مع انطلاق دورته الممتدة من الـ6 إلى الـ15 من ديسمبر يتحول
مهرجان البحر الأحمر إلى واحد من أكبر شاشات العرض الخاصة بالسينما
العربية، فثمة زخم كمي واضح في عدد الأفلام المعروضة ضمن المسابقة الرسمية
أو برنامج روائع عربية، أو ضمن اختيارات البانوراما الرسمية خارج المسابقة.
ويمكن للمتابع أن يرصد أفلاماً عربية من غالبية دول المنطقة
التي تمتلك صناعة سينمائية قوية وراسخة مثل السينما المصرية والمغربية،
بالإضافة إلى التونسية والجزائرية، أو صناعات سينمائية واعدة مثل السينما
الأردنية والسعودية، إذ يعرض المهرجان خلال فعالياته 27 فيلماً من إنتاجات
التيارات السينمائية المختلفة التي بدأت بالتشكل والصعود في المملكة.
ثيمة اجتماعية
في قراءة تتقاطع مع برنامجين مختلفين (المسابقة الرسمية
وروائع عربية)، يمكن أن نتلمس ثيمة اجتماعية تتكرر حاملة أكثر من وجه
(نفسي- سياسي-وجودي) وأن نطلق عليها ثيمة (غياب الأب).
وهي الثيمة التي تبدو بارزة على المستوى الدرامي في أفلام
"غدوة" التونسي، من إخراج ظافر عابدين، و"بنات عبد الرحمن" للمخرج الأردني
لزيد أبو حمدان، وأخيراً الفيلم المغربي "أنطونيو طار" للمخرج الهادي أولاد
امحند، وهي جميعاً الأعمال الروائية الطويلة الأولى لمخرجيها.
في
بنات عبد الرحمن يصاب الأب العجوز (عبد الرحمن) بما يشبه الخسوف العقلي،
ربما من أثر الزهايمر على المستوى الجسدي، لكنه بلا شك من أثر الشعور
بالضياع، إثر قضائه عمره بأكمله دون تجاوز أزمة الابن الذكر الذي لم ينجبه
(له 4 بنات ويسمي نفسه أبو علي، في دلالة اجتماعية وذكورية واضحة).
وفي "غدوة" يتحول الأب حبيب المحامي الحقوقي إلى مريض عقلي،
يعاني من هلوسات التحقق الغائب على المستوى العاطفي والبارانويا الغليظة،
التي تصور له مطاردات وهمية من عناصر أمن الدولة ترسبت في ذهنه، عقب
اعتقاله وتعذيبه –كما تشير الخطوط على ظهره- من قبل عناصر نظام الرئيس
المخلوع بن علي.
أما في "أنطونيو طار" فإن غياب الأب فؤاد يتجلى عبر مرض
عصبي، يجعله يرتد فجأة في نكوص عقلي ونفسي، إلى أن يصبح ابناً لأبنائه
الذين يجدون أنفسهم فجأة وزوجته في صراع مرير، مع قوة مجهولة وقاهرة أخذت
عقل الأب فجأة ودون مقدمات أو أسباب، تاركة إياهم لرياح التشتت والخذلان
المجتمعي والإنساني دون سند أو ظهير داعم.
الخسوف والخوف والخرف
ما بين الخسوف والخوف والخرف تتأرجح عقول الآباء الثلاثة،
ويتحول أبناؤهم بالتدريج إلى آباء كما في "غدوة" و"أنطونيو" أو أمهات كما
في "بنات عبد الرحمن"، يجد الأبناء انفسهم فجأة على اختلاف شرائحهم العمرية
ولازمة الفقد التي يعيشونها مع آبائهم، في موجة مسؤولية استثنائية غير
متوقعة، دون أن يصبح العقوق خياراً متاحاً لأي منهم.
يتحول أحمد ابن حبيب إلى والد حقيقي يرعى أباه الذي يعيش في
عالمه المشفر بتفاصيل نظن أنه هو فقط الذي يراها، الظلم السياسي من النظام
السابق والفساد المستشري للنظام الحالي، الذي يحول دون أن يحصل أصحاب
المظالم المختلفة على حقوقهم، وبل ويعاقبون على المطالبة بهذه الحقوق
ويتحولون في نظر المجتمع إلى أشخاص خارجين عن المنطق الخاص بالأشياء، وهو
الاستسلام وادعاء أن كل شيء على ما يرام، وهو ما نراه في مشاهد تعرض حبيب
للضرب أمام بيت المسؤول الكبير وتحت نظره، لمجرد أنه تجرأ وجادله في مسألة
الحقوق غير المستعادة.
وفي "أنطونيو" يجد الأبناء أنفسهم في مواجهة اجتماعية عنيفة
مع نظام بيروقراطي لا يخفق قلبه شفقة على الأب المريض، ونظام اجتماعي يعتبر
العائلة منقوصة الأب هي عائلة عرجاء، لا يجب أن تتعاطى بصورة طبيعية مع
منطلقات الواقع لأن رب الأسرة الغائب عقلياً لا يملك الدفاع عن بيته.
وفي "بنات عبد الرحمن" ينفجر الماضي والحاضر على حد سواء في
وجه النساء الأربع اللائي خسف الأب بأنوثتهن الأرض، كعقاب غير مباشر للقدر
الذي لم يمنحه ابناً يحمل اسمه.
وهنا نلاحظ كيف أن اسم الفيلم بنات عبد الرحمن، وهي إشارة
تنصف البنات من أثر التجني الذكوري على وجودهن الإنساني ووضعهن الاجتماعي.
رغم القسوة التي مارسها الأب عليهن بلا استثناء وبصور
مختلفة في تناقض مع اسمه الذي يأتي من رحمة الله، إلا أنهن لا يستطعن
دفاعاً عن أنوثتهن في النهاية إلا أن يبحثن عنه، رغم أن غيابه بالموت أو
الفقد يمكن أن يمثل باباً للفرج من أزماتهن الخانقة.
في الأفلام الثلاثة ترتبك النفوس حد الضياع وتتوه الحقائق
ما بين الذكريات والهلوسات والأماني، إلى أن تأتي المحبة الخالصة والمصارحة
والمسامحة بلا مقابل، لتصبح هي ريح الصفاء التي تدفع أمامها كل غيوم الماضي
واختناقات الحاضر وغموض المستقبل.
مسؤولية اجتماعية ونفسية
يحمل المخرجون الثلاث الأبناء في تجاربهم مسؤوليات أكبر من
كونها اجتماعية أو نفسية، يحملونهم إرثاً روحياً ووجودياً، مطالبين إياهم
بأن يتحلوا بالجلد والقوة لملاقاة الغد بوجه يبتسم وعيون راضية، بما كان
وبما سوف يكون.
في المشهد الأخير من "غدوة" حين يتم اعتقال الأب كتأكيد حي
على أن هلوساته لم تكن كلها واهمة يجري الإبن صارخاً بأنه أصبح الآن يصدق
ما لم يكن يتصوره، وبأنه لن يتخلى عن الأب، ولا عن رسالته التي فقد عقله
وحريته بسببها.
وفي بنات عبد الرحمن تنتهي رحلة البحث عند قبر الأم حيث
يجلس الأب أخيراً في انتظار بناته كي يحملنه إلى البيت الذي طالما كرهه،
لأنه لم ينجب ذكراً ليرث جدرانه وينقش فوقها اسمه.
تجدر الإشارة إلى أنه في الأفلام الثلاثة تمثل البيوت
المكان الأهم على المستوى الواقعي والمجازي، فهي العائلة والمجتمع والحيز
الانفعالي الذي تضطرب فيه المشاعر وتتصادم، وحيث تسكن الذكريات وتطوف أشباح
الأمس حاملة أصواتاً من أزمنة الراحة أو بدايات العذاب.
بيت حبيب أقرب للمخبأ بالأقفال الكثيرة والترباس الضخم،
والحوائط التي تمتلئ بقصاصات الصحف وأرشيف التقارير الحقوقية وملفات
القضايا.
وبيت عبد الرحمن الحجري التقليدي هو الملاذ الأخير للبنات
الأربعة، حين تحاول كل منهن أن تجد القطعة المفقودة من روحها ربما مخبأة أو
مهملة هنا أو هناك.
أما بيت فؤاد فهو المكان الوحيد الذي تشعر الأسرة أن الأب
آمن فيه، بعيداً عن لوثته العصبية التي تجعله ميالاً لهدم كل ما لا يعجبه
من سلوكيات البلدة والتدخل العابث في شؤونها الجامدة.
عمل أول
تمثل البيوت في الأفلام الثلاثة المكان الرئيسي الذي تدور
فيه الأحداث، وهو بالطبع أمر منطقي لأن ثلاثتهم يتحدثون عن غياب الأب، وكيف
لغياب الأب أن يؤثر قبل كل شيء على البيت بكل دلالاته.
وأخيراً يمكن الربط بين ما سبق ذكره عن كون الأعمال الثلاثة
هي أعمال أولى لمخرجيها، على اختلاف توجهاتهم وأساليبهم السينمائية، في
إشارة إلى أن ثمة هموم مشتركة بين صناع السينما العربية من الأجيال التي
تقدم نفسها في تجاربها الأولى.
ربما من الصعب أن نرصد تلك الحالة لولا التظاهرات التي
تجتمع فيها الأفلام للعرض في شاشات متجاورة داخل حيز زمن محدد، وعلى جمهور
تتحول مهمته الأساسية خلال هذا الحيز الزمني إلى مشاهدة الأفلام،
والاستغراق في أفكارها وتداعيتها وخطوطها المتقاطعة.
هي تظاهرات لا غنى عنها لأي دولة ترغب في أن يكون لها موضع
قدم على الساحة الثقافية الدولية تسمى المهرجانات السينمائية، وقد وجدت
طريقها أخيراً عبر مهرجان البحر الأحمر إلى المملكة، فيما يأمل مراقبون أن
يزداد عددها بقدر تعطش الصناع والجمهور، لأن تصبح السينما رافداً من روافد
الامتلاء الحضاري والانفتاح على الآخر.
*ناقد
فني مصري |