الأربعاء 2 سبتمبر هو اليوم الأول الحقيقي في المهرجان.
العروض للصحافة وضيوف المهرجان بل والعروض العامة المفتوحة بتذاكر للجمهور،
تبدأ في الثامنة والنصف صباحا، أي لا تنتظر الى ما بعد الافتتاح في السابعة
والنصف مساء اليوم، فالمهرجان لا ينتظر كما تفعل مهرجانات أخرى إلى اليوم
التالي للافتتاح لبدء عروض الأفلام.
ما توقعته من وجود بعض الفوضى لم يتحقق. وسعدت أن خاب
توقعي. فالحاضرون وغالبيتهم بالطبع من الايطاليين (فهذا مهرجانهم قبل كل
شيء) التزموا الى حد بعيد بالقواعد المفروضة داخل منطقة المهرجان المغلقة
بتسع بوابات عن نقاط مختلفة، تمر خلالها قرب جهاز لقياس حرارة الجسم كما
يتم تفتيش حقائب اليد.
النظام مطبق داخل قاعات العرض، فالجميع يلتزمون بالجلوس في
المقاعد المخصصة لهم (التي يتم حجزها مسبقا- أونلاين) والإدارة قامت بإغلاق
الكرسي المجاور من الناحيتين بحيث لا يمكنك أصلا أن تستخدمه. لا توجد أيضا
فوضى في الدخول بعد بدء العرض فلم أر سوى مرتين فقط دخول شخص ما متأخرا عن
موعد بدء العرض، ولكنه جاء بعد دقائق قليلة وليس بعد مرور ساعة أو ساعة
ونصف كما رأيت العام الماضي مثلا في مهرجان القاهرة (المسرح الصغير في
الأوبرا) مما دعاني الى التحدث مع مسؤولي القاعة فقالوا انهم يمنعون الدخول
بعد العرض في حفلات الأوبرا لكن بالنسبة للعروض السينمائية التعليمات عندهم
تقضي بإدخال كل من يحمل تذكرة.. الأمر الذي لم أصدقه أبدا، وهو ما يخلق
فوضى لا مثيل لها في العالم كله (منقوصا منه العالم العربي).. وأكتب هذا عن
تجربة طويلة، وهو ما يدفعني دائما الى التحسر والتساؤل عن متى ننجح في
تطبيق نظام لأي شيء في حياتنا؟
مثلا ما معنى أن تدخل فتاة الى عرض سينمائي بينما لم يتبق
على نهاية الفيلم سوى 10 دقائق فقط وبمجرد أن تجلس في مقعدها تفتح جهاز
التليفون الموبيل فيشع ضوؤه على الجميع دون أدنى مراعاة للآخرين. ثم تعرف
أنها “صحفية”!
نعود إلى فينيسيا التي يسميها قطاع كبير من الكاتبين
بالعربية (البندقية) وهي تسمية أراها غير دقيقة. فليس كل ما قاله أحد قدامى
العرب يجب أن نتبناه دون مناقشة كما لو كان من ذلك التراث المقدس الذي
يرهبون الناس به هذه الأيام، فكلمة البندقية عبارة عن اشتقاق لغوي من
كلمتين افرنجيتين، هما بون- دوكية، أي الدوقية الجميلة، ولا صلة له بالاسم
الأصلي للمدينة كما ينطقه أهلها وهو المعيار الوحيد الصحيح. لكن يصعب
بالطبع تغيير الموروث اللغوي هنا وهناك.
بدا لي أن مهرجان فينيسيا يسير كما يقول الانجليز business
as usual أي
كما اعتدنا مع بعض الإجراءات التي تضايق دون شك لكنها مفروضة للصالح العام
ولضمان ألا تنتشر العدوى بالفيروس اللعين. قابلت الكثير من الوجوه المألوفة
للنقاد من إيطاليا ومن أوروبا عموما، ومازال الكثيرون لم يظهروا بعد. ولكن
النظام المطبق على الأبواب لا يبدو لي دقيقا وفعالا؟ لماذا؟ لأنه المفترض
أنك تحجز مقعدك في أي عرض فيرسلون اليك آليا رسالة الكترونية بتأكيد الحجز
فيها رقم المقعد واسم الفيلم واسم القاعة.. الخ. وكانت التعليمات الأولية
تقول انه يتعين علينا أن نظهر هذا الحجز باستخدام أجهزة التليفون. ولكن
يبدو لي أن الإدارة وجدت أن هذا سيتناقض مع سياستها الرامية الى تقليص وجود
الاصطفاف والطوابير أمام أبواب الدخول. وبالتالي ففي مرحلة تالية أرسلوا ما
يفيد أنه يجب أن نكتفي فقط بابراز البطاقة الصحفية التي يتم مسحها عند
الدخول.
في مهرجان روتردام هذا النظام مطبق منذ سنوات بفعالية مثيرة
للإعجاب. فكل تذكرة تحجزها تدخل أتوماتيكيا على بطاقتك. وبالتالي عندما يتم
مسحها الكترونيا يتأكدون من الحجز ويسمحون لك بالدخول فورا. نعم. ولكن
الفرق أنك في روتردام لا تحجز مقعدا محددا برقم محدد، بل تدخل حسب عدد
المقاعد والسلام وتجلس في أي مقعد تشاء. كان هذا بالطبع قبل ظهور الكورونا.
أما الآن هنا في فينيسيا فأنت تحجز برقم المقعد. ولكن هذا النظام أثبت
إمكانية اختراقه اليوم عمليا معي شخصيا.
كنت قد حجزت مقعدا لعرض التاسعة والربع صباحا في قاعة من
قاعات المهرجان. وتوجهت الى القاعة وقاموا بالاطلاع على بطاقتي، بل وسألوني
أيضا عن رقم المقعد فأطلعت الشاب المسؤول عن تنظيم الدخول على الحجز
الموجود على تليفوني فسمح لي بالدخول وتوجهت الى رقم المقعد في الصف المحدد
وجلست. ولكن بعد قليل وجدت أن الفيلم بدأ في التاسعة وليس في التاسعة
والربع وهو ما لم يحدث من قبل على الاطلاق. فانتبهت على الفور أنني نسيت
وذهبت الى قاعة غير القاعة، فهرولت الى الخارج لكي ألحق بالعرض الذي حجزت
له فسمح لي بالدخول بالطبع!!
هذا المثال معناه أنك يمكن أن تدخل إلى أي قاعة تشاء. لكن
المشكلة أنك يجب أن تعرف أين ستجلس. ومن غرابة الأمر أن أحدا لم يطالبني
بالحصول على مقعده الذي أقمت فيه لمدة 15 دقيقة. كانت دون شك مصادفة. ولو
حدث لكنت قد انتبهت مبكرا. لكن التجربة كانت مفيدة على أي حال.
أستطرد في شرح هذا المثال لكي يستفيد من يريدون تطبيق نظام
مماثل في مهرجاناتنا في مصر والعالم العربي. وبالمناسبة كنت دائما ممن
يعتبرون المهرجانات الى جانب كونها ظاهرة ثقافية، “صناعة”، هي صناعة
المهرجانات.. أي أن لها أسسا وقواعد تنظيمية وتقاليد في العرض وفي المشاهدة
أيضا. وأنا أتأذى كثيرا وأتحسر، عندما أذهب الى مهرجان ما في مصر واجد
الجمهور المثقف وقد أصبح على كل هذا النحو من الفوضى والعشوائية في بلد
عرفت الثقافة السينمائية في العشرينات مع فرنسا (تأسس أول ناد للسينما في
مصر في العشرينات من القرن الماضي كما صدرت في نفس الوقت أكثر من مجلة
سينمائية).
ليس صحيحا أن الأعداد قلت كثيرا عن العام الماضي. صحيح ان
هناك مقاعد خالية بدرجة ملحوظة في بعض القاعات لكن هذا يرجع الى أن الفيلم
أصبح يعرض 5 و6 مرات بعد أن لم يكن يتجاوز عرضه ثلاث مرات في الماضي.
لا شك أن مشاهدة الأفلام وأنت تضع الكمامة الواقية مسألة
مضنية خاصة لو كنت مثلي من الذين يرتدون النظارات. فالتجربة شاقة فعلا.
فبخار الماء الذي يخرج من فمك أو انفك طبقا لميكانيزم التنفس الطبيعي، يغطي
العدسات. ويتعين عليك بالتالي أن تمسك بمنديل ورقي في يدك تمسح به هذا
البخار الذي يعوق الرؤية بين آونة وأخرى. والأفضل بالطبع أن تتخلى عن
النظارات تماما كما اضطررت، فالمشاهدة أفضل من دونها خاصة لو كان العرض على
شاشة كبيرة بدرجة ما كما في حالة قاعة “دارسينا” Darsena التي
اعتاد الكثير من إخواننا العرب نطقها (دار سينا).
أظن أن المرء سيعتاد على المشاهدة بالكمامة، وقد بدا أنني
أصبحت معتادا عليها بالفعل. فإذا كنت قد تحملت وجودها طوال الرحلة بالطائرة
بما في ذلك أيضا فترات الانتظار في المطارات، فلابد أن تتحملها في مشاهدة
فيلم من ساعتين. ولكن ماذا يحدث إذا كان الفيلم من أكثر من 3 ساعات؟
يبدو هذا تحديدا السبب الذي دفع- إما الى اعتذار المخرج
الروماني “كريستي بيو” (صاحب فيلم “موت السيد لازارو”) الى الاعتذار عن
المشاركة في عضوية لجنة تحكيم مسابقة مهرجان فينيسيا، أو أن المهرجان نفسه
أعفاه من المهمة، بعد أن صرح بأن مشاهدة فيلم من 200 دقيقة بالكمامة “أمر
لا يحتمل”. وقد حل محله الآن الممثل الأمريكي مات ديلون. ولا اعرف ما إذا
كان ديلون قد جاء من أمريكا أم من مقر اقامته في لندن أو باريس حيث يمتلك
مشاهير النجوم الأمريكيين القصور!
فيلم “ميلا” Mila أو “تفاح”
هو أول ما شاهدته وهو فيلم يوناني ستفتتح به بعد الظهر مسابقة “أوريزونتي”
أي (آفاق) المخصصة لتشجيع المخرجين الجدد. وهو من اخراج كريستوس نيكو. في
الفيلم تأثر واضح بأسلوب وطبيعة أفلام المخرج اليوناني الشهير يورغوس
لانتيموس، ولا غرابة في ذلك لأن مخرج الفيلم كان مساعدا عمل مع لانتيموس.
وموضوع الفيلم يتركز حول رجل فقد الذاكرة بفعل وباء منتشر يؤدي الى فقدان
الذاكرة. والرجل يمر الآن ببرنامج معين من جانب السلطات، لمساعدته على
استعادة ذاكرته. هذا البرنامج يبدو كما لو كان صادرا عن سلطة فاشية تستغل
الوباء لعمل ما يشبه غسيل المخ للبشر، والسيطرة عليهم. وتشمل التجارب التي
يتعرض لها: مشاهدة فيلم رعب مليء بالعنف في دار السينما، والشعور بالموت عن
طريق الالتصاق بشخصية رجل عجوز مشرف على الموت ثم حضور جنازته، والتعرف على
جسد المرأة وممارسة الجنس معها ولكن دون التورط في ابداء أي مشاعر، ومعاقبة
المخالفين بالعنف.. الخ ولكن الرجل يصبح مدمنا على تناول نوع معين من
التفاح. وعندما يعرف أنه قد يساعد في استعادة الذاكرة، يكف عن تناوله.
البطل يمتثل تماما لكل ما هو مطلوب منه، ولكنه في مرحلة ما، لا يبدو أنه
يرغب فعلا في استعادة عالمه السابق، وفي النهاية يوشك على التمرد على
المنظومة الموجهة.
الفيلم مصنوع بحساسية خاصة، ويذكرنا في بعض جوانبه بفيلم
“سرطان البحر” Lobster في
تكثيف أجواء الغموض والتحكم في الأداء البارد من جانب بطله، والانتقال
المصنوع بدقة شديدة من مشهد إلى آخر، مع الابتعاد عن الإثارة والحبكة
الميلودرامية. ففي مشهد ذهاب البطل الى السينما ومشاهدة فيلم رعب يكتفي
المخرج بتصوير رد الفعل البارد تماما على وجه صاحبنا مع سماع الأصوات على
شريط الصوت وهي تأتي من الفيلم الذي يشاهده وكذلك رد فعل فتاة تجلس على
مقربة منه، وهي ترتجف فزعا وتختبيء تحت مقعدها رعبا بينما بطلنا لا يأبه،
وعندما تسأله بعد العرض لماذا يمتليء الفيلم لكل هذه المناظر الوحشية تكون
اجابته في بساطة: ألم يكن فيلما من أفلام الرعب”. وربما يجدر أن نعرف أن
فيلم الرعب هذا ليس أقل من الفيلم الأمريكي The
Texas Chainsaw Massacre الذي
تم منع عرضه في عدد من البلدان بسبب عنف مناظره، ومنها منظر استخدام منشار
كهربائي في تقطيع أجزاء من فتاة حية نسمعها تصرخ من الألم. ويتميز كثيرا
أداء الممثل الرئيسي في هذا الدور الذي يتيح له فرصة الظهور في جميع
المشاهد.
أما فيلم الافتتاح الايطالي “لاتشي” Lacci ومعناها
“الروابط” إشارة الى رابطة الأسرة تحديدا، فهو ميلودراما إيطالية عن
العلاقة الزوجية، يبدأ في الثمانينات وينتقل الى ما بعدها بنحو ثلاثين سنة،
ويظل يتأرجح بين الماضي والحاضر. زوجة لديها طفلان، يعترف لها زوجها ذات
يوم بأنه مارس الجنس مع امرأة أخرى. لكنه لا يعرف ماذا يريد بالضبط. هل هو
يحب الأخرى؟ ربما، لكنه يحب زوجته أيضا. ولكنها تشعر بالإهانة فترغمه على
تركها بينما تتمزق. ثم تحاول الانتحار. ويذهب هو يعيش مع المرأة الأخرى
محروما بقرار المحكمة من رؤية ابنيه. لكن السنون تمضي ويحن للعودة وتقبل
الزوجة عودته لكننا لا نعرف لماذا عاد، بل سنعرف بعد ان يذهب الاثنان في
عطلة وعندما يرجعان يجدان كل ما في شقتهما قد تحطم تماما. يجلس الرجل
يسترجع الماضي. وتظل الزوجة دائما تطاردها أشباح ما وقع في الماضي، لا
يمكنها الثقة في زوجها حتى بعد أن أصبح كهلا يجرجر ساقيه بصعوبة. الابن
والبنت كبرا. وهما أيضا يسترجعان ما مر به والداهما. ماذا سيحدث، وكيف
سينتهي الفيلم؟ نترك هذا لمن يشاهده. لكن هذا لا يمنع من التساؤل: كيف ظل
القط الكبير العجوز الذي كان عمره في الماضي عندما كان الزوج والزوجة في
وقت الشباب، على قيد الحياة في رعاية الابنة بعد مرور نحو ثلاثين سنة. يظل
هذا لغزا كبيرا.
أداء عظيم في سيناريو مكتوب بأسلوب جديد مختلف تماما عن
الميلودرامات التقليدية عن نفس الموضوع وإخراج واثق من جانب المخرج دانييل
لوكيتي، وتصوير شيق وبليغ للحياة في مدينة نابولي الجنوبية، وتعليق ساخر عن
أزمة المثقف الذي يعيش في الخيال أكثر مما يمكنه مواجهة الواقع فالزوج صحفي
ومذيع مشهور يقدم برنامجا ثقافيا في الاذاعة. كما يطرق الفيلم أيضا فكرة
العلاقة بين الأجيال، من خلال اختلاف نظرة الأبناء إلى ما يفعله الآباء،
وكيف أصبح من الممكن حتى الاستهانة بالموروث.. الذي لم يعد له قيمة، وكيف
تصل اللامبالاة الى ذروة العبث. تمثيل بديع من جانب البطلين جيوفانا
ميزوغيورنو في دور “فاندا” الزوجة، ولويجي و كاشيو في دور الزوج “ألدو”.
الفيلم خارج المسابقة. وأفلام الافتتاح ليست هي عادة أفضل الأفلام. سننتظر
المزيد من الأفلام الإيطالية في المسابقة. |