ملفات خاصة

 
 
 

ملك «العِشرة الحلوة» فريد شوقى

كتب: أميرة عاطف

مئوية الملك فريد شوقي

   
 
 
 
 
 
 

مائة عام تمر يوم 30 يوليو الجارى على ميلاد واحد من أهم وأقوى، بل من أجمل وأروع الفنانين الذين عرفتهم مصر. «فريد شوقى»، فنان الشعب. المَلك الذى لطالما عاش بين رعاياه، خادمًا إياهم بموضوعات تُغير من حياتهم، بأفكار تُشغل عقولهم، بشخصيات يحاولون أن يكونوا مثلها أو عكسها، فهو من أكثر الفنانين الذين لم يخجلوا أبدًا من تقديم شخصيات سلبية حتى تكون «عِبْرة» للمُشاهدين. لم يخلق من صورته على الشاشة نموذجًا ملائكيّا بل سعى دومًا لتقديم العيوب حتى يدرك المشاهدون ما يجب ألّا يفعلوه فى حياتهم أو مع أبنائهم

أكثر من 350 عملًا سينمائيّا وتليفزيونيّا ومسرحيّا وإذاعيّا قدّمها المَلك فى مشواره الطويل الذى بدأ منذ عام 1946م وهو فى بداية العشرينيات من عمره، واستمر حتى قرب وفاته فى عام 1998م؛ حيث عرض آخر أعماله عام 1996م

«روزاليوسف» تحتفى فى هذا العدد بمئوية الملك. نلقى ضوءًا بسيطا على هذا العملاق، فنيّا وإنسانيّا، الفنان الذى عشقته القلوب واحترمته العقول.<

«روزاليوسف»  

كم تمنيت وأنا أستمع إليهن، أن يكون هذا الرجل نموذجا لكل أب وزوج، كلهن أتفقن على حنانه وحبه واحتوائه لكل من حوله. كلهن اجتمعن على جملة واحدة «عشرته حلوة».

الإنسان الملك «فريد شوقى»، أبو البنات، والزوج صاحب العشرة الحلوة، الابن البار بالأم والأب.. وحش الشاشة الذى لا يعرف شيئًا عن الوحشية إلا فى بعض الأدوار التى قدمها فى السينما.

من داخل المملكة تتحدث الملكة والأميرات عن الزوج والأب والجد.. «فريد شوقى»

الزوجة سهير ترك.. عشرة العمر

«فريد» كان كتلة من المشاعر، نموذجًا للرجل الذى يحب بيته وزوجته وبناته، لم يشغله عنا أى شيء، حتى عمله، كان يشركنا فيه، فكثيرا ما كان يعطينى سيناريوهات أقرأها له وأبدى رأيى فيها وكان يقتنع بهذا الرأى.. كان يعطى كل شيء حقه، يتذكر أعياد الحب والميلاد والزواج، يهنئنى بها، يكتب لى بعض أبيات الشعر، يرسل لى الورود ويأخذنى معه فى كل المناسبات والدعوات. بيته كان بيت كرم مفتوح للقريب والغريب.

تزوجنا بعد قصة حب بدأت بالإعجاب المتبادل، وكبر الحب وتأكد مع العشرة الحلوة.. أول لقاء كان عندما حضرت أنا وأخواتى مسرحية (الدلوعة) فى مسرح الريحانى. وكان وقتها قد مر على وفاة والدتى ستة أشهر. وبعد العرض ذهبت لأسلم عليه فوجدت الفنانة «مارى منيب» وسألتها عنه فنادت على شخص يدعى «عصفور» وطلبت منه توصيلى له، وعندما وصلت وجدت الغرفة مليئة بالرجال، شعرت بالخجل وتراجعت بسرعة، فخرج ورائى وسألنى عن اسمى وقالى «مين اللى معاكى فى الصالة» فاندهشت وقلت له «هو أنت شوفتنى فى الصالة» قالى «طبعا» وأعطى لى رقم مكتبه وطلب منى الاتصال.

بعد ذلك بفترة طويلة شاهدت له فيلم (ابن الحتة) ولم يعجبنى، فاتصلت به وقلت له «ليه يا أستاذ فريد عملت الفيلم ده؟ « فسألنى «هو معجبكيش؟». قلتله «الحقيقة لا» فقال لى «أذهبى إلى سينما كايرو، سأقوم بحجز تذاكر لكى ولأخواتك». كانت الدعوة لفيلم (عثمان الجبار) وتحدثنا بعدما شاهدت الفيلم الذى عجبنى هذه المرة وقلت له «أنت ممثل كويس ليه بتعمل حاجة نص نص». قال لى «أنا كنت بختبر نفسى فى الميلودراما» وبعدها طلب منى أن أذهب له المكتب لأنه يريد التحدث إلىّ فى موضوع. وذهبت، لأفاجأ بأنه يطلبنى للزواج، قلت له «هسأل والدى». وبعد موافقته تم كتب الكتاب فى منزل والدى ثم عزم «فريد» العائلتين على العشاء فى الماريوت.. تزوجنا وعمر «فريد»49 سنة وأنا 27. ورغم فارق السن بيننا إلا أننى لم أشعر يوما بذلك لأنه كان شابا بروحة وقلبه وكان يملك طاقة أكثر منى، فكان يومه مليئًا بالأحداث، عمل وزيارات عائلية ونادى وجلسات سونا ولعب كرة فى النادى الأهلى الذى كان من أكبر مشجعيه والذى كان عندما يفوز فى أى مباراة يأتى الناس تحت البيت ويهتفون «بيب بيب أهلى.. اطلع يا ملك».

من أشهر طباعه أنه كان يمتلك خفة دم غير عادية لدرجة أنه عندما كنا نتواجد فى سهرة كان «سمير صبرى» مثلا يقول له «قول نكته يا ملك». فأضحك وأقول له «هو أنت مونولوجست». وفى البيت عندما يكون لديه وقت فراغ كان «يتسلى» علىّ أنا والبنات ويعمل فينا مقالب.. لم يكن يحب الخصام والغضب وأى خلاف بيننا كان ينهيه بسرعة وأكثر ما كان يزعجه أن أتجاهله فى الخصام.

كان يحب أن يأكل من يدى «الكشك والبامية» ويقول لولدته «سهير بتقول أن الكشك بتاعها أحلى من الكشك بتاعك». رغم ذلك كان يأكل قليلا لكنه كان يحب الحلويات وعندما يقرر الامتناع عن وجبة العشاء كان يطلب بدلا منها طبق أرز بالبن.. وفى المشروبات كان يفضل القهوة عن الشاى

«فريد» كان كبير الوسط الفنى وكانت علاقاته متشعبه لأنه ممثل ومؤلف ومنتج وموزع وكان فى غرفة صناعة السينما ونقابتى الممثلين والسينمائيين ولذلك كان منزلنا مفتوح طوال الوقت لأصدقائه وكان دائم السؤال عليهم فكان يوميا يتصل بالفنانة «تحية كاريوكا» كما يتصل بوالدته وأخواته.. فقد كان ابن بار هو وشقيقه «أحمد شوقى» بوالدتهما ووالدهما وكانت علاقته قوية بوالده لأنه هو الذى شجعه على الفن والتمثيل.حيث كان «خطيبا» أطلقوا علية «بلبل الوفد». هو الذى أصطحب «فريد» للمسرح والسينما وناقشه فيما يراه وهو من عرفه على «يوسف وهبى» وحتى بعد أن أصبح «فريد» فنان كبير ظل يأخذ رأى والده فى الموضوعات التى يقدمها.

«فريد» كان عاشقًا لتراب مصر، وأذكر مرة أننا ذهبنا إلى إحدى الدول العربية واستضافتنا أسرة فلسطينية على العشاء، وكان وقتها الرئيس «السادات» قد عقد اتفاقية كامب ديفد، وتكلم عليه أحد الأشخاص وكأنه خائن للقضية الفلسطينية فغضب «فريد» وقال له «لا أسمح لك أن تتكلم على رئيسى بهذه اللهجة، انتوا قاعدين هنا تعملو فلوس وعاوزينا نحاربلكوا ما تنزلو تحاربوا» وأنقلب العشاء إلى شجار وطلب منى أن نترك المكان فورا. وعندما كان «عبدالغنى قمر» يهاجم مصر من ليبيا اقيمت لـ«فريد» حفلة هناك فقال لهم «لو عبدالغنى قمر موجود لن أحضر» وبالفعل منعوا «قمر» من الحضور.

مرض «فريد» هو أكثر الصعوبات التى مرت بنا فكنا دائمين السفر للندن وأمريكا. والصعوبة الأكبر كانت تكمن فى كونه محب للحياة وكانت فكرة المرض والعزلة صعبه جدا عليه.

ناهد.. الابنة الصديقة

فتحت عينى على الحياة على علاقة حب استمرت لسنوات بين أبى وأمى الفنانة الراحلة «هدى سلطان» وكان لهذا الحب نتاج على المستوى الفنى والإنسانى. الحمد لله نفتخر بكوننا بنات الملك، فلم يختلف عليه فى الوسط الفنى أثنين، ولا يوجد أحد يذكره بسوء. سيرته الطيبة وحب الناس والأهل والأصدقاء له هم الميراث الحقيقى لنا. فأبى وأمى كانوا من الناس وللناس «وقيل عنهم كانوا ونس». كنا جميعا نعيش سويا الملك و«هدى سلطان» وأختى الكبيرة «منى» وشقيقتى «مها» وأختى من أمى «نبيلة» وكان هناك احتواء منهما لنا جميعا. كان والدى يعامل «نبيلة» كأنها ابنته ولفترة طويلة كانت تعرف بأسم «نبيلة فريد شوقى» وظلت علاقتها به طيبة وقوية حتى وفاته.

أبى ورغم كل مسئولياته، حتى عندما كان يقدم 12 و15 فيلمًا فى السنة ومسرحيات وأعمال تليفزيونية. كان بارا جدا بعائلته، والده ووالدته وأشقائه وكانت أمى تقول أن «ربنا سيبارك له فى أخرته من كثر بره بأهله» وكان دائما يسكن أهله بجانبه كلما انتقل لحى ينقلهم معه. الأسرة بالنسبة له «شيء مقدس».

أب فى منتهى العطف والحنان، اعتمد على أمى فى إبلاغنا بالأشياء المرفوضة قائلا لها «أنا مش هكون «فيلن» معاهم»، وعندما نذهب له لطلب أى شيء لم يستطيع أن يقول لنا لا، كان ضعيف جدا فى حبه لنا.. لم أتذكر مرة أن صوته ارتفع علينا ولكن لو نمى لعلمه ما يغضبه كان يصمت، لا يمزح معنا أو يمر علينا فى غرفنا فنعرف أنه «زعلان مننا». كنا نكاد «نجن» لإرضاءه وكان هذا يحدث غالبا بسبب تأخيرنا فهذا أكثر ما يزعجه، وحتى بعد زواجنا طالبنا أن نذهب إليه يوميا نحن وأزوجنا وأولادنا.

طقوس والدى اليومية، كانت تبدأ بـ«دش» ساخن ثم بارد. وكان يداوم على صلاة ركعتين قبل مغادرته للمنزل ويخاف جدا إذا لم يفعل ذلك لأنه فى مرة خرج دون أن يصلى فتعرض لحادث. من عاداته أيضا اننى لم أراه أبدا يرتدى ملابس بيت، كان دائم التأنق، ينزل من الدور العلوى للسفلى فى الفيلا مرتديا ملابس خروج. يستمع للراديوا فى الليل وينام على صوته. كان لديه أشياء مقدسة أهمها التجمع العائلى أول يوم رمضان وفى الأعياد فى بيت جدتى وجدى.

أما عن طقوسه أثناء العمل، فأتذكر أثناء تصوير فيلم (السقا مات) كان يلتقى يوميا فى بيتنا بالمخرج «صلاح أبو سيف»، يجلسان سويا فى غرفة المكتب وممنوع الدخول. وأثناء تصوير مسلسل (البخيل وأنا) كان يتعامل معنا بنفس منطق شخصية «عوض»، يظل يعد فى الفلوس ويقول «مفيش» إذا طلبنا منه، رغم أنه كريم، ويصرف النقود حتى قبل دخولها البيت، وخاصة فى شراء السيارات الأمريكية، والتى كان يظهر بها فى الأفلام. كان طول الوقت يريد أن «يمتعنا فى عزه وتكون عينينا مليانة» بالخروج والسهر، لم يحرمنا من شيء. يحمينا من أى شيء ففى مرة أصطحبنى إلى «كازينو الشجرة»، كنت صغيرة لكنه قال لى «أنا أدخلهولك بنفسى».

لم يدفعنا نحو المجال الفنى وكان حريص على أن نستكمل دراستنا، فمن وجه نظره الشهادة هى «السلاح الذى لا يبدده الزوج». رغم ذلك كانت علاقته بأزواج بناته جميلة، بها حب واحترام، وخاصة علاقته بزوجى المرحوم المخرج «مدحت السباعى» فلم تخلو جلسة لهما من الضحك والفكاهة، وكان داعم لـ«مدحت» وليس هو فقط بل أى مخرج كان يلجأ إليه فى بدايته، لم يمتنع عن مساعدته.

كانت علاقتى به خاصة جدا، أعتبرنى «الولد» الذى لم ينجبه، حضرت معه التصوير ومباريات كرة القدم. كنت فى يده باستمرار، عشت فى جلبابه وبعد أن تعلمت منه المهنة ارتبطت به أكثر وعلمنى قدسية العمل، احترام الجمهور والانشغال بمشاكل الناس وكانت آخر نصائحة لنا «حبوا بعض».

منى.. بنت عمره

أنا الأبنة الكبرى للفنان «فريد شوقى» من زوجته الأولى «زينب عبدالهادى»، لم يدم الزواج بين أبى وأمى طويلا. عشت طفولتى مع أمى فى مصر الجديدة، ولكنه كان دائم الحرص على رؤيتى، يرسل السائق الخاص به ليأخذنى أقضى بعض الوقت معه ومع جدتى وجدى وأعمامى وعماتى ومع أخواتى «ناهد» و«مها» و«نبيلة» إبنة ماما «هدى سلطان». كان يهتم جدا بلمة العائلة وهذه الصفة تربينا عليها كلنا.. ثم انتقلت للعيش معه بعد وفاة والدتى كان عمرى وقتها ستة عشر عاما. حاول دائما أن يعوضنى عن غياب والدتى. وكان على علاقة جيدة جدا بأهل والدتى ودائم التواصل معهم. وقبل انتقالى لفيلا العجوزة للعيش معه، كانت هناك غرفة مجهزة لى، يقول لى «غرفتك تنتظرك فى أى وقت». وعندما انتقلت إليها. كان لكل بنت غرفة. أنا و«ناهد» و«مها» و«نبيلة». ودائما كانت «ناهد» تأتى لغرفتى وتنام بجوارى

كان عادل فى مشاعره، يحبنا جميعا بكفة ميزان واحدة.. يتغزل فينا بمحبة ويمتدح أناقتنا فإذا وجد واحدة منا ترتدى شيء جميل، يعلق قائلا «إيه الحلاوة والشياكة دى». كان يمتلك قدرة على معاملة المرأة بحب واحترام وتقدير. كان ولا يزال محور رئيسى فى حياتنا، مازلنا نتحدث عن مواقفه وكلامه وحبه فى كل «لمة عيلة» وكأنه موجود.

عبير.. تربية فريد شوقى

حرص أبى على أن نكون أقوياء، نعتمد على أنفسنا، ربى بداخلنا أن تكون كل واحدة منا «بمئة راجل». وفى نفس الوقت «دلعنا» جدا. لكن دون أن يفسد أخلاقنا

كان يشاركنا فى كل شيء، عشرته حلوة، رجل لطيف داخل بيته.. يمارس الرياضة فى النادى يوميا، ويذهب كل أربعاء إلى السونا، يحب النوم بعد الغذاء، ثم يستيقظ ويأخذ حماما، يقوم بعمل فنجان القهوة ويجلس فى غرفة مكتبه ليبدأ عمله. وبعد أن ينتهى. يدعونا للجلوس معه، ليأخذ بآرأنا فى مختلف الموضوعات.

كان يضع على «الكمود» بجوار سريره، كاسيت، كى يسجل أى فكرة تخطر على باله، عقله وتفكيره كانوا دائما مع الناس، كيف يصل إليهم، أحيانا يتناقش مع البواب والعاملين فى المنزل أو حتى مع الناس العادية فى الشارع. يقف ويسجل لهم. ولذلك كان الناس والجمهور يقولون أنه منهم.

لا أتذكر أنه رفع صوته علينا أو ضربنا، كان أقصى عقاب ألا يتحدث معنا. كان يخاف علينا جدا وعندما يريد أن يوجهنا فى شيء «يسلط ماما» فمثلا يقول لها «أنتى هتسبيهم يخرجوا، هتسبيهم يرحوا رحلة». هذه كانت طريقته، ينصح ويمنع ويخاف بطريقة غير مباشرة. واكتشفنا أنا واخواتى. أن أمهاتنا مختلفات، لكننا كلنا نتاج تربية واحدة.. تربية فريد شوقى.

عندما رزق أبى بنا أنا و«رانيا» كان وقتها نجما كبيرا..فكنا بمثابة «اللعبة». يأتى ويأخذنا من غرف نومنا لننام بجانبه فى سريره. كان لدينا لعبة أدوات طبيب وكنا «نهلكه» ونحن نلعب أطباء وهو مريض نكشف عليه وهو يستجيب جدا لنا، كان طويل البال مع الأطفال.. دائم الحوار والنقاش معنا لأنه كان على قناعة أن البنت هى التى تربى وتخرج أجيال المستقبل.

عملت معه كمساعد مخرج فى ثلاثة أعمال، كان سلس وظريف وملتزم. أثناء عمله كان يفضل أن ترسل له أمى الأكل من البيت وهى التى تقوم بإعداده. لايزال كرسى الأب موجود على السفرة حتى الآن. لا يجلس عليه أحد وهذا بناء على طلبة حتى يعودنا على احترامه فى وجوده وغيابه.

كان اللقب الأقرب لوصفه هو «الملك» لأنه بالفعل كان ملكا، دخوله فى أى مكان فى العالم كان دخول ملك. بهيبته وحب الناس له. ملك محبوب الجمهور الذى توجه بهذا اللقب عن حب. رسمت كلمة «أبى» وشما على يدى.

نبيلة.. ابنة القلب

تزوجت أمى «هدى سلطان» من بابا «فريد شوقى» وكان عمرى خمس سنوات، فأنا ابنتها من زوجها «محمد نجيب الكاشير». لكنى «بكرية»، «فريد شوقى وهدى سلطان».عشت معه ثمانية عشر عاما حتى تزوجت. أرتبطت به طوال سنوات عمرى، حياة طبعية، لم أشعر لحظة أنه زوج أمى.

فى البيت لم يكن هناك تفرقة بين ابنتها وإبنته وابنتهما. لم تظهر فكرة «جوز الأم ولا مرات الأب بتوع الأفلام» بدليل أنه عندما تقدم لى زوجى، طلبنى منه وليس من أبى الذى كان وقتها على قيد الحياة. كما أنه كان وكيلى فى عقد الزواج. وبعد الزواج عشت فى الشارع المجاور لهم وكنت دائما أذهب عنده. ورغم انفصاله عن أمى إلا أن علاقتنا ظلت مستمرة فى الأفراح والمناسبات وحتى عندما كان يتعرض للمرض كنا دائمين الزيارة له وعندما توفى كنا موجودين فى الجنازة والعزاء.

رغم أنه كان يعشق «ناهد» ويناديها «البرنسيسة»، إلا أنه كان ينادينى «بلبل» ويطلب منى أن اختار له رابطة عنقه أو القميص المناسب للبدلة التى سيرتديها. كنا ننتظر اجازته هو ووالدتى لنسافر إلى المعمورة ومعنا والدته ووالده وأخوته لأنهم كانوا شيء مقدس بالنسبة له.

جيلان.. الحفيدة الأولى

أنا الحفيدة الكبرى للفنان «فريد شوقى». كنا نقيم بجانب جدى الله يرحمه. كان أسرى جدا ومقابلتنا به دورية، نسافر معا كل عام إلى المصيف كعائلة. كنت فى حضنه من البداية، كبرت وتربيت مع خالتى «عبير» التى تكبرنى بشهور.

كان دائما يشجعنى على دراستى، وكان فخور بى لأننى كنت متفوقة دراسيا ورياضيا حيث كنت أمارس رياضة السباحة. وأثناء دراستى فى الصف الثالث الثانوى كان يأتى ليشاهد نشاطى ومشاركتى فى المسرح ويحضر البروفات ويعلق تعليقات جميلة، كان لماح وسريع فى التعليقات والقفشات. أهتم بالجميع، بكل ما يخصنا.<

 

####

 

أخطاء «الملك» كما رواها عن نفسه!

كتب: هبة محمد على

عندما يكتب أىٌّ من المشاهير مذكراته، فأمامه خياران، إمّا أن يُسلط الضوءَ على نجاحاته، وإنجازاته، ويتغافل كثيرًا من أخطائه، وزلاته، وإمّا أن يكون صادقا فيما يقول، ولديه قناعة كبيرة بأن تلك الأخطاء كانت سببًا فى نجاحه وتقدُّمه، تمامًا كما فعل «فريد شوقى» فى مذكراته التى روتها عنه الكاتبة الصحفية الراحلة «إيريس نظمى» وصدرت عن مكتبة روزاليوسف عام 1978، وأعادت طباعتها هذه الأيام (مؤسّسة ريشة للنشر والتوزيع)؛ حيث قال فى مقدمتها: (لن أخفى شيئا، سأقول الحقيقة كاملة، حتى أخطائى، ونزواتى، وعيوبى، سأحكيها بلا تردد، فلولا الخطأ ما كان الصواب، ولولا القبح ما كان الجَمال، ولولا الظلام ما عرفنا قيمة وروعة النور).. وفى السطور التالية نتعرف على بعض من أخطاء، ونزوات «فريد شوقى» التى جعلت منه (المَلك) بلا منافس.

< عُقدة نفسية لم تكن طفولة «فريد شوقى» مثل غيره من أبناء جيله، فقد تفتحت عيناه على شارع عماد الدين؛ حيث كان والده مُحبّا للفن، وهو سبب حب «فريد» له من الصغر، للدرجة التى جعلته بعد انتهاء أى عرض مسرحى لفرقة «يوسف وهبى» أو «على الكسار» أو «نجيب الريحانى» أو غيرهم يَعقد له امتحانًا يسأله فيه عن فكرة المسرحية، وهدفها، وإذا لم ينجح يكون عقابه حرمانه من الذهاب إلى شارع عماد الدين فى الخميس التالى، لكن الأزمة أن حب «فريد» لفن التمثيل، ورغبته فى امتهانه لقى رفضًا شديدًا من بقية أفراد أسرته، ولا سيما والدته التى نعتته بالجنون عندما كانت تشاهده يُحدّث نفسَه فى المرآة مؤديًا مشهدًا تمثيليّا، الرفض امتد أيضًا للأقارب والجيران، فقد كان التمثيل جريمة حينها، وكانت التهمة الموجهة له أنه يُحرّض أطفال الحى على التمثيل، حتى إنه نال (علقة سُخنة) من أحد الجيران عندما عاد إلى منزله، ووجد «فريد» بداخله يؤدى دورًا تمثيليّا لأبنائه، والحقيقة أن الرفض الشديد للفن الذى عانى منه «فريد» فى طفولته ليس وحده ما ترسّب بداخل نفسه من هذه المرحلة، لكن حادثة مقتل أحد الزملاء على يد آخر، التى حدثت أمام عينيه فى فناء المدرسة تركت داخل نفسه أثرًا كبيرًا؛ حيث انطلقت رصاصة من المسدس الذى أخذه زميله من والده ليلهو به فى المَدرسة ظنّا منه أنه خالٍ من الرصاص، وهو ما تسبب فى عُقدة نفسية من صوت الرصاص ظلت راقدة فى أعماقه رُغم كل الأفلام التى حمل فيها مسدسات، جعلته فيما بعد يتأكد بنفسه فى كل فيلم من خلوها من الرصاص، لكنه نسى فى أحد المَشاهد، والمفارقة أن المسدس كانت به رصاصة كادت أن تقتل «محمود المليجى» لولا ستر الله. < الفاجعة محاولات «فريد» لأن يضع قدَمه على أول الطريق مُلهمة، وتدل على أنه حفر فى الصخر ليصل إلى المكانة التى وصل إليها، لكنه لم يخجل مَثلا أن يذكر أنه فى شبابه عرض على صاحب قطعة أرض أن يستأجرها لمدة شهر بمبلغ رمزى ليؤدى أمام شباب الحى مسرحية من تأليفه، أطلق عليها اسم (الفاجعة)، والحقيقة أنها كانت عبارة عن سرقة لمسرحيات يوسف وهبى (أولاد الفقراء/ أولاد الشوارع/ بنات الريف)؛ حيث سرق المواقف الدرامية من المسرحيات الثلاثة وادّعى أنها من تأليفه، لكن الفاجعة الحقيقية هى أنه قُبض عليه من فوق خشبة المسرح يومها؛ لأنه سرق الخشب الذى أنشأ به مسرحه. < زوج أنانى علاقة «فريد شوقى» بالمرأة تحتاج لوقفات عديدة، هو لا يسعى للإيقاع بهن فى حُبه، لكنه فى الوقت نفسه لا يقول لإحداهن لا، كما أنه شديد الوفاء لزوجاته، لذلك كان قرار طلاقه من أى منهن قرارًا صعبًا، ومؤلمًا، يتسبب له فى الضياع والتخبط لشهور طويلة بين زجاجات الخمور والبارات، مُهملا عمله، وفنه، لكن هذا الإخلاص لم يمنعه من ذكر ما ارتكبه من أخطاء فى حقهن أثناء فترة  الزواج، فعلى سبيل المثال، كانت زوجته الأولى «زينب عبدالهادى» زميلته فى الدفعة الأولى لمعهد التمثيل الذى أنشأه «زكى طليمات»، لكن الأخير عارض زواجهما حتى لا يَسن سُنة بين الطلاب، ينسون من خلالها الفن، والدراسة، ويتفرغون للحب والزواج، وقد حارب «فريد» من أجل إتمام الزيجة، ورُغم اعترافه بموهبة زوجته؛ فإنه طالبها بالتوقف عن إتمام الدراسة فى المعهد؛ حيث يقول فى مذكراته: (أنانيتى كزوج يشعر بالغيرة تجاه زوجته الجميلة هى التى دفعتنى لاتخاذ هذا القرار) انتهى هذا الزواج بسبب إصراره على ترك الوظيفة الحكومية والتفرغ للفن، ولا سيما أن السينما قد فتحت له ذراعيها فى ذلك الوقت، بينما رفضت هى هذا القرار، لكن ظلت «زينب» فى نظره نموذجًا للزوجة المضحية إذا ما قارنها بـ«هدى سلطان» ولا سيما أن الأولى عاشت طيلة حياتها دون زواج؛ لتربى ابنتهما «مُنَى». < هدى سلطان.. من الحب ما قتل لا يمكن الجمع بين أى من الصعوبات والأحداث التى مرّت على «فريد شوقى» وبين قصة زواجه بـ«هدى سلطان» فقد كانت أكثر زوجاته قربًا لنفسه، لكن تحولها بشكل مفاجئ، وشكّه فيها، وزواجها بعد انتهاء عدتها منه بيوم واحد من المخرج المسرحى «حسن عبدالسلام» أصابه بحزن شديد، واكتئاب، كاد أن يتسبب فى إفلاسه؛ حيث لم تكن الكأس تفارقه، وفقد على إثر ذلك ثقة المنتجين، والمُخرجين، ولم ينقذه من هذه الحالة سوى ظهور المعجبة التى أصبحت آخر زوجة له السيدة «سهير ترك».  الجميل أن «فريد» من خلال مذكراته لم يخجل أن يذكر حكايات خاصة جدّا عن حياته مع «هدى»، التى كان بعضها سببًا فى النهاية المؤلمة، بالإضافة إلى أنه لم يخجل من أن يقول أنه لاحقها كثيرًا لكى تعود لعش الزوجية، فأرسل لها والدته، وأخاه، بل ذهب لها بنفسه إلى المسرح لكنها قالت له (أنا مُصرّة على الطلاق ولو جيت لى تانى ههزأك)< نوسة وسنية والفتاة الإيطالية.. نزوات عابرة لا يخجل «فريد شوقى» فى مذكراته من أن يذكر نزواته العابرة، التى أقبل على بعضها من أجل أن يداوى جروح الحب الدامية، هو لا يذكرها من باب التباهى والتفاخر بعلاقاته الغرامية، ولكنه يريد أن يحذر من أن مثل تلك النزوات قد تكون سببًا مباشرًا فى ضياع صاحبها إذا لم يتخلص منها سريعًا، ففى فصل بعنوان (الراقصة التى كادت تدمر حياتى) يروى قصة «سنية شوقى» الراقصة التى اختارها من بين عشرات الراقصات، والمطربات الناشئات المتطلعات للشهرة اللاتى التففن حوله، لكن قصة الحب المتعجلة انتهت نهاية مأساوية بسبب غيرتها الشديدة، فقد أشعلت النيران فى بدلته الجديدة عندما سمعت إحدى المعجبات تشيد بذوقه فى اختيار ملابسه، وأصبح تقديم أى مَشهد عاطفى على المسرح معناه أن وصلة شجار عنيف بينهما ستتم فى الكواليس، حتى تدخّل «يوسف وهبى» ونصحه بأن يبتعد عنها لأنها ستحطمه، أمّا «نوسة» التى تعرَّف عليها فى أحد الملاهى، فكادت تتسبب فى ضياعه أيضًا؛ لأن المَلك «فاروق» كان متواجدًا فى ذات الملهى، وأعجب بها، وطلبها أن تجالسه، لكن «فريد» انزعج من مطالبات الحاشية له بالرحيل وترك «نوسة» وكان يصر على اصطحابها معه، لكنّ صديقًا قديمًا له كان يعمل ضابطا همس فى أذنه وقال له ارحل فورًا وإلا قضى على مستقبلك.

وفى روما له صولات وجولات؛ حيث ذهب لأداء دوره فى أحد الأفلام، وفى الفندق قابل مدير الإنتاج الذى منحه مصاريف إقامته، لكنه استجاب لدعوة فتاتين كانتا تراقبانه، وقضى معهما ليلته سعيدًا بكونه مصريّا تفضله الأوروبيات، لكنه استيقظ فى الصباح ليكتشف أنهما رحلا وقد سرقتا كل أمواله، لكن هذه الحادثة لم تثنه عن الوقوع فى قصة حب مع ابنة فنان إيطالى شهير، أوهمها بالزواج واصطحبها معه إلى القاهرة، لكنه عاد فى قراره وقال لها أنه سيذهب ليقنع أهله، ثم يعود لها، لكنه لم يعد!.<

 

####

 

نجومية فوق الخمسين!

كتب: شيماء سليم

موظفٌ وواحدٌ من البشوات، فقيرٌ وشديدُ الثراء، صريحٌ متمسكٌ بالمبادئ وكاذبٌ يلعب على كل الأحبال، صلبٌ قوى الشخصية وحنونٌ ضعيفٌ لا حول له ولا قوة.. كل تلك المتناقضات اجتمعت فى ممثل واحد. كان الأقدر على استبدال شخصياته بنفس سهولة تبديل ملابسه التى يختارها فى كل دور يقدمه؛ لتكتمل الصورة شكلا ومضمونًا لوحش الشاشة، «فريد شوقى». 

الذى يشاهد أفلام المَلك فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، سيشعر وكأنه يرى فنانًا آخر غير الذى شاهدنا أفلامه فى الخمسينيات والستينيات. سيشعر كما لو أن «جنيًا» كان يسكن بداخل هذا الفنان لأكثر من ربع قرن من التمثيل. «جِنّىٌّ» كان كامنًا وهادئًا، منتظرًا اللحظة المناسبة والأمر الذى يصدره له المَلك ليخرج منفجرًا فى مجموعة من الأدوار التى لم يحققها بهذه البراعة وذاك التنوع فى تاريخ السينما، سوى عدد محدود من الممثلين، الذين يُعَدون على أصابع اليد

بَعد سنوات من أدوار البطولة والنجومية وتكسير شباك التذاكر بإيرادات لم يكن لها منافس ولا مَثيل، وبَعد تقديم أكثر من 200 فيلم احتل فيها وحش الشاشة صدارة المشهد. كبطل لا يغلبه أحدٌ، نجم لم يخفت بريقه ومَلك لن يهتز عرشه.. بَعد أن تجاوز الخمسين، أدرك النجم الكبير «فريد شوقى» أن الأحوال والأوضاع فى السينما قد تغيرت، كما تغيرت صورة مصر بأكملها. أصبح هناك أجيالٌ جديدة بزغ نجمُها، أحدثت ما يُعرَف بلغة السينما «مزج تدريجى»، فأوشك جيلٌ كامل على الانتهاء بأفكاره وموضوعاته وفنانينه وظهر أو بدأ فى الظهور جيل جديدٌ بمضمون وشكل سينمائى مختلف

عَرف المَلك أنه آن الأوان للدخول فى منطقة جديدة، لكنه كان من أذكى مَن وطأ تلك المنطقة من الممثلين فى جيله والجيل الذى سبقه، وربما الذى لحقه، استطاع الملك أن يظل محتفظا بمكانته واستمرت صورته مضاءة فى المَشهد الجديد، لم تخفت أو تزول. ورُغم أن نصف الشخصيات التى قدّمها فى تلك الفترة، لم تستحوذ على البطولة من الجلدة للجلدة، كما كان يحدث فى أفلامه الخاصة؛ فإنه كان قادرًا على خطف الأنظار والقلوب والأهم من هذا وذاك ملأ العقول.. كان هو «عمود الخيمة» الذى إن سقط أو اختل تهاوَى معه العمل بأكمله. أضاف من خبرته وقدراته وروحه ما يزيد على نصف نجاح تلك الأعمال، أدواره رُغم اختلافها؛ فلا يمكن أن نتخيل ممثلًا آخر يؤديها غير «فريد شوقى».

لم تعد أدوات المَلك فى المرحلة الجديدة، هى نفسها التى استخدمها فى الماضى. مضمونًا وشكلا تطورت أسلحة الملك. أمّا عن المضمون فالمتغيرات السياسية والاجتماعية فرضت الدخول فى مناطق مختلفة. الرموز فى السينما الجديدة ليست شعارات مكتوبة على الجدران، بل شخصيات مجسّدة على الشاشة. لم تعد السينما موالية للنظام وللدفاع عنه، بل أداة تنتقد بعنف وجرأة.   

شكلا، غابت أسلحة المَلك المعتادة، التى اعتمدت على بنيانه الجسدى، تحطيم الأنوف والرؤوس، ضرب كرسى فى الكلوب ومطالبة الجمهور بـ«سقفة للنبى».. استبدل الملك تلك الأسلحة بأخرى كانت مدفونة بداخله نتيجة الشروط التى فرضتها عليه النجومية ورغبات الجمهور وأسلوب العمل فى تلك الفترة. أسلحة جديدة أظهرت قدرات غير عادية على التقمس والالتحام بالشخصيات، شخصيات حقيقية وليست دراما مصنوعة، بداية من المَظهر الخارجى الذى كان واحدًا من أهم أدوات الملك طوال حياته، فهو من أكثر الممثلين القادرين على اختيار الأزياء المناسبة لكل دور، وإتقان التفاصيل التى تبث روحًا فى الشخصية التى يقدمها.. نبرة صوته تتغير، لغته الجسدية ولازمات حركات يديه وجسده تتبدل. الخلاصة أن الملك كان فى فترتى السبعينيات والثمانينيات يعمل بـ«مزاج رائق».

فى عام 1975م، وكان يبلغ الفنان الكبير وقتها 55 عامًا، ظهر فى دور ثانٍ فى فيلم (الكرنك) ثانى أفلام المخرج الشاب آنذاك «على بدرخان».. يقدم المَلك فى هذا الفيلم دورًا صغيرًا ولكنه شديد التأثير،«دياب» والد البطلة «زينب» التى تتعرض لأهوال من قبل مراكز القوى، الاستيعاب الشديد لهذه الشخصية يظهر فى مَشهد واحد يحاول فيه الأبُ السّكير أن يخفف من وطأة ما حدث لابنته، وانطلاقا من جهله وتواضعه يحدثها ببساطة عن الإرادة، فى واحد من أرق وأعذب مَشاهد الفيلم.   

يستمر تألق المَلك، ويتنقل بخفة من أدوار البطولة للأدوار الثانية والثالثة أحيانًا، ولكل دور يقدمه «دور» فى العمل بأكمله، هو مفتاح الحبكة الدرامية والسبب الرئيسى فى أزمات الأبطال فى اثنين من أهم أفلامه (السقا مات) إخراج «صلاح أبو سيف» 1977م، و(أفواه وأرانب) إخراج «بركات» فى العام نفسه.

«شاكر باشا» غنى الحرب، الذى يجلس فى أحد المَشاهد على مائدة الطعام، يملأه الغل والحقد على صبى تمكن بموهبته من نَيل بعثة للدراسة فى أمريكا. أمريكا التى لطالما حلم «الباشا» بالاقتراب منها أو من أى أصحاب سُلطة أو نفوذ قوى، يصرخ الباشا مشيرًا بسكين الطعام:«سهلة أمريكا دى سهلة كأنه رايح الأنفوشى». الشخصية والمَشهد من فيلم (إسكندرية ليه) إخراج «يوسف شاهين».. المخرج الذى استغل كل مناطق الشر التى يمتلكها المَلك، الشر المُطلق فى (صراع فى الوادى)، الشراسة والرغبة فى الانتقام فى (نداء العشاق)، القوة التى يفسرها الضعفاء بأنها شر فى (باب الحديد) وهنا فى (إسكندرية ليه) نوع جديد من الشر المرتبط بتبدل الوجوه وارتداء الأقنعة لتحقيق المصالح

اثنان من مخرجى الواقعية الجديدة المتميزين، «عاطف الطيب ومحمد خان»، استغلا قدرات هذا الفنان العملاق فى فيلمين لكل منهما. مع «عاطف الطيب» يظهر المَلك فى شخصيتى «رشاد» فى (ملف فى الآداب) عام 1986م و«سيد الراوى» فى (قلب الليل) عام 1989م. فى الفيلم الأول يؤدى شخصية الموظف الذى يرضخ لضابط الشرطة الظالم ويعترف كذبًا على زملائه حتى يخرج من قضية الآداب المُلفقة لهم. الانكسار الذى يسير به «فريد شوقى» وهو خارج من مكتب المحقق يلخص كل معانى الظلم والخنوع، الخوف والاستسلام، احتقار الذات، يسير منكمشًا، كما لو أن الجدران تطبق على جسده

أمّا «محمد خان» فكان من أكثر المُخرجين الذين تمتعوا بموهبة المَلك، وإن كانت لم تلمع بقوة فى فيلم (طائر على الطريق) عام 1981م، إلا أن بريقها كان لا يُوصف فى التعاون الثانى فى فيلم (خرج ولم يعد) عام 1984م، الريفى الذى عاش شبابه فى باريس، الثرى الذى بدّد ثروته على ملذات الحياة؛ خصوصًا (الطعام)، فهو الذى وجد فى الأكل متعته وضالته، نراه يأكل فى كل مَشاهد الفيلم بذات المتعة، سُفرة مُعدة بالكامل بما لذ وطاب أو طبَقًا من البيض المقلى أو حتى ثمرة يوسفى أو برتقالة.  

فى عامَى 1981 و1983م يشارك الملك أيضًا فى بطولة فيلمين لاثنين من المخرجين الجُدد، «رأفت الميهى» فى (عيون لا تنام) و«سمير سيف» فى (الغول).. ورُغم سذاجة الشخصية التى يقدمها فى الفيلم الأول؛ فإنه يقدم واحدًا من أشرس أدواره فى الفيلم الثانى. «فهمى الكاشف» أحد حيتان الانفتاح، فاسدٌ، قاسٍ، مغرورٌ. يدخل فى صراع مع صحفى شريف، متمرد، يسارى. يتمكن الحوت الفاسد من الانتصار فى المعركة ولكنه ينال حتفه فى مَشهد يُعد إعادة تجسيد لحادث المنصة الذى قُتل فيه «السادات»، لدرجة أن القتيل هنا ينطق بالكلمة نفسها التى نطقها «السادات»،«مش معقول».. فهمٌ عميق صاحب المَلك فى هذا الفيلم ليس فقط للشخصية التى يجسدها بل لمفهوم الفيلم بالكامل والفكرة التى بنَى عليها الكاتب «وحيد حامد» قصته.

نجومية المَلك الثانية التى صاحبته منذ منتصف السبعينيات، انطلقت من فكرة التنوع التى حرص عليها. فمن أفلام ميلودراما تُبكى الحَجَر، لأعمال كوميدية لاتزال قادرة على الإضحاك فى كل مرّة تُعرض فيها. من دعمه للكثير من المخرجين الشباب والتجريب معهم، لمساهمته كمنتج فى بقاء السينما رُغم أزمتها.

فى النصف الثانى من عمره حقق نجومية تضاهى نجوميته الأولى فى سِنِى شبابه. معادلة صعبة لم يقدر عليها ولم يفعلها غير المَلك.<

 

####

 

الأسطى حسن.. والسقوط فى الغواية

كتب: صفاء الليثى

يتم تقديم شخصية «الأسطى حسن» منذ المشهد الأول كشخص غير راضٍ فى مقابل زميله «شلاطة» الذى يعلن كدعاية للنظام الجديد بعد الثورة «كل المدارس بقت جنبنا ومجانًا». خلفهما لافتة «القناعة كنز لا يفنى»، ولا يكتفى «صلاح أبوسيف» بالصورة بل يجعله يقرأها، لتصل الرسالة إلى كل المتفرجين

المشهد الثانى تغنى فيه «هدى سلطان» أغنية (الشرط نور وأنا شارطة عليك) بينما تنظف بيتها بنفسها فى تضادٍ مع كلمات الأغنية بشكل ظريف. ويستمر المخرج فى تقديم تفاصيل الحياة مع معاناة الفقر وابنه الواد «محروس» يشاكسه مضافًا إليه نموذج الحماة «مارى منيب» التى تعاير زوج ابنتها بفقره

المشهد الثالث يركز على ساق لسيدة جميلة فى سيارتها تأتى إلى الورشة لتتفق على تركيب باب فى منزلها فتلحظ العامل القوى، تتأمله وتختاره وتعبر سيارتها الكوبرى بين بولاق والزمالك. سينما «صلاح أبو سيف» التى توجز وتشرح بالصورة والكلمة فى إلحاح على الفكرة. يقدم مقابلة متوازية بين الزوجة التى ترضى بعيشها، «عزيزة» بنت البلد التى يحترمها أهل الحتة، والهانم «كوثر» التى تصطاد الرجل وتغويه، ويواصل «أبوسيف» استعاراته مع تمثال يصفر كلما خلت الهانم بالذكر القوى فى غرفة النوم.

تحول الأسطى الناقم على فقره إلى ذكر داعر يبيع جسده. يقيم لديها وينسى أسرته تمامًا، مزج الواقعية بالدراما الغنائية حين يسأل الابن عن أبيه فتغنى «هدى سلطان» (نام يا ضنايا نام). السخرية من الأسطى غير القادر على التأقلم مع الأغنياء ويدخل فى شجار مع الحبيب الجديد لـ«كوثر» الذى يقول «باين عليه سمكرى»، فيرد الأسطى «سمكرى لكن أنضف منك أنت صايع».

يزور الحارة بمظهره الجديد، ببدلة فخمة وسيارة بسائق، يلقى النقود لهم ويعود لعيشته الهانئة. يغيب فيحصلون على عنوان إقامته وتقرر الزوجة أن تقابل الهانم فى مشهد تكرر فى مئات الأفلام المصرية، «كوثر» على البيانو و«عزيزة» تطلب منها «سيبيلى حسن، جوزى، راجلى، أنا أغنى منك بشرفى وإيمانى بالله. إنتى شيطان». يظهر «حسن» ويضرب زوجته بالقلم على وجهها.

وصلنا إلى منتصف الفيلم الزوجة تقرر أن تخرج للعمل ويتم تقديم مشهد حزين لها مع أخريات على ماكينة الخياطة. يتم تقديم عمل المرأة ككارثة حلت على الأسرة وليس دفاعًا عن حقها فى العمل. «محروس» الصبى أيضًا يعمل وسط تشجيع من أهل الحارة فى وقت لم يكن عمل الأطفال مدانًا بل دلالة على الجدعنة وتحمل المسئولية. ويستمر التوازى بين جدعنة الطفل وتضحية المرأة فى مقابل حياة سهر ومقامرة للأسطى «حسن» محاولًا العيش فى ثوب لا يلائمه

تتطور الأمور ويتهم «حسن» بقتل «كوثر» ويتبين أن القاتل هو زوجها «حسين رياض» الذى كتب لها ثروته بعد إصابته بالشلل. يظهر الحق ويعود «حسن» نادمًا إلى «عزيزة» و«محروس» وقد وعى الدرس وينتهى الفيلم بحكمة من خلال أغنية، (اللى يرضى يعيش بقليله المقسوم، راح ييجى يوم يعيش مرتاح)

شجاعة كبيرة من «فريد شوقى» أن يقوم بدور البطل الضد فى أول بطولة مطلقة له عام 1952، ولكن العبرة بالختام الذى يعود فيه إلى أسرته وأهل حارته الطيبين، وكأى عمل درامى هناك الأخيار والأشرار، انحياز «أبو سيف» واضح، الفقراء أولاد البلد هم الأخيار. القانعون بعيشهم والكادحون، والأشرار هم مجموعة «كوثر» المرأة الهائجة وأصدقاؤها «فوفو بيه وسوسو بيه»، البهوات والهوانم، «العاطلين بالوراثة».

نجح الفيلم نقديًا وجماهيريًا لأنه يتوجه إلى شريحة المشاهدين المتابعين للسينما التى تنقل لهم أجواء لا يعرفونها فى الواقع، القصور وبيوت الأغنياء والملاهى الليلية، تدين طبقة ليسوا منها وتظهر تضامنهم الذى يصل أحيانًا إلى حشرية مرفوضة فى أيامنا هذه، ولكنها فى سنوات الخمسينيات والستينيات ومنتصف السبعينيات كانت مطلوبة وبدونها يصعب على الفقراء العيش.

تغيرت القيم الاجتماعية ولم يعد عمل الطفل «جدعنة» بل استغلالًا تحاربه منظمات حقوقية، ولم يعد عمل المرأة مهينًا لها بل حقًا مكتسبًا بغض النظر عن احتياج الأسرة لعائد عملها، وبقيت قيمة الرجل الذى لا يترك زوجته ويبيع روحه لمن تدفع. يظل الرجل محترمًا بعمله الشريف، صابرًا عاملًا بجد لتحسين ظروفه.<

 

####

 

فريد شوقى.. وطريق الريحانى المسرحى

كتب: د. حسام عطا

فى المسرح ذهب الفنان الكبير فريد شوقى إلى عالم الكوميديا، وذلك فى إطار تنوعه الثرى كفنان كبير قدم أدوارا متنوعة على شاشة السينما التى كانت معشوقته الأثيرة، وهو النجم الذى بقى فيها بطلا  فى كل مراحل عمره. وقدم أعمالا نادرة فى الدراما التليفزيونية فى إطار تنوعه الهائل، إلا أن المسرح أخذ من فنه الكثير. فقد كان وهو فى قمة توهجه الفنى، ونجوميته السينمائية كثيرا ما يتجه للمسرح.

ذلك اللقاء الحى المباشر الممتع مع الجمهور.

وربما كان اختياره للكوميديا الخفيفة اختيارا أساسيا فى اقترابه من عالم المسرح، أحيانا ما تتجه للنوع الغنائى الاستعراضى المرح مثل مسرحيته شارع محمد على مع النجمة الرائعة شريهان، وكثيرا ما تأخذ اتجاها نحو كوميديا الموقف الراقية ذات الطابع الأنيق القائم على الحس الإنساني.

وهو فى هذا الاتجاه سار مسارا منتظما مع فرقة نجيب الريحاني.

وكان يقدم معها تراث نجيب الريحانى العبقرى الخالد، ولذلك فالفنان المسرحى فريد شوقى كان قد وقع فى هوى الاتجاه المسرحى الضاحك المغلف بحس إنسانى عميق من الشفقة والعطف على الإنسان المتوسط العادى ومصيره المتحول للأفضل بسبب طيبته وحسن أخلاقه.

وقد كان هذا النموذج للإنسان المصرى المتوسط، هو اتصال لما كتبه العبقرى بديع خيرى مع رفيق عمره نجيب الريحانى بموجة إنسانية صاحبت صعود الطبقة المتوسطة الأوروبية لأدوار البطولة فى المسرح اتساقا مع حضورها العام فى دور المسارح كجمهور يدفع قيمة الإنتاج المسرحى ويشترى الصحف ويمتلك الاقتصاد العام فى مختلف المجالات كقوى عمل وإنتاج مؤثر فى الحياة اليومية مع القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهو النوع الذى ظهر امتداده فى مصر فى جنسه الكوميدى الاجتماعى الإنسانى على يد نجيب الريحانى المتأثر آنذاك بالمسرح الفرنسي.

وقد كان هذا التأثر بالمسرح الأوروبى تأثرا يصل فى بعض الأحيان إلى درجة من التمصير، والتعديل فى البناء الدرامى لا يصبح معها للأثر الأصلى للمسرحية أي معالم واضحة.

لكن من المستقر أن الريحانى وبديع خيرى كانا ينهلان من معين المسرح الفرنسى غزير الإنتاج فى نوع «الفودفيل» المسرحى وهو نوع يقوم على حبكة درامية جيدة الصنع، وربما على بساطته، ووجود بعض الغناء البسيط به، إلا أنه محكم الصنعة الدرامية.

ولم يكن الريحانى يميل للغناء أو الاستعراض البسيط، لكنه كان يميل إلى طريقة مدهشة تقلد الأصل لدقائق درامية بعينها، ذلك التقليد المبدع الذى يسمح لطريقة فريد شوقى الخاصة بالتجلى طوال المسرحية.

ولعل من أكثر المسرحيات التى يحبها المصريون له هى مسرحية (الدلوعة) وهى تعد نموذجا لذلك الحضور المختلف لفريد شوقى على المسرح متفاعلا مع عالم نجيب الريحانى يحمل طابعه، ولا يفقد فيه بصمته الخاصة كنجم كبير.

قدمت مسرحية (الدلوعة) التى لعب فيها معه أدوار البطولة الفنانة المبدعة نيللى والفنان الكبير.أبوبكر عزت، عام 1969، وبقيت حاضرة إلى الآن على شاشات التليفزيون وعلى الشبكة الدولية للمعلومات كدليل باق على حيوية وفهم وإدراك النجم فريد شوقى لطبيعة الجمهور العام فى مصر، والذى عرف كيف يتواصل معه فى السينما، وبالتالى دخل إليه من باب نجيب الريحانى وهو باب الجمال والعمق القائم على بساطة سهلة، لكنها بكل تأكيد هى السهل الممتنع.

تدور أحداث مسرحية «الدلوعة» حول أنور أفندى الطيب الموظف فى ديوان من دواوين الحكومة، والذى يستضيف فى بيته الكائن فى ضاحية ريفية صديقه المخرج السينمائى سفرجل الذى قام بلعبه الفنان أبوبكر عزت، ومعه الممثلة السينمائية صديقة كناريا التى لعبت دورها الفنانة سعاد حسين، وتبدأ المسرحية لندرك أنهما ضيفان ثقيلان يعيشان على دخله المتواضع، ويعود من عمله ليخبر صديقه بضرورة التخلص من كناريا لأن باشكاتب المصلحة سيزوره فى منزله غدا ليتناول الغداء ومعه زوجته والتى أدتها الفنانة مارى منيب.. وبينما تمضى الأمور عادية مع الأنماط الضاحكة للمفلسين مع خادمته، يحدث أن نسمع صوتا لانفجار إطار عربة «الدلوعة» فكرية الزعفرانى، والتى أدت دورها الفنانة نيللى، وبوصولها وبحدوث هذا الصوت المدوى، يحدث انقلاب فى حياة أنور أفندى، وهو البطل الذى جسده فريد شوقى بحس فكاهى ساخر، ليدخل السائق والذى جسده الفنان محمد شوقى طالبا المساعدة فى إصلاح الإطار، وعندما يرى سفرجل فكرية وجمالها ودلالها يلحظ انجذابا ما لها مع صديقه أنور فيقرر قلب الأحداث، وإذ تذهب الفنانة آمال شريف مع السائق للمحطة (أقرب محطة قطار) وهى فى دور الخادمة فى إطار مداعبات مرحة مع السائق، يقوم سفرجل بتفجير الإطار الثانى كى تقضى فكرية الجميلة ليلتها فى بيت أنور، لتنقلب حياته رأسا على عقب، ويحضر الباشكاتب وزوجته ومعهما ابنتهما «طعمة» خطيبة أنور أفندى، ويستريب الباشكاتب من وجود فكرية وكناريا، خصوصا أن فكرية تعاملهما بطريقة متعالية وتسب الباشكاتب وزوجته، مما يؤدى لإفساد خطوبة أنور، وبعدها يحضر والد فكرية وخطيبها فيفسد سفرجل خطبة فكرية بأن يقنع خطيبها بأنه لا داعى لعتابها لقضائها ليلة خارج المنزل، مما يغضب فكرية وتراه رجلا غير ذى كرامة فتفسد الخطوبة، وفى اليوم التالى وبينما تذهب فكرية لأنور فى العمل لإصلاح ما أفسدته، تؤدى إلى تفاقم المشكلات، والتى تنتهى بفصله من عمله، وهنا يقوم سفرجل بوضع صورة فكرية على مكتب أنور، ويقنعها بأنه يحبها لكنه ونظرا للفارق المالى الكبير لايريد أن يصارحها بحبه وتنجح خطة سفرجل إذ تعبر فكرية عن إعجابها بأنور وبسمو أخلاقه، وتنتهى المسرحية بزواجهما وطرد أنور من خدمة الحكومة ودواوينها.

والمسرحية من تأليف بديع خيرى إلا أن بصمة نجيب الريحانى فى الحوار تظل حاضرة، وهى مصورة بطريقة احترافية للمخرج حافظ أمين فى منظرين واقعيين فى صياغة تشكيلية أنيقة منتظمة، لصالة البيت، ومكتب أنور أفندى، وفى حبكة درامية جيدة الصنع، يقوم فيها سفرجل بقلب المصائر وتغيير الرغبات، وقد أدرك فريد شوقى أن الضحك فى هذا النوع المسرحى مصدره الجدية، وأنه يحتاج لمجموعة متميزة من الممثلين، وهذا ما كان متوافرا بفرقة نجيب الريحاني.

ويبقى حضور النجم فريد شوقى فى تألقه ووهجه شابا قويا يحاول التعامل مع مجموعة ثرية من الفنانين علامة واضحة على هذا النوع المسرحى الكوميدى المدعوم بالحس الإنسانى القائم على كوميديا الموقف، والذى ظل فى مصر سنوات طويلة عنوانا للأناقة والبساطة والجمال، وفى القلب كان من كل ذلك الفنان النجم المسرحى المختلف فريد شوقي.<  

 

مجلة روز اليوسف المصرية في

25.07.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004