فيلم “الموريتاني”.. ما سقط من إنسانيتنا في “جوانتانامو”
مصطفى حسب الله
على مدار أعوام طوال شكَّل سجن “جوانتانامو” كابوسا للحكومة
الأمريكية والشعب الأمريكي على حد سواء، فقد كانت الحكومة الأمريكية عاجزة
عن تبرير المشاهد التي تم تسريبها من سجني “أبو غريب” و”جوانتانامو”، والتي
تكشف وحشية الأساليب المتبعة في التحقيق مع المعتقلين المسلمين في أعقاب
أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحرب العراق.
الطريق إلى “الموريتاني”
حاولت كاميرات عديدة اختراق أسوار “جوانتانامو”، ففي عام
2005 قامت قناة
PBS
الأمريكية ببث أحد الأفلام الوثائقية لتوثيق أساليب التعذيب المتبعة في
المعتقل، وتبعه مجموعة من الأفلام السينما الروائية والتسجيلية التي اعتمدت
في بنيتها التحقيقية على شهادات مجموعة من المحامين والمسؤولين العسكريين
ومعتقلين سابقين لإظهار أساليب التحقيق المثيرة للجدل التي استخدمت داخل
المعسكر ضد 780 رجلاً انحدر معظمهم من الشرق الأوسط وجنوب آسيا وشمال
إفريقيا، وظلوا مسجونين على مدى 18 سنة.
وعلى رأس هذه الأفلام يأتي فيلم Taxi To The Dark Side الذي
حاز جائزة الأوسكار كأفضل عمل تسجيلي، فيما جاء فيلم Road To Guantanamo كأول
فيلم روائي يتناول واقع الحياة في المعتقل من منظور المعتقلين، وفي أعقابه
تم تقديم فيلمي Camp X Ray و The Report لواقع
جوانتانامو وتبعات الحادي عشر من سبتمبر من وجهة النظر الأمريكية في عديد
من القصص التي تداعب نفسية المشاهد الأمريكي، فقدم “كامب إكس راي” لعلاقة
عاطفية ستتطور بين الجندية الأمريكية والسجين المسلم صاحب الرؤى التقدمية،
مما يجعله مختلفاً عن رفاقه من المسلمين المعتقلين الذين يعتنقون رؤى
“متخلفة” عن العلم والمرأة.
فيما قدم “التقرير” الذي يقوم فيه الممثل آدم درايفر بدور المحقق الرئيسي في ملفات
التعذيب، عن طريق الشخصية الرئيسية “أبو زبيدة”، صورة مرعبة عن التعذيب
ولكنه اعتمد فيها على إدانة الجاني والمجني عليه.
كان القاسم المشترك بين تلك الأفلام الروائية لسيرة
جوانتانامو، ثيمة هوليودوية تعرف باسم
White-Savior
“المنقذ الأبيض”، حيث تركز على الأبطال البيض الذين يأتون إلى مساعدة
الملونين، على حساب الضحايا أنفسهم، ومن ثمّ إعفاء الجماهير البيضاء من
الذنب تجاه الضحايا وحملها على شراء تذاكر لأفلام عن مجتمعات من المحتمل أن
تكون لهم فيها خبرة محدودة.
وهنا يمكن تأطير فيلم “الموريتاني”
The
Mauritanian
كمحطة فارقة وهامة في التوثيق السينمائي لحقبة الحرب الأمريكية على
الإرهاب، فالفيلم يمتاز بالشفافية تماماً كالمُذكرات التي اقتبس منها جزء
كبير في سيناريو الفيلم (يوميات
غوانتانامو)،
وهو أمين أيضاً على سيرة كاتبها “محمد
ولد صلاحي“،
على قدر ما يمكن لوسيط، كالفيلم، أن ينقل وسيط آخر كالسيرة الشخصية، بأقل
قدر من الخيانة والتشويه والمبالغة.
ولا يخلو “الموريتاني” من وجود المنقذين البيض، ولكنه يقدم
نماذج حقيقية كالمحامية نانسي هولاندر، لكنه لا يضخم أدوارهم في القصة على
حساب صلاحي.
وتعبر تصريحات
أدلت بها الممثلة جودي
فوستر التي تؤدي دور المحامية نانسي هولاندر عن ذلك التوجه: “لا أشعر أن
الفيلم عن المنقذ الأبيض، فقد كنا حذرين للغاية بهذا الشأن، إنها قصة محمدو
نفسه، يحكيها من وجهة نظره، وفي بعض الأحيان نضطر الابتعاد عن روايته لكي
نعطي، بطريقة وثائقية، وجهات نظر الشخصيات الأخرى، خاصة فيما يتعلق بنانسي
هولاندر ولأهمية الدور الذي تلعبه في القصة، فهي من جعلت محمدو يقوم بتأليف
كتابه، وفي النهاية كان الكتاب هو السبب في إطلاق صراحه”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن جودي فوستر التي حازت الأوسكار
مرتين، عادت إلى منصات الجوائز مرة أخرى بحصولها على جائزة جولدن جلوب 2021
كأفضل ممثل مساعد عن دورها في “الموريتاني”.
كما تطرق الفيلم إلى إدانة أمور أخرى خارج ثنائية الجيش
الأمريكي/المعتقلين المسلمين، وظهر هذا في تقديمه لنموذج الموظف
البيروقراطي الذي يراقب “جوابات” المعتقلين وينقحها من كل المآسي، فرغم كون
الموظف ليس متورطاً بشكل مباشر في التعذيب، ولكن بممارسته لتلك الوظيفة بدم
بارد يمثل نموذجاً اجتماعياً لشخصيات أمريكية ظهرت بسبب تغير البوصلة
الأخلاقية للأمريكيين في أعقاب تفجير البرجين.
واقعية قيد التنفيذ
سمح “صلاحي” للمخرج كيفين ماكدونالد بتناول سيرته سينمائياً
نظراً لأمانته وإخلاصه للحقيقة في فنه، حيث قدّم العديد من الأفلام
الوثائقية الواقعية كان أبرزها Marley الذي
يقدم قصة الأسطورة الغنائية بوب مارلي، بالإضافة إلى خبرته السابقة في صنع
الأفلام في قارة إفريقيا، فقد قدم أيضاً فيلماً روائياً عن حياة الطاغية
الأوغندي عيدي أمين The
Last King of Scotland.
يحب ماكدونالد أن يتبع في أفلامه ذلك التقليد المستقيم الذي
لا يزال يؤمن بالحقيقة والعدالة وقوة الفيلم السياسي، فقد ورث ذلك الأمر من
جده “إمريك بيرسبرجر”
كاتب السيناريو الألماني البارز في عشرينيات القرن الماضي، والذي هرب من
ألمانيا النازية إلى بريطانيا ليقدم مجموعة من الأفلام السياسية التقليدية.
تعاون صلاحي مع ماكدونالد في كتابة
السيناريو بالإضافة
إلى الاستعانة بمذكراته الشهيرة “يوميات
جوانتانامو“،
ولعب صلاحي نفسه دوراً كبيراً في تقديم قصته على الشاشة، فقد اعتمد الفيلم
على رؤيته في إضفاء أصالة بصرية على الصورة للحياة في موريتانيا ووصفها،
واستخدم جسده لإعطاء المخرج معلومات دقيقة عن حجم الأقفاص والخلايا التي
احتجز فيها حتى يتمكن فريق العمل من إعادة تركيب معسكر جوانتانامو في كيب
تاون بجنوب إفريقيا.
واختيار كيب تاون بجنوب إفريقيا لبناء صورة أخرى لمعتقل
جوانتانامو، ذو صلة بحياة صلاحي، فجنوب أفريقيا هي الدولة الوحيدة التي
قبلت أن تعطي لـ”صلاحي” تأشيرة الدخول إلى أراضيها عقب الإفراج عنه، وفي
جنوب إفريقيا زار “صلاحي” سجناً آخر في جزيرة روبن، حيث احتجز نيلسون
مانديلا وأعداء آخرون لنظام الفصل العنصري لعقود.
ويقول صلاحي عن تلك التجربة:
“كان بإمكانني سماع صراخ المساجين كأنهم أشباح، هؤلاء الأشخاص الذين أهدروا
شبابهم في ذلك السجن، فرغم إن معاناتهم ومعاناتي لا تتشابه، وتعدد وجوه
الظلم وكثرتها، إلا أن المعاناة والظلم بكل صورهم يتشاركا القبح”، ويعبر
صلاحي ساخراً عن التشابه بين جوانتانامو وسجن جزيرة روبن، فتلك اللافتة
الموجودة فوق في جزيرة روبن: “نحن نخدم بفخر” تتشابه مع الشعار المقابل
لجوانتانامو: “الشرف مُلزم بالدفاع عن الحرية”.
البقع المظلمة في التاريخ
بعد 55 عاماً في العمل السينمائي، قدمت جودي فوستر للمرة
الأولى دوراً مقتبساً من شخصية حقيقية، اتساقاً مع سياستها الانتقائية في
اختيار أدوارها، كان دور “نانسي هولاندر” مغرياً لجودي، فقد رأت في الشخصية
امرأة ذات مغزى وهدف.
رأت جودي في “نانسي” جزءاً منها، كشخصية تتحدى للنظام من
الداخل، ورأت أن المجتمع الأمريكي محظوظ بامتلاك شخصية مثل “نانسي
هولاندر”، والتي بدأت نشاطها الحقوقي ضد انتهاكات أمريكا منذ الحرب على
فيتنام وحتى وقتنا الحالي.
التقت جودي فوستر بـ”نانسي هولاندر” للتعرف عليها عن قرب،
وحرصت أن تقتبس منها كل التفاصيل التي تميزها وتُعبر عنها، فلم تكن دموع
جودي فوستر الحقيقية المعبر الوحيد عن إتقانها لشخصيه “نانسي”، بل تخطت ذلك
لتقدم تقمصاً رائعاً لنانسي من خلال التصوير الساكن للشخصية، وحرصها على
لبس نفس الملابس والإكسسورات التي كانت ترتديها واستخدام نفس النوع من
الأقلام التي كانت تستخدمه “نانسي” أثناء تحقيقها في قضية “صلاحي”.
أما بندكت
كامبرتش فبرر
حماسه للمشاركة في الفيلم بأنه “ذلك
النوع من القصص التي يحب أن يقدمها،
لُيكتب في تاريخه الفني أنه شارك بها، إنها قصة تسلط الضوء على الأماكن
المظلمة في التاريخ”.
يقدم كامبرتش دور المقدم “ستيورات كوتش” المسيحي المحافظ،
الذي قُتل صديقه في اختطاف الطائرة التي شاركت في تفجير البرجين في أحداث
الحادي عشر من سبتمبر، وأوكلت له مهمة البحث عن ذرائع لإدانة “صلاحي” من
أجل إعدامه.
كامبرتش كان مقتنعاً بشخصية “ستيورات كوتش”، نظراً لتطور
الشخصية بتتابع أحداث القصة ووقوفها عند مفترق طرق صعبة في خضم الأحداث،
رأى كامبرتش في ذلك البناء للشخصية مثيراً للاهتمام، فالتقى بـ”ستيورات
كوتش” في لندن، والذي أبدى سعادته واندهاشه من أن قصته ستعرض على الشاشة،
وسيقدمها ممثل بارع كبندكت كامبرتش، وجاء أداء كامبرتش المتقن في الفيلم
معبراً عن حماسته ذلك.
أجمع صناع العمل الرئيسيين في الفيلم على تقديم سيرة
“صلاحي” كشهادة للتاريخ، وليس لجمع الأموال في سباق الـ”بوكس أوفيس”،
فبالإضافة إلى لعبهم أدواراً داخل الفيلم، يعد بندكت كامبرتش وجودي فوستر
من منتجي الفيلم أيضاً.
وهروباً من قالب “المنقذ الأبيض” أراد صناع الفيلم الحد من
وقت ظهورهم على الشاشة، ولم يرغبوا في فعل أي شيئ من شأنه أن ينتقص من قصة
“صلاحي” لأن هذا هو سبب إنتاجهم للفيلم، وفقاً
لكلمات مصمم الإنتاج مايكل كارلين.
أما كيفين ماكدونالد مخرج الفيلم فيقول:
“عندما يتعلق الأمر باستقبال الفيلم، فأكثر ما يسعدني ليس الترشيح للجوائر،
ولكنه رد فعل الأمريكيين العاديين الذين شاهدوا الفيلم ثم اتصلوا بي
ليقولوا: كنت أعتقد أن ما فعلناه في جوانتانامو كان مبرراً، وأن المحتجزين
هناك كانوا مذنبين، لكننا أدركنا أننا كنا على خطأ، وهذا هو الهدف بالنسبة
لأي فيلم يتعلق بقضية، يجب أن يكون الهدف النهائي منه تغيير اتجاهات الناس،
ليس عدم التحدث إلى الجمهور الذي يتفق معك في الرأي وجعلهم يشعرون بالرضا
عن آرائهم”.
إلى جهنم بالصدفة
في الفيلم يؤكد “محمدوه” للمحققين ألا علاقة له على الإطلاق
بـ”القاعدة” وتفجيراتها في أنحاء العالم، وأنه كان موجوداً في أفغانستان مع
جنود بن لادن ولكنه عاد بعد انتهاء الحرب ضد السوفييت، ويضيف متعجباً: “لقد
كنت أحارب، وكان الأمريكان إلى جوارنا! ما الخطأ”.
بطل الفيلم هو ضحية لعوالم السياسة المتقلبة، توضع الأغلال
في يديه وأقدامه لأنه كان حليفاً يوماً ما لحلفاء أمريكا، الذين انقلبوا
عليها لاحقاً وانقلبت عليهم.
يبدأ “الموريتاني” بمشاهد فولكلورية للثقافة العربية
الإفريقية في الشمال، مشاهد لطقوس الفرح، ولغة محلية يتكلم بها الأشخاص على
الشاشة، بالإضافة لتوظيف الموسيقى التصويرية كمعبر رئيسي عن الأحداث في
الفيلم ساهمت في تهيئة المناخ والجو النفسي لتقبل أحداث الزمان والمكان في
القصة.
ويصل ذلك التعبير الموسيقى لذروته في التعبير عن أصالة
القصة لمواطن عربي موريتاني مسلم بالاستعانة بأغنية “يارب” لسيدة الأغنية
السياسية وصوت الأغنية الموريتانية في الأوساط العالمية عموماً “معلومة
منت الميداح”
في مشهد الفيلم الختامي.
وبطل الفيلم نفسه اختير بعناية ليعبر عن الخصوصية الثقافية
لعرب تلك المنطقة، وكسر القوالب النمطية التي تضع الثقافة العربية في سلة
واحدة، فالبطل الممثل المغربي طاهر رحيم الذي يلعب دور “محمدوه ولد صلاحي”،
من الرقعة الجغرافية التي تتداخل فيها الحياة المغربية ولغتها بالحياة
الموريتانية.
من خلال المشاهد الأولى للفيلم نستطيع أن نرى القبض على
“صلاحي” يقع تحت بند “عمليات التسليم غير القضائي” كما يسميها مكتب
الاستخبارات الأمريكية، وهي عمليات اختطاف تقوم بها القوات الأمريكية
للمشتبه بهم على أراض أجنبية، بالتعاون مع الجهات الحكومية المسئولة في تلك
الدول، ويصف المقدم “ستيورات كوتش” لرئيسه حالة صلاحي بكونها “مشروعاً
خاصاً” لذلك لا يمكنهم إعدامه قانونياً.
ولمصطلح “المشروع الخاص” في سياسات التعذيب الأمريكية معنى
هام، فهو تطبيق لمجموعة من الآليات المتبعة من قبل المحققين في استجواب
المعتقل، ويتشكل من تقنيات مصممة لإدخال السجناء في حالة من الضياع والصدمة
وإجبارهم على تقديم تنازلات رغماً عن إرادتهم، تتسبب في شروخ عنيفة بينهم
وقدرتهم على إدراك العالم المحيط بهم.
يقدم الفيلم صوراً ذلك من خلال تجربة “صلاحي” فبعد القبض
عليه، تُحرم حواسه كلياً من استقبال أي معلومات من خلال أغطية الوجه
وسماعات الأدنين والأغلال والعزل التام، وبعدها يعصف بالجسد مجموعة من
المحفزات مفرطة القوة، كالأضواء المبهرة، والموسيقى الصاخبة، والصدمات
الكهربائية، والإيهام بالغرق، ونتاجاً لكل هذا يدخل السجين في مرحلة
“التطويع” فيستسلم ويشتد الخوف في نفسه إلى درجة أنه يصبح عاجزاً عن
التفكير بعقلانية وحماية نفسه، ويقول كل ما يريد مستجوبوه الحصول عليه.
استخدم المخرج كيفين مكدونالد مجموعة من الأساليب
السينمائية المتقنة ليقدم لنا صورة لذلك في فيلمه، فمن خلال المونتاج
وأبعاد الصورة قدم لنا نموذجاً للحياة المستباحة التي يعانيها السجين في
المعتقل.
تُعرض مشاهد التعذيب في نمط غير متسلسل، عبارة عن مشاهد
متداخلة متقطعة بسرعة كبيرة بالمونتاج، توضح الواقع المتشظي في إدراك
السجين، وينتقل المخرج من خلال هذه المشاهد في مناطق بين الواقع في مكان
المعتقل في جوانتانامو ومناطق في فضاء العقل تعبر عن الهلاوس التي يعانيها
المعتقل، وشعوره بالفقد الحسي للزمان والمكان، ولقاء أشخاص لم يلتقيهم
أبداً في حياته من قبله.
ويوظف مكدونالد أبعاد الصورة باستخدامه بُعد 4:3 لتصغير حجم
الشاشة، في عرض ذكريات “محمدو” عن حياته السابقة وعن التعذيب، ليضخم إحساس
المشاهد بالشعور بانحصار “محمدو صلاحي” داخل عقله وذكرياته والتجربة التي
تعرض لها، ويشُعر المشاهد باندماج أكثر في تجربة “صلاحي”، بالإضافة إلى
التلاعب بالإضاءة في شدتها أو خفوتها إلى حد الإزعاج الذي يوازي شعور
“صلاحي” ورؤيته المشوشة بينما يتعرض لإحدى وصلات التعذيب.
حرص مكدونالد على ألا يصب سيرة “صلاحي” في قالب من التعذيب
الأصم ينزع عنه إنسانيته، لذا قدم تقاطعاً في ذكريات “صلاحي” بين حياة
جوانتانامو والتعذيب، وحياته كطفل في موريتانيا وتعلقه الشخصي بأبيه،
وفترات شبابه التي قضاها في الدراسة بألمانيا، وقصة حبه، فقد كانت مشاهد
التعذيب على بشاعتها تتقاطع مع لقطات جميلة مشوبة بالحنين إلى حياة عادية
وآمنة في أحضان صحراء موريتانيا وثقافة عيشها الساحرة.
ولتقديم صورة صادقة وشاملة لعمليات التعذيب، اعتمد الممثل
طاهر رحيمي في تقمصه لشخصية صلاحي منهجاً تيباجياًtypgaical- في
تصوير الشخصية، فقد حرص رحيمي على قضاء وقتاً مع “صلاحي” لفهم تجاربه
والتعرف على شخصيته وسلوكياته، يقول
طاهر:
“تحدثت عما حدث هناك، ورأيت اضطراب ما بعد الصدمة على وجهه وشعرت بالسوء”.
ويضيف في مقابلة أخرى:
“أردت الاقتراب قدر المستطاع من الظروف الفعلية لهذا الرجل، احتراماً
لمحمدو والأشخاص الذين مروا بهذا ومديري والجمهور، كان علي أن أفعل ذلك
بشكل حقيقي”.
كان رحيم يأمر فريق الفيلم بتقييده وجعل زنزانته باردة قدر
الإمكان، وإن لم يكن بارداً بدرجة كافية فكان يطلب رشه بالماء، حتى أنه عرض
نفسه للإيهام بالغرق، ويعلق رحيمي على ذلك التدريب القاسي لدوره: “إنه شعور
غريب جداً، ولكن بينما كنت أتعرض لكل هذا، كنت أعلم أنه في نهاية اليوم
سأذهب إلى النوم والراحة. لا شئ مثل ما مر به محمدوه”.
في المشهد الختامي لتعذيب “صلاحي”، شعر رحيم وكأنه يهذي
ويقول كدت أن أرى أمي أمامي في الزنزانة، وقال للمخرج أنه لن يستطيع تصوير
ذلك المشهد مرة أخرى، لا يمكن أن يقوم بنفس ذلك الفعل مرتين، ويعلق رحيمي
على التجربة في شخصية محمدوه إجمالاً فيقول: “عادةً، يصعب علي الدخول في
شخصياتي بدلاً من الخروج منها، لكن هذه المرة، استغرق الأمر ثلاثة أسابيع
للخروج محمدوه، ولا أعرف سبباً لهذا”.
تجنب “محمدوه صلاحي” مشاهدة الفيلم بعد عرضه، فلم يعد
قادراً على رؤية تلك التجربة المريرة من جديد، غير أنه بدا متفائلاً
بالفيلم فيقول:
“أنا لا أؤمن بالعنف، قصتي كلها كانت عنفاً ضد جسدي، وبراءاتي وأفراد
عائلتي، رغم أنني لم أفعل شيئاً للولايات المتحدة.. أعتبر فيلمي انتصاراً
للاعنف، وانتصاراً للقلم”.
قضى صلاحي 14 عاماً وستة أشهر في السجن دون تهمة، ولم تقم
أي جهة أمريكية بتحمل مسئولية الانتهاكات في جوانتانامو أو الاعتذار عنها،
ومازالت أبواب جوانتانامو مشرعة حتى الآن. |