فيلم «موسيقى» عن ذوي الاحتياجات الخاصة يثير جدلا كبيرا
المغنية الشهيرة سيا لـ«القدس العربي»: نجتهد لمساعدة
المصابين بالتوحد والإعاقة
حسام عاصي/ لوس أنجليس – «القدس العربي» :
عندما نشرت المغنية الشهيرة سيا مقطعاً دعائياً لفيلمها
«موسيقى» في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي على مواقع التواصل الاجتماعي،
واجهت انتقادات لاذعة بسبب اختيارها ممثلة ليست مصابة بالتوحد لأداء دور
شخصية متوحدة. وزادت حدة الإنتقادات لدرجة السب عندما حاولت أن تدافع عن
اختيارها لممثلتها المفضلة مادي زيغلر.
وفي حديث معها بعد تلك الحادثة عبرت لي عن أسفها على تلك
الانتقادات. «ما فعلته هو أنني طلبت منهم أن يشاهدوا الفيلم قبل أن يحكموا
عليه. لكن لاحقاً، بدا واضحاَ أن الأمر لا يتعلق بمضمون الفيلم ذاته. فكان
علي أن أصمت بدلاً من الدفاع عن الفيلم.»
«موسيقى» ليس الفيلم الأول، الذي يجسد فيه ممثل قادر شخصية
مصابة بالتوحد أو الإعاقة. فقد قام العديد من الممثلين القادرين بتلك
الأدوار ونال ستة وخمسون منهم ترشيحاً لجائزة الأوسكار أو فوزا بها.
من أبرزهم داستن هوفمان في فيلم «راينمان» حيث يؤدي دور
متوحد يمتلك ذاكرة خارقة، ذلك الفيلم كان أول عمل يطرح ظاهرة التوحد
للجماهير العالمية، وبات المرجع للتعرف عليها. بينما لعب داني داي لويس، في
فيلم «قدمي اليسرى» دور الرسام الإيرلندي كريستي براون المشلول جسده ما عدا
قدمه اليسرى، التي استخدمها لرسم لوحاته الشهيرة.
أما توم كروز، فقد جسد في فيلم «ولد في الرابع من يوليو»
دور الجندي الأمريكي رون كوفيك، الذي شل بسبب إصابته خلال حرب فيتنام،
وتحول لاحقاً لأحد قياديي الحركات المناهضة للحرب. وتلاه توم هانكس في فيلم
«فورست غامب» حيث لعب دور شخص بطيء الفهم يتميز بقدرات بدنية عالية، مكنته
من التفوق في مسابقات العدو ونيل ميداليات شرف بفضل تضحياته في حرب فيتنام،
فضلاً عن نجاحه في عالم الإستثمار. وكذلك هيلاري سوانك التي أدت دور ملاكمة
تصاب بالشلل خلال إحدى مبارياتها في «فتاة المليون دولار» وايدي ريدماين،
الذي جسد دور عالم الفيزياء المشلول الشهير ستيفين هوكينغ في «نظرية كل
شيء».
أعمال تعزز الاندماج في المجتمع
تلك الأفلام لم تطرح ذوي الإعاقة عبئا على المجتمع أو
فاشلين، بل كأبطال يمتازون بقدرات بدنية أو ذهنية خارقة تفوق قدرات
القادرين، وعرّفت المجتمع على إعاقاتهم وعززت من فهم الجماهير لهم وتماهيهم
معهم. وقد نال الممثلون رضى وامتنان ذوي الإعاقة الذين جسدوهم في أفلامهم؛
فقد عبّر كوفيك عن فخره بأداء كروز دور شخصيته في «ولد في الرابع من يوليو»
بينما مدح هوكينغ ريدماين على تجسيده له في «نظرية كل شيء».
لكن في الأعوام الأخيرة تحولت تلك الأفلام الأيقونية الى
مصدر سخرية وازدراء عندما صارت جمعيات ذوي الإعاقة تستنكر طرحها لإعاقتهم،
واصفة إياه بالنمطي والسلبي، وذلك لأن شخصيات ذوي الإعاقة فيها تكون دائماً
رافضة لإعاقتها ويكون رد فعلها غاضباً وعنيفاً عندما تصاب بها وأحياناً
تفضل الموت على تعايش معها.
تلك السخرية والاستنكار طالت الممثلين، الذين اتهموا
بالإسراف العاطفي في مظاهر الإضطراب والغضب والعنف لكي يعززوا من درامية
أدائهم، بدلاً من عكس الفروقات الدقيقة في التجسيد. لهذا ظهرت حملات تطالب
بمنح تلك الأدوار لمعاقين حقيقيين من أجل تقديم طرح أصلي لاعاقتهم.
بدأت الانتقادات تظهر عام 2016، عندما أُطلق فيلم «أنت
قبلك» الذي يلجأ بطله المشلول للموت الرحيم كي لا يكون عبئاً على حبيبته.
وفي عام 2018 اشتعلت حملة هاشتاغ «ديس ذا أوسكار» عندما فاز بالأوسكار فيلم
غييرمو ديل تورو «شكل الماء» الذي طرح فتاة بكماء كمعتوهة تهرب من العالم
مع كائن غريب مائي الى قاع البحر.
لكن تلك الثورة حدثت بعد أن شرعت سيا في التحضير لإنتاج
فيلمها الأول عام 2015. «لم أكن أدرك هذه الأمور» تقول المغنية. «الآن أعرف
أن علي بذل الجهد لإيجاد شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة لأداء مثل هذا
الدور. لكن في هذه الحالة لم يكن الأمر ممكناً لأننا كنا قد اقترضنا كامل
المبلغ المالي ولا يمكن تغيير السيناريو.»
شخصية الفيلم المتوحدة هي فتاة مراهقة مسماة على اسمه
«موسيقى» تعيش مع جدتها وتقضي وقتها في الاستماع إلى الأغاني والموسيقى،
وتتخيل أنها تشارك بالرقص والغناء مع جوقتها، ما يساهم في تخفيف آلامها
ويجعلها في غاية الفرح. وعندما تتوفى جدتها، تحضر أختها، زو، وهي تاجرة
مخدرات، للعيش معها والاهتمام بها.
«ما وجدته هو أنك إذا كنت متوحداً فإنك تصاب بأعراض أشبه
بأعراض الصدمة الكهربائية ويؤلمك جسدك بسبب التشنجات» تشرح سيا. «بالنسبة
لي، كانت في مخيلتها متحررة من كل ذلك الألم.»
ذوو الاعاقة يحتجون
لكن ذلك التحليل لم يرض ذوي الإعاقة، الذين ثاروا غضباً
عندما عرض الفيلم لأول مرة بداية هذا العام في أستراليا، ووصفوا طرحه
للشخصية المتوحدة بالنمطي والخطير وتحديداً مشاهد كبح الشخصية عندما تصاب
بالارتجاف والاضطراب. وانهالت المسبات على سيا عبر مواقع التواصل
الاجتماعي، ما دفعها لإلغاء حسابها على موقع تويتر.
كما طالبت منظمة الدفاع عن التوحد بإلغاء الفيلم. بينما نظم
موقع «تشينج دوت كوم» حملة لسحب الفيلم من ترشيحات الغولدن غلوب، جذبت أكثر
من مئة وخمسين ألف توقيع.
«أتفهم السبب في وصف الناس له بأنه يميّز ضد ذوي الإعاقة»
تقول سيا. «فقد قمت بذلك عن غير عمد وتصرّفي اتسم بمحاباة الأقارب، فمادي
بمثابة ابنتي وكانت حساسة تجاه تجسيدها الدور. وكانت نوايانا جميعا
حسنة.»ولدت مادي عام 2002 وبدأت تمارس الرقص بينما كان عمرها عامين، وعندما
شاهدتها سيا في برنامج رقص تلفزيوني واقعي وهو «أمهات الرقص» بينما كانت في
الثامنة، اختارتها للرقص في كليباتها الموسيقية، مثل «تشاندليير» و
«إيلاستيك هارت» اللذين جذبا أكثر من خمسة مليارات مشاهدة على موقع يوتيوب،
ما جعل مادي إحدى أكثر شخصيات مواقع التواصل الاجتماعي شعبية، حيث يتابعها
ما يقارب ثلاثة عشر مليون شخص.
لهذا إحترافها في الرقص وقربها من سيا جعلاها الخيار
الطبيعي لأداء دور شخصية موسيقى. «عندما كتبت نص الفيلم تخيلت مادي فيه في
عقلي الباطني.»
ومع ذلك، حاولت سيا أن تختار مصابة بالتوحد لأداء الدور وأن
تدربها على الرقص والغناء من أجل تفادي الانتقادات، لكنها فشلت. «أمها
قالت: مستحيل لأن ذلك سيجلب الخزي عليها».
مادي لم تكن تعرف شيئاً عن التوحد أو عن مصابيه. فانغمست في
دراسة التوحد والمصابين به من خلال مشاهدة الفيديوهات عنهم على الانترنت،
والالتقاء ببعضهم والتعرف عليهم عن قرب. وقد نال أداؤها مديح معهد عقل
الطفل، الذي منحها نسبة نجاح 100 في المئة في تمثيلها لطفل غير ناطق مصاب
بالتوحد.
وفي حديث معها، قالت لي إن الفيلم أكثر ما طرح لظاهرة
التوحد. «الفيلم بالنسبة لي لا يدور عما يظنه الجميع وحسب» توضح مادي، ابنة
الثامنة عشرة. «أظن أن عليك مشاهدته لتفهم أن هذا عالم كامل من الإبداع
والحب والألوان والصور الفنية الغريبة وما إلى ذلك.»
مادي ليست مجرد راقصة في فيديوهات سيا، بل هي بديلتها
الشخصية، وذلك لأن المغنية الشهيرة كانت تبغض الشهرة وتتفادى الظهور أمام
الملأ وكانت تلبس شعراً مستعاراً يغطي وجهها بالكامل خلال عروضها الموسيقية
لكي تحافظ على خصوصيتها. فألبست مادي شعراً مستعارا لكي تبدو شبيهة لها.
لكن سرعان ما واجهت تهماً باستغلال الطفلة مادي جسدياً وجنسياً.
«ذلك الأمر لم يخطر ببالي» تعلق سيا. «قلت لنفسي: رائع،
إنها طفلة ولديها الكثير من المتابعين الصغار يشاهدونها على برنامج «دانس
مامز» ولم أفكر أبعد من ذلك.»
أما مادي فهي ممتنة وتشعر بأنها محظوظة لاختيار سيا لها،
رافضة بشدة الانتقادات ضدها. «سيا لديها رؤية وأنا أقوم بنفخ روح الحياة في
تلك الرؤية. مع ذلك أدرك أن كل شخص له وجهة نظر وجميعها صالحة بطريقتها
الخاصة، لكن كما تعلم الفن أمر شخصي؛ إما أن تحبه أو تكرهه. بالنسبة لي،
لقد كانت تجربة مذهلة. وما زال ذلك أشبه بالحلم اليوم لا يمكنني أن أصدقه
وأنا أقدره كثيراً لأنني أعيش بالضبط كما أردت عندما كنت طفلة صغيرة.
وبالتالي إنه رائع جداً.»
من المفارقات أن موسيقى، التي تحمل اسم الفيلم وباتت محور
الاهتمام والجدل، ليست شخصية الفيلم الرئيسية أو محوره، بل هي الشخصية
المساندة للشخصية الرئيسية وهي أختها زو، الفوضوية والمدمنة على المخدرات،
التي تجد مخرجاً من أزماتها الشخصية والنفسية بفضل ارتباطها بها. تلك
الشخصية استلهمتها سيا من تجربتها الخاصة، إذ أدمنت على المخدرات والكحول
لأكثر من عشرة أعوام وحاولت الانتحار عدة مرات بعد أن قتل حبيبها في حادث
سير في لندن عام 1997. «لم أخطط لأصبح مخرجة أفلام» توضح سيا المغنية ابنة
الـ 45 عاما. «كان يجب أن أصنع هذا الفيلم. لقد كنت أفكر به لسنوات عديدة
وكان يتسرب مني وليست لدي أي فكرة لماذا أخترت هذا الموضوع، لكنني شعرت
أنني مدفوعة نحو هذا الخيار، وأنني إذا لم أصنعه سأموت وكلّي ندم. في
النهاية كان مصدر إزعاج كبير لكنه في الغالب كان حاجة ومتعة.»
لكن تجربة سيا الأولى في الإخراج لم تكن ممتعة، ففضلاً عن
انتقادات المعاقين، اتهمت أيضا بتخليد صور نمطية عنصرية بسبب لجوء رجل
أفريقي مصاب بالايدز الى زو البيضاء البشرة لكي تأمن له الأدوية. كما نعته
النقاد بأسوأ فيلم لهذا العام ووصفوه بأنه يفتقر للذوق.
فالسؤال هو هل يمكن أن يكون الفن مبدعاً إذا التزم بأحكام
المجتمع والتقاليد والتراث واللياقة السياسية؟ أليس على الفن أن يتحدى،
وربما يتمرد على النظم المفروضة من أجل إثارة الجدل وتطوير الأفكار؟ أو هل
على الفنان أن يلجم خياله وتفكيره وتعبيره من أجل مراعاة مشاعر جمهوره؟ |