دخل الربيع يضحك.. لقاني حزين
خبط على الباب لم قلت مين
هي ليست كوميديا سوداء، بل هي لحظة انقباض واضحة من الشاعر
صلاح جاهين صاحب الرباعية التي أخذت عنها المخرجة نهى عادل عنوان أول
أفلامها "دخل الربيع يضحك"، وهو الفيلم المصري المشارك ضمن اختيارات
المسابقة الدولية للدورة الـ45 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
رباعية "دخل الربيع" هي جزء من سياقات الأسى والحزن الأصيل،
الذي طالما سكن أشعار جاهين في مرحلة ما بعد 67، وحتى رحيله مكتئباً حين لم
يعد لديه أسباب للمقاومة أو الشعر.
يبدو نصف الشطر، الذي اختارته المخرجة وكاتبة الفيلم أشبه
بسؤال أو علامة تعجب، يُمهد للنصف الثاني عبر استبعاد الجواب "لقاني حزين"،
واستبداله بـ4 مواقف تدور في 4 أماكن مختلفة، مكان واحد لكل موقف، يجمعها
كلها ليس فقط الحزن كما الرباعية، بل الأسرار الفائحة، وخبايا النفوس،
وفداحة أن تكون القلوب عامرة بما لا يطيق اللسان النطق به، سوى في لحظات
الانفجار أو الأسى أو اليأس.
منذ فيلمها القصير الأول "مارشيدير"، ولدى نهى صلة حميمية
مع عنصر المكان الواحد في الفيلم، بل مع الإطار الكلاسيكي الخاص بوحدة
الزمان والمكان والموضوع، امرأة تقود سيارة ترفض العودة إلى الخلف في شارع
ضيق وتصر على الاعتصام في سيارتها إيماناً منها بأن موقفها سليم، وأن من
يقابلها من السيارات هم من عليهم العودة.
وفي "دخل الربيع يضحك"، يمكن القول إنها لم تفارق نفس
المبدأ تقريباً، ولكن مع محاولة خوض مغامرة تطوير الشكل بأن يصبح 4 مواقف
مختلفة، لكن كل موقف يلتزم بوحدة الزمان والمكان والموضوع، الموضوع تحديداً
نسبي جداً في المواقف الـ4، فهو أقرب لغطاء القدر المختنق بالبخار، ثم لا
يلبث أن ينفجر فتطال حممه الجميع.
"طيفه"
أم "صيفه"
يمكن أن نضيف إلى عنصر وحدة المكان والزمان والموضوع،
استخدام نهى الأثير للأغاني في خلفية الأحداث سواء كانت من مصدر صوت طبيعي
واقعي أو بشكل وضعي على شريط الصوت، في "مارشيدير" تقوم المرأة المعتصمة في
سيارتها بتشغيل الراديو للهرب من حجم الضغوط الخارجية التي تريد لها العودة
إلى الخلف والاستسلام.
أما هنا، وبما أننا أمام فيلم طويل فشريط الصوت باذخ
بالأغنيات، تحديداً وردة وشادية وصباح وسعاد حسني، حتى أن المشهد الأخير من
الفيلم يأتي فيه الحوار بين العجوزين اللذان شاهدناهما في الموقف الأول
وهما يتحدثان عن أغنية "الربيع" لفريد الأطرش، وعن اختلاف الكلمة الأخيرة
التي يسمعها الدكتور "مختار" واحد من أبطال الحكاية، على اعتبار أنها
"صيفه" في حين تصحح له الجارة العجوز الرقيقة بأن الكلمه هي "طيفه"، "ويبعت
للربيع طيفه وليس صيفه".
على ما يبدو أن ما يحدث في الحكايات أو المواقف الـ4، يمكن
أن يرتبط بهذا الجدل الرومانتيكي الطريف والبسيط حول كلمتي طيفه أم صيفه.
كعادة نهى فأن حضور العنصر النسائي هو المسيطر على الفيلم،
وهي مسألة لا تعيبها بالمناسبة، أما الحضور الذكوري فكاد ينحسر في الموقف
الأول في شخصية دكتور "مختار" وابنه "مصطفى"، الذي يتشجع لطلب يد جارتهم
العجوز لأبيه الثمانيني في حضرة ابنتها المطلقة، ولكن رد فعل الابنة يشعل
الموقف بصورة محرجة تصل إلى حد الطرد، ثم هناك رجل عابر في الموقف الثاني
(مايو - عيد الميلاد) ثم مصور الأفراح في حكاية يوم الزفاف وولد صغير في
حكاية الكوافير.
لكن ليس لأي الذكور قيمة درامية واسعة، فيما عدا حكاية
يونيو كما تطلق عليها المخرجة، والتي يعاد متابعتها في أواخر سبتمبر مع
اليوم الأخير لفصل الصيف، دون بقية الحكايات التي تنتهي على أسئلة مفتوحة،
ما يمكن أن نجزم به أن حضور العنصر الذكوري شحيح مادياً في الفيلم، هو حضور
"طيفي" فقط، أي من خلال ما يحكي عن الرجال سواء بالسلب أو الأيجاب، حيث يتم
استحضارهم كجزء أساسي من عالم الحكي النسائي بكل تفاصيله وتداعياته
وصداماته العنيفة، وهو ما يمنح الفيلم بجانب البذخ النسائي الكبير، سواء
على مستوى الأعمار أو الشرائح الاجتماعية صبغة نسوية لا يمكن تجاهلها، وهي
صبغة واقعية جداً بالمناسبة، خصوصاً مع الخطة البصرية التي وضعتها المخرجة
لفيلمها، والتي سبق وأن طبقتها في فيلمها القصير.
ونعني بها استخدام ممثلين غير محترفين، وحركة كاميرا خشنة
تشبه كاميرا الأخبار أو تغطيات الأحداث بحركتها القلقة ومحاولتها، متابعة
كل ما يجري وكل من يتواجد في محيطها كأنها تلملم خيوط الموقف أو تحاول
تأطير المعلومات والسياقات الانفعالية بصورة محمومة توازي حمية الصدامات
وردود الفعل والتراشق والحوار الساخن والسريع بين الأطراف الحاضرة للموقف
في نفس المكان.
نتوقف هنا أمام أسلوب المخرجة في التعامل مع الحوار على
اعتباره أداة الحكي الأساسية، فمن خلال الحوار يمكن التعرف على كل
المعلومات حول حاضر اللحظة وحول التاريخ المشترك أو الفردي للشخصيات، وحول
الأزمات المخبأة خلف الشفاه المبتسمة أو العيون المختومة بنظرات غامضة أو
قلقة، والحوار في مجملة يبدو مرتجلاً رغم كون من الواضح أنه مكتوب، لكنه
ليس مكتوب بصورة تقليدية كالحوار الفيلمي التقليدي، ولكنه مكتوب على مستوى
التوجيه والخطوط العريضة وسياقات النمو والتطور والاشتعال، هو أقرب لأسلوب
الـ"cross
fire"
بشكل كثيف جداً إلى حد الغموض والكلمات المدموغة والصراخ أو الـ"over
lab"
أي تداخل الجمل في بعضها والفشل في فصلها أو التعرف عليها وهو ما يسبب حالة
توتر وضيق للمتلقي، ولكنه توتر مقصود وضيق مستهدف.
مال ورجال
لا يوجد شكل تقليدي للحكاية في الفيلم، ولهذا أطلقنا عليها
مواقف، الأول كما أشرنا هو محاولة الابن المغترب أن يخطب جارتهم العجوز
لأبيه الثمانيني في حضور ابنتها المطلقة والمعقدة من الزواج والرجال على حد
سواء، والثاني هو عيد ميلاد واحدة من زوجات رجال الأعمال المثقلة بالوفرة
المالية الفائرة وصدامها مع صديقة لها، حين تظن أن الصديقة تقصدها بالكلام
عن واحد من أزواج صديقاتهن، الذي تزوج عليها فتاة سورية وأغدق عليها المال،
والموقف الثالث هو اتهام عاملة كوافير من طبقة متوسطة، بسرقة محبس ألماظ من
قبل زبونة (شرشوحة وعنيفة) واحتجاز الزبونة لكل المتواجدين في الكوافير من
أجل استرداد قطعة المجوهرات، أما الموقف الأخير فهو رفض أم العروسة حضور
صديقتها المطلقة ليلة الزفاف، على اعتبار أن كونها مطلقة يُعني "فال سيء"
على البنت والليلة بأكملها.
كأن المخرجة هنا تستدعي (الصيف الحار المشتعل) إلى لحظات من
المفترض أنها ربيعية جميلة ومفعمة بالتفتح والورود والبهجة، تقريباً لا
تكاد تغيب الورود عن المواقف الأربعة بأشكال مختلفة منها الباقة التي
يحضرها الشيخ الثمانيني إلى الجارة العجوز على اعتبار أنه عيد ميلادها أو
بوكيه العروس الممزق في نهاية الحكاية الأخيرة والذي تتساقط أوراقه في يدها
بدلاً من أن تقذفه إلى وصيفاتها في نهاية ليلة العمر.
على ما يبدو أن خطة المخرجة، هي أنه بدلاً من "يبعت للربيع
طيفه" أرسلت لهم "صيفه" كما يعترف الدكتور "مختار يونس" الثمانيني أنه كان
يسمعها في "فينال" الفيلم، وهو تناقض ذكي بالطبع، يتوازى مع حجم التناقض
الذي يشكله اختيار الأغنيات الرقيقة جداً والشفافة في معانيها ومشاعرها
التي يزخر بها شريط الصوت، بشكل يؤدي إلى وصول المتلقي إلى درجة من النفور،
حيث تمهد له الأغاني بيئة صوتية وشعورية هفهافة وناعمة، في حين تصدمه
المواقف بكم هائل من الردح والسب والإهانات والاشتباكات اللفظية الخشنة
وألوان التهزيق ودهس الكرامة وفسخ الحد المسموح لتدني الذوق وفجاجة
الإشارات المباشرة.
تتمحور الصدمات والصدامات في المواقف الأربعة حول عنصرين
أساسيين بالنسبة للنساء، الرجال والمال، وسواء كان هؤلاء الرجال حاضرين مثل
الشيخ الثمانيني أو غائبين مثل ازواج سيدات المجتمع -غير الراقيات إطلاقاً-
أو زوج عاملة الكوافير الذي أخذ فلوسها من أجل الزواج من أخرى، توحي نظرات
الزبونة أنها هي المقصودة بالزوجة الثانية التي تتحدث عنها عاملة الكوافير
أو أنها هي نفسها زوجة ثانية وظنت أن العاملة تلقح عليها بالكلام فتتهمها
علانية ومباشرة بالسرقة وتطلب تفتيشها ذاتياً أمام الجميع، أو حول كون
صديقة العروس في الحكاية التالية مطلقة وسعيدة بذلك ولكن حين تتهمها الأم
أنها تحاول إفساد ليلة ابنتها، تفجر قنبلة أن زوج الابنة المستقبلي على
علاقة بواحدة من صديقات العروس، ثم تفجر العروس مفاجأة أخرى تخص حبها لرجل
آخر غير العريس الذي ينتظرها في الأسفل.
أما المال فحدث ولا حرج، خصوصاً في موقف عيد الميلاد،
الحديث عن المجوهرات والفلل وبريق الألماس في الأصابع والصدور، وموقف
الكوافير، سرقة المحبس الألماس الخمس فصوص، وحتى موقف ليلة الزفاف حيث تطلب
أم العروسة من المصور أن يرد العربون بعدما إهانته فقام بمسح كل الصور
التي التقطها انتقاماً لكرامته.
صبغة نسوية
الصبغة النسوية إذن تبدو نقدية أكثر مما تبدو احتفائية
بالمرأة في حضورها التقليدي داخل التجارب المشابهة، ونحن في عصر الصوابية
المقيت، وهو ما يحسب للمخرجة بلا شك سواء كان هذا تلقائياً أو عن قصدية.
تبقى الإشارة إلى أنه مع كامل الحميمية الإنسانية، ومحاولة
إضفاء الصبغة الواقعية، المتاخمة لحدود النوع التسجيلي، والتحرر من أشكال
تقليدية عديدة على مستوى السرد، والتكريس للمغامرة بصرياً ودرامياً،
والاعتماد على ممثلين غير محترفين لكن يتسم العديد منهم بالود الأدائي
المطلوب والإقناع اللازم، مع كل هذه العناصر المحسوبة للتجربة، بجانب
الطرافة الطبيعية والكوميديا السوداء المخففة لحدة الردح والسباب.
يبقى "دخل الربيع يضحك" تجربة جدلية على مستوى قدرة هذا
الأسلوب على الوصول إلى شرائح عديدة من المتلقين، خصوصاً مع تراشقية الحوار
التي ليس من السهل تقبلها بالصورة الهيستيرية التي قدمها الفيلم في لحظات
كثيرة، تراشقية حد الصخب وتجاوز القلق والتوتر اللازمين إلى ما بعد النفور
والرفض الكامل.
من السهل أن يصاب العديد من المتلقين بالصداع إثر الكم
الهائل من الضجيج الحواري الذي هو أسلوب أساسي في التجربة، كما أن كشف
مواطن الارتجال يسهل على العين حتى غير الخبيرة، خصوصاً في موقف الكوافير
وعيد الميلاد.
وهناك أيضاً ملاحظة الإغراق الشديد في المحلية، وهي تفصيلة
تفرضها أسلوبية الفيلم نفسه، فهو فيلم حميمي عن المجتمع المصري، صحيح أن
هناك بعض المواقف التي يمكن أن تتماشى مع ثقافات ومجتمعات أخرى، ولكن
التدفق الحواري الهائل مع خشونة حركة الكاميرا ومحاولتها إيجاد معادلات
بصرية لكتل الحوار التي تندلق على رأس المتفرج، كل هذا سوف يجعل التماس
أكثر صعوبة بالنسبة للمتلقي الأجنبي، الدولي تحديداً، ربما أكثر من
الإقليمي الذي يتشابه معنا في العديد من السياقات.
لكن تظل التجربة في مجملها مغامرة منصفة لجرأة العمل الأول،
وصادقة في تعبيرها عن مشروع صانعتها التي يسهل رصد جذور أسلوبيتها وهمومها
منذ أولى أفلامها القصيرة.
*
ناقد فني