التعقيد مثل دور أشرف في الفيلم؟ يتميز الممثل علي بملامح حادة ولافتة، حتى يمكن تمييزه بين عدد كبير من في مثل سنه، وكانت تلك الملامح مناسبة جدًا للدور، بل يمكن القول إنها تحكي بعض التفاصيل عن تاريخ الشخصية، فسنه المكسورة مثلًا تخبرنا أنه مشاغب؛ لكن بالتأكيد الملامح وحدها لن تكون كافية، فالدور ثقيل جدًا ويحتاج إلى ممثل موهوب.

أفضل ما قدمه علي في الدور هو حفاظه على براءة الطفولة في المشاهد التي تحتاج إلى ذلك، وتقديم ملامح الكبار في الأحيان الأخرى. فعندما يضحك أشرف في بداية الفيلم أو في مشاهد الفلاش باك، يضحك بروح الطفل الذي لا يهتم سوى بهذه اللحظة الممتعة، وعندما ننتقل إلى مشاهد ما بعد الحادث فإن عينيه -دون حوار- يحملان همًا لا يمكن تجاهله. ربما كان المشهد الأفضل لمُشاهدة قدرة هذا الممثل على الإمساك بالشخصية هو مشهد لعبه كرة القدم بعد الحادث مباشرة. نشاهده وهو لا زال مذهولًا وغير قادر على استيعاب ما حدث له ولنزار، وفي الاثناء يدعوه بعض الصبية  للعب كرة القدم معهم. يلعب بمنتهى العنف وكأنه ينتقم مما حدث له مُجَسدًا في شخص رفاقه. هذا المشهد هو بمثابة نقطة تحول لأشرف من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وهو يقدمه بدقة يصعب تحقيقها.

لم يكن هذا الاختيار فقط للموهبة، ولكن لاستكمال الرؤية التي يحملها المخرج في الفيلم، فكما بدأ من عند المراهقيّن فهو يستمر خلال الأحداث وحتى مشاهد النهاية معهم. يختار لطفي عاشور رغم بشاعة أحداث الفيلم، الانحياز إلى وجود الأمل الكامن في هؤلاء، أو من بَقيّ منهم قادرًا على المقاومة واستكمال الحلم. رغم سوداوية الواقع، يقرر عاشور في هذا الفيلم الانحياز لمستقبل يحمل بصيصًا من الضوء، حتى وإن كان خافتًا.

«الذراري الحُمر» فيلم يستحق المدة الطويلة التي استغرقها في التحضير، ويؤكد على وجود مخرج لديه رؤية ممتعة، يتأنى في أعماله لكنه يقدم دائمًا ما يليق بموهبته.

 

####

 

«أناشيد آدم».. ليس فيلمًا بل قصيدة وسؤال

رامي عبد الرازق

يبدأ فيلم “غير صالح للعرض” (2005) العمل الأول للمخرج العراقي حيدر رشيد بثلاث جنازات تتابعها عينا السينمائي الشاب الذي لا يعرف ماذا يفعل في بغداد 2003، وفي أحدث أفلامه “أناشيد آدم” (2024) يبدأ الفيلم أيضاً بجنازة! وكأن رشيد في أفلامه يسير عكس اتجاه الحياة، يبدأ من حيث تنتهي أو ما يبدو أنها تنتهي عليه! يبدأ رشيد بالموت كمفتتح للحكاية وليس نهاية لها، كنقطة أنطلاق وليس كمستقر أو خاتمة، في “غير صالح للعرض” يحفز مشهد التوابيت الثلاثة المخرج الشاب الناجي من جحيم الاجتياح وسقوط النظام أن يسجل شهادته وشهادات من حوله، حول ما حدث ويحدث، وما يمكن أن يحدث! يحضر الزمن في لقاء الأشخاص الذين يقابلهم بطل الفيلم، المُستَجيب لتحفيز التوابيت المحمولة، والمُتخذ قراره بمقاومة الموت الساكن في حارات المدينة وشوارعها. في “أناشيد آدم” تصبح عملية غًسل الجَد وتحضيره للدفن هي المحفز الوجودي وفوق الواقعي الذي يدفع الطفل آدم لاتخاذه قراراً؛ بأن لا يكبر، وبالتالي فأنه لن يُشيِخ ولن يموت أبداً

كان ياما كان

يبدأ الفيلم الحائز على جائزة اليُسر لأفضل سيناريو في مسابقة الأفلام الطويلة للدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي (4-12 ديسمبر 2024) بجملة تؤسس لنوعه الدرامي فوق الطبيعي أو فوق الواقعي (كان ياما كان في بلاد الرافدين) من عام 1946، وتنتهي بكارثة “داعش” في العراق عام 2014، وعبر أكثر من ستين عاماً يتوقف في محطات زمنية عدة، ترتبط بشكل أساسي بتاريخ بلاد الرافدين الحديث. لا يهتم السيناريو كثيراً بإمكانية فعل هذا، يكتفي بإعلان آدم فقط لأخيه الأصغر أن عدد نبضات قلبه قد قلت إلى 15 نبضة، في إشارة إلى أنه لم يعد ينمو أو يتسارع نحو الكبر، وبالتالي العجز فالموت. يقاوم آدم الموت برفض الفكرة، بمقاومتها كلية بيقين من إمكانية تحقيق ذلك حتى لو لم يكن يعرف كيفية حدوث ذلك! يتجاوز السيناريو السبب سريعاً إلى النتائج. النتيجة المباشرة لرفضه المثول في حضرة النمو وكبر السن، حيث يبدأ أهله في التوجس منه؛ أبوه الذي يحبسه في بيت طيني كئيب، وأخوه الصغير الذي صار أطول منه، والذي تتأجج في داخله قدر من الغيرة والحقد الدفين، لفقدانه أخيه ولأنه صار هو الأكبر سناً وطولاً- وهي واحدة من أكثر الأزمات الوجودية رهافة في التجارب العربية فوق الواقعية، أن يحزن الأخ الأًغر حين يصير أكبر من أخيه الأكبر؛ كهف طمأنينته وقارب طَفوه فوق معضلات عالمه الصغير.

في حين يُبقي السيناريو على عنصرين نسائيين يرفضان ما يحدث لآدم من عزل وإقصاء – بحجة أنه فأل سيء على القرية، يضعف الزرع ويلوث نقاء فكرتهم عن ضرورة الموت- العنصر الأول هي أمه، التي تنهار من جراء تصرف الأب القاسي، ثم لا تلبث أن تهجر القرية، ولا نعود نراها ثانية، والثاني هو ابنة عمه التي كانت تنتظر منه أن يكبر ليتزوجها، لكنها كبرت قبله، وفار جسدها الأنثوي بالخصوبة والتوق للتزواج والاقتران به، لكنها لا تتمكن مثله من إيقاف نمو جسدها، ولا تفلح سوى في تأخير عقلها عن النمو، لتصاب بلوثة عنيفة تتفاقم مع مرور الوقت، حيث تتوقف عن تكوين ذكريات جديدة وتظل خامات أفكارها محصورة في تفاصيل علاقتها بآدم وجمعهما للحطب سوية أو حلمها بأن تتزوجه حين يَكبر، لو كَبُر!

يمكن اعتبار آدم عين السارد، أي أن الفيلم محكي من عينيه، وبالتالي فمصدر معلوماتنا كلها هي فقط من ما يراه ويعرفه، وكل ما يشعر به هو وما ينتقل إلينا سواء فيما يخصه أو فيما يخص الشخصيات التي تكبر من حوله أو البلد الذي يتقلب على مدار السنوات.

وبينما يعيش في عزلته الإجبارية، التي تتحول إلى شبه عزلة اختيارية فيما بعد، يكثف لنا السيناريو مراحل انتقال العراق من حالٍ إلى حال عبر كتابة السنوات على الشاشة، بداية من عام 46 عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة وعودة العراق تحت الاحتلال الإنجليزي. ثم عام 52 حين اشتعلت الإنتفاضة العراقية متأثرة بالحراك السياسي للجيش المصري في شهر يوليو من نفس العام، ثم عام 64 أبان توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة العراقية والحركة الكردية وإقرار الحكومة العراقية بالحقوق القومية للشعب الكردي، ثم عام 81 عقب بداية الحرب العراقية الإيرانية – حرب الخليج الأولى كما يطلقون عليها- ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي كانت التمهيد الظاهري لاحتلال العراق في 2003 ونهاية حكم صدام، ثم أخيراً 2014 وقت هبوب رياح السموم الداعشية على أرض الرافدين.

هكذا تتقاطع نظرة آدم للعالم مع ما يحدث لبلده، والذي يبدو منعزلاً عنه نسبياً في طفولته الأبدية، خاصة مع عزلة قريته البعيدة التي تبدو على الهامش من كل ما يحدث، ولكنها هي مثل كل العراق في قلب الأحداث. يتحول السيناريو إلى مقاطع طويلة من حياته، أو كما أسماها المخرج “أناشيد” -ربما في تعبير مستوحى من العهد القديم وحكاياته الغيبية- كل مقطع أو محطة أو مرحلة تحمل عنواناً زمنياً واضحاً كما سبق وأشرنا، لكن التفاعل الأساسي بين آدم والعالم لا يأتي عبر ما يحدث للعراق مباشرة، بل بما يحدث في عالمه الضيق؛ الأخ الأصغر الذي صار شيخاً مع مرور السنوات، وابنة عمه التي تأخر عقلها عن جسدها وانجبت في النهاية ابنا لا يشبهها ولا يشبه حبيبها آدم في رقته وحنوه – نرى الابن وقد صار رجلاً كبيراً يزيح يد آدم الصغيرة بينما تربت على وجه ابنة عمه العجوز المحتضرة لأنه محرم عليها-.

تنحصر علاقة آدم بثلاثة شخصيات في الفيلم عقب موت أبيه وهجران أمه؛ صديقه راعي الغنم المكلف بحراسته ثم خدمته ثم رعايته فيما بعد، وأخيه الأصغر الذي يتحول من ضابط في الجيش إلى رجل يبحث عن هدف لوجوده في خيمة غجرية سحرية الصوت، ثم لشيخ خشن صلب المعشر، يصر على تعليم آدم الصغير كيفية سلخ السمك “المسكوف” وشيه كأنه أخيراً استسلم لفكرة أنه صار أكبر من أخيه الأًكبر وصار لزاماً عليه أن يتعامل معه كابن أو حفيد يورثه بعده تقاليد المجتمع العريقة، وبالطبع ابنة عمه كما أشرنا، والتي تحضر في كل مرحلة على اعتبار أنها آخر ما تبقى لآدم من حياته السابقة قبل خلود الطفولة الطويل.

تقشف صوتي

يفسح حيدر رشيد شريط الصوت الخاص بفيلمه للحوار القليل والأصوات الطبيعية من البيئة المنعزلة التي يعيش فيها آدم. يتجنب الموسيقى التصويرية الملحة والوصفية، ربما لأنه لا يريد أن يُغرق الصورة بهوامش ميلودرامية غير فاتنة، يتحرك سريعاً نحو تَقبُل الجميع لوجود آدم الطفل كجزء من الواقع المضطرب الذي عليهم القبول به، ثم تدريجيا ينتقل إلى معاناة الشخصيات التي تحيط به أكثر من معاناته هو نفسه مع طفولته الأبدية، خصوصاً بعد موت الأب واطلاق سراحه من السجن الطيني – يتردد آدم في الخروج ثم يعود مرة أخرى إلى سجنه كأنه يفتقد فقاعته الوجودية خاصة مع تَغيّر العالم في الخارج بصورة أكبر من قدرته على استيعابه. يبدو آدم مثل علامة استفهام شابة لا تخمد طاقة استجوابها لما يحدث حوله، عيونه المحتفظة ببراءة الأطفال الحقيقية تنظر إلى التحولات المحيطة بها بقدر كبير من التعجب؛ لماذا حين يكبر الأطفال يصبحون على هذا القدر من الخَبل أو التخبط أو العنف أو الاستحقاق!. لماذا الحرب ولماذا داعش!

يمكن أن نورد افتراضين لأسباب اختيار حيدر رشيد لهذه الحبكة فوق الواقعية، أولها كما أشرنا هو الحفاظ على سؤال الحيرة الوجودي أو الشعري نابضاً بالحياة ليس ضد الموت كنهاية طبيعية أو لازمة ولكن ضد الطرق العديدة التي تؤدي بالبشر إلى الموت بإرادتهم أو رغماً عنهم.

 لماذا نريد التخلص من طفولتنا؟ لماذا نتعجل أن يكبر الطفل بداخلنا دون أن نتوقف للحظة ونتساءل هل نحن فعلاً في حاجة للتخلص منها كلية؟ بلا شك أن العالم يمكن له أن يصبح مكاناً أفضل لو أيقنا أن وجود الطفولة هو شرط لنقاء وجودنا ونضجناً فيما بعد! يطرح والده هذا السؤال عليه عندما يبلغه ابنه الأصغر أن آدم لا يريد أن يكبر وأنه يبطئ من نبضات قلبه: لماذا لا تريد أن تكبر وتصير رجلاً قوياً صاحب بنيان متين- وربما عنيف- قادر على مواجهة الحياة؟ آدم لا يجيب، لأن السؤال في الأساس ليس موجهاً إليه، بل إلينا نحن!

الفرضية الثانية هو أن المخرج أراد أن يشهدنا على رمزية أن عراق الرافدين سوف يظل يافعاً، طفلاً أبدياً لا يشيخ أو يموت- ربما لهذا اختار افتتاحية (كان ياما كان في بلاد الرافدين) ـ  صحيح أن الافتتاحية منوطة بالخلفية الجغرافية والتاريخية على حد سوء – حيث استخدام المصطلح التاريخي الأصيل بلاد الرافدين وليس مصطلح العراق- لكن هذا لا يمنع من أن بقاء طفل يعيش في قريته الهادئة معزولاً عن كل الدم والموت و”العراك” الطويل، ينير بصيرته الغضة الشعور بأن الحياة تستحق أن تعاش دون استحضار الموت في كل لحظة، خاصة بشكل قسري متعمد – نراه يتعجب من ترك جثث “الدواعش” مكشوفة للتحلل أو لنهش الحيوانات البرية، متسائلاً وهو يهرب عام 2014 مع راعيه العجوز بعد موت الجميع: مَن الذي سيدفن هؤلاء؟ 

لقد رفض آدم الموت في اللحظة التي مر فيها بطقوس الغسل والتكفين والدفن، شعر أن البقاء فوق التراب هي مهمة إنسانية عظيمة، فلماذا يقرر أي شخص أن يضع شخصاً آخر تحته، أو يُعرَض نفسه للنزول إلى ما تحت الشمس والهواء والقمح الجميل.

ينتهي الفيلم بتقبل آدم للموت أخيراً، لا كمحصلة نهائية أو حضور قسري ولكن كأختيار طبيعي، كمحطة تالية أو رحلة جديدة منتظرة وفاتنة. يقوم بسحب جثة راعيه الطيب، الذي لازمه طوال طفولته المديدة، ويضعه في قارب عند الشاطئ تاركاً النهر يأخذه إلى شط العرب وما ورائه–وكأنه شارون ناقل الموتى في المثيولوجيا اليونانية، لكنه هنا؛ طفل جميل مفعم بالخلود النقي والاغتسال المستمر من أدران الزمن والحرب والسياسة.

فيلم “أناشيد آدم” لحيدر رشيد هو محصلة تجربة شعرية وسياسية ووجودية، تأثيرها ممتد ورموزها باقية، لا فيما يخص حكاية بلاد الرافدين لأكثر من نصف قرن فقط، بل لأنه قصيدة وسؤال، كلاهما مشغول بالتأثير والبحث، ومحاولات الإجابة المراوغة على علامات استفهام لا تمنح طمأنة اليقين

 

موقع "فاصلة" السعودي في

14.12.2024

 
 
 
 
 

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

مريم شريف لـ«الشرق الأوسط»: إشادة المخرج سبايك لي بأدائي أبهجتني

القاهرةانتصار دردير

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى، فإن المصرية مريم شريف تفوقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بالدورة الرابعة لـ«مهرجان البحر الأحمر السينمائي» التي تَنافس على جوائزها 16 فيلماً، وترأس لجنة تحكيمها المخرج العالمي سبايك لي، لتحوز جائزة «اليسر» لأفضل ممثلة عن أدائها لشخصية «إيمان»، الشابة التي تواجه التّنمر بسبب قِصرِ قامتها في فيلم «سنو وايت»، وذلك خلال حفل ختام المهرجان الذي أقيم الخميس في مدينة جدة السعودية.

وعبّرت مريم عن سعادتها بهذا الفوز قائلة لـ«الشرق الأوسط»: «الحمد لله، هذه فرحة كبيرة تكلّل جهودنا طوال فترتي التحضير والتصوير، لكنني أحتاج وقتاً لأستوعب ذلك، وأشكر أستاذة تغريد التي أخضعتني لورشِ تمثيلٍ عدة؛ فكُنا نجلس معاً لساعات طوال لتُذاكر معي الدّور وتوضح لي أبعاد الشخصية، لذا أشكرها كثيراً، وأشكر المنتج محمد عجمي، فكلاهما دعماني ومنحاني القوة والثقة لأكون بطلة الفيلم، كما أشكر مهرجان (البحر الأحمر السينمائي) على هذا التقدير».

سعادة مريم تضاعفت بما قاله لها المخرج سبايك لي: «لقد أذهلني وأبهجني برأيه حين قال لي، إن الفيلم أَثّر فيه كثيراً بجانب أعضاء لجنة التحكيم، وإنني جعلته يضحك في مشاهد ويبكي في أُخرى، وقلت له إنه شرفٌ عظيم لي أن الفيلم حاز إعجابك وجعلني أعيش هذه اللحظة الاستثنائية مع أهم حدث في حياتي».

وأضافت مريم شريف في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أنها لم تُفكّر في التمثيل قبل ذلك لأن السينما اعتادت السخرية من قِصار القامة، وهو ما ترفضه، معبّرة عن سعادتها لتحقيق العمل ردود أفعال إيجابية للغاية، وهو ما كانت تتطلّع إليه، ومخرجته، لتغيير أسلوب تعامل الناس مع قِصار القامة لرؤية الجمال في الاختلاف، وفق قولها: «نحن جميعاً نستحق المساواة والاحترام، بعيداً عن التّهكم والسخرية».

وكان قد شهد عرض الفيلم في المهرجان حضوراً لافتاً من نجوم مصريين وعرب جاءوا لدعم بطلته من بينهم، كريم فهمي الذي يشارك بصفة ضيف شرف في الفيلم، وبشرى التي أشادت بالعمل، وكذلك أمير المصري ونور النبوي والمنتج محمد حفظي.

واختارت المخرجة أن تطرح عبر فيلمها الطويل الأول، أزمة ذوي القامة القصيرة الذين يواجهون مشاكل كبيرة، أقلّها تعرضهم للتنمر والسخرية، وهو ما تصدّت له وبطلتها عبر أحداث الفيلم الذي يروي قصة «إيمان» قصيرة القامة التي تعمل موظفة في أرشيف إحدى المصالح الحكومية، وتحلم مثل كل البنات بلقاءِ فارس أحلامها وتتعلق بأغنية المطربة وردة الجزائرية «في يوم وليلة» وترقص عليها.

وجمع الفيلم بين بطلته مريم شريف وبعض الفنانين، ومن بينهم، كريم فهمي، ومحمد ممدوح، ومحمد جمعة، وخالد سرحان، وصفوة، وكان الفيلم قد فاز بوصفه مشروعاً سينمائياً بجائزة الأمم المتحدة للسكان، وجائزة الجمعية الدولية للمواهب الصاعدة في «مهرجان القاهرة السينمائي».

وعلى الرغم من أن مريم لم تواجه الكاميرا من قبل، بيد أنها بدت طبيعية للغاية في أدائها وكشفت عن موهبتها وتقول المخرجة: «كنت مهتمة أن تكون البطلة غير ممثلة ومن ذوات القامة القصيرة لأحقق المصداقية التي أردتها، وحين التقيت مريم كانت هي من أبحث عنها، وكان ينقصنا أن نقوم بعمل ورش تمثيل لها، خصوصاً أن شخصية مريم مختلفة تماماً عن البطلة، فأجرينا تدريبات مطوّلة قبل التصوير على الأداء ولغة الجسد والحوار، ووجدت أن مريم تتمتع بذكاء لافت وفاجأتني بموهبتها».

لم يكن التمثيل يراود مريم التي درست الصيدلة في الجامعة الألمانية، وتعمل في مجال تسويق الأدوية وفق تأكيدها: «لم يكن التمثيل من بين أحلامي لأن قِصار القامة يتعرضون للسخرية في الأفلام، لكن حين قابلت المخرجة ووجدت أن الفيلم لا يتضمّن أي سخرية وأنه سيُسهم في تغيير نظرة كثيرين لنا تحمست، فهذه تجربة مختلفة ومبهرة». وفق تعبيرها.

ترفض مريم لقب «أقزام»، وترى أن كونهم من قصار القامة لا يحدّ من قدرتهم ومواهبهم، قائلة إن «أي إنسان لديه مشاعر لا بد أن يتقبلنا بدلاً من أن ننزوي على أنفسنا ونبقى محبوسين بين جدران بيوتنا خوفاً من التنمر والسخرية».

تغريد أبو الحسن، مخرجة ومؤلفة الفيلم، درست السينما في الجامعة الأميركية بمصر، وسافرت إلى الولايات المتحدة للدراسة في «نيويورك أكاديمي» قبل أن تُخرج فيلمين قصيرين، وتعمل بصفتها مساعدة للمخرج مروان حامد لسنوات عدّة.

وكشفت تغريد عن أن فكرة الفيلم تراودها منذ 10 سنوات: «كانت مربية صديقتي من قِصار القامة، اقتربتُ منها كثيراً وهي من ألهمتني الفكرة، ولم أتخيّل أن يظهر هذا الفيلم للنور لأن القصة لم يتحمس لها كثير من المنتجين، حتى شاركنا الحلم المنتج محمد عجمي وتحمس له».

العلاقة التي جمعت بين المخرجة وبطلتها كانت أحد أسباب تميّز الفيلم، فقد تحولتا إلى صديقتين، وتكشف تغريد: «اقتربنا من بعضنا بشكل كبير، وحرِصتُ على أن تحضر مريم معي ومع مدير التصوير أحمد زيتون خلال معاينات مواقع التصوير حتى تتعايش مع الحالة، وأخبرتها قبل التصوير بأن أي مشهد لا ترغب به سأحذفه من الفيلم حتى لو صوّرناه».

وتلفت تغريد إلى مشروعٍ سينمائيّ يجمعهما مرة أخرى، في حين تُبدي مريم سعادتها بهذا الالتفاف والترحيب من نجوم الفن الذين شاركوها الفيلم، ومن بينهم: كريم فهمي الذي عاملها برفق ومحبة، ومحمد ممدوح الذي حمل باقة ورد لها عند التصوير، كما كان كل فريق العمل يعاملها بمودة ولطف.

 

الشرق الأوسط في

14.12.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004