خالد أبو بكر يكتب:
من واقع
«THE POST»..
صراع «السلاح والسياسة» ضد «الصحافة» في زمن الحرب
-
المصدر هو البطل الحقيقى لقضية نشر «أوراق البنتاجون» مع ناشرة
ورئيس تحرير «واشنطن بوست»
-
رغم اعتراض إدارات أمريكية متعاقبة على تغطيات صحفية للحرب فى
فيتنام لكنها لم توجه تهمة «الخيانة» لأى صحفى
-
الحكومات التى تكذب أكثر هى تلك التى تقاتل لسحق الصحافة ومنعها من
القيام بمهامها
-
الفيلم يجسِّد لحظة انتصار للصحافة الأمريكية على السلطة بعد
تعرضها لانتهاكات بسبب تغطيتها لحرب فيتنام
قد يكون مفيدا لكل صحفى أو مهتم بحريات التعبير والمتخصصين فى
الأمن القومى وعموم المواطنين أن يقرأوا عن ذلك الصراع الأزلى
والمرير المرتبط بالتوازن بين حرية نشر المعلومات وتداولها
ومقتضيات الأمن القومى، لاسيما فى زمن الحرب. لكن الأمر يتجاوز
حدود المفيد إلى الممتع والمشوق فى آن واحد عندما تشاهد فصلا من
ذلك الصراع الطويل والممتد، أمامك، ومن إخراج عبقرى لمبدع فى حجم
ستيفن سبيلبرج، من خلال فيلمه الأخير الذى حمل اسم
«The Post»
الذى يشير إلى الاسم المختصر لصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية،
ويلعب بطولته توم هانكس فى دور رئيس تحرير هذه الصحيفة بن برادلى،
وميريل ستريب التى تقوم بدور مالكة الصحيفة ورئيسة مجلس إدارتها،
كاثرين جراهام مطلع سبعينيات القرن الماضى.
تدور أحداث
«The Post»
حول واحدة من تلك اللحظات المجيدة التى تجسد انتصارا لحرية الصحافة
وهى تعطى درسا نموذجيا فى قيامها بأحد أهم أدوارها ــ الذى يتقلص
يوما بعد يوم ــ وهو «الرقابة على السلطة التنفيذية»، ذلك أن
السلطة – أى سلطة – يسرها جدا ألا ترى سوى الصحافة اللطيفة
المسلية، مقلمة الأظافر ومنزوعة الأنياب، أو على الأقل التى لا
تجتهد خارج نشرات العلاقات العامة التى تلمع السلطة وتسبح بحمدها،
عوضا عن أن تكون عينا واسعة للرأى العام على أدائها!.
هذه اللحظة الحقيقية التى تدور حولها قصة هذا الفيلم تعود إلى تلك
الوقفة البطولية لمالكة صحيفة واشنطن بوست ورئيس تحريرها خلال عهد
الرئيس الأمريكى، ريتشارد نيكسون عام 1971، بعد أن اتخذا معا قرارا
جسورا بنشر وثائق مسربة من وزارة الدفاع الأمريكية، معروفة باسم
«أوراق البنتاجون»، وهو المصطلح الشعبى لدراسة سرية من 7000 صفحة
موزعة على 47 مجلدا أمر بإجرائها فى أواسط الستينيات روبرت
ماكنمارا وزير الدفاع الأمريكى (أدى دوره بروس جرينوود) لدراسة
عملية صنع القرار داخل الإدارة الأمريكية فيما يخص الصراع فى
فيتنام، والتى تم الانتهاء منها فى نهاية إدارة الرئيس ليندون
جونسون (1963ــ 1969)، والتى كشفت أن الإدارات الأمريكية
المتعاقبة: (ترومان، أيزنهاوز، كيندى، جونسون) كانت تكذب على
الكونجرس والرأى العام الأمريكى فيما يخص ما يجرى فى فيتنام،
لاسيما خلال السنوات الست الأولى (من أصل 14 سنة) من تدخّل أمريكا
عسكريا فى هذا البلد الآسيوى سنة 1961 فى عهد جون كيندى.
كشفت الدراسة السرية التى أعدتها مؤسسة راند للأبحاث أن هذه
الإدارات كانت تعلم أن انتصار الولايات المتحدة فى هذه الحرب يبدو
بعيد المنال، وبالرغم من ذلك استمرت فى الدفع بالجنود الأمريكيين
إلى الموت فى مسارح عمليات تبعد نحو 10 آلاف ميل عن الأراضى
الأمريكية، ليس لأى اعتبار إلا «لتجنب ذل الهزيمة الأمريكية»، كما
جاء فى الفيلم على لسان الرجل الذى سرب هذه الوثائق للصحافة دانيال
إلسبرج (قام بدوره ماثيو ريس).
كان لصحيفة «نيويورك تايمز» السبق فى نشر أجزاء من «أوراق
البنتاجون» يوم 13 يوليو 1971، وعندما حصلت الحكومة على أمر قضائى
يمنع الصحيفة من استكمال النشر، نأتى لذروة أحداث
«The Post»،
حيث تلك اللحظة التى قررت فيها ناشرة «واشنطن بوست» جراهام ورئيس
تحريرها برادلى الدخول إلى الحلبة فى معركة الصحافة ضد كذب السلطة،
وذلك بالبدء فى نشر مقتطفات من النسخة التى حصلت عليها الصحيفة
(واشنطن بوست) من «أوراق البنتاجون»، مستندة إلى حقها الدستورى فى
النشر والذى يكفله التعديل الأول فى الدستور الأمريكى.
وبعد أن تقدمت الحكومة إلى المحكمة لمنع «واشنطن بوست» من النشر
التقطت جريدة بوسطن جلوب العصا. كما دخلت 18 صحيفة أخرى المعركة
بنشر معلومات من أوراق البنتاجون، وعندما اختلفت المحاكم
الابتدائية حول ما إذا كان يمكن فعلا تطبيق التقييد المُسّبق
للنشر، وافقت المحكمة العليا على نظر القضية على أساس عاجل واتخذ
قضاتها قرارهم يوم الثلاثاء التالى بعد انقضاء 17 يوما فقط على
بداية نشر «نيويورك تايمز» للوثائق، وكان مما جاء فى القرار أنه لا
شأن للحكومة فى محاولة وضع رقابة على الصحف.
خلفيات المعركة
نستطيع أن نقول إن كاتبى سيناريو
«The Post»
ليز هاناه وجوش سينجر مع المخرج سبيلبرج قد نجحوا ببراعة فى تصوير
الجولة الأخيرة من الصراع بين الصحافة والإدارة الأمريكية فيما يخص
حرب فيتنام، التى انتصرت فيها الصحافة، عبر قصة سريعة الإيقاع،
تتضمن لحظات تدفع الجمهور للتصفيق والتهليل لها، وذلك «عبر عملٍ
سينمائى يكتظ بشخصيات لا جدال فى مدى بطولتها». بحسب الناقدة
السينمائية كارين جيمس.
لكن من حقنا أن نتساءل: ماذا عن خلفيات هذه الجولة الأخيرة؟ هذا ما
لم يشر إليه الفيلم، علما بأن استعراض هذه الخلفيات أمرا فى غاية
الأهمية؛ لأنه سيكشف بجلاء عن أن لحظة الذروة التى عالجها
«The Post»
لم تكن معركة معلقة فى الهواء وخالية من أى سياق، بل كانت لحظة
قدرت فيها الصحافة الأمريكية أنها تخوض معركة وجود، بعد سلسلة من
الانتهاكات التى تعرضت لها من قبل إدارات أمريكية متعاقبة بسبب
تغطيتها لحرب فيتنام. ولعل العبارة الحماسية التى صدرت على لسان
رئيس تحرير واشنطن بوست بعد علمه بنبأ منع «التايمز» من النشر تلخص
إلى حد بعيد أنها كانت معركة وجود، فى قوله «سندخل غدا هذه
المعركة» أو من العبارة التى تكررت مرارا على لسانه «لا سبيل
لتأكيد حق النشر إلا بالنشر».
هذا السياق المفقود فى الفيلم نستعرضه من خلال ما سردته دراسة
أمريكية صادرة فى 2007، عنوانها «الأمن القومى الأمريكى وحرية
الصحافة فى 4 حروب: الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية
وحرب فيتنام والحرب على الإرهاب»، لـ«دانيال جوزيف سميث» الباحث فى
جامعة ميريلاند الأمريكية.
تقول الدراسة فيما يتعلق بتعاطى الإدارات الأمريكية مع الصحافة فى
حرب فيتنام إنه: فى خضم الحرب الباردة، زاد الرئيس جون كينيدى من
تورط الجيش الأمريكى فى فيتنام، ووعد بأن الحكومة لن «تفرض رقابة
على الأخبار» أو التحكم فى الصحافة. غير أنه طلب من الصحافة أن
تكون حذرة للغاية فى تقديم تقارير تتناول الأمن القومى، محذرا من
أن «خصوم هذه الأمة (أى: الزعماء الشيوعيون من الدول الأخرى)
يتباهون بشكل علنى بالحصول من صحفنا على معلومات كانوا خلاف ذلك
سيطلبونها من عملائهم..».
ومع ذلك، فشل كينيدى والرؤساء الآخرون خلال حرب فيتنام فى الحفاظ
على وعدهم بعدم فرض أى رقابة أو سيطرة على الأخبار. فعلى سبيل
المثال، فى عام 1963 حاول كينيدى إبعاد المراسل الحربى لصحيفة
نيويورك تايمز الأمريكية، ديفيد هالبرستام من فيتنام. وكان
هالبرستام كتب تقريرا وصف «كيف كان الجيش الأمريكى يفقد السيطرة
على منطقة تسمى دلتا الميكونج».
وذكر هالبرستام فى التقرير أن أعداد عناصر المقاومة الفيتنامية
(الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام المعروفة بـ«الفيت كونج») هناك
تتزايد بسرعة ويقومون بمزيد من حرب العصابات ضد القوات الأمريكية
والفيتنامية الجنوبية الموالية للأمريكان. واختتم التقرير بالقول
إن الجيش الأمريكى «ليس لديه الإجابة بعد» حول كيفية التعامل مع
الوضع.
من جانبها، قالت إدارة كينيدى إن تلك القصة كاذبة وإن القوات
الأمريكية والفيتنامية الجنوبية تحقق انتصارات فى دلتا الميكونج.
وكان كينيدى مستاء وطلب من مالك صحيفة نيويورك تايمز إعفاء
هالبرستام من مهمته فى فيتنام. ومع ذلك، رفض المالك تنفيذ الطلب،
بل وأقنع هالبرستام بتأجيل إجازته القادمة من فيتنام بحيث لا تبدو
أن الصحيفة رضخت لكينيدي».
الرئيس ليندون جونسون الذى تولى منصبه عام 1963، لم يختلف كثيرا عن
كيندي؛ فإدارته اتخذت إجراءات مماثلة ضد مورلى سافير المذيع بشبكة
(سى بى إس) الأمريكية؛ ففى بث تليفزيونى من فيتنام، أظهر سافير أن
قوات المارينز الأمريكية أشعلت النار فى أكواخ بقرية تسمى (كام ني)
بينما كان القرويون يقفون فى حالة رعب. وقال سافير إن قوات
المارينز قامت بذلك بعد إطلاق نار خفيف مصدره مكان ما فى القرية،
رغم أن «رجالا ونساء كانوا يناشدون قوات المارينز تجنب منازلهم».
ورأى الرئيس جونسون أن سافير أضر على نحو غير منصف بصورة القوات
الأمريكية، ووجه جونسون نعوتا قبيحة لفرانك ستانتون، رئيس شبكة
«سى.بى.إس»، لسماحه ببث تلك الواقعة على الهواء وطلب منه طرد
سافير. كما أمر جونسون مكتب التحقيقات الفيدرالى (إف.بى.آي) ووكالة
المخابرات المركزية (سى.آى.إيه) بالتحقيق مع سافير لمعرفة ما إذا
كان لديه صلات بالشيوعية. ووفقا لما ذكره سافير، فإن التحقيقات لم
تسفر عن أى شيء، ومع ذلك قال جونسون لـ«سى.بى.إس» إن لديه معلومات
خطيرة عن سافير. إلا أن «سى بى إس» رفضت طلب الرئيس بفصل المذيع.
إلى ذلك، بدأت إدارة جونسون تحقيقات حكومية بشأن بيتر أرنيت، مراسل
وكالة أسوشيتد برس الذى كان يغطى الحرب فى فيتنام. وكان أرنيت كتب
عدة تقارير مثيرة للجدل، ناقش بعضها نقصا فى الإمدادات العسكرية
الأمريكية على الأرض، والمذابح التى تحدث أثناء القتال، وفشل بعض
معدات الجيش الأمريكى.
والتقرير الذى وضع أرنيت فى ورطة، كان ذلك الذى وصف فيه كيف استخدم
الجيش الأمريكى الغاز المسيل للدموع ضد المقاومة الفيتنامية من أجل
شلهم فى بعض الحالات.
حيث إن الغاز المسيل للدموع سيؤدى إلى «الغثيان الشديد والقيء...
واضطراب الأمعاء»، وذلك على الرغم من أنه «غير مميت». وشبه أرنيت
استخدام الغاز المسيل للدموع بحرب الغاز المروعة خلال الحرب
العالمية الأولى.
وبعد أن نشرت الصحف فى الولايات المتحدة وفى أنحاء أخرى من العالم
تقرير أرنيت، كان هناك غضب علنى ضد الجيش الأمريكى. وأجرت وكالة
المخابرات المركزية تحقيقا مع أرنيت لمعرفة ما إذا كان منضم
للمقاومة الفيتنامية، فى حين بحث مكتب التحقيقات الفيدرالى عن
معلومات محرجة عنه يمكن للحكومة استخدامها ضده. ووفقا لما ذكره
أرنيت، فإن التحقيقات لم تسفر عن أى شىء يدينه.
أما عن الرئيس نيكسون، الذى تولى السلطة عام 1969، فاتخذ بعض
الإجراءات ضد ممثلى الصحف فى حرب فيتنام، إذ كان يعتقد أن حوالى
95% من الصحفيين فى واشنطن يعارضون سياساته، بل ووضع العديد من
المراسلين الصحفيين فى قائمة تشمل آخرين اعتبرهم «أعداء سياسيين»،
ومنذ بداية رئاسته، كان نيكسون يعتزم السيطرة على الصحافة بأية
وسيلة ممكنة. حتى صرح بأنه «على استعداد لمحاربة وسائل الإعلام»،
من دون أن يدرى أن نهايته ستكون على أيدى الصحفيَين بوب وودورد
وكارل برنستين اللذين سيفجران فضيحة «ووترجيت» التى كشفت تنصت
إدارة نيكسون على الحزب الديمقراطى المعارض فى يوليو 1972 لحساب
«واشنطن بوست» موضوع هذا الفيلم.
والمثير للدهشة أن الحكومة اختارت عدم توجيه تهمة انتهاك «قانون
التجسس» لأى من الصحفيين أو الصحف بسبب تغطيتها لحرب فيتنام،
ويحاكم بموجب هذا القانون أى شخص ينقل معلومات بنيّة التدخل فى
عمليات القوات المسلحة الأمريكية أو عرقلة نجاحها أو المساعدة فى
نجاح أعدائها، وتصل عقوبته إلى الموت أو السجن بما لا يزيد على 30
سنة.
إذن لم تكن ذروة
«The Post»
سوى جولة حاسمة خاضتها الصحافة ضد محاولات شتى للإدارات الأمريكية
لتدجينها والحيلولة دونها وفضح أكاذيب هذه الادارات أمام الرأى
العام الأمريكى.. والتى تؤكد فرضية أن الحكومات التى تكذب أكثر هى
تلك التى تقاتل لسحق الصحافة ومنعها من القيام بمهامها.
المصدر هو البطل
بالعودة إلى الفيلم، أبدأ بإلقاء الضوء على البطل الحقيقى لهذا
الانتصار لحرية الصحافة الذى جاء دوره فى هامش
«The Post»،
وكان يستحق تركيز المزيد من الأضواء على شخصيته، بل إن هذا التهميش
يصيب سيناريو هذا الفيلم بالعوار، إنه دانيال إلسبرج، المصدر الذى
سرب «وثائق البنتاجون» لنيويورك تايمز أولا ثم إلى واشنطن بوست،
والذى تفيد المعلومات المنشورة عنه أنه درس فى جامعة هارفارد، وعمل
محللا فى مؤسسة «راند» التى تقوم بمشروعات بحثية لصالح المخابرات
المركزية الأمريكية ووزارة الدفاع. كان إلسبرج من المعارضين لحرب
فيتنام حتى وهو يعمل فى راند، وتمكن بمساعدة زميله أنطونى روسو
ومساعدى السناتور ادوارد كنيدى من نسخ وثائق البنتاجون عن حرب
فيتنام.
ما فعله إلسبرج وزميله عرّضهما لخطر السجن لمدة 150 عاما. بل إن
روسو ذهب إلى السجن لرفضه الإدلاء بشهادته ضد إلسبرج والغريب أنك
لا تلحظ أى أثر لذلك الرجل الذى دخل السجن فى الفيلم. وبحسب رواية
إلسبرج فى كتابه المهم الصادر عام 2002 تحت عنوان « أسرار: مذكرات
فيتنام وأوراق البنتاغون»
Secrets: A Memoir of Vietnam and the Pentagon Papers
استمرت محاكمتهما لعدة أسابيع فى لوس انجلوس سنة 1973.
ولكن أثناء التحقيق معهما بدأ تحقيق مواز فى فضيحة «ووتر جيت»،
التى من خلالها تم اكتشاف أن القبض على إلسبرج تم بشكل غير قانونى،
وأن البيت الأبيض قد أرسل اللصوص لاقتحام مكتب طبيبه النفسى، وأن
الرئيس نيكسون ومساعده المحلى جون إيرليمان عرضا على القاضى، مات
بيرن، رئاسة مكتب التحقيقات الفيدرالى أثناء سير المحاكمة. ونتيجة
لهذه الانتهاكات، تم رفض التهم الموجهة ضد إلسبرج وروسو.
يبدأ الفيلم باستعراض الوضع العسكرى الهش للجيش الأمريكى فى
فيتنام، ثم تنتقل الكاميرا لمشهد على متن طائرة يظهر فيه وزير
الدفاع ماكنمارا بحضور إلسبرج (أو دان كما ينادى فى الفيلم) وهو
يصب جام غضبه سرا على الوضع المتراجع لقواته فى هذا البلد الآسيوى،
لكنه فور نزوله المطار يؤكد لوسائل الإعلام بعد دقائق قليلة أن
بلاده تحرز تقدما «على مختلف الأصعدة» هناك.
فى هذه اللحظة قرر «دان» الحصول على نسخة من الدراسة التى أجرتها
مؤسسة راند التى يعمل فيها، وهنا تبدت عبقرية سبيلبرج فى توضيح كيف
كان الرؤساء الأمريكيون يكذبون بشأن فيتنام، فيعرض مقطع فيديو لكل
رئيس، ثم صفحات من الدراسة تثبت كذب ما يقوله.
بدأ الأمر بمقطع فيديو للرئيس ترومان وهو يقول: «قدمنا أنفسنا لأجل
العدل وعالم مسالم من خلال الأمم المتحدة». ثم تأتى الوثيقة التى
بين يدى «دان» لتقول: «3 مايو 1950 قدم الرئيس ارومان مليون دولار
كمساعدات عسكرية».
بعدها مقطع فيديو للرئيس أيزنهاور يقول: «يعتمد قادة أمريكا على
كيفية استخدام قوتنا من أجل حماية السلام العالمي»، ثم تظهر وثيقة
أمام «دان» تقول «إنه يدعم السلطة للتحكم فى الانتخابات العامة فى
فيتنام». ثم مقطع للرئيس كيندى يقول فيه: «الولايات المتحدة كما
يعرف العالم لم تبدأ بحرب»، وإذ بوثيقة بين يدى «دان» تقول «11
مايو 1961: يخضع كيندى لتحقيق شامل من قبل وزارة الدفاع حول
احتمالية إرسال قوات أمريكية لفيتنام». وعلى نفس الخطى كان هناك
مشهد يظهر كذب الرئيس جونسون.
دوافع «دان» لكشف كذب الرؤساء الأمريكيين كانت خلاصة توصل إليها من
خلال قراءة الدراسة الضخمة، والتى لخصها فى عبارة حاكمة فى حديثه
إلى محرر واشنطن بوست «بين باجيديكان» (قام بدوره بوب أودينكيرك)
عندما ذهب إليه للحصول على الدراسة، تقول: «لقد كانوا على علم أننا
لن ننتصر، ومع ذلك قرروا الموت للجنود الأمريكيين». ويجيب عن سؤال:
لماذا تستمر الولايات المتحدة فى حرب فيتنام رغم أن قادتها يعلمون
أنها لن تنتصر؟ بقوله: 10% من أجل الفيتناميين، و20% من أجل مواجهة
الشيوعية، أما 70% لتجنب الإهانة.. لتجنب مرارة الهزيمة الأمريكية».
أمثال «دان» يعرفون مصيرهم، ولا يبالون به، يقول له «بين
باجيديكان»: سيلاحقونك فيرد: أعلم ذلك. يقول له محرر «واشنطن
بوسـت»: سيدخلونك السجن. فيرد عليه بسؤال: هل أنت مستعد أن تذهب
للسجن لقاء وقف هذه الحرب؟ يرد المحرر: نظريا بالطبع. وكأن «دان»
يقول لـ«بين باجيديكان» الذى التقاه لأول مرة فى مسرح الحرب فى
فيتنام: كلانا يبغى نشر الحقيقة من دون أى اعتبار للعواقب والمآلات.
جسارة الناشرة جراهام
الموقع الثانى لهذه البطولة الصحفية أراها للناشرة كاثرين جرهام،
التى لعبت دورها ببراعة ميريل ستريب، فمن سيدة أرستقراطية لم تمارس
عملا من قبل، إلى المسئولة الأولى عن صحيفتها العائلية بعد وفاة
أبيها وانتحار زوجها. تنطلق «كاى» (كما كانت تنادى فى الفيلم) فى
إدارتها للصحيفة التى ورثتها من فرضية أثبتت الأيام صحتها على
الأقل فى حالة «واشنطن بوست»، وهى أنه «لكى تحقق الصحافة أرباحا
عليها أن تهتم بجودة المضمون الذى تقدمه»، وهو الأمر الذى كان
يعارضه المستثمرون الأمريكان، الذين يرون أن الصحف المحلية
والشعبية تدر ربحا أكثر من الصحافة الجادة.
ليس إيمان «كاى» بهذه الفرضية على العكس من المستثمرين هو التحدى
الوحيد الذى واجهته وهى تحاول طرح أسهم شركتها فى سوق المال، بل
نظرة هؤلاء الرجال الذكورية، التى ترى أن وجود امرأة على رأس
المؤسسة قد يقلل من قيمة أسهمها.
هذه الخلفيات تفسر إلى حد بعيد لماذا انحازت «كاى» لنشر وثائق
البنتاجون رغم أنه يعرِّضها لمخاطرة تصل حد السجن، فبجانب وازعها
الأخلاقى الذى ينحاز لنشر الحقيقة، نجد أنها تخوض معركتها الشخصية
كامرأة شاءت لها المقادير من دون تأهيل لتكون على رأس مؤسسة بصدد
اتخاذ قرار ربما يكون مصيريا فى وجودها. فهى لم تنس الاعتراض على
كونها أنثى على رأس الشركة، ففى اللحظة الحاسمة ألجمت أقوى
معارضيها قائلة: «أنا لست أبى، ولست زوجى، بل أنا صاحبة القرار فى
الصحيفة». وأعطت أمر نشر التقرير المرتبط بأوراق البنتاجون المسربة.
الكثيرون تحدثوا عن اللحظة المفصلية فى الفيلم باعتبارها تلك التى
قررت فيها «كاى»، اتخاذ القرار بالنشر، لكننى أرى أن حوارها مع
ماكنمارا، الذى يجعل المشاهد يتوقع ذلك القرار بسهولة، هو لحظة
مفصلية أيضا.
قالت لوزير الدفاع السابق وصديقها وأحد كبار مستشاريها: كيف يمكنك
الكذب علينا؟
فيرد: من السهل على الصحف أن تصنفنا ككذابين. لقد كنا فقط نقوم
بالدفاع. لقد فعلنا ما كان باستطاعتنا. اعتقدنا أن الضغط العسكرى
هو الوحيد لإحضارهم للمفاوضات. عملية صنع القرار معيبة. فتقول له
هذا ما تقوله الدراسة. يطلب منها عدم النشر «لأن هذه الدراسة تم
إعدادها للأكاديميين فى المستقبل، ولا يمكن أن تصبح موضوعة فى
الصحف الآن فى وسط الحرب». فترد عليه بشكل قاطع ومفصلى فى مجريات
الأحداث: أعتقد أن العامة لديهم الحق فى أن يعرفوا. ولم تأبه
بتحذيره من أن نيكسون يكرهها وقد يسحقها هى وصحيفتها.
طموح برادلى
تشعر وأنت تشاهد توم هانكس وهو يلعب دور رئيس تحرير واشنطن بوست بن
برادلى، أن هانكس ولد فى صالة تحرير، وأنه عمل لفترة طويلة من
حياته رئيسا للتحرير، فكل حركة وكل ايماءة وكل جز على الناب عند
الشعور بتفوق المنافسين عليه تشى بذلك، يزيد اقتناعك به عندما يخبط
بيديه على طاولة اجتماع مجلس التحرير عندما يعجز محرروه عن تقديم
اقتراحات تجعله ينافس «التايمز» فى نشر وثائق البنتاجون المسربة.
أو وهو يقول لمساعديه «كلما قرأت نيويورك تايمز أشعر كأن أحدهم قد
سكب الشيكولاتة الساخنة فوق رأسى».
من الوهلة الأولى تلحظ أن برادلى مفتون بنيويورك تايمز، التى كان
هدفه الأساسى منذ اعتلى كرسى رئيس تحرير «البوست» أن يجعلها تقف
على قدم المساواة مع التايمز، فتراه مهموما باختفاء محرر تايمز
الشهير والمسئول عن تغطية حرب فيتنام «نيل شيهان» حوالى ثلاثة
أشهر، فيتحسب لقيامه بالتحضير لخبطة صحفية. وعندما يوقف القضاء
غريمته عن نشر «اوراق البنتاجون» التى هى الخبطة التى كان يجهز لها
شيهان يقدر رجل طموح مثل برادلى أن فرصته فى الارتقاء بالبوست إلى
منزلة نيورك تايمز قد جاءت إليه على طبق من ذهب، فلم يتردد فى
الدفع نحو نشر الأوراق التى حصلت عليها صحيفته أيضا، رغم صدور أمر
قضائى يمنع التايمز من النشر.
تشعر كصحفى يشاهد برادلى بأنك تعيش فى قمة اليوتيوبيا، فهذا رئيس
تحرير يعتد بذاته ومهنته، يرفض بشدة طلب البيت الأبيض تغيير جوديث،
مندوبة «واشنطن بوست» لدى الرئاسة الأمريكية من تغطية حفل زفاف
ابنة الرئيس نيكسون، وعندما تطلب منه الناشرة كاثرين جراهام تلطيف
الأجواء مع الرئاسة يقول لها «لن أرسل صحفيا آخر»، وعندما تقترح
عليه الاهتمام بموضوعات ومعالجات جديدة، كـ«الريادة الانثوية» لبعض
المجالات يباغتها على الفور: «لا تتدخلى فى شئونى يا كاثرين»، فى
محاولة واضحة لوضع قواعد الاشتباك أو تحديد خطوط التماس بين
الإدارة والتحرير فى الممارسة الصحفية. |