البندقية تشرّع أبوابها لسينما النساء والمغمورين بعيداً من
هوليوود
المصدر: "النهار العربي" -
رنا نجار
يواجه مهرجان البندقية السينمائي في دورته الـ77 التي تفتتح
اليوم في مدينة ماركو بولو، تحديات جمّة على ثلاثة مستويات: انتشار فيروس
كورونا، إعلاء الصوت النسائي وترقيع أخطاء الماضي، وغياب نجوم هوليوود
الأكثر "إثارة" في تظاهرات الفن السابع في مقابل الانفتاح على السينما
المستقلّة والمخرجين الشباب والجدد وقضايا اجتماعية إنسانية.
المهرجان الأقدم في العالم الذي تأسس عام 1932 والمستمرّ
حتى 12 أيلول (سبتمبر) الحالي، هو أول حدث سينمائي ذي حجم دولي يقام منذ
بداية الأزمة الصحية العالمية لكورونا، بعد إلغاء أهم المهرجانات، وبينها
"مهرجان كان" المنافس المباشر له، في أيار (مايو) الماضي. وبالتالي يعيد
صنّاع السينما ونجومها الى الساحات والسجادة الحمراء وغواية عدسات
الكاميرات ولمعان الفساتين والمجوهرات ليكونوا تحت الأضواء.
سجاد أحمر بلا حشود
"فحتى بداية أيار (مايو) اعتقدتُ أننا لن نستطيع إقامة
المهرجان"، كما صرّح مديره الفني ألبيرتو باربيرا في مقابلة مع مجلة
"فاراييتي". وأشار الى أن 90 في المئة من نشاطات المهرجان وأحداثه مثل
المحاضرات ونشاطات السوق وبعض المؤتمرات والورشات، ستقدم أونلاين، لكن
بالنسبة الى الأفلام فهي ستقدّم كلها فعلياً في صالات العرض الضخمة
والعريقة المخصّصة لذلك. وأضاف: "سنطلب من لجان التحكيم مشاهدة العروض
الرسمية للأفلام مع الجمهور ليتسنّى لهم تلقي ردّود الفعل مباشرة منه"،
مشيراً إلى أن سعة معظم الصالات التي تعرض فيها الأفلام ستُخفّض بنسبة 50
في المئة التزاماً بالتباعد الجسدي لعدم انتشار الوباء، أما السجاد الأحمر
فسيُفرش وإن كان لا يوجد حشود".
أما رئيسة لجنة التحكيم الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت
(الصورة أعلاه عن أ ف ب)، فاعتبرت في مقابلة مع "فاراييتي" أيضاً، أن
"السينما هي الحدث. صحيح أنه كان يمكننا متابعة البث المباشر لكل شيء من
بيوتنا في الأشهر الماضية، إلا أن ذلك ليس حدثاً. نحتاج إلى الأصوات
المتنوّعة والدقيقة والحقيقية ليكتمل الحدث في سياق المهرجان".
وأشارت بلانشيت إلى أهمية هذه التظاهرة هذا العام أكثر من
أي وقت مضى لتكون مساحة لقاء فعلية وتفاعلاً غير افتراضي للسينما الشعبية
وليس فقط سينما النجوم والأفلام الضخمة، وليكون منصّة مغايّرة لصانعي
الأفلام. وأضافت: "هناك عبء إضافي من المسؤولية هذا العام، لأن الفُرص
المتاحة لصانعي الأفلام لعرض أعمالهم في أماكن عامة صارت محدودة للغاية منذ
انتشار كورونا، لذلك كيفما أتت مداولات لجان التحكيم فستكون مؤثّرة".
نسوية السينما
تعرّض مهرجان البندقية في سنوات سابقة لانتقادات عدّة
ولاذعة بسبب التمثيل النسائي النادر في مسابقاته وبالتالي عدم مراعاته
المساواة الجندرية التي باتت أساسية في التظاهرات الفنية، وخصوصاً
السينمائية التي تهمّش النساء بالمجمل. فلطالما كانت "هوليوود" عملاقة
الصناعة السينمائية في العصر الحديث، أكثر المؤسسات الفنية التي مارست
التمييز ضد النساء في عصرها الذهبي. فقد بيّنت دراسة نشرتها دورية "بلوس
وان" (PLOS
ONE)
في نيسان (أبريل) 2020، أن صناعة السينما في الولايات المتحدة "مشوهة" فيما
يتعلق بالمساواة بين الجنسين من ناحية التوظيف في الأفلام. الدراسة التي
اعتمدت على تحليل بيانات قرن من الزمان (من عام 1910 وحتى 2010) ومعلومات
مستقاة من أرشيف "معهد الفيلم الأميركي" وموقع "قاعدة بيانات الأفلام على
الإنترنت" (IMDB)،
وجدت أن تمثيل الإناث في صناعة الأفلام وصل إلى أدنى مستوى له على الإطلاق
خلال ما يسمى بالعصر الذهبي، وأن تمثيل المرأة في الصناعة لا يزال يكافح من
أجل التعافي حتى اليوم.
ويتزايد تمثيل الإناث ببطء ولكن بثبات في قطاعات عدة من
المجتمع. يتوقع المرء أن يرى التكافؤ بين الجنسين في صناعة السينما، لكونها
صناعة "ثقافية" بالأساس، ولكن وفق الدراسة، فإن تمثيل الإناث في معظم
الوظائف داخل صناعة السينما الأميركية لا يزال منخفضاً بشكل مدهش.
من هنا، يمكننا تثمين خطوة مهرجان البندقية هذا العام،
أولاً باختيار رئيس لجنة تحكيم امرأة وليست أيّ امرأة، بل هي الممثلة
الاسترالية كايت بلانشيت المثقفة والمنحازة لقضايا الانسان والمساواة
والسينما الشعبية. وبطلة فيلم "إليزابيث" هي ثالث امرأة تتولى منصب رئيس
لجنة التحكيم خلال أربع سنوات بعد لوكريتسيا مارتيل وأنيت بينينغ. وثانياً،
باستضافة "البندقية" 8 أفلام من أصل 18 لمخرجات نساء في مسابقته الرسمية
المتنافسة على "الأسد الذهبي". وتصل نسبة المخرجات الإناث المشاركات في
المهرجان وفعالياته كافة الرسمية وغير الرسمية الى 40 في المئة، وهو رقم
ليس سهلاً في عالم يسيطر عليه الذكور كصنّاع بالمجمل. ففي عام 2018، تعهّد
مهرجان البندقية بالتزام المساواة الجندرية (50/50) في عام 2020، وهو اليوم
يمشي على الميزان الصحيح. فهل يكون هذا الأمر إشارة إيجابية لمستقبل صناعة
السينما وهل سيُغيّر المعادلة؟
بالنسبة الى بلانشيت الفخورة بالمستوى العالي لجودة ومهنية
أفلام النساء في الدورة السابعة والسبعين، "فإن موجة المخرجات الإناث في
مهرجان البندقية 2020 التي كانت تتضمن اثنين فقط من أصل 21 عنواناً في
المسابقة الرسمية في 2019، هي استجابة مباشرة للتقدم الإيجابي الذي أحرزناه
هذا العام مع ابتعادنا عن التفكير بخمول وعدم تهميش الموهوبين الذين
غالبيتهم من النساء في العادة"، كما قالت قبيل افتتاح المهرجان.
ومن بين المخرجات المشاركات في "البندقية"، التونسية كوثر
بن هنيّة (43 سنة) في "الرجل الذي باع ظهره" (THE MAN HOW SOLD HIS SKIN).
ويحكي قصة (سام علي) النازح السوري إلى لبنان هرباً من الحرب الضروس في
بلاده، آملاً في الالتحاق بحبيبته في باريس ويبقى عالقاً في لبنان بلا أي
وثائق سفر. يرتاد سام بانتظام حفلات افتتاح المعارض الفنية في بيروت
ليتناول الشراب والطعام. فيلفت نظر فنان أميركي معاصر ويتعاقد معه ويغيّر
مسار حياته... ويشارك في الفيلم المشارك في مسابقة "THE
OROZZONTI"
التي يتنافس فيها 19 فيلماً من حول العالم، النجمة مونيكا بلوتشي، يحيى
محايني ودارينا الجندي وكريستيان فاديم ودي ليان وكوين دو بوو.
وقد لمع اسم كوثر بن هنيّة (الصورة أعلاه عن أ ف ب) منذ
أخرجت الفيلم الوثائقي الجدلي "الأئمة يذهبون الى المدرسة"، ثم عندما فازت
بالتانيت الذهبي في "أيام قرطاج السينمائية" في 2016 عن فيلم "زينب تكره
الثلج"، ثم عندما عُرض فيلم "على كفّ عفريت" في قسم جائزة "نظرة ما" في
مهرجان "كان" السينمائي 2017، وهو الفيلم نفسه الذي رُشّح لجائزة الأوسكار
لأفضل فيلم بلغة أجنبية في 2019.
هوليوود ليست البوصلة؟
قبل افتتاح المهرجان الذي يعتبر غرفة انتظار لجوائز
الأوسكار، علت أصوات الصحافة في العالم متسائلة كيف سيُعقد "البندقية" وسط
غياب تام لنجوم هوليوود بسبب كورونا؟ خصوصاً أن المهرجان شهد في دوراته
السابقة مرور كبار الممثلين والمخرجين الأميركيين على سجادته الحمراء، مثل
مارلون براندو ومارتن سكورسيزي وروبرت دي نيرو.
ومنهم من اعتقد أن نجوم عمالقة السينما هم من يصنعون الحدث
في أعرق مهرجان في العالم! كأن هوليوود التي تهيمن بأجنداتها السياسية،
وأموالها الطائلة، وإنتاجاتها الضخمة والسطحية في غالبيتها، ونجومها
المالئين الشاشات الفضية والذهبية، هي البوصلة!
فمن قال أن غياب نجوم هوليوود وإن كنا نقدّر مواهبهم
ومهنيتهم (ليس الكل)، هم معيار نجاح تظاهرة سينمائية في عقر دار إيطالية أم
السينما ومؤسستها؟ ومن قال إننا اليوم في عصر المتغيرات وانهيار الأنظمة
وتحرّر المجتمعات من عبء ثوابت الماضي ومعاييره البائدة، نحتاج الى نجوم
تعبت عيوننا من رؤيتهم على السجادات الحمراء كافة؟
ومن قال إننا اليوم حيث عادت الى الواجهة قضايا الأمس مثل
العنصرية وانتشار الأوبئة واقتراب المجاعة في بلدان كثيرة وانهيار
المنظومات الاقتصادية الحاكمة، نحتاج الى نجوم؟ فصناعة السينما اليوم بحاجة
الى طرح قضايا شعبية تحمل هموم العمّال الذين لا يزالون مستغلين من قبل
الأنظمة الرأسمالية والذين صاروا أكثر "استعباداً" من ذي قبل.
نحن في حاجة الى تكثيف الإضاءة على قضايا التحرّش الجنسي
التي فاشت في السنوات الاخيرة في هوليوود أولاً، وبين رجال اعمال ومثقفين
وسياسيين ورجال دين! نحن في حاجة الى تسليط الضوء على قضايا اللجوء التي
تميت البشر الهاربين من الموت بالرصاص الى الموت على الحدود وفي البحر. نحن
في حاجة الى رفع الصوت ضد أي نوع من العنصرية والتنمّر. ونحن لا نزال في
حاجة الى فهم التاريخ عبر السينما التي لا تزال مقصّرة في طرح قضايا
المجازر اللانسانية والابادات الجماعية والحرب الأهلية.
ونحن أيضاً في حاجة الى الحب والرومانسية العميقة والدافئة
وليس الى رومانسية النظام الاستبدادي والاستهلاكي. نحن في حاجة الى أفلام
التكنولوجيا والخيال العلمي. كل هذه القضايا هي التي تصنع النجوم ومن يُنجح
المهرجانات السينمائية التي تريد صناعة تحفرُ في المفاهيم الانسانية وتساهم
في التغيير والتطوّر، مهرجانات تصنع نجومها الصاعدين من مساحات مغمورة
وتكتشف مخرجيها المنتشرين كالنمل تحت الأرض ينتظرون منتجاً أو مؤسسة
لتنتشلهم...
سينما شعبية تعكس الواقع
مهرجان البندقية قادر اليوم على لعب هذا الدور الريادي، فهو
يولي هذا العام من خلال تظاهراته غير الرسمية اهتماماً كبيراً بالسينما
الشعبية أو التي لا يقودها نجوم ومشاهير، وبمشاركة مخرجين شباب لم ينافسوا
سابقاً على الأسد الذهبي. ويطرح من خلال أفلامه قضايا العمال وعمالة
الأطفال ومجازر البوسنة وغيرها.
وفي هذا السياق قالت بلانشيت إن "الجمهور يريد مشاهدة أفلام
تُلهمه وتعكس واقعه وتعيد إليه حياته عبر طرق مضيئة تعكس الإيجابية، وذلك
يتطلب منا كصُنّاع سينما أن نمشي في طريق هذا العالم الجريء والجديد، وألا
نصطحب معنا عادات سيّئة مثل الاستسلام للكسل في البحث عن مواهب جديدة أو
تجاهل الأصوات المتنوعة والمثيرة للاهتمام". وأضافت: "هناك 13 فيلماً في
المجموعة الرسمية المختارة لمخرجين جدد".
وحجزت إيطاليا مكاناً مرموقاً على هذا في المهرجان الذي
يحمل جنسيتها، على غير العادة. فعلاوة على الأفلام الإيطالية المشاركة،
سيكون الافتتاح مع فيلم "Lacci"
للمخرج الإيطالي دانييل لوتشيتي، وهو أول فيلم إيطالي يعرض في الافتتاح منذ
11 عاماً، بعد فيلم "Baarìa"
للمخرج جوزيبي تورناتوري في عام 2009، أما الختام فسيكون مع فيلم "Lasciami
Andare"
للمخرج الإيطالي ستيفانو مورديني. ومن المتوقع أن يُطلق المخرج بيدرو
ألمودوفار في صالة "lido"
الشهيرة الرئيسية في المهرجان، فيلمه الأخير "صوت الإنسان" (30 دقيقة) من
تأليف جان كوكتو وبطولة تيلدا سوبنتون التي يكرّمها المهرجان هذا العام عن
مسيرتها بالأسد الذهبي هي والمخرجة آن هوي.
وليس في لائحة المتنافسين أيّ من أسماء هوليوود الكبيرة، إذ
يقتصر تمثيل الولايات المتحدة على مخرجتين فقط، الأولى الصينية - الأميركية
كلوي زهاو التي تقدم الذي يشارك هذا العام في عرضه الأول بمهرجاني البندقية
وتورونتو ويعرض في 11 أيلول (سبتمبر) الحالي. وهو فيلم عن بدوية من العصر
الحديث في نيفادا، تؤدي دورها الممثلة الحائزة جائزة أوسكار فرانسس
ماكدورماند. في حين تقدم مخرجة أقل شهرة النروجية - الأميركية مونا
فاستفولد، فيلم "The
world to come".
ومن خارج المسابقة، يبرز فيلم "One
Night in Miami"
من إخراج الممثلة الأميركية - الأفريقية ريجينا كينغ، ويتناول بدايات
الملاكم كاسيوس كلاي (الذي أصبح محمد علي) ومالكولم إكس. وتكمن أهمية
الفيلم في تزامنه مع موجة الاحتجاجات والتظاهرات التي تهز الولايات المتحدة
ضد العنصرية وعنف الشرطة في حق السود، قبل شهرين من الانتخابات الرئاسية
الأميركية. |