خاص- رسالة دبي السينمائي (5)
"علي معزة وابراهيم".. اجتماع المتناقضات في قصة حب
بين شاب ومعزة!
أحمد شوقي
عندما طُلب من الممثل علي صبحي الحديث قبل العرض
الأول لفيلم "علي معزة وابراهيم" ضمن مسابقة المهر الطويل لمهرجان
دبي السينمائي الثالث عشر. لم يجد صبحي ما يقوله سوى أنها المرة
الأولى التي سيرى نفسه فيها على شاشة السينما؛ لذلك ما يشعر به هو
الرغبة في (الذهاب للحمام)، إشارة لتوتره الشديد.
لا يمر أكثر من يومين إلا ويجد علي نفسه يصعد
مجدداً إلى المسرح، هذه المرة لاستلام جائزة أحسن ممثل في مسابقة
ضمن عشرة أفلام روائية، معظمها يمتلك أدواراً مميزة لممثلين رجال
كلهم بالتأكيد أكثر تمرساً من الشاب الذي اختاره المخرج شريف
البنداري ليكون بطل فيلمه خلال وقوفه الأول أمام الكاميرا.
من المسافة بين المشهدين يمكننا بدء الحديث عن قيمة
ما أنجزه البنداري في "علي معزة وابراهيم"، الذي يمكن أن نقول
بارتياح أن العمل الأول من نوعه في تاريخ السينما المصرية الحافل
بأفلام من مختلف الأنواع والأشكال.
اجتماع ما لا يجتمع
علي صبحي بملامحه المناقضة تماماً لأي تصور نمطي
عما يمكن أن يكون عليه بطل الفيلم السينمائي هو مجرد واحد من عناصر
عديدة يقوم شريف البنداري في فيلمه باختيارها ومزجها وترتيبها كي
تسفر عن شريط تجتمع فيه الأضداء: الهامشية والبطولة، الشعبية
والاستقلال، الذهنية والإمتاع.
البطلان اللذان يحمل عنوان الفيلم اسميهما شخصان
هامشيان، لكن ليس بالمعني المبتذل للوصف الذي صار يطلق مجاناً على
أي شخصية فقيرة، باعتبار أن التهميش هو الابتعاد عن دائرة اهتمام
الدولة، فكل محتاج هو مهمش، وكل فيلم يردد الخطاب المظلومية
البكائي السائد هو عمل عن المهمشين.
يأتي "علي معزة وابراهيم" ليفكك ـ دون انتباه ربما
ـ هذا البناء البالي، بشخصيين من هامش الهامش، ملفوظين من منظومة
القناعات التي يرتاح إليها كل من حولهما. مخبولان بأي معيار معروف،
وبقبضهما على هذا الخبال إيماناً راسخاً يصير الشاب الذي يحب معزة
ويشتري لها هدايا ورفيقه الذي يسمع أصواتاً لا يشعر بها غيرها،
بطلان ضد من نوع خاص، فيهما من البطولة قدر ما يمتلكان من جنون،
تقع في حبهما دون أن تتخلى عن شكك في تماسكهما العقلي.
السيناريو الذي صاغه ببراعة لافتة أحمد عامر عن
فكرة ابراهيم البطوط يجرد علي وابراهيم ـ والأول بالأخص ـ من كل
وهج البطولة الشعبية، لا قوة جسدية أو عقلية أو موهبة خاصة يتمتع
بها (ما يقال عن موهبة ابراهيم الموسيقية مجرد حكاية أسطورية حتى
لو كان لها أساس من الصحة فهو لم يعد قادراً على مزاولتها)، لا رضا
مجتمعي على أي منهما، ولا شبهة انتصار يحققانها على مدار المساحة
الأكبر من زمن الفيلم.
إذا أضفنها هذا لاختيار الوجه الجديد علي صبحي مع
ممثل صاعد مثل أحمد مجدي سنجد أننا نظرياً أمام عمل مستقل (لا
يحاول مغازلة السوق بنجم أو شخصية)، لكنه في الوقت ذاته لا يفقد
أبداً قدرته على التواصل من جمهور عريض يجد نفسه يتورط مع الشخصيات
فيضحك ويتأثر لما يحدث لهما في أزمة قد تبدو للوهلة الأولى مجرد
فكرة سخيفة.
تواصل محركه الرئيسي هو احتفاظ الفيلم بقدرة على
الإمتاع والإدهاش على مدار زمن عرضه. ورغم أن الحبكة كلها يمكن أن
تُقرأ من مدخل ذهني يرتبط بما ذكرناه عن المهمشين الحقيقيين الذين
ينتصر الفيلم لهم بشكل ما، إلا أن هذا التأويل قد لا يلتفت له
مطلقاً من يريد فقط أن يستمتع بحكاية طريفة تحرك المشاعر وتثير
الذهن بمخالفتها لكل التوقعات كتصميم عام للحكاية وكتفاصيل تخص كل
مرحلة من مراحل الحكاية.
فيلم لا يشبه غيره
المزيج السابق يمنح "علي معزة وابراهيم" فرادته.
هذا فيلم بلا مرجعية
reference
ولا يشبه أي عمل سبق تقديمه في السينما المصرية. البعض شبهه بعد
العرض بأنه المعادل المصري لسينما الصربي إمير كوستوريتسا، والناقد
اللبناني هوفيك حبشيان قال أن نمط الفيلم القصصي يذكرنا
بالتراجيكوميديا على الطريقة الإيطالية، وهي تشبيهات لها كثير من
الوجاهة. لكن مقارنة بالسينما المحلية لا أجد عملاً مشابهاً حتى في
أفلام شريف البنداري القصيرة نفسها.
قد نجد فكرة تلاقي الطرق لشخصيتين من الهامش في
"حار جاف صيفاً" أو سيطرة هاجس فانتازي على شخصية في "ساعة عصاري"
أو حتى توظيف أدوات الوسيط سردياً كاللقطة الواحدة في "صباح الفل"،
لكنها تبقى مقاربات بعيدة، إن قالت شيئاً سيكون أن لدينا مخرج كان
يبحث عن النص الملائم حتى وجد ضالته في "علي معزة وابراهيم".
إلا أن نصاً كهذا كان في حاجة لمعاملة إخراجية خاصة
خوفاً من نتيجة مثيرة للسخرية. معاملة يمكن وصف ما أنجزه البنداري
فيها بالتعامل بالغ الجدية من حكاية شديدة الهزل. لا مجال في صناعة
الفيلم للتهريج أو الاستخفاف حتى لو كانت الحكاية عن شاب يحب معزة.
تركيز مع التفاصيل الدقيقة خاصة ما يتعلق منها بشريط الصوت وأداء
الممثلين.
شريط الصوت الكثيف والمركب يلعب دوراً محورياً في
الفيلم، سواء كموتيفة درامية محركة للأحداث في خط ابراهيم
وامتداداته على الآخرين، أو كوحدة بناء لجو عام تجتمع فيه الواقعية
بالجنون. وأداء الممثلين منضبط حتى بالنسبة لشخصية فوضوية مثل علي،
فلا مبالغة أو تشنج حتى لو كان المشهد يسمح بذلك، وهو أمر أزعم أن
النجاح فيه كان له الفضل الأكبر في ذهاب جائزة التمثيل إلى علي
صبحي.
عمل يحتاج للدعم
في النهاية تجدر الإشارة لأن هذا الفيلم قد يغير من
علاقة السينما المغايرة أو البديلة بجمهورها، فهو بالتأكيد منتم
إلى هذه السينما لكنه متخلص من طبيعتها المجافية للجمهور العادي،
وهو فيلم ممتع لمشاهدة لا تهدف للتحليل لكنه يحتمل الكثير من
التأويلات، وهو عمل مشغول بدقة على تفاصيل صناعته، لكنه لسبب ما
يبدو عفوياً منطلقاً خالياً من تكلف الصنعة.
عمل كهذا لابد من دعمه والأمل في نجاحه تجارياً،
لأنه من أعمال نادرة يمكنها أن تمد جسوراً من الثقة بين الجمهور
البسيط وسينما وصفتها يوماً بأنها "تعرف جمهورها ولا يعرفها"،
ليأتينا شريف البنداري أخيراً بفيلم قد يقنع البعض بأن هناك سينما
أخرى ممتعة بخلاف أفلام الأعياد. |