حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي التاسع والستون

"بعد أيار" لأوليفييه أساياس: حبّ ومخدرات وروك وأحلام 68 التي ذابت في الأقدار

ماليك يسأل ما "اذا كان الحبّ أبديّاً" وكوري يأتينا بالفضيحة الألذّ للمهرجان

هوفيك حبشيان ـــ البندقية

تحت سماء حزينة، واصلت الموسترا (29 آب ــ 8 ايلول) اقتراح برمجة غنية وتشكيلة يبدو انها ملتزمة معانقة أحزان العالم أكثر من أفراحه. انها طبعة متأصلة في الواقع وتمظهراته العديدة. هناك عودة الى الحكايات. مع دخول المهرجان اسبوعه الثاني، راحت الحماسة تتوزع، تقريباً بتعادل، بين الأفلام الـ15 المتسابقة على الأسد الذهب التي عُرضت حتى الآن، من أصل 18 فيلماً. وبعدما سقط ماليك من على اعلى قمة، وفي ظل اختيار عدد من السينمائيين الراديكالية (كيم كي دوك) أو الاستفزاز (اولريش سيدل) الذي يجعل امكان فوزهم ضئيلاً، أطلّ علينا أوليفييه أساياس بعمل يخاطب العقل والقلب في آن واحد. فهل يغوي مايكل مان ولجنته؟

انتظر اوليفييه أساياس سنتين ليعود الى هوايته المفضلة: الشغب. هذه المرة، لن يكون محور الحكاية، ارهابياً (كارلوس) انتقل من النضال الأممي الى الارتزاق. بل يأخذنا الى السبعينات، وما حملت معها من أحلام في مرحلة ما بعد "أيار 68". أحلام تحطمت تدريجاً أمام السيستيم المفروض وذابت في حمأة الأحداث والأقدار الشخصية الخائبة. من هنا ينطلق مخرج "ايرما فيب"، ليصنع واحداً من أروع أفلام الطبعة الحالية من مهرجان البندقية: "بعد أيار" (مسابقة). يستند اساياس، الذي كان في الثامنة عشرة في مطلع السبعينات، الى تفاصيل من سيرته الشخصية، مؤكداً في حديث نُشر في الملف الصحافي للفيلم ان "كلّ شيء في الفنّ اوتوبيوغرافي ولا شيء اوتوبيوغرافياً". في هذا المعنى، يوازي جيداً بين العام والخاص، عائداً الى خصوصية مرحلة، كان التاريخ الأبرز فيها أحداث 8 شباط 1971، حيث مجموعة من الشباب شاركوا في تظاهرة للمطالبة بإطلاق قياديي اليسار البروليتاري الذين كانت الدولة زجت بهم في السجن. لكن التظاهرة تتحول مواجهة عنيفة جداً مع قوى الأمن، وهي الواقعة التي ينقلها أساياس بكاميرا بديعة يحركها القدير اريك غوتييه.

ينظر اساياس الى تاريخ بلاده نظرة نقدية، بعيداً بسنوات ضوئية من كل محاولة لأسطرته وحمله على راحات الشوفينية والتمجيد الأبله. مَن يبحث عن رسالة فسيخيب ظنه حتماً، لأن اساياس ينسب هذا الدور الى الصحافة لا الى السينما. هنا ثمة تخدير للعاطفة، يستعمل اساياس فرامل فعالة جداً لتبطيء الانفعال، فينكبّ على محطات صنعت تاريخ فرنسا المعاصر بمعالجة موضوعية. هنا، لا اهتمام بمانشيتات الصحف، ولا بمواد ارشيفية من التلفزيون الرسمي. هذا ليس منشوراً يعلن ولاءه لفريق. انه محض أغنية تاريخية، لا تتملق ولا تساوم، اذ تطرح فكرة ان التاريخ مادة تُعاد كتابتها الى ما لا نهاية. الشيء الأهم ان أساياس يصوّر هذه اللحظة، متخلياً عن عامل الزمن الذي جعلها في مصاف المسلّمات. هنا الأبطال لا يعرفون انهم يؤسسون لقيم ستصير بمثابة خبز يومي للأجيال المقبلة. هم بورجوازيون بوهيميون في الوقت نفسه: يسكنون الشقق الجميلة ويسافرون متى شاؤوا من لندن الى سواحل ايطاليا وينظّرون عن دور الفنّ في انقاذ العالم.

ينفض اساياس الغبار عن حقبة تاريخية، مظهراً قلة تسامح مع اليسار وفروعه الذي كان يتضمن في رأيه، الكثير من العنف والكآبة وسوء التدبير للحياة. يسأل: "أين نحن من كل هذه الحماسة اليوم؟". من خلال جيل وجان بيار وماريا وآلان وكريستين وفنسان ولور ولزلي، الطلاب في ليسيه في ضواحي باريس، يضعنا النصّ في قلب ديناميكية شبابية تأتي معها عدتها الكاملة: حبّ، مخدرات، روك! فنكتشف (وهنا أهمية الفيلم)، حجم الهشاشة النفسية والفردية خلف التمرد والايديولوجيا الثورية والأفكار التي تبعث على تغيير العالم. انه اذاً بورتريه لحقبة لم تنتهِ بعد من استلهام الفنّ،.

في هذه المعمعة التي تتيح لأساياس أن يصنع بعضاً من أجمل لحظات الانجذاب والتماهي مع الطبيعة، هناك الشاب جيل (كليمان ميتاييه)، اناه الأخرى للمخرج. جيل ثائر يبحث عن قضية. من الواضح ان نيات اساياس تتجه الى جعل السينما متنفس الفيلم، ومتنفس صديقنا جيل، الذي يجد دائماً الوقت كي يتسلل الى صالة سينما مظلمة، كي يعود الى السكون والعزلة المحببة على قلب كل فنان، بعيداً من صخب الحشود. هذا الملاذ الفني يتجسد بأبهى صورة في مشهد تصوير فيلم رديء (كومبينة ابطالها تنين ونازيان وفتاة مثيرة!)، ليفارق فيه جسد جيل الكادر داخلاً الى عمق الشاشة البيضاء. جوّ كامل من ثقافة المضاد اليسارية، يثقل عليه، مما يجعله يصطدم مع والده، المدافع الشرس عن سيمنون. قدما جيل على الأرض، لكن رأسه في الغيوم. في حين ان الواقع يضعه أمام احتمالات كثيرة، يحلو لنا التفكير في أن الشاشة ستنتشله من هذا كله، ليسمو بها ومعها. لكن ماذا عن الآخرين؟

¶¶¶

عندما كان تيرينس ماليك يصوّر فيلماً كل عقد أو عقدين، كان مخرجاً عملاقاً ينتظره الجميع على أحرّ من الجمر. سجلّه يشهد على هذا: ""أيام الجنة"، "الخط الأحمر الرفيع"، نموذجان لسينما، وحده الرجل الستيني الذي يكره الظهور، قادر على صنعها. اليوم، مع انتقال وتيرة عمله الى "فيلم مرة كل عام" (قدّم الاخير، "شجرة الحياة"، في كانّ 2011، ونال عنه "السعفة الذهب" من يد روبرت دو نيرو)، بات في حاجة الى مرافقين بعضلات مفتولة يحمونه من النقمة عليه. النقمة هذه في تصعيد مستمر. الغضب هنا متأتٍّ من اللوم، ومن الودّ الذي يكنّه له الكثيرون: لماذا على مخرج كبير مثله أن يكرر نفسه في فيلم مثل "الى الروعة" (مسابقة)؟ هل الصوت الداخلي للشخصيات الماليكية، وهو صوت يطلب دوماً الاستغاثة على شكل اسئلة وجودية، لا يزال مفعوله قوياً في ضمير المشاهد، بعد ثلاثة أفلام؟ ايضاً: لماذا على ماليك أن يطرح نفسه فيلسوفاً (تلميذ السوربون) عندما يقف خلف الكاميرا، وكأن الشاشة العظيمة التي انكبّ عليها عباقرة من مثل أورسون ويلز وانغمار برغمان لا تتسع لأفكاره؟
لا نناقش خياراته، بقدر ما نناقش النتيجة التي يخلص اليها سادس أفلامه، الذي يبدو "بقايا" من فيلمه السابق. عمل على مرتبة عالية من التجرد، ليس لديه الكثير ليقوله عن الموضوع الذي يحتضنه طولاً وعرضاً. لكن ماليك يده ناعمة، ولا يريد أن يزعج الشرّ النائم، لذلك يتحدث بصوت خافت الى اذن المشاهد. فمن الطبيعي، والحال هذه، ان يكون هناك موعد آخر مع الأنهر والينابيع واغصان الشجر واشعة الشمس التي تتسلل من بين اوراقها. كل هذا الميكانيزم في جعل المشاهد يعيش الكون ويلمسه، لم يعد يجدي. فلسفة ماليك تبدو رخيصة هنا. بصرياته قريبة الى البطاقات البريدية، وخطابه الذي يتمحور على اثنين يلتقيان ثم ينفصلان ثم يجتمعان من جديد ثم ينفصلان مجدداً، فيه شيء من الترف الفكري يثير الاعصاب.

كل ما كان يثير غضب اعداء ماليك الى الآن، يجد طريقه في هذا الفيلم، لا بل يحتل المتن بدلاً من الاكتفاء بالهامش. رجل (بن افليك) ضائع بين امرأتين (أولغا كوريلنكو وراشيل ماك أدامز)، هو بالنسبة الى ماليك فكرة كافية لصنع فيلم يترجح مرة أخرى بين ميتافيزيقية ملفلفة ومسيحية تبشيرية. من خلال نصّ يتيه بعد اقل من نصف ساعة من بداية الفيلم، نتابع تجربة روحانية تأكل نفسها بنفسها. انها تجربة مشبعة بالموسيقى الكلاسيكية التي تحوم فوق الفيلم كملاك حارس، وكأن الاخراج عند ماليك بات يقتضي بأن يضع ممثله في هذا المكان من الكادر ليحدق بذاك الآخر في الطرف المقابل. أيا يكن، يصوّر ماليك السلحفة المائية أفضل مما يصوّر وجوه البشر. عدو الفيلم الاقناع، وصديقه الادعاء. في الثامنة والستين، لا يزال ماليك يسأل ما "اذ كان الحبّ ابديّاً". في كل حال، الموهبة ليست أبدية!

¶¶¶

بعدما تأكّل الالق السينمائي الذي خيم عليه في التسعينات، يعود المخرج والممثل تاكيشي كيتانو الى مسابقة البندقية مع "ما بعد الانتهاك"، وهو تتمة لفيلم اسمه "انتهاك" كان عرضه في كانّ. عائلة سانو مجدداً أمام كاميرا الياباني الغاضب الذي لا ترتسم على وجهه ايٌّ من علامات الانفعال أو ردود الفعل، حتى ليكاد المشاهد يشعر بالذنب اذا تعاطف مع ضحية يخترق وابل الرصاص جسده، ليقع ارضاً ويموت بعد أن يكون بصق دمه. من المستحيل أن يعرف المرء بمَ بفكر كيتانو وكيف ينظر الى موضوع العنف في الثقافة اليابانية، الذي يصل أحياناً الى مراتب لا تطاق. هناك قناع على وجه كيتانو، وافلامه الأخيرة مجرد "انترتنمنت" تحاول، بلا جدوى، ان تكون طريفة.

في هذا الجزء الثاني، نرى العائلة التي تتعاطى الاجرام، قد بسطت سلطتها على عالم الاعمال وميدان السياسة. تبدأ سلسلة من التصفيات الجسدية السادية، تضع السينما التي تأتينا من الشرق الاقصى على خريطة اعنف السينمات.

¶¶¶

"بييتا" أو "رحمة"، منحوتة لمايكل أنجلو تظهر الجسد الميت للمسيح بين ذراعي أمه العذراء. منذ الاثنين الماضي، هذا عنوان الفيلم الجديد (الثامن عشر كما يعلن الجنريك) للمخرج الكوري الجنوبي كيم كي دوك، الذي داس قلوبنا العام الماضي بـ"أريرانغ". "رحمة" (مسابقة) شريط راديكالي الى ابعد حدّ، موضوعاً ومعالجة، ويمكن اعتباره الفضيحة الألذ في هذه الدورة. يتجاوز فيلم كيتانو من حيث السادية والشراسة، ولا ينكر اعجابه ببارك تشان ووك (مخرج "أولد بوي"). كانغ دو مستخدم لدى مموّل يقرض الناسَ المال، مهمته الذهاب الى الطرف الذي استدان لاعادة المبلغ الذي استدانه. لدى هذا الشاب اساليب خاصة جداً لترهيب "الزبائن"، الذي يضطرون الى دفع عشرة اضعاف المبلغ الذي استدانوه. عند تخلفهم عن الدفع، يذهب لقطع اعضائهم فيصبحون معوقين ما يجعله يسترد اموله عبر شركة التأمين. شخصية مرعبة ومقززة يضعها كيم كي دوك امام اعيننا لساعتين، لا يتوقف خلالهما قطع الايدي والارجل والنزف. ندخل في حميميات هذا الشاب: ماذا يأكل، كيف ينام، وماذا يفعل لحظة استيقاظه من النوم. الى ان تأتيه ذات يوم امرأة (شو مين سو، تستحق جائزة أفضل تمثيل) تدّعي أنها أمه. كيف يتعاطى صديقنا المتوحش مع هذا الواقع؟

يصطحبنا كيم كي دوك الى الحيّ الصناعي المرعب في سيول. من هناك الى أرجاء المدينة التي لا نرى فيها الا وجوهاً لاهثة خلف الموت. نتعرف الى معالم المكان ومَن يسكنه. لكن موعدنا مع السواد الحالك لا يمكن تأجيله البتة. فالطبع يغلب التطبع، عند مخرج لا يرى في الطبيعة البشرية الا ما يثير الاشمئزاز. مشهد اغتصاب مَن يفترض أنها الأم، قاس جداً، بحيث جعل بعض المشاهدين يغادرون الصالة اثناء عرضه الأول الاثنين الماضي. لكن، هذا العمل الذي يحذو حذو فيلم الانتقام، يتحول فجأة فيلماً يسعى الى انقاذ ما بقي من الانسانية داخل بني آدم. كأنه يطلب المغفرة

hauvick.habechian@annahar.com.lb

الدانماركي توبياس ليندولم "يخطف" المُشاهد!

هـ. ح.

أحياناً، ندخل الى الصالة، بلا تصور مسبق لما ينتظرنا في الداخل، فتكون المفاجأة! هكذا، ومن دون ان اعرف أيّ معلومة، دخلتُ وأحد الزملاء لمشاهدة "خطف" للدانماركي توبياس ليندولم، المعروض ضمن برنامج "أوريزونتي". طبعاً، الفيلم كان يستحق ان يكون في المسابقة، لكن هذا نقاش آخر، ومؤجل قليلاً ريثما ينتبه اصحاب المهرجانات الكبيرة انه يجب الاقلاع عن الاتيان في كل مرة بالاسماء نفسها، والتضييق على مواهب فتية مثل موهبة ليندولم.

يروي الفيلم حكاية قريبة من تلك التي رواها فيلم "اسيرة" لبريانت مندوزا (برلين 2012)، لكن بطريقة أكثر روعة وتشويقاً واصالة. هذا الأمر ليس عجيباً، اذا تذكرنا ان ليندولم هو مَن وقّع سيناريو "الاقتناص" لتوماس فينتربرغ (كانّ 2012). سفينة لشحن البضائع تتعرض للخطف على أيدي قراصنة صوماليين وهي تعبر المحيط الهادئ. طاقم السفينة كله يقع في أيدي القراصنة، ما يجعل مدير شركتهم يتواصل مع الخاطفين بغية الاتفاق على مبلغ معيّن ينبغي دفعه فدية مقابل تحريرهم. بيد ان المشكلة هنا هي الآتي: مدير الشركة لا يأبه كثيراً بمصير موظفيه المخطوفين بقدر ما يهمه أن ينجح في عدم دفع ما يريده الخاطفون ومفاوضتهم ليقبلوا بمبلغ أقل. قبل عملية الخطف، كنا رأيناه يفاوض مع رجال اعمال يابانيين على بزنس ما، ووفر من خلال هذه المفاوضات اربعة ملايين دولار ونصف مليون، محققاً فوزاً للشركة. لكنه، يتعامل مع موظيفه العالقين بين سندان الخاطفين ومطرقة ربّ العمل، كما لو انهم ارقام في البورصة. ما يجعل الفيلم مثيراً للفضول، ان الادانة موجهة أكثر الى هذا المدير منها الى الخاطفين. فهؤلاء، من خلال خطفهم السفينة ومَن على متنها، كشفوا النقاب عن منظومة فكرية عفنة قائمة على النفع وتسديد الأهداف الشخصية، على حساب مخطوفين لا يعرفون ماذا يحلّ بهم. هؤلاء رهائن النظام العالمي الحديث، وهو نظام يقبل بكل شيء الا أن تحرجه بالمال. العائلات تنتظر، والمخطوفون يتحولون كائنات زومبية، هذا كله لا يهم. المهم: ان تحافظ الشركة على كلمتها وسلطتها. يُرينا ليندولم عالماً حيث كل شيء مرتهن للمال ومتروك لقرارات مَن لا يريد ان تُنتقص هيبته.

الجنتلمان يفضل الكلاسيكيات

يحتضن البندقية، كما جرت العادة في المهرجانات الكبيرة، كلاسيكيات يُمكن اعتبارها ملكاً للانسانية أجمع. بعيداً من منطق التسابق في اعلان موقف مؤيد لفيلم او معارض له، هذه الاستعادات هي، أولاً وأخيراً، لحظة لقاء الذاكرة، ولحظة امتحان "الشعور الثاني" بعد أن تكون مرّت سنوات على "الشعور الأول". في الموسترا، لم أرَ أناساً على هذا القدر من السعادة مثلما كانوا وهم خارجون من فيلم "الجنتلمان يفضّل الشقراوات" لهاورد هوكس. جاءنا المهرجان بنسخة مرممة عالية الجودة لهذا الشريط المدهش الذي تضطلع ببطولته ماريلين مونرو ومعها جاين راسل. ستة عقود بعد انتاجه، لا يزال للفيلم تأثيرٌ بالغ في نفوس المشاهدين. والقول ان أي تجاعيد لم تكسه على الرغم من الزمن، ليس مبالغاً البتة. اللافت ان عدداً كبيراً حضروا العرض، من الذين بلغوا عمراً معيناً، وانصقلت تجربتهم سواء في الحياة او أمام الشاشة، ولم يكونوا لامبالين البتة بسذاجة لورلاي لي (مونرو) وطريقتها في الكلام ونطقها لكلمة "الماس" Diamond، الحجر الثمين الذي لا يُقاس حبها له. انها حكاية غرام مستمرة مع ميوزيكال، يعود ويولد ثانية. أما ماريلين، ففي ذكرى غيابها الخمسين، تحيي فينا شعوراً خاصاً، قد يصلح تسميته بـ"الشعور الثالث".

جمهور البندقية لا يبخل على الفنانين بالتصفيقات الطويلة. مهما يكن الفيلم، فهناك تصفيق يمتد أحياناً على دقائق طويلة. فما بالكم اذا كان الفيلم الذي ينبغي تكريمه هو احد كنوز الفنّ السابع: "باب الجنة" لمايكل تشيمينو، الذي حضر شخصياً الى الليدو ليقدم هذه النسخة المرممة من تحفته البصرية الخالدة. بعد مرور 32 سنة على الفيلم الذي ساهم (مع "الثور الهائج" لسكورسيزي) في اغراق شركة "يونايتد ارتيستس"، عقب الفشل الجماهيري الذي تعرض له، ها انه يقابل جمهوراً "نقياً"، معظمه غير مطلع على الحماقات التي كُتبت في الفيلم انذاك. هذا الوسترن ألقى نظرة قاسية على الحرب الأهلية الأميركية ضارباً بعرض الحائط الميتولوجيات والقيم التي تأسست عليها اساطير غزوات الغرب الأميركي، فاقتطع منه انذاك أكثر من ساعة (مدته الأصلية 3 ساعات و36 دقيقة) وتوقفت عروضه في الصالات، بعد أيام قليلة من خروجه الى العلن. بلغت موازنة الفيلم انذاك 36 مليون دولار، وشكل سقوطه المدوّي آخر مسمار في النعش الذي وُضع فيه تشيمينو، الذي كان قد بلغ قمة المجد مع "صياد الغزلان"، قبله بسنتين فقط. بنظاراته السود التي لا تفارق عينيه منذ سنوات، وقف تشيمينو (73 سنة) أمام الجمهور في صالة "برلا"، يستذكر ماضياً لم يشفَ منه بعد.

المصرية في

06/09/2012

 

يوميات مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي -8

المهرجان على المحك

فينيسيا: محمد رُضا

ينطلق مهرجان تورونتو السينمائي الدولي اليوم، في السادس من سبتمبر (أيلول)، وبهذا يسحب الغطاء من على المهرجانات الأخرى المقامة بمحيط هذه الفترة الزمنية ذاتها من دون أي عناء. من «مونتريال» الكندي الذي بدأ وانتهى من دون ضجيج، ومن «سان سابستيان» الإسباني الذي تحوّل إلى ما بين الصف الثاني والثالث من الاهتمامات، ومن «توليارايد» الأميركي، الذي كل ما استطاع القيام به عرض حفنة من أفلام كانت في طريقها إلى «تورونتو» أساسا، كما من «فينيسيا» الإيطالي الذي يشعر، وتشعر معه، بخواء المعدة من الطعام.

نعم، المدير الجديد ألبرتو باربيرا فعل جهده ليطلق دورة تتخلص من ثقل طموحات مدير «فينيسيا» السابق ماركو مولر، فخفّض عدد الأفلام التي كانت تعرض ليتيح للموجودين مشاهدة أكثر عدد من الأفلام، وقام بتقديم نسخة أولى من سوق سينمائية، أخفق مولر في تقديمها من قبل. ثم نجح في جلب فيلمين أميركيين من أكثر أفلام هوليوود تمتعا بالنوعية، هما «السيد» و«إلى العجب»، لكن هالات هذه الإنجازات المحددة انحسرت حالما بدأ المهرجان، فإذا بعدد الضيوف من نجوم السينما أقل مما كان عليه سابقا (الممثلة أولغا كوريلنكو، مثلا، كانت الوحيدة الموجودة عن فيلم «إلى العجب»)، مما حث الإعلام والصحافة الإيطاليين على الشكوى، وإذا بعدد الضيوف عموما أقل مما كان عليه الحال سابقا، مما خلّف مقاعد شاغرة حتى من اليوم الأول من المهرجان.

وتستطيع أن تدرك أن الوضع ليس، اقتصاديا، على ما يرام حين تلحظ أن الفنادق خسرت بعض حجوزاتها تدريجيا. الفندق الذي يتخذه هذا الناقد مقرا، وللمرة الأولى منذ سنوات كثيرة، فيه عدة غرف شاغرة. فندق آخر قريب عرض غرفه بأسعار أقل مما كان أعلن عنها حالما أدرك أن عددا من غرفه ستبقى خالية من الزبائن.

ولاستكمال الصورة الكلية، فإن جزيرة الليدو، وهي آخر جزر الشمال الشرقي في المقاطعة (كرواتيا أقرب الشواطئ إليه)، كانت رفعت أسعار فنادقها وبضائعها المختلفة نحو 20 في المائة مما كانت عليه سابقا، مما يجعل المهرجان واحدا من أغلى المهرجانات السينمائية الدولية التي يمكن التوجه إليها.

أما بالنسبة للسوق السينمائية، فإنها أنجزت بعض الصفقات التي عادة ما ينجزها المنتجون والمشترون من دون الحاجة إلى سوق. مجلة «فاراياتي»، المعنية بشؤون الصناعة، جاءت متحمسة لمواكبة المهرجان، لكن الإعلانات التي حصلت عليها من شركات توزيع وإنتاجات نضبت مؤخرا، فألغت المجلة طبعتها اليومية، وهي الآن تضخ ألوف النسخ في المهرجان الكندي.

علاوة على كل ما سبق، على المهرجان أن يتعامل ومنافسة «تورونتو»، الذي ليس لديه وضع اقتصادي صعب ودولاره جيد المستوى مقابل اليورو القلق والمقلق، والذي يكمن وسط مدينة متدرجة التكلفة بحيث تستطيع أن تنال وجبة غذاء بعشر دولارات أو بمائة دولار، كذلك هناك عدد أكبر من الفنادق وأسعار أفضل.

هذا كله ولم نأت بعد على ذكر الأفلام ذاتها. ففي الميزان، دورة «فينيسيا» التي لا بريق لها، مقابل دورة جديدة لـ«تورونتو» بكل ما فيها من زخم ونشاط. وعدد كبير من الحاضرين هنا لمّ أغراضه وحوائجه وانتقل إلى تورونتو، مؤملا نفسه بأفلام أكثر ونشاطات أكبر.

ومن لم يفعل وشاهد ليل أمس فيلم «Spring Breaker»، وهو فيلم أميركي مستقل لهارموني كورين، ندم على أنه لم يفعل. الفيلم، الذي لا بد أنه تسلل في غفلة من الجميع، يبدأ وينتهي (بعد ساعة ونصف) على تكرار لا يخرج عنه: أبدان عارية. رقص غرائزي. تحشيش. حوارات حول واجب التحرر من كل الارتباطات الأسرية، ثم أبدان عارية. رقص غرائزي. تحشيش. حوارات حول واجب التحرر من كل الارتباطات الأسرية. وحين ينتهي من ذلك، يعود إلى منواله ذاته. من العبقري الذي وافق على ضم هذا الفيلم إلى المسابقة؟ أمر غير معلوم، لكن المجتمع السينمائي لا يمرر مثل هذه الأخطاء بسهولة.

فيلم آخر أخفق في إثارة الاهتمام، اسمه «بييتا» Pieta، وهو من شغل كوريا الجنوبية، أخرجه كيم كي - دوك. على الأقل، توجد هنا قصة، لكن عمل المخرج غير مقنع، والعنف فيه متكلف وغير مبرر.

بذلك، يقف مهرجان «فينيسيا» على المحك. ما بدا خطوات في الاتجاه الصحيح كشفت عن جوانب لم تكن في الحسبان، وما أعتقد أنه سيكون انطلاقة جيدة وجديدة، أنجز نصف المأمول، فإذا بالانطلاقة جديدة فقط.

نعم، هناك التاريخ، وهناك مجموعة رائعة من الأفلام وبعض الحضور الذي يعوض غياب آخرين، لكن ألبرتو باربيرا مقبل على مرحلة بالغة الحرج ربما بدأت بالفعل. عليه أن يعمل ضعف جهده لكي يضمن استمرار المهرجان كواحد من أهم ثلاثة وليس من أهم عشرة.

* كيفر سذرلاند لـ «الشرق الأوسط»: المهرجانات كانت تبدو بالنسبة لي أقل أهمية مما هي عليه بالفعل - فخور بفيلم يعبّر عن وجهة نظر جديدة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر

* في عام 1983، عندما ظهر الممثل كيفر سذرلاند في أول فيلم له، (كان عنوانه «عودة ماكس دوغان» وشاركه البطولة فيه كل من جاسون روباردس ومارشا ماسون)، كان والده دونالد سذرلاند في مطلع تحوله من أدوار البطولة إلى الأدوار المساندة. في الثمانينات والتسعينات، شاهد هواة السينما كل من الأب وابنه في العشرات من الأفلام، لكنهما لم يمثلا معا، بل خط الابن طريقه من دون أبيه، كما واصل الأب مسيرته من دون ابنه.

الآن، كيفر يطرق باب الخامسة والأربعين من العمر بشهرة تعلو من حين لآخر، لكنها لا تنخفض كثيرا، ووراءه نحو ستين فيلما سينمائيا وبضعة أفلام ومسلسلات تلفزيونية. وهو منذ أن تسلم بطولة حلقات «24» وتبعها بحلقات «Touch» الأسبوعية، اضطر إلى الابتعاد عن السينما أكثر مما كان يريد. يقول: «أكثر من مرة حاولت النفاذ للعودة إلى الشاشة الكبيرة، لكني لم أستطع»، لكنه في نهاية العام فعلها ليقوم بأداء أحد الأدوار الرئيسية في فيلم «الأصولي المتمنّع» الذي افتتح مهرجان «فينيسيا» الحالي. هذه المقابلة، تمت في لوس أنجليس قبل بدء مهرجان «فينيسيا» أعماله بعدة أسابيع.

* كيف تجد هذا المهرجان؟ أعتقد أنها المرة الأولى التي تأتي فيها إلى هنا.

- لدي احترام كبير لمن يشتغل في صناعة المهرجانات والمناسبات السينمائية، لكني إلى حين قريب كنت من الذين ينظرون بقدر من السخرية الناتجة عن الشك في أن هذه المهرجانات تستطيع أن تفعل شيئا أكثر من مجرد الترويج لفيلم. لست ضد ترويج الأفلام عبر أي وسيلة ممكنة، لكن المهرجانات كانت تبدو بالنسبة إلي أقل أهمية مما هي عليه بالفعل. لا. ليس هذا مهرجاني الأول، لكنه الأول ربما من بعد تجديد ثقتي بها.

* تجدها اليوم ضرورية؟

- جدا. إنها تكمل الحلقة التي على الفيلم الجيد المرور عبرها. أو إذا ما استطعت الإيضاح، فهي حلقة في سلسلة متصلة تبدأ بعملية إنتاج الفيلم وتنتهي بعروضه في المهرجانات المختلفة. طبعا، هذا للإيجاز، فالفيلم كما تعلم يبدأ في ذهن كاتب أو كاتب ومخرج أو أحيانا ممثل، لكني أتحدث عن المعالم التنفيذية البارزة.

* ما الداعي الذي جذبك إلى تمثيل «الأصولي المتمنع»؟

- أريد أن أقول أولا إنني فخور بالعمل في فيلم يعبر عن وجهة نظر جديدة ومهمة بالنسبة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). تعرفت من خلال هذا الفيلم إلى مخرجة رائعة (ميرا ناير) وإلى سيناريو جيد يشرح للمشاهد ما لم يسبق تقديمه على الشاشة من مواضيع تتعلق بالعملية الإرهابية سنة 2001 وما تركته من تأثير على قطاعات كبيرة من الناس، أميركيين وغير أميركيين. أنا فخور بهذا الفيلم لأني أتفق مع رؤيته هذه، وهي أن الجهد يحتاج إلى طرفين متكاملين ليقوما به لأجل تصحيح العلاقة وتحقيق السلام. لا يمكن تحقيق شيء إذا لم يكن هناك استعداد مواز من الطرف الآخر، وهذا بعض ما يتولى هذا الفيلم قوله.

* مسلسل «24»، من نظر الكثيرين من الناس كان قاسيا بحق الأقليات من العرب والمسلمين. هذا الفيلم يمنح المسلـم وجهة نظر لم تكن موجودة في المسلسل.

- لا أتفق معك في كل شيء. فقط في بعض ما تقول. «24» قدم وجهة نظر بعض الشخصيات المسلمة، ربما ليس بالطريقة الكافية وليس بالمرات الكافية. ما يختلف فيه الفيلم عن المسلسل التلفزيوني هو أن الفيلم لديه الوقت لكي يمنح الشخصيات وقتا أفضل تستطيع خلاله أن تتبلور وأن تعكس أكثر من جانب، في حين أن المسلسل التلفزيوني أمامه وقت ضئيل لذلك، وأنا معك ربما لم تكن كل الشخصيات معبرا عنها جيدا. لا تنس أن على المسلسل أن ينتمي إلى وجهة نظر الشخصية التي تقود، في حين أن الفيلم يتيح تعدد وجهات النظر على نحو أكثر فاعلية.

* الفيلم يقول إن سوء الظن يقود إلى سوء المعاملة واعتبار أن الجميع سواسية، علما بأن هذا غير صحيح. كيف تجد هذه الرسالة؟ هل أنت مرتاح معها؟

- بالتأكيد، وإلا لامتنعت عن الاشتراك في الفيلم. حين يكون الموضوع بمثل هذه القوة والصراحة، فإن رسالته تتحول من مجرد أطروحات إلى حقائق أو واقعيات. نعم، هناك سوء ظن وسوء معاملة يعبر عنهما الدور الذي لعبه ريز (أحمد)، والرسالة واضحة: تدفع الإنسان العادي بعيدا عنك خوفا منه، فيتحول إلى كاره لك يستحق أن تخاف منه. في الفيلم أمثل الجانب الأميركي غير الرسمي. هذا الجانب هو المدير الذي لا يهمه دين أو لون أو عنصر الموظف الذي يعمل معه. ما يهمه هو المصلحة المادية التي يوفرها الموظف للمؤسسة. هناك مشهد قرب نهاية الفيلم تتولى فيه الشخصية التي أقوم بها تذكير شخصية ريز بأنها تستجيب لأفكار هدامة. هو بالطبع لا يعرف كل ما يدور في باله، لكنه وثق به وساعده على تحقيق مركز مهم في عمله. هو الآن مصاب بخيبة أمل كون موظفه هذا يسقط تحت أعباء ما يحدث له عوض أن يقوى عليها.

* كيف وجدت الوقت المناسب لتمثيل هذا الفيلم، علما بأن لديك مسلسلا جديدا الآن (Touch

- لحين طويل، وجدت نفسي غير قادر على الالتزام تلفزيونيا وسينمائيا في وقت واحد. لكني في العامين الأخيرين قررت أن أتحرر من هذا القيد.. ربما كنت سعيدا بفرص العمل في التلفزيون أكثر مما اعتقدت، مما منعني من الإصرار على الانفلات ولو مرة في السنة. لا أعد بأنني سأفعل ذلك كل عام، فأنا أميل حاليا إلى أن أختار أدواري بدقة أكثر مما فعلت سابقا، وهذا يحدد ما أوافق عليه من أفلام.

* هل علاقتك طيبة مع أبيك؟ وهل هو من نصحك بالعمل في التمثيل أم كان ذلك اختيارا تلقائيا منك؟

- علاقتي مع والدي رائعة، وأنا فخور أني استفدت من خبرته، ودائما ما أتطلع إليه كنموذج. بالنسبة للسؤال الثاني، كنت متحفزا لدخول التمثيل، ولا بد أن ذلك له علاقة بأن والدي كان ممثلا، لكن من بعد أن خطوت أولى خطواتي، بدا لي وله أننا مستقلان تماما كل بمهنته عن الآخر، وهذا وضع جيد.

الشرق الأوسط في

06/09/2012

 

يوميات مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (7)

من فينيسيا إلى القاهرة: ثابت ومضطرب

فينيسيا: محمد رُضا  

* إذا ما كانت السينما المصرية تشعر بقليل من الثقة لأنها شاركت في مهرجاني «كان» و«فينيسيا» على التوالي هذا العام، فإن هذا النجاح الإعلامي لا يخفي معرفة الوسط السينمائي المتابع للمهرجانات ولنشاطاته وأفلامه بما يحدث خلف الواجهة. ومؤخرا تسارعت بعض الأحداث في مصر عندما قرر وزير الثقافة محمد صابر عرب إعادة اثنين من الأشخاص الثلاثة الذين كانوا يشرفون ويديرون مهرجان القاهرة السينمائي إلى الواجهة، والاستغناء عن الثالث. بذلك تمت إعادة تنصيب الممثل عزت أبو عوف والمديرة سهير عبد القادر في مكانيهما بينما تم الاستغناء عن خدمات يوسف شريف رزق الله المدير الفني للمهرجان.

* فقط من باب التذكير، يوسف شريف رزق الله هو الوحيد بين هذه الأسماء الذي يعرف عن السينما «وش وقفا»، كما يقولون. الأكثر خبرة ليس فقط لأنه كتب المادة السينمائية، ناقدا وصحافيا، لمعظم سنوات حياته، بل لأنه يعلم كل ما يمكن أن يعلمه آخرون عن صلاحية أو عدم صلاحية ما يعرض. اتصالاته الواسعة والتهامه الأفلام في المهرجانات، وحسه وثقافته الفنيين، جعلته الجندي الذي جمع للدورات الخمس عشرة الأخيرة على الأقل، ما عرضته دورات «القاهرة» من أعمال.

* وحتى لا يفقد قارب القاهرة توازنه فيغرق، تم عرض الوظيفة الشاغرة على المنتجة والمخرجة ماريان خوري التي تتمتع بثقافة موازية، فضلا عن أنها سينمائية بالمهنة، والسيدة ماريان وافقت. لكن الاحتجاجات بين النقاد والمثقفين كانت انطلقت قبل تعيينها واستمرت بعد ذلك، لأنها كانت موجهة ضد من تم اختيارهم لقيادة المهرجان، وتحديدا أبو عوف وسهير عبد القادر. فبعد ثورة الشهر الأول من العام الماضي، ساد الاعتقاد بأن المدير ونائبته لن يستمرا، تبعا لارتباطهما بالنظام السابق، في منصبيهما، وارتفعت الآمال بأن يتولى رزق الله ليس الإدارة الفنية فحسب، بل إدارة المهرجان ككل، وهذا تعرقل بدءا من مطالبة جمعية النقاد المصريين بعودة المهرجان إليها وانتهاء بإخراجه من الإدارة بأسرها.

* ما يتردد في الحديث عن ضرورة إقامة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي هذا العام، بعد غيابه العام الماضي، من أنه سيخسر صفته الدولية إذا لم تتم إقامته هذا العام. وهذا ليس صحيحا، ولو أن البعض من داخل الإدارة يتبناه ويؤكد عليه. للإيضاح، مهرجان القاهرة هو أحد اثني عشر مهرجانا دوليا منضما إلى «اتحاد المهرجانات الدولية». هذا هو الشق الصحيح. الشق غير الصحيح أن هذا الاتحاد ليس في مقدوره التدخل في دولية المهرجان من عدمها، بمعنى أنه إذا ما انسحب المهرجان منه أو تم إلغاء عضويته، فإن دوليته مسألة أخرى، وإلا لكانت ثلاثة أرباع المهرجانات الدولية، بما فيها عربيا دبي وأبوظبي والدوحة ومراكش، غير دولية؛ بمعنى أنها لا تستطيع استقبال أفلام من شتى دول العالم، لكن هذا غير صحيح. وكلمة «الدولي» ليست ممنوعة عن أي مهرجان بصرف النظر عن انضمامه لذلك الاتحاد أو لا. وربما عدم الانضمام هو أفضل لمهرجان القاهرة لأنه يحرره من شروط قاسية تكبل حرية المهرجان.

* داخل مهرجان فينيسيا، الحديث عن الثورات العربية مستمر، لكن القليلين من السينمائيين غير العرب الذين يضعون السياسة قبل السينما كما يفعل معظمنا. بالنسبة إليهم فينيسيا، كما يؤكد المنتج نيكولاس كارتييه الذي سيعرض قريبا فيلمه «الصحبة التي تحتفظ بها» (إخراج روبرت ردفورد)، هو جزء من عجلة الصناعة الكاملة حتى ولو كان الفيلم المعروض يهدف للتوجه إلى جمهور محدود. ففي نهاية المطاف، يتابع المنتج قائلا: «كل الأفلام تصنع لكي تباع، بصرف النظر عن أهدافها الفنية أو الثقافية أو الفكرية. وبالتالي فإن المهرجان الأنجح هو من يوفر للأفلام المنتقاة شرطين رئيسيين: الإعلام والضجة الاحتفائية وولوج الفيلم قنوات الأسواق المختلفة» الكاميرا تسبح وتطير مع المخرج ترنس مالك

* منذ عام 1973 حتى اليوم حقق المخرج ترنس مالك ستة أفلام فقط. كان بدأ السينما كاتبا سنة 1971، وتابع حتى مطلع هذا العقد، كتابة سيناريو أفلام عدة لم يخرجها، مفضلا عدم استخدام اسمه (من بين تلك الأفلام على سبيل المثال «قُد.. قال» Drive, He Said الذي أخرجه سنة 1971 جاك نيكولسون).

في عام 1973 أنجز «بادلاندز» مع مارتن شين وسيسي سبايسك وورن أوتس، ثم انتظر حتى عام 1978 قبل أن يحقق فيلمه الثاني «أيام الفردوس» Days of Heaven بطولة ريتشارد غير وبروك آدامز وسام شيبرد. وغاب بعد ذلك عشرين سنة قبل أن ينجز فيلمه الثالث «الخيط الأحمر الرفيع» The Thin Red Line عام 1998.

خلال تلك الحقبة الطويلة وتبعا للتأثير الإيجابي الذي حققه مالك بين النقاد والمثقفين عبر أفلامه الثلاثة تلك، كان السؤال المطروح عنه كثيرا هو «أين اختفى ذلك المخرج الذي صنع ذلك الفيلم؟». لذلك كانت عودته من غياب عقدين من الزمن بفيلم «الخيط الأحمر الرفيع» مدعاة احتفاء حقيقي، وخشية من أن يطول غيابه مجددا بعد ذلك. لكن الرجل، وللحقيقة، لم يغب طويلا... بعد سبع سنوات فقط عاد مع فيلمه الرابع «العالم الجديد»، ثم غاب لست سنوات وعاد سنة 2011 بفيلمه الأعجوبة «شجرة الحياة» التي فاز بسعفة مهرجان «كان» في العام الماضي.

كل ما سبق عجيب يذكر بفترات غياب المخرج الأميركي الآخر ستانلي كوبريك الذي كان يمضي السنوات مثل بركان هامد قبل أن ينطلق بفيلم جديد. لكن ما هو أعجب هو التالي: في السنتين الماضية والحالية أنجز المخرج مالك ثلاثة أفلام: «شجرة الحياة»، كما تقدم و«إلى العجب» المعروض حاليا و«رحلة زمنية» Voyage of Time، وهو، علاوة على ذلك، كتب سيناريو فيلمه المقبل «فارس الفناجين» الذي من المحتمل دخول تصويره قبل نهاية هذا العام.

بذلك يكون مالك صاحب أغرب خط مهني لمخرج: في 42 سنة أنجز أربعة أفلام، وفي عامين أنجز ثلاثة.

«إلى العجب» فيلم غريب بحد ذاته، على الأقل حمل «شجرة المعرفة» ملامح قصة معينة بطلها براد بت الأب الصارم، وجسيكا شاستين الزوجة الحنون، وشون بن ابن بت، الذي يتذكر اليوم ما كان حاله وحال أهله حين كان فتى صغيرا.

لكن «إلى العجب» يكاد لا يعرف القصة على الإطلاق. الملامح التي تبرر اعتبار الفيلم روائيا أقل حضورا من أي فيلم سابق له. على الرغم من ذلك الفيلم ليس تسجيليا. الحقيقة أنه ليس فيلما يشبه ما سبقه ولن يكون هناك فيلم يشبهه؛ ذلك لأن مالك مخرج فريد لم يقلد أحدا ولا أحد يستطيع تقليده.

هل يستطيع أحد أن يصف الحبكة؟ امرأة فرنسية وابنتها من زواج سابق وأميركي في قطار. متى التقيا؟ لا نعرف. فصل من المشاهد لهما وهما في معالم فرنسية. طقس شتوي. ملابس ثقيلة وكثير من الركض في المراعي وبين الأشجار العارية. همهمات. شيء من باريس، ثم الثلاثة يقطنون الآن منزلا في بلدة ما من الغرب الأميركي. تحاول الفتاة الصغيرة أن تتأقلم مع المكان لكن ثقافته وبيئته غريبة، فتقرر العودة إلى والدها. تحاول الأم إقناع الأميركي بالزواج منها لكنه ممتنع فتتركه إلى نيويورك (بضعة مشاهد من المدينة). الزوج يلتقي بامرأة أخرى كان يعرفها من قبل ثم يتركها قبل عودة الفرنسية. يتزوجان. ثم؟ هذا الناقد ليس واثقا تماما، وما سبق لم يرد نتيجة متابعة تقليدية لفيلم يحمل الفصول التقليدية الثلاث (بداية، حبكة ونهاية) بل نتيجة استشفاف مما يقع. الفيلم مليء بالصور واللقطات، وكل ما تم ذكره لا يشكل ربع عدد اللقطات المستخدمة.

الكاميرا (بإدارة إيمانويل لوبزسكي الذي صور «شجرة الحياة») لا تهدأ. هي عينا رجل ينظر كيفما أراد في أي اتجاه يرغب وفي أي وقت. لذلك تتبع، تنظر بعيدا. تعود إلى... وترفع عدستها إلى السماء أو تخفضها إلى الأرض، تماما كما لو كانت التجسيد الآلي لروح المخرج، أو هذا على الأرجح ما يريدها أن تكون. المرات الوحيدة التي تفعل ما لا يستطيع المرء فعله بسهولة هو حين تنفصل عما يدور في موقع ما على الأرض لتطير فوق مكان آخر على انخفاض. فجأة تلتهم الأرض المنبسطة تحتها. وحين يريد تسبح وتعوم أو تلعب تحت سطح الماء.

المنتج نيكولاس غوندا يقول لمجلة «سكرين» البريطانية إن هذا الفيلم دار في بال المخرج من قبل تحقيق الفيلم السابق، لكنه بعد العرض الدولي الأول لـ«شجرة الحياة» انطلق لتحقيق هذا الفيلم.

ومع أن الفيلم يحمل أفكارا سبق لمالك طرحها، مثل الغربة والوحدة والتوق إلى معرفة الحياة ودور الدين في الإنسان، فإنه لا يرضى بأن ينجز الفيلم الواحد مرتين. بمعنى أنه لن يعاد صنع فيلم قام بصنعه من قبل.

المرء يتساءل كيف يمكن له أن يصور أفكاره. حسب منتجه أيضا، يستيقظ المخرج كل صباح وفي باله «ألوف الصور والأفكار»، لذلك لا يمكن أن يكون المخرج حريصا على أن يكتب سيناريو كاملا قبل التصوير، وإذا ما فعل فإنه بالتأكيد لا يتبع ما يكتبه، بل يكتفي منه بالفكرة وينطلق لتصوير أفكاره مرسومة بالكاميرا.

وهو لا بد أنه إذ يفعل ذلك يسحب من الممثل سلاح المعرفة. يتركه غير مدرك ما هو المطلوب ولماذا هو مطلوب هكذا. في هذا الفيلم لا ينطق بن أفلك بأكثر من خمس عشرة كلمة. لا لقطة ثابتة له لكي يتولى الإدلاء بعبارة ما، أو قطع من وإلى وجهه لقراءة معالمها. فالممثل يتكل على السيناريو لفهم شخصيته وعلى المخرج للاستزادة. لكن مالك لديه القدرة على إقناع الممثل بأن المطلوب ليس تنفيذ المشهد، بل العيش في نقاط حياة هو جزء منها.

قبل أن يعرض مالك هذا الفيلم هنا، أنجز تصوير «فارس الفناجين» وهذا يدور حول مهنة صنع الأفلام في هوليوود. وبعده مباشرة سيحقق فيلما عن صناعة الموسيقى في ولاية تكساس، حيث ولد. كان عنوان هذا الفيلم «بلا قانون» (Lawless) لكن بما أن فيلما آخر حديثا استخدم هذا العنوان (فيلم لجون هيلكوت) فإن البحث جار عن عنوان آخر.

هذا بخلاف اشتراكه في إنتاج بعض الأفلام، وأحد مشاريعه في ذلك «ارتفاع النصل الأخضر» عن المرحلة الصعبة من شباب الرئيس السابق أبراهام لينكولن... لا، لن يكون من نوعية «لينكولن صائد الفامبايرز»، هذا ممنوع عليه.

الشرق الأوسط في

05/09/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)