علا الشافعي تكتب من برلين:
"برلين ألكسندر بلاتس".. وجه برلين القاسي يقترب من الدب
الذهبي
لم يبقَ سوى يومين ويعلن مهرجان برلين السينمائى الدولى
ختام فعاليات الدورة الـ70 (20 فبراير وحتى مطلع مارس المقبل)، وبالطبع
هناك الكثير من الملاحظات على الدورة الحالية التى جاءت مخيبة لآمال
الكثيرين من محبى ومتابعى المهرجان، وتحديداً فيما يتعلق بمستوى أفلام
المسابقة الرسمية (18 فيلماً)، ولكن رهان النقاد والمتابعين اتجه صوب فيلم
«برلين ألكسندر بلاتس» الذى عُرض أمس الأول، وشهد حضوراً كبيراً من النقاد
والصحفيين.
الفيلم من إنتاج ألمانى مجرى للمخرج صاحب الأصول الأفغانية
برهان قربانى. أحداثه مأخوذة من رواية نُشرت فى ١٩٢٠ لألفريد دوبلن، وتدور
أحداثه فى «183 دقيقة» من خلال معالجة عصرية تدور أحداثها فى برلين حالياً،
حيث يناقش قضية الهجرة غير الشرعية ووصول اللاجئين إلى ألمانيا، وهى قضية
تؤرق بعض الألمان، وأكثرهم من أصحاب التوجهات اليمينية.
مفتاح الأحداث فى الفيلم هو ساحة بوتسدام أو بوتسدامر بلاتز
(Potsdamer Platz)
وهى ساحة ونقطة تقاطع مهمة تقع فى وسط برلين، عاصمة ألمانيا، على بُعد
كيلومتر واحد من بوابة براندنبورج ومبنى الرايخستاج (مبنى البرلمان
الألمانى).
سُميت الساحة بهذا الاسم نسبة لمدينة «بوتسدام» التى تبعد
عن الساحة بحوالى 25 كيلومتراً فى جنوب الغرب. والساحة تمثل النقطة التى
كان يمر من خلالها الطريق القديم عبر جدار برلين فى بوابة «بوتسدام»، وتم
تخريب الساحة أثناء الحرب العالمية الثانية، لدرجة أنها تُركت مهجورة أثناء
الحرب الباردة، وتحديداً عندما قسم جدار برلين الساحة إلى نصفين، ولكن مع
سقوط الجدار تحولت تلك الساحة إلى مركز مهم وقلب المدينة.
اختار المخرج تلك المنطقة لما لها من دلالات تاريخية لا
تزال انعكاساتها واضحة فى الحاضر، فهى المنطقة التى تمثل مركزاً للنشاطات
التجارية، الشرعية منها وغير الشرعية أيضاً.
لم يستغرق مخرج الفيلم «برهان» وقتاً طويلاً فى سرد رحلة
الهجرة لبطل الفيلم «فرنسيس» ولكنه اكتفى بمشهد افتتاحى لمحاولته هو
وصديقته النجاة بعد غرق المركب الذى كان يقلهما من «بياسو»، وبإيقاع سريع
ولقطات تميزت بصرياً ولونياً شاهدنا غرق الحبيبة ونجاة فرنسيس الذى وجد
نفسه على شاطئ فى جنوب أوروبا، وينتهى به المطاف فى برلين، دون أية أوراق،
وينتهى به المآل عاملاً فى الإنشاءات يسكن فى ملجأ من ملاجئ النازحين.
حلم فرنسيس بأن تصبح عنده أوراق رسمية ويحمل جواز سفر ويعيش
حياة كريمة ولكن الواقع شىء آخر، حيث تكشف برلين عن وجه آخر لا يعرفه
الكثيرون، وجه شديد القسوة والعنصرية عندما تظهر شخصية «الديلر» الألمانى
الذى اعتاد الذهاب إلى الملجأ لاختيار من سيعملون معه ويقومون بتوزيع
المخدرات.
نجح سيناريو الفيلم فى رسم ملامح تلك الشخصية بشكل شديد
الجودة، وبعيد عن النمطية، فهو يحمل ملامح ودودة، يمسك بأوراق مالية ويقف
على الكرسى ويتوسط الشباب المهاجرين كزعيم يخطب فيهم ويحدثهم عن الحياة
الواعدة التى تنتظرهم فى حالة العمل معه، يحدّثهم عن جواز السفر الألمانى
والبيت المريح والمرأة الألمانية والسيارة الألمانية. وتقع عينه على فرنسيس
الذى يرفض الذهاب معه، فيمنحه ورقة من فئة مائة يورو، عندما يفتحها فرنسيس
يجد بها رقم تليفون الديلر.
قام المخرج بتقسيم السيناريو إلى أجزاء تحمل عناوين، وكل
جزء يشهد تطوراً فى شخصية فرنسيس الذى يهرب بعد تورطه فى مشاجرة مع زميل له
فى نزل اللاجئين إلى ساحة برلين الأشهر ولا يوجد أمامه سوى هذا الرجل الذى
يبدو غامضاً له، وتتطور العلاقة بين الاثنين بشكل سريع، ويبتعد فرنسيس عن
حلمه بأن يعيش حياة هادئة وكريمة، حيث يتورط مع برينهلد.
صحيح أنه أصبح يمتلك أموالاً ولديه حبيبة ألمانية كانت تعمل
فتاة ليل، ولكنه يقع فى غرامها وتحمل منه، ويأخذنا المخرج فى رحلة تحمل
الكثير من الدهشة وتحمل الوجه القبيح لبرلين، عالم تجارة المخدرات والسرقة
والجنس. وفى ظنى أن المشهد الكاشف للكثير من المعانى والدلالات التى يحملها
الفيلم هو مشهد الحفلة التنكرية التى نظمها تاجر المخدرات «برينهلد» فى
ملهى كبير، حيث أرسل لفرنسيس، والذى أطلق عليه أيضاً اسم فرانز لجعله أقرب
للأسماء الألمانية، ويرتدى زياً يشبه الغوريلا وهو ما كان يرتديه الأفريقى
القديم، فى حين دخل هو إلى الحفل مرتدياً بدلة بيضاء تشبه زى المستعمرين
البيض قديماً.
سيناريو الفيلم شديد الذكاء وملىء بالدلالات وتلعب فيه
الساحة التاريخية دوراً مهماً، فهى مكان لحركة رجال العصابات الذين يسطون
على محلات المجوهرات الموجودة بها، وأيضاً الحديقة التى يتم توزيع المخدرات
فيها على مقربة منها، وهى التى تشهد أيضاً مقتل بعضهم.
ما بين مشهد قيام برينهلد بأخذ بعض الأفارقة للعمل معه فى
تجارة المخدرات ومشهد الحفلة التنكرية، والمشهد الذى يجعل فرنسيس يقوم
بدوره فى استقطاب أفارقة آخرين للعمل معه عندما يحدثهم عما حققه من أموال
وحبيبة ألمانية وآخر هذه الوعود والأحلام ونظرة الاستعلاء من الديلر
الألمانى لفرنسيس الذى يعلم أنه صنيعته وأنه قادر على تدميره وقتما يحب،
وهذا ما يحدث عندما يطلب منه فرنسيس «جواز السفر»، مقابل سكوته وانسحابه
لرغبته فى العيش بشكل كريم مع حبيبته، لجأ المخرج إلى استخدام الحكى
وتوظيفه، فى تصاعد الأحداث والتعليق عليها فى بعض مقاطع الفيلم بصوت حبيبة
فرنسيس الألمانية حتى بعد رحيلها وكأنها هى الروح التى لا تزال تحرسه رغم
الأخطاء والخطايا.
فيلم «برلين ألكسندر بلاتس» فيلم قاسٍ وموجع، ويكشف الكثير
عن قبح العالم وعنصرية الغرب وملامح عن الجانب الخفى فى الشخصية الألمانية،
بتفاصيل شديدة الذكاء، ورغم طول مدته الزمنية فإنه يمتلك عالمه السينمائى
الخاص وتجربة تستحق المشاهدة أكثر من مرة. وهناك العديد من النقاد يراهنون
على إمكانية حصوله على واحدة من جوائز المهرجان. |