كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

«رسائل البحر»:

السينما حين تستعيد روح الزمن الجميل

القاهرة - أمل الجمل

عن فيلم

رسائل البحر

   
 
 
 
 

... أخيراً بعد ثماني سنوات من غياب داوود عبد السيد عن ساحة السينما الروائية الطويلة ها هو يعود بفيلمه الجديد «رسائل البحر»، الفيلم الذي كان رُشح لبطولته أحمد زكي قبيل وفاته، وحصل مؤلفه قبل تحقيقه على جائزة «ساويرس» للسيناريو مناصفة مع سيناريو «واحد صفر» لمريم ناعوم، كما حصل ضمن خمسة سيناريوات أخرى على منحة دعم إنتاج من وزارة الثقافة المصرية تعادل 30 في المئة تقريباً من موازنة الفيلم تُقدم على شكل خدمات ومواد خام، كذلك اشترك «رسائل البحر» في مسباقات منح السيناريو بمهرجانات سينمائية دولية لكنه لم يحصد شيئاً.

«رسائل البحر» هو فيلم شخصيات تعيش في ظل وضع قهري ناجم إما عن رضوخها أو اختياراتها المتواطئة مع المجتمع المحيط بها. والمجتمع هنا مدينة الإسكندرية في فترة غير محددة زمنياً. الأرجح أنها ترجع إلى عصر الانفتاح «الساداتي» أو بداية عصر «مبارك»، المؤكد أن زمن الأحداث لا يُعاصر الفترة الحالية أو الألفية الثالثة حيث صارت الإسكندرية أحد أبرز معاقل التطرف والتعصب الديني الواضح جداً في شوارعها، وهو ما لم تظهر له أي إشارة في العمل.

البطل الرئيس لـ «رسائل البحر» يحيى (آسر ياسين بأداء مُتقن)، طبيب متعطل يُعاني مشكلة «الثأثأة» أي التعثر في النطق. يحيى ينتمي إلى أسرة من الطبقة الوسطى المرتفعة نسبياً. لديه فيلاَّ وأرض زراعية. يشعر دائماً انه تعرّض للقمع الأسري، إذ أُرغم على دراسة الطب بدلاً من الموسيقى. تبدأ أحداث الفيلم عقب وفاة والده ، إذ يتخذ قراره بأن يُولد من جديد مستعيداً حريته المفقودة. لذلك يرفض السفر مع أخيه إلى أميركا، ويُقرر إغلاق الفيلاَّ عائداً إلى شقتهم في الإسكندرية ليعيش فيها تاركاً كل شيء سلبي وراءه. وهناك يشغل نفسه في صيد السمك بالصنارة كهواية ولسد نفقات حياته القليلة.

الشخصية الرئيسة الثانية نورا (بسمة) هي زوجة ثانية لرجل أعمال قاهري يزورها مرة في الشهر، يأخذ متعته منها، يمنحها الأموال التي تطلبها، يُوفر لها حاجاتها شريطة عدم الإنجاب والإبقاء على زواجهما سراً. أثناء غيابه تُمارس نورا هواية العزف على البيانو. في إحدى الليالي بينما يمر يحيى من تحت شباكها وهو في حالة سُكر، شديد يُنصت إلى عزفها حتى تنتهي فيظل يصفق مهللاًً «برافو... برافو» فتطلب له البوليس ويقضي ليلته في الحبس. يُواظب يحيى على الوقوف تحت الشباك للاستمتاع بعزف نورا، ما يُثير فضولها بالتدريج فتضع نفسها في طريقه من دون أن تخبره بحقيقتها. تذهب معه إلى شقته وتُقيم معه علاقة، ما يجعله يتخيل أنها مومس، وهي في الوقت نفسه لا تنفي ذلك عن نفسها بل تجاريه في تخيلاته. يطلب منها أن تكف عن هذه المهنة لتصبح له وحده لكنها ترفض.

الموت أو الذاكرة؟

في الإسكندرية أيضاً يلتقي يحيى جارته الإيطالية المُسنة فرانشيسكا - المخرجة التسجيلية نبيهة لطفي في دور مناسب شكلاً وسناً - وابنتها كارلا (سامية أسعد) التي أصبحت مصممة ملابس ناجحة ذائعة الصيت. ويحيى على رغم علاقته بنورا وحبه لها يُحاول كذلك استعادة حب كارلا، وعلاقته القديمة معها منذ الطفولة. تتردد كارلا ثم توافق فيتواعدان. في اليوم المحدد للقائهما تزورها امرأة شابة سحاقية ترغب فيها. لن تُقاومها كارلا. تستسلم لغوايتها بسهولة شديدة، وتترك يحيى بحجة أنه سيُشكل عائقاً أمام اختيارها ثم قرارها بالهجرة إلى إيطاليا. كذلك هناك شخصية «السنيد» أو صديق البطل، قابيل - محمد لطفي في دور مكرر- يعمل حارساً في ملهى ليلي. يكتشف إصابته بورم في المخ ويحتاج إلى عملية جراحية خطيرة قد تُسبب له فقدان ذاكرة، فيُصبح السؤال: أيهما أفضل أن يُنقذ الإنسان نفسه من الموت شريطة أن يعيش من دون ذكريات سواء كانت سعيدة أو مؤلمة، أم يُفضل الموت على أن يحيى بلا ذاكرة؟

هناك أيضاً شخصية الشرير الحاج هاشم - صلاح عبدالله في دور مكرر آخر- رمز الطبقة الثرية الجديدة «النوفو ريتش». يصطاد السمك بالديناميت، ويستخدم الدين لتحقيق مصالحه الشخصية. يُساوم فرانشيسكا ويحيى على ترك شقتيهما لأنه قرر هدم العمارة وإقامة «مول» ضخم بدلاً منها. لن يرضخ يحيى للمساومة فيُقابَل بالتهديد والوعيد ثم الطرد بعد أن يُضبط متلبساً أثناء علاقته بنورا. وينتهي الفيلم بمشهد للعاشقين في مركب وسط البحر تُحيط بهما الأسماك الميتة بالديناميت.

مبدئياً، شخصية البطل المتعثر في النطق تناولتها السينما المصرية على الأقل مرتين شهيرتين، إحداهما جسدها الفنان عادل إمام في فيلم «الهلفوت» للمخرج سمير سيف 1985، وعلى رغم إجادة عادل الأداء أدى الحوار الكثير الذي وضعه المؤلف للشخصية الى ترهل الإيقاع. بعد ذلك بأربع سنوات خاض الفنان نور الشريف تجربة شبيهة إلى حد ما في فيلم «صراع الأحفاد» لكنه استفاد من تجربة «الهلفوت». حذف كثيراً من حوار الشخصية، فجاء الحوار قصيراً تلغرافياً، وعمل خدعة أثناء التصوير ليضبط الإيقاع فكان يتعمد أن لا يكون الأداء التمثيلي متقناً في المشاهد الإنفعالية جداً التي من المحتمل ألاَّ يُلاحظ فيها المشاهد إذا كان الممثل يضبط الأداء أم لا.

ربما تكون تجربة «رسائل البحر» في هذا المجال أكثر نجاحاً من «الهلفوت» و «صراع الأحفاد» لأن داوود عبدالسيد نجح في إيجاد تكأة درامية تُساعده على الاحتفاظ بإيقاع فيلمه مشدوداً، إذ جعل يحيى يُعاني «الثأثأة» في تواصله مع الآخرين، لكنه مع نفسه كان يتحدث بطلاقة، ومن هنا كان توظيفه للرواي عاملاً مهماً في ضبط الإيقاع، وجاءت جمله الحوارية مع الآخرين قليلة جداً. شيء آخر نفسي استفاد منه ٍعبد السيد هو أنه عندما تتوطد علاقة يحيى بنورا وتزداد ثقته بنفسه ينطلق في الحديث متخلصاً من «الثأثأة» مُعبراً عن نفسه بحرية ومن دون قيود.

مومس بعقد زواج

هذا الفيلم اعتبره كُثر حدثاً سينمائياً، و «أحد أهم الأفلام المصرية على مدار تاريخها»، و «أفضل ما حقق عبدالسيد حتى الآن» لكن هذا ظُلم بيَّن لأن مضمون الفيلم، بعد كل شيء متوسط القيمة مقارنة بـ «الكيت كات» مثلاً أو «أرض الخوف». مع ذلك أسبغوا عليه أوصافاً من قبيل «البشارة» و «أنشودة أو ترنيمة داوود». ووصفوه بأنه أنقذ السينما المصرية من الغرق فهو مربك في جماله، ومُحرض على التفكير والكتابة، ويدعو إلى التسامح وتقبل الآخر. ولكن في المقابل اعتبره البعض الآخر فيلماً جريئاً وصادماً للمجتمع خصوصاً بسبب مشاهد السحاق، على رغم أنها مشاهد صارت شبه مكررة في السنوات الأخيرة، وإن كان داوود عالجها بفنية عالية عبر التلميح أو من خلف الزجاج، لكنه لم يقدمها من زاوية جديدة كاشفة لها، ويُمكن حذفها بسهولة دون أن تُؤثر في الأحداث.

يُناقش الفيلم في أحد محاوره شرعية الزواج، في إشارة واضحة إلى أن توافر عقد الزواج لا يضمن صحة وشرعية وقانونية الزواج خصوصاً في ظل غياب أسس أو مشاعر وعواطف إنسانية بين الطرفين، على رغم أن هذه الفكرة قُتلت بحثاً على أيدي كثير من الكاتبات ونصيرات الحركة النسائية في مصر والوطن العربي لكن البعض اعتبر ذلك المشهد صادماً للمجتمع، فنورا بعد علاقة جسدية مع زوجها تنفجر غاضبة واصفة نفسها بأنها مومس في إطار علاقتهما الحالية. مومس بعقد زواج. دورها أن تُوفر له المتعة وعليه أن يدفع. ثم تقترح على زوجها بسخرية أن يُخفض المبلغ الذي يصرفه عليها مقابل أن يسمح بدخول رجال آخرين في حياتها.

المشكلة الأساسية في هذا الحوار هي عدم استقامته مع منطق الشخصية لأنها وافقت على هذه الزيجة برغبتها واختيارها، وإذا كانت أدركت الآن، بعد أن صادفت الحب الذي لم تُصارح به زوجها، أن حياتها الزوجية بشكلها الحالي خاطئة ولا ترغب في مواصلتها فلماذا لا تطلب الطلاق وتنفصل؟ منطق نورا مضطرب فيه ملامح سادية وانتهازية. فهي بعد أن مارست فعل الخيانة مراراً وتكراراً مع يحيى تترافع عن قضيتها وهي أصلاً مُدانة بخيانتها وكذبها فكيف إذن تتوقع أن يتعاطف معها المُشاهد حتى لو بكت لأنها ترغب في إنجاب طفل؟

اجتهد فريق ثالث في استنباط أبعاد فلسفية وميتافزيقية، وفي استيلاد عشرات الدلالات والرموز من «رسائل البحر» قسراً، بدءاً من أسماء أبطاله فنورا كما رأوها هي رمز لـ «مريم المجدلية»، ويحيى هو «موسى»، وقابيل هو «قابيل» قاتل «هابيل». تأويلات تُحَمِل الفيلم أكثر مما يحتمل لأنه فيلم بسيط ومباشر حتى وإن وُجد به بعد فلسفي غير عميق وحتى لو نطقت بعض شخصياته بجمل فلسفية تعبيراً عن فكر المخرج لا عن منطقها هي كشخصيات مثل نورا، وبيسة الفتاة البسيطة زوجة قابيل، التي تنطق فجأة بكلمات وأفكار فلسفية أكبر من مستواها.

رسائل داوود

باستثناء الرسالة التي عثر عليها البطل في زجاجة في البحر ولم يستطع فك شفرتها لا يوجد شيء غامض بالفيلم. لا شيء يحتمل الالتباس أو التأمل والتفكير فالبحر رمز مباشر وصريح إلى قوى كونية كبرى أو أحد آلهة الإغريق، فالبطل يصرخ في لحظة غضب ويأس: «جت لك وأنا مش محتاج وأديتني رزقي ودلوقتي وأنا جعان بتحرمني.. ده ظلم ده ولاَّ فوضى؟»، وعندما يُواعد يحيى فتاتيه نورا وكارلا يبتسم لنفسه فجأة بسخرية قائلاً: «أنا بأحب كله»، ثم تُلخص فرانشيسكا إحدى رسائل المؤلف قائلة ليحيى: «إذا حبيت حد لازم تحبه زي ما هو.. ما تحاولش تغيره وإذا ما قدرتش سيبه وابعد عنه». حتى السلوك النفسي الكامن وراء سؤال يحيى لنورا عن زبائنها كعاهرة لكي يتألم ويكرهها اعتقاداً منه أن بذلك سيتخلص من حبها، يفسره عبر الراوي. ونورا عندما تتمادى في حكي تفاصيل له عن علاقتها الحميمة بزبائنها تعترف عبر الراوية، التي هي نفسها، أنها كانت تفعل ذلك لتجعله يتألم ويتوجع. باختصار لم يترك المخرج شيئاً للمتلقي ليفكر فيه، ربما بسبب عدم الثقة في قدرات هذا الأخير وخوفاً من فقر خياله.

على رغم كل ما سبق لاشك في أنه مقارنةً بالسينما الهزيلة الإباحية والمبتذلة في مضمونها وفنيتها المسيطرة حالياً على الساحة السينمائية المصرية فإن فيلم «رسائل البحر» فيلم جيد أو بالأحرى فيلم ليس سيئاً لأسباب عدة أهمها البُعد عن الأصوات الزاعقة والصُراخ، البعد عن استخدام الجنس الفج والألفاظ والإيحاءات الجنسية الرخيصة غير الموظفة درامياً. هو فيلم توافرت له عناصر الفيلم التجاري لكنه أيضاً صُنع بفنية عالية المستوى ساهم فيها موسيقى راجح داوود، وديكور أنسي أبو سيف، ومونتاج منى ربيع، وتصوير أحمد المرسى خصوصاً في مشاهد النوَّة بالإسكندرية عندما أخذت السحب تتراكم والأمواج تتلاطم في مشاهد بديعة نادرة. هو فيلم مصنوع بفنية عالية بسب مستوى ثقافة ووعي مخرجه داوود عبد السيد الذي يتضح في إدارته لفريق عمله، وفي اختياره للألوان، واهتمامه برسم وتشكيل الكادرات وإعادة ترتيب المشاهد ومتابعته لأدق التفاصيل، وفي قدرته على شد إيقاع الفيلم باستثناء المشاهد التسجيلية لعمارة الإسكندرية حيث بدت دخيلة. مع ذلك تبقى مشكلة الفيلم الرئيسة هي السيناريو الذي غلب عليه التصنع، وظهرت بعض شخصياته إلى جانب أفكارها المضطربة غير قادرة على التطور التلقائي وفق منطقها الخاص

الحياة اللندنية في

05/03/2010

 

«رسائل البحر»

سيمفونية بصرية أضعفتها التدخلات العقلانية للمؤلف

أحمد يوسف

فى أحد مشاهد فيلم "رسائل البحر"، يعثر البطل الشاب يحيى (آسر ياسين) على زجاجة قديمة، تتقاذفها أمواج البحر وتدفعها نحو الشاطئ، يحمل يحيى الزجاجة ويدفعه الفضول إلى معرفة سر تلك اللفافة التى تحتويها. وفى تتابع تالٍ من الفيلم يجلس يحيى على أرض غرفته، وقد تناثرت حوله قواميس اللغة اللاتينية، إنه يبحث عن معنى كلمات رسالة البحر فلا يجد لها أثرا فى قواميسه، ثم يحمل الرسالة معه ويعرضها على رفاق الحانة "الخواجات" حيث يقضى بعض لياليه، لكن أحدا لا يتمكن من فك شفرة تلك اللغة الغامضة، وينتقل بعدها يحيى بالرسالة إلى مجموعة من الفتيات من جنسيات مختلفة تعملن فى ملهى ليلي، لكنهن جميعا تنكرن معرفة أى منهن بلغة الرسالة، التى تبقى ـ حتى بعد أن ينتهى الفيلم ـ غامضة المبنى والمعني. 

تأملت كثيرا فى هذه الفكرة التى وضعها ـ مؤلفا ومخرجا ـ داود عبد السيد فى فيلمه "رسائل البحر"، شعرت أنها تلمس وترا خفيا فى وجداني، ومع ذلك فإن عقلى يرفضها.. تساءلت: لماذا يبدو يحيى فى حبكة الفيلم منشغلا أحيانا بالرسالة ثم ينساها أحيانا أخري؟ بالأحرى ما هو المنطق الفنى والدرامى (غير الموجود فى الفيلم) الذى يدفعه للاهتمام بها ثم إهمالها ثم يعود إليه الاهتمام؟ إنها (دراميا) لا تستحوذ عليه، فكيف لها أن تستحوذ على كمتفرج؟ ولماذا ـ إذا مددنا الخط المنطقى إلى آخره ـ لا يحمل يحيى الرسالة إلى علماء اللغات، الذين سوف يجدون بالتأكيد للغة الرسالة جذورا؟ أقول أن هناك شيئا مثل الشعر الغامض يسرى فى هذه الفكرة، يقول أن هناك فى هذا العالم رسائل تصل إلينا بين الحين والآخر لكننا نعجز عن قراءتها وفهمها أو حتى رؤيتها، لكن هذا هذا التيار الشعرى لا يمتد إلى عقلي، ليس لأن الفكرة تتناقض مع المنطق، بل الأمر على العكس تماما، فالحقائق العلمية البسيطة تؤكد هذه الفكرة ذاتها، فعلى سبيل المثال نحن نسبح فى بحر من الموجات الكهربية المغنطيسية التى لا نشعر بها، لأننا ببساطة لا نملك بداخلنا "أجهزة" التقاط هذه الموجات، فكم إذن طوفان الرسائل التى تعبر بنا ونعبر بها، دون أن نعرف حتى بوجودها؟ 

أقول أن فكرة داود عبدالسيد تجمع بين الشعر والعلم، والميتافيزيقا وممارسات حياتنا اليومية، لكن ذلك لم يكن كافيا لكى "أدخل" إلى عالم الفيلم وأعيش فيه، لقد رأيت الفيلم وأعجبت به، وظلت آثار منه تعيش معى أياما بعد مشاهدته، ومع ذلك فقد كنت أشعر خلال بعض لحظات مشاهدته بإحساس من الاغتراب تجاه ما أراه، إن مايحدث لشخصيات الفيلم يبدو كأنه يحدث لشخصيات لا يهمنى أمرها، لا فرق عندى بين أن يجد يحيى حلا لشفرة الرسالة أو لا يجدها، وذلك فى رأيى أخطر ما يعانى منه عمل فنى ما، حتى لو كانت فكرته بعمق "رسائل البحر".  

ظللت أبحث عن السبب فى ذلك المزيج الغامض من الإعجاب والفتور، واكتشفت أن داود عبدالسيد لم يمنح الفكرة الشعرية كل ما كانت تحتاجه من دفقة (أو دفقات) وجدانية طوال الفيلم، لقد تعامل معها بعقله أكثر مما ينبغي، إنه يعرف أن الفكرة فى حد ذاتها تنبض بالحياة، لكنه لم يتركها تنمو بحرية، لقد كان يدفعها دفعا إلى حيث يريد... وإذا عدت للمشهد الذى بدأت به هذا المقال فسوف تجد أن داود عبدالسيد "أعجبه" أن يجلس يحيى على الأرض بين الكتب والقواميس، وأن تنتقل الرسالة من يد إلى يد، لقد رأى هذه اللقطات بعين عقله، لكنه لم يتساءل كثيرا عما إذا كانت سوف تجد طريقها إلى عقل المتفرج. 

أستطيع أن أملأ صفحات طويلة لأعبر عن إعجابى بالفيلم وصانعه، كما فعل الكثيرون من الزملاء النقاد، وأستطيع أيضا بكلمات قليلة أن أصف الفيلم بالغموض والتعالى كما فعل زملاء آخرون، لكن هذا أو ذاك لا يجيب عن تساؤلي: كيف يمكن لفيلم واحد أن يكون فى أجزاء منه قصيدة شعر، وفى أجزاء أخرى بناء عقليا باردا يكاد أن يخلو من الروح، بل الأغرب أن يجمع مشهد واحد أحيانا بين هذين النقيضين؟ تأمل على سبيل المثال المشهد التالي: فتاة بسيطة تدعى بيسة (مى كساب) تجد الراحة فى الحديث إلى بطلنا يحيي، فتحكى له عن تجربة حبها الأول فى "برمهات" ("يعنى إيه برمهات؟" هكذا كان يجب أن يقول يحيى بتركيبته الدرامية كما صوره الفيلم، وأعتقد أن معظم المتفرجين لا يعلمون أيضا، إنه باختصار شهر بداية الربيع)، وهنا تنطلق الفراشات الملونة لتطير هنا وهناك فى "طبع مزدوج" بالكومبيوتر على الشاشة. صورة جميلة، أليس كذلك؟ لكن من حقك أن تسأل: من أين أتت الفراشات؟ خاصة أن ذلك الخيال البصرى ليس "أسلوب" الفيلم من أوله إلى آخره، لكن مرة أخري: "أعجبت" صانع الفيلم هذه الصورة، فوضعها هناك، لقد تدخل بعقله لكى يصنع التأثير الوجدانى فى المتفرج، فكانت النتيجة أن عقل المتفرج هو الذى أطل برأسه متسائلا، ولم يتحرك وجدانه. 

قل باختصار أن فيلم "رسائل البحر" يريد أن يكون قصيدة شعر، أو سيمفونية بصرية وسمعية، وهو كذلك بالفعل، لكنه لم يتبع دائما المنطق الفنى للشعر أو الموسيقي، بل اتبع منطقا ذهنيا تماما فى بناء عناصره. إن فى الفيلم روح الشعر والموسيقي، لكن هذه الروح وجدت نفسها سجينة فى جسد غير متوافق معها. فلنبدأ بشخصيات الفيلم التى سوف نراها معا تبعا لظهورها فى البناء الدرامي: فى القلب من هذا البناء نجد البطل الشاب يحيي، إنه يعانى من التلعثم فى النطق لذلك لم ينجح كطبيب وهو الآن يعيش على صيد السمك بسنارته، والفيلم يؤكد دائما أنه "يرمز" إلى البراءة فى عالم صعب معقد وملوث. تأتى ثانيا الفتاة كارلا (سامية أسعد) التى تنحدر من أصل إيطالي، وهناك ذكريات طفولة مشتركة بينها وبين يحيي، لكنها تشعر الآن أنها قد تجاوزت هذه المرحلة، وتكاد أن تكون لها ميول جنسية مثلية، وهى "ترمز" أيضا إلى علاقة ثقافية مع الحضارة الغربية باتت على وشك الانقطاع. ثم يظهر الرجل مفتول العضلات قابيل (محمد لطفي)، وهو "يرمز" مباشرة إلى القوة الجسمانية العاتية التى تسببت فى الماضى فى حادثة قتل، لذلك فإن شعوره بالخطيئة يجعله يقرر ألا يستخدم هذه القوة الباطشة مرة أخري، ولأنه مصاب بورم فى المخ يستلزم إجراء عملية جراحية سوف تفقده الذاكرة، فإنه يخشى من علاجه لأنه قد يتضمن عودته للقتل مرة أخري. الآن يحين دور المرأة الجميلة نورا (بسمة)، التى ظهرت لأول مرة فى حياة يحيى فى ليلة ممطرة (فى لقطة ذكرتنى ألوانها الحمراء والسوداء المشبعة بفيلم روبرت رودريجيز "مدينة الخطيئة"، برغم تباعد عالمه عن "رسائل البحر")، إنها تأخذ يحيى تحت مظلتها وتسير معه إلى منزله، لتبدأ معه علاقة حميمة طويلة لكنها تظل بالنسبة له سرا غامضا، يتكامل _ ويتناقض _ مع سر غامض آخر، حين يقضى يحيى بعض لياليه واقفا فى الشارع أمام نافذة مضاءة تغطيها الستائر، ويأتى من خلالها صوت عزف بيانو رقيق (دائما لمقطوعات لشوبان)، وهنا أيضا "ترمز" نورا إلى شعاع النور السجين، ومصدر الألحان العذبة الذى يخفى وجوده. وأخيرا يأتى الحاج هاشم (صلاح عبدالله)، وهو "رمز" صرف، إنه قاتل الحياة من أجل تراكم الثروة، وهو يصطاد السمك بالديناميت، ويطرد يحيى من منزل الاسكندرية لكى يبنى مكانه مركزا تجاريا. 

شخصيات رئيسية خمس، تدور حولها خيوط فيلم "رسائل البحر"، لكنها مرة أخرى نتاج ذهنى خالص يصعب أحيانا أن تصدق وجودها فى لحم ودم، وكل منها يمثل "فكرة" لكنها لا تنصهر معا _ كما ينبغى لها أن تكون _ فى عالم فنى واحد، لقاؤها وحتى تاريخها المشترك هو بمحض الصدفة، أو لأن صانع الفيلم يريد لها ذلك... كان من الممكن على سبيل المثال أن يلتقى يحيى مع قابيل كما كان من الممكن ألا يلتقيا، وهو ما ينطبق على علاقات كل الشخصيات الأخري، ونحن الآن نتحدث عن منطق الحتمية الدرامية فى بناء ذى مظهر واقعى تماما، وإذا كان لك أن تقارن ذلك مع "البحث عن سيد مرزوق" فقد كان منطق الحلم شبه السيريالى هناك هو الذى يقود العلاقات المتغيرة دوما. وحتى لو حاولت أن تتعسف لهذه الرموز أو أشباه الرموز وعلاقاتها تفسيرا فإن ذلك لن يؤدى بك إلى أى مكان، إنها تظل ألحانا جميلة منفصلة، لكنها لا تنجح فى أن تخلق معا سيمفونية متكاملة. لا يكفى للرمز فى الفن أن يكون عنصرا فى معادلة جبرية، كما أن الإيحاء الفنى أعمق كثيرا إذا قارنته بمتعة الرياضة الذهنية، ناهيك عن أن الشخصية الواقعية وما ترمز له يجب أن يظلا جنبا إلى جنب دون أن يطغى أحدهما على الآخر أو يتناقض معه، وأعتقد واثقا أن ذلك هو السبب فى أن رواية نجيب محفوظ "الحرافيش" أهم ألف مرة من "أولاد حارتنا". 

فى الجانب الإيجابي، فإن غلبة العنصر الذهنى فى الفيلم كان وراء اختيارات تقنية وجمالية، صنعت بعضا من اللحظات والمشاهد التى يمكن تدريسها بالمعنى الحرفى للكلمة. تأمل على سبيل المثال مشهد "النوة"، الذى يبدأ بالقيظ تحت الشمس الحارقة، ثم تتجمع فجأة بعض الغيوم التى تحجب الشمس، ويرتفع كيس بلاستيكى مع الريح إلى السماء، وتتمايل أشجار النخيل تحت تأثير العواصف، وتترتفع الأمواج لتتلاعب بمركب صيد فى البعيد، ويلمع البرق وسط السحاب، ويلطم الموج حافة صخور الشاطئ، ويهرب الصيادون بينما يبدأ هطول المطر ويتزايد، ويقصف الرعد ويخطف البرق الأبصار... ويقف يحيى وحده أمام هذا البحر الذى هاج فجأة، متسائلا عن تقلب المصائر والأقدار، وعن البحر الذى يعطى من لا يحتاج ويحرم المحروم. 

أعترف لك ياعزيزى القارئ أننى شعرت بالرجفة فى هذا المشهد، وكنت أتمنى طوال الفيلم لو حصلت على مثل هذه "المشاعر"، لولا أننى كنت أستيقظ من حالة النشوة على تدخل صانع الفيلم تدخلا مباشرا وسافرا، ولعل المثال الواضح لهذا التدخل أن كل الشخصيات تنطق بكلماته وتعبيراته الشاعرية "المثقفة"، وليس بكلماتها كشخصيات فنية، لا فرق فى ذلك بين كارلا الإيطالية وبيسة القادمة من الأحياء الشعبية. غير أننى أرى أن الاضطراب الأساسى فى الفيلم يأتى مما يطلق عليه "استراتيجيات السرد"، التى سوف أتوقف معك هنا للحظات لكى نتأملها. ففى كل عمل فنى يحتوى على مادة روائية يكون هناك أمامك اختياران رئيسيان (بالإضافة إلى اختيارات فرعية أخري): أن تحكى الحدوتة من وجهة نظر الراوى المحايد، الذى يعرف كل شيء عن الشخصيات حتى تلك التى لا تعرفها الشخصيات نفسها، والراوى يختار ما يخبرك به كمتلقى والوقت الذى يخبرك فيه به. أما الاختيار الثانى فهو أن نعرف الحدوتة من خلال إحدى الشخصيات، إننا نرى العالم والأحداث من خلال عينيها، ونحن لا نعرف إلا ما تعرفه هذه الشخصية (فى بعض الأعمال نرى وجهات نظر متعددة من خلال عيون العديد من الشخصيات، مثل رواية "ميرامار" أو فيلم "راشومون"). والهدف من الاختيار بين هذا وذاك فى استراتيجيات السرد هو تحديد أين يقف المتلقى من الأحداث والشخصيات، والغاية النهائية هى تقرير إذا ما كان المتلقى سوف يقف متأملا محايدا أو أنه سيتعاطف أو حتى يتوحد مع شخصية بعينها. هذا هو الجانب الذى اضطرب فيه "رسائل البحر"، إنك تظل تسمع تعليقا من خارج الكادر بصوت يحيي، فنحن إذن لا نرى إلا ما يراه (لذلك لم نعرف مثله الشخص الذى يعزف البيانو خلف النافذة المضاءة)، وفجأة يذهب الفيلم إلى كارلا ليوضح لنا علاقتها المثلية التى لا يعرفها يحيي، ثم ينتقل الفيلم إلى تعليق من خارج الكادر بصوت نورا هدفه الوحيد هو "المعلومات"، وأخيرا ينفصل السرد عن الشخصيات فى مشهد (لا ندرى من أى وجهة نظر يأتي) نعرف فيه من يعزف البيانو. أعتقد أن ذلك الاضطراب فى السرد كان السبب فى عدم وصول رسالة واضحة إلينا، ولا ينفى الوضوح الذى أقصده أهمية الغموض الساحر المطلوب فى عمل فنى راقٍ، وذلك المزيج من الوضوح والغموض هو المعادلة الصعبة أمام أى فنان يريد أن يترك أثرا عميقا فى المتلقي، ولا تكفى لحل تلك المعادلة الصعبة كلمات نورا (أو بالأحرى كلمات صانع الفيلم) ردا على تساؤل يحيى عن فحوى الرسالة فى الزجاجة: "مش مهم، ممكن تبقى قصيدة شعر، صلاة راهب، حد بيهزر"، لأن هناك فرقا فى الإبداع والتلقى بين الهزار والشعر والصلاة، فلكل نوع من هذه الرسائل مرسِل ومرسَل إليه، ولسنا مضطرين أن نعانى لفك شفرة رسالة لنكتشف فى النهاية أنه "حد بيهزر"!  

فى التحليل الأخير، فإن فيلم "رسائل البحر" برسائله العديدة كان أشبه بمشاهد منفصلة، ولكل منها جماله الخاص، لكنها فى الرؤية الكلية تفتقد البؤرة الدرامية التى تجعل المشاهد والرسائل تنبع من هذه البؤرة وتلتقى فيها. أرجو أن تتامل على سبيل المثال أى "نوكتورن" لشوبان من تلك الليليات التى حفل بها الفيلم فى مشاهد العزف على البيانو، إن المقطوعة تبدو ارتجالا حرا لكنها فى الحقيقة تنويعات مختلفة على لحن واحد. وهذا هو ما افتقدته فى الفيلم، لم أجد ذلك اللحن الأساسى الذى يربط الأجزاء معا، لذلك جاء الفيلم فى محصلته النهائية أقل من أجزائه، وبرغم الرسائل والمشاهد فائقة البراعة فإننى لم أعثر أبدا على التيار الذى يجمعها معا. 

العربي المصرية في

09/03/2010

 

نبى العصر الذى لا يعى «رسائل البحر»

منى الغازي 

السينما ذلك الوهم البصرى الجميل الذى يستحوذ علينا ويصل الارتباط به إلى حد العشق أحيانا بعد سنوات من الانتظار ها نحن أخيرا فى لقاء مع السينمائى الكبير والمتفرد داود عبد السيد ومع فيلمه الجديد رسائل بحر. 

قد تبدو فكرة الفيلم بسيطة جدا فنحن أمام شخص "يحيي" الذى يعانى من اضطراب فى التحدث يقرر ترك القاهرة بعد وفاة والدته حتى لا يمكث فى فيلا كبيرة بمفرده فيقرر السفر إلى الإسكندرية باحثًا عن مجتمع جديد وحياة لا يشعر فيها بالوحدة كما أن هناك جيرانهم القدامى الذين يرتبط معهم بعلاقات اجتماعية وهم على دراية كاملة به وبحالته ولكن الوحدة التى يشعر بها فى الإسكندرية تجعله يقوم بعمل جسور للاتصال بالآخرين. 

ليستعرض فى رحلته بعض الأشخاص من جيران (فرانشيسكا وكارلا وهاشم) وأصدقاء طريق (نورا وقابيل وبيسه) هى شخصيات تعانى من المرض والوحدة والاغتراب عن الذات مغلفة بمجموعة من الرسائل ويتحكم فيهم مجموعه من الأفكار تنحصر بأكملها فى العلاقة بين الفرد والأخر والمجتمع المحيط به كما يدخل يحى فى قصتى حب بالتوالى فيبدأ بحبه القديم "كارلا" وينتهى فى قصة حب معقدة مع "نورا" فتاة الليل كما تربطه صداقه حميمة مع البودى جارد "قابيل" ويعيش مع تلك العلاقات فى صراع مع القدر متمثلا فى معطيات (الرزق والحب والموت). 

رغم أن الفكرة بسيطة والفيلم ناعم إلى حد كبير إلا أن التفاصيل تجعلك تتوقف طويلا لفهم معنى كل تفصيله منهم فما هى الرسالة ومن هو المرسل والى من توجه وما هو الهدف من تلك الرسالة؟. 

إن محاولة الإجابة عن تلك الأسئلة تدفعنا للغوص فى أعماق بحر الدلالات والرموز التى امتلأ بها الفيلم حتى خيل لأصحاب المشاهدات السطحية، إن صناع الفيلم قد أصابهم الخلل وحطموا بأيديهم تمثالا جميلا فأصبح قطعا متناثرة كل منها جميله على حده. 

البداية تأتى من عند داود كسيناريست ومخرج يحتاج إلى تحليل لمفاتيحه فى الكتابة حتى يمكننا قراءة فيلمه، سواء فى أفلامه التسجيلية التى بدأ بها حياته كمخرج، أو منذ أول أعماله الروائية "الصعاليك" وتأكد بعد ست سنوات من الغياب فى فيلم "البحث عن سيد مرزوق" الذى يعتبر قصيدة عشق لليل مدينة القاهرة وتلاه "الكيت كات" ثم "سارق الفرح" و"ارض الأحلام" و"ارض الخوف" و"مواطن ومخبر وحرامي" حتى نصل إلى رسائل بحر وقد يرى البعض أن سرد الفيلموجرافيا كاملة ليس له مكان هنا إلا إننى أعود لأقول بأن فهم الرسالة يحتاج إلى تحليل داود وفهم لمجموعة رسائل سابقة حتى نصل إلى تفسير الرسالة. 

بتأمل يحيى نجد إننا أمام اسم يستخدمه داود للمرة الثانية فهو نفس الاسم الذى حمله "احمد ذكي" فى فيلم "ارض الخوف" وإذا كان يحيى فى الأول حمل رمزيه ادم فمن هو يحيى الجديد ولماذا يجمع بين صفات أكثر من نبى فهو "موسي" من حيث التلعثم وهو "يحيي" من حيث تعرضه للغواية وعلاقته بالبحر والرفض من المجتمع المحيط وهل "قابيل" القاتل الذى يعبر بشكل مباشر اسما وشكلا وفعلا عن قابيل ابن ادم هل هو شخصية أخرى أم انه الصورة المكملة للبطل ولكن من خارجه انه الجانب الفظ المكروه النادم الذى يتمنى النسيان ويخشاه فى آن واحد وهل علاقة "بيسه" وإعجابها بيحيى صدى لقصة حبها مع قابيل لأنهما فى النهاية يمثلان كيانا واحدا. 

قد يقول البعض إن ذلك تحميل للفيلم بما يفوقه ولكن بتأمل بعض التفاصيل يمكن إدراك الحقيقة وبتأمل دقيق للجمل الحوارية يمكن التأكد من ذلك بل والإيمان به حتى لو أنكر صناع الفيلم ذلك.. ونجد ذلك واضحا بشكل خاص فى بناء الشخصية على نمط البناء الأسطورى للأنبياء فنحن أمام شخص مختلف يهبط إرضاء يرفض فيها ويتعرض للغواية والابتلاء بالجوع تارة والمرض تارة أخرى وتأتيه رسالة ولكنه لا يفهمها.. أعتقد أن بناء الشخصية الرئيسية أصبح واضحا لا يحتاج إلى نقاش. 

على جانب آخر تأتى الشخصيات النسائية الثلاثة كارلا ونورا وبيسه مكملين لتركيبه الأنثى المطلقة من وجهه نظر داود فنجد أن نورا هى مزج لشخصيه "فرح" فى ارض الخوف و"عبله كامل" فى فيلم "سارق الفرح" إنها تلك الأنثى التى ترى نفسها "مومس" وهى تنام فى أحضان زوجها وتشعر بالاحترام والحب والمتعة مع عشيقها، أما كارلا فهى الجانب الحر من كيان الأنثى ذلك الجانب الذى يأبى أن يفعل ما يبدو مرغما عليه حتى يسقط فى الغواية ويعشقها وهنا يشعر بأنه حر لأنه يحطم قيود المجتمع ويتحداه.. بينما تأتى "بيسه" فى استكمال لشخصيه بنفس الاسم فى فيلم الكيت كات وتحمل التركيبة الأنثوية فى صورتها البدائية التى ترى فى الرجل أملا وحلما يمثل الحياة بأكملها وترى فى الجنس وسيله للتعبير عن الحب.. يبقى لدينا المعلم "هاشم" والتركيبه من حيث الاسم والأداء والاتجاه هى أكثر الشخصيات وضوحا فى السياق الدرامى والسياق الرمزى فهو يعبر عن الرأسمالية فى أبشع صورها تلك الرأسمالية التى تستغل كل ما يحيط بها بدءا من نقاط ضعف الأفراد "التلعثم" عند يحيى والحب عند نورا انتهاء بنقاط ضعف المجتمع ممثله فى "الدين" و"الاحتياج المادي" وتتأكد رمزية الشخصية من استخدامه للديناميت فى قتل الأسماك كمواز لاستغلاله المجتمع من اجل مصالحه الشخصية. 

إذا تركنا داود كسيناريست وتأملناه كمخرج نجد إننا أمام مستوى إخراجى يصعب مناقشته ليس للحرفية العالية فقط ولا للإيقاع الخاص الذى فرضه داود على العمل ولكن بتأمل العمل تكنيكيا نجد أن داود قد حطم الكثير مما يسمى بالقواعد دون أن نشعر فها هو فى المشهد الأول بين يحيى وأخيه يتجول بنا فى المكان ويدور بزوايا الكاميرا محطما حاجز الحائط الرابع ومحطما الخط الوهمى ولكن ببراعة دون أن يدركها اغلب المتخصصين فما بالك بالجمهور كما جاء استخدامه للعدسات القصيرة فى المساحات الضيقة مثل البار موضحا لحقيقة المكان وحقيقة الشخصيات بينما جاء استخدام العدسات الطويلة فى مشاهد البحر مضفيا لحالة من النعومة ومعطيا صوره بصرية خاصة للفيلم لان المعتاد فى تلك المشاهد هو العكس كما جاء مشهد المواجهة بين يحيى ونورا والذى اعتمد فيه داود على تغيير البعد البؤرى للعدسة من أروع ما يكون من حيث الفكرة الإخراجية والتنفيذ. 

على مستوى الأداء التمثيلى فالفيلم يحمل فى مجمله نقله متميزة لكل من شارك فيه بالتمثيل بداء من اسر انتهاء برامى غيط ولكن هل هذا يعنى تطور فى مستوى أدائهم التمثيلى فعلا أم إن الفيلم يمثل طفرة خاصة وبعدها "هترجع كل ريما منهم لعادتها القديمة". 

الموسيقار راجح داود ومهندس الديكور أنسى أبو سيف دائما متميزان ودائما فى أفلام داود التى شاركا فيها كلها أكثر تميزا وتألقا. 

فى النهاية نحن أمام فيلم متميز يحمل إلينا رسالة نحتاج لفهمها إلى كثير من الوعى والإدراك بمفردات الفن والتاريخ وذلك لأنه ليس فيلما عاديا انه فيلم لداود عبد السيد. 

العربي المصرية في

09/03/2010

 

رســائـــل البحــــر

بقلم :ماجدة موريس

الحذر لا يمنع القدر والاختيار.. لا يمنع الطوفان

والوعي وحده هو سبيل المقاومة.. خاصة لو جاء ممن يفترض فيه التسليم.. ورفع الراية البيضاء.

هكذا تبدو رحلة يحيي (آسر ياسين) بطل فيلم داود عبد السيد الجديد (رسايل البحر) من البداية إلي النهاية، فالنهاية هنا مفتوحة علي الأفق الواسع للبحر وللسماء، وبرغم الأسماك الميتة الطافية علي السطح والتي قتلها «الصيادون الجدد» من أمثال الحاج هاشم، فإن القارب يستطيع الإفلات إلي مكان أفضل يليق بحياة يحيي مع نورا (بسمة) الغنيمة «الإنسانية» الوحيدة التي خرج بها من العالم.

داود عبد السيد فنان بدرجة مفكر سينمائي. يكتب أفلامه ليخرجها أو يخرج ما يريد كتابته بالضوء والظل والموسيقي والايقاع معبرا عن مكان وزمان وشخصيات يرتبط وجودها بالتفاعل مع اللحظة الآنية والرغبة في الإفلات منها في نفس الوقت، ففكرة القدرة علي الاختيار أو الرغبة فيه وفي الإفلات من الظروف الخانقة المحيطة من ضمن الملامح المهمة لأبطال داود في كل أعماله، فهم يبدون أمامنا في حالة تجربة وجدل مستمر لاختياراتهم، يخطئون وتلعب بهم الحياة لكنهم يرفضون الخمود والاستسلام لما آل إليه غيرهم من انكسار.

يبدأ الفيلم برحلة (يحيي) إلي الإسكندرية تاركا مدينته القاهرة بعد موت الأب والأم ورحيل الأشقاء إلي كندا، يعقد صفقة مع شقيقه ليرسل له أموال أرثه علي دفعات ليعيش منها، ويترك الفيلا الواسعة التي ضاق بها صدره طويلا، ففي كل ركن منها تلقي أمرا من الأب الراحل.. وفي الإسكندرية يذهب إلي شقة الأسرة القديمة، في العمارة العتيفة حيث تقطن الجارة القديمة فرانشيسكا (نبيهة لطفي) الايطالية الأصل وابنتها الشابة كارلا (سامية أسعد) التي هواها قديما، وخارج الشقة والعمارة مدينة كاملة تدعوه للغواية فكل ما فيها ساحر، يختال بنفسه من الأبنية للشوارع المغسولة، للنوافذ المفتوحة تنبعث منها أصوات الموسيقي والدكاكين الصغيرة، يقتحم يحيي المدينة بشرب الخمر لأول مرة حتي الثمالة ليجذب اهتمام قابيل زبون المكان (محمد لطفي) الدائم فيحمله إلي مسكنه، وبعدها أصبح صديقه، بدون أسباب للصداقة غير قدر من النبل والطيبة لدي الآخر يتعارضان مع ضخامة حجمه واكتشاف يحيي أنه يعمل بودي جارد لحراسة كباريه معتمدا علي الخوف من ضخامته، فيما بعد يكتشف يحيي الكثير عن المدينة التي اختارها للحياة ، كما اختار العمل صيادا في بحرها مع طابور غيره، بعد أن ترك الطب بلا ندم بعد أن كره أن يكون موضع سخرية أقرانه لتعثره في الكلام (ربما أرادوا النيل منه لأنه كان أول الدفعة) عجز الطبيب النابه عن علاج نفسه وهرب من عالمه كله إلي عالم آخر ليعيش يوما بيوم، يتلقي عطايا البحر وغضبه بمشاعر متقلبة بين الفرح والكرب، وحيث يقدم لنا الفيلم أحد النوات التي يغضب فيها البحر علي المدينة فنتسمر في أماكننا ونهتز من روعة الطبيعة وروعة السينما معا (أدار التصوير للفيلم الفنان أحمد المرسي)، يشغلنا الفيلم من جانب آخر بالبحر حين يستحيل الصيد ويكاد يحيي أن يموت جوعا مع كل الحيل للبحث عن «رغيف حاف» بالمعني الحرفي بعد ثورة الصياد علي بحره «اعطيتني حين لم أكن محتاجا.. وبخلت علي وأنا محتاج» لكنه يهدأ، الرجل والبحر سواء، باحثا عن إنسان يستطيع قراءة رسالة في زجاجة وجدها تتهادي بقربه وهو يصطاد، ما يفشل الجميع في قراءتها لتظل تشغلنا طوال الوقت بفحواها حتي كلمة النهاية، وحتي يدرك كل منا - من خلال - تتابع المشاهد والأحداث أي معان علينا أن ندركها من «رسالة البحر» هذه وتكتمل الصورة حين يقابل يحيي نورا (بسمة) في ليلة ممطرة بالشارع، يختارها وتختاره بسرعة، فقد كان وحيدا بعد أن فضلت كارلا رفقة أخري ناوية العودة لإيطاليا وبرغم عقدها الكثيرة، فإن خيطا من الصدق يربط بينه وبين نورا التي أصبحت جزءا من عالمه وتسللت إلي قلبه ليضعنا الفيلم في اطار لغة سردية آسرة لعلاقة تخرج من التأزم لتلتحم تدريجيا بمحيط أوسع وأرحب هو عالم يحيي بكل مفرداته التي تتشكل من جديد أمامنا في واقع يبدو سحريا غائما لشدة جاذبيته، ولا يجدي التفكير هنا في مدي واقعيته أو قربه من الإسكندرية التي يعرفها كل واحد منا شخصيا، ولكن رحلة (يحيي) تثير شجوننا وتطلق أفكارنا تجاه الصورة القديمة لمدينة ساحرة بداخلنا أكثر مما تتجسد في الواقع الآن، وأصبح رهان الفيلم علي الحالة كلها، حالة يحيي ونورا وقابيل وحالة المكان والمدينة بعد أن هاجمها (التتار) من خلال المعلم أو الحاج هاشم (صلاح عبد الله) الذي اشتري العمارة وأراد أخلاءها من السكان لهدمها وتحويلها إلي مول تجاري، يعرض علي فرانشيسكا ويحيي شقة في عمارة جديدة أو محلا أو نقودا.. والعرض ليس اختياريا.. يتمسك كلاهما بالحياة التي يحبانها، لكنهما لا يستطيعان المقاومة حتي النهاية، تقهر المرأة علي ترك الشقة التي ارادت أن تموت بها، وترحل إلي إيطاليا مع ابنتها، بينما يطارد صبيان هاشم يحيي ونورا بتهمة سابقة التجهيز عن الشرف!.. يخرج هو وهي إلي البحر حيث لم يعد باقيا غيره.. فبرغم طوفان الأسماك الميتة من ديناميت هاشم.. فإن فيه مكانا لهما.. هكذا ينتهي بنا الفيلم في البحر معهما، في رسالة أخيرة، غير الرسالة الأولي.. لنكتشف الرسائل الأخري التي ملأتنا بالنشوة والحنين إلي ما يتجاوز قصة البطل، وأعني بها رسائل الفن أي القدرة علي انجاز مقطوعة شعرية من خلال اطار فني محكم لفنان مثل أنسي أبو سيف، ومع بناء موسيقي متكامل يحلق بك إلي عالم يتجاوز احلامك صاغه راجح داود إضافة لأضواء وظلال المرسي ومونتاج مني ربيع وممثلين يجبروننا علي تأمل أسلوب الأداء وقيمته في عمل يدفعنا إلي تذكر ماذا يعني الفن في رحباته وقدراته اللا محدودة علي اشباعنا وإطلاق اسئلتنا في نفس الوقت.. فتحية لداود عبد السيد وكل العاملين وآمل ألا ينتظر هذا المبدع الكبير عشر سنوات أخري حتي يوافق السادة المنتجون علي تمويل فيلمه القادم.. ففي أعماله تعود لغة السينما حية متوهجة ومبدعة.

الأهالي المصرية في

10/03/2010

 

داود عبدالسيد يتحدث عن رسائله للبحر:

الرقابة الجماهيرية موجودة بسبب التزمت الديني المنتشربجهل

حوار نسمة تليمة 

ابتسامة عايزة تبقي ضحكة.. أبدي بإحدي رسائله الخاصة للبحر والتي جاءت علي لسان بطله «يحيي» الذي يصف ردود أفعال مرضاه في حالة اكتشافهم «لعثمته» في الكلام.. هو أيضا ابتسامة في ساحة السينما المصرية تحاول أن تقدم أجمل الأفلام لترصد بها الحزن والألم والأمل في عيوب الناس.. فتكون مرآة لواقعنا، يشغله الضمير والأخلاق والخطأ والتسامح، أفلامه دائما تنبض بالحياة وتعيدك إليها فيستخدم مفردات خاصة من صورة وكلمة وموسيقي وديكور ليصبح بطله الأول هو إحساسه الصادق بما يقدمه وإيمانه به والذي يتسرب إلي المشاهد من اللقطة الأولي.. لديه من القدرة علي تقبل الآخرين ما يجعلك تعيد حساباتك في الحياة.. ينظر إلي شخصياته برحمة ويتلمس لهم الأعذار فيرسل لنا برسالة في قبول الآخر بكل ما فيه، يقدم أبجدية خاصة به جعلت الناقد كمال رمزي يراه قوة دافعة للواقعية لأنه يجعل شخصياته مصرة علي الفرح علي الرغم من أن واقعها يسرق أفراحها، أضحكنا وأبكانا في رائعته «الكيت كات» لينسج نسيجا خالصا من المثل القائل «هم يبكي وهم يضحك» إنه داود عبدالسيد الابتسامة الجميلة وسط فوضي حياتنا يرسل برسائله الخاصة كوصفة سحرية في شكل لوحة فنية قريبة منا جميعا.. كان لنا معه هذا الحوار.

·     شخصية «يحيي» في «رسائل البحر» عندما يكون وحيدا ولا يكون مضغوطا نجده يتحدث بحرية وتختفي «التهتهة» أو «اللعثمة» هل هي دعوي للوحدة؟

- كل تصرفات يحيي يدعو من خلالها للانخراط في المجتمع والاتصال بالآخرين وهو بالفعل عندما يكون بمفرده يتحدث جيداً ولكني ذكرت علي لسانه أيضا أنه «عايز يكلم الناس» لهذا حاول الاندماج مع الآخرين ليخرج من وحدته فترك الفيلا التي يعيش فيها بمفرده.

·         تتميز بأنك تترك الشخصيات في أفلامك دون تجميل.. لماذا؟

- أتصور الفن بعيدا عن الرقابة هو طائر حر يحلق في أي سماء دون النظر إلي اعتبارات السجن الواقعي، ونحن لم نعتد علي هذا والاقتراب من التفاصيل الخاصة وعرضها.. هو مجرد تعود.

·         شعرنا أن داود عبدالسيد قد يتحدث عن نفسه في رسائل البحر.. هل هذا صحيح؟

- أنا أتحدث عن نفسي في كل أفلامي وأقدم رؤية للحياة والعالم والمجتمع من خلالي، فالفن هو أن تحول الهم الذاتي إلي هم موضوعي والأفكار التي أفكر فيها قد تفهمها الناس وتتعاطف معها لأنها تعيشها أيضا.

·         إلي أي مدي أفادت السينما التسجيلية داود عبدالسيد؟

- أفادتني كثيرا، أنا ابن المدينة ولست ابن الريف أو البدو، وعندما أصبح مخرجا تسجيليا أعرض مجتمعي جيدا كما أعرفه، والسينما التسجيلية مهمة جدا من وجهة نظري فهي «تشحن بطاريتك» إذا جاز التعبير لأنك تلمس الواقع من خلالها لهذا في رأيي من لا يقدمها علي الأقل يجب أن يشاهدها وأيضا الجمهور يجب أن يراها.

اللعثمة

·     صرحت قائلا: إنه علي الرغم من صعوبة دور «يحيي» فإن آسر ياسين قدم دورا عبقريا.. ما هي الصعوبة التي تراها في الدور وأنت المؤلف والمخرج؟

- هو دور صعب طبعا يحمل مشاعر داخلية كثيرة وتعبيرات خاصة ويصعب علي أي ممثل تأديته خاصة «اللعثمة» التي يتحدث بها، وآسر استطاع تأديته وتأدية «اللعثمة» بوضوح الكلام ووصول المعني دون أن يشعر المشاهد بملل، هو دور مركب وليس بسيطا ومقنع في نفس الوقت وآسر قدمه أفضل مما توقعت.

·     داود عبدالسيد يريد الوصول إلي الجمهورومخاطبة أكبر عدد من الناس ويريد أن يحقق نضجا فنيا.. هل تراها معادلة صعبة تعود بنا إلي النجاح الفني والتجاري وكيفية تحقيقه؟

- أكره كلمة معادلة أصلا، هناك أفلام تجاربة أيضا لا تحقق نجاحا ما حاولت عمله في كل أفلامي هو تقديم عمل فني جيد وجماهيري ناجح وهذا هو المفروض حدوثه وأنا غير متصور عمل فيلم أتأكد من خلاله أن تكون كراسي السينما «فاضية».

·         ولكن كيف تري المنافسة في ظل الأفلام التجارية المعروضة وكيف تراهن علي حضور جمهور واع؟

- كيف يأتي جمهور واع هذا هو السؤال، كيف أصل لجمهور متذوق قادر علي التفرقة بين ما له قيمة والعكس هذا يحتاج إلي تعليم جيد يهذب ذوقه وهذا عن طريق أعمال فنية في الأصل جيدة ليستطيع التحليق خارج مشاكله الحياتية من خلالها وهذا كله غير موجود في الجمهور المصري لا هو متعلم بشكل جيد ولا ظروفه جيدة ولا وسائل الإعلام تقدم له أعمالا راقية.. ولكني أقول إن «شكسبير» لم يكتب لجمهور أفضل من الجمهور المصري ونجح في توصيل أفكاره، الفنان في رأيي دائما يربطه بالجمهور «نفق» يتسع أو يضيق حسب شروط الواقع ولكن دائما هناك أمل.

·     لماذا تتأخر أفلامك بهذا الشكل فآخر أفلامك «مواطن ومخبر وحرامي» منذ سبع سنوات تقريبا.. وهذا التأخير قد نجده مع جميع المخرجين أصحاب الرؤية أمثال خان، بدرخان، هل هي أسباب معينة؟

- قد يحتاج الفيلم لوقت إعداد جيد ولكنه لن يتعدي عاما، المشكلة هي الإنتاج الذي من الصعب أن يؤمن بفكرتك وهذا يسري علي جميع المخرجين الجادين.

·         وهل دعم وزارة الثقافة في إنتاج الفيلم بنسبة 25% فقط قد يكون كافيا لحل هذه المشكلة؟

- طبعا حل جيد وهذا الدعم ضروري إذا كنا نريد عمل أفلام مختلفة عن الموجودة في السوق وعملية دعم السينما موجودة في أوروبا والمغرب وحتي إسرائيل مهما كان الدعم مبالغ صغيرة ولكنه مفيد.

نظام سياسي فاشل

·         صرح أحد المخرجين من قبل بأن الدولة تكره السينما.. فما رأيك؟

- لا أعتقد وجود مشاعر معينة تجاه السينما من الدولة أو النظام السياسي ولكني أراه يعاني من أزمة كبيرة فهو مطالب بتحقيق المطالب الاجتماعية وفاشل في تحقيقها ويحاول الحفاظ علي بقائه علي كرسي الحكم ويعاني من الفساد الكبير لهذا فهو غير مهتم بالثقافة أو السينما بجانب أن الإعلام موجه لأعلي ونشرات الأخبار موجهة لرئيس الجمهورية، فالنظام السياسي للبلد فاشل لا قادر يرضي الناس ولا مقتنع بالتضحية ولا مقتنع أن يترك الشعب فكيف سيهتم بالسينما؟.

·         الإحباطات الموجودة في المجتمع إلي أي مدي تراها مؤثرة علي المبدع؟

- بالطبع هي مؤثرة إلي حد كبير لأنه يتأثر بها ونجده يتحدث عنها في أعماله فيحاول أن يؤثر أيضا في المجتمع وفي رأيي المبدع مثل «الإريال» الذي يجمع موجات كثيرة في الأثير ويعيد تنقيتها ويعيد إرسالها مرة أخري.

·     لماذا نشعر بتعدد النهايات في أفلامك، فالمشاهد الأخيرة لكل مشهد قد يصلح لأن يكون نهاية منفردة، بجانب غموض مصير الإنسان؟

- النهاية هي لحظة اكتمال المعني لا يمكنني عمل نهاية إذا لم يكتمل معناها ولا أشعر بهذا التعدد في أفلامي ولكن هي قراءات تصلح لأي عمل فني أما غموض مصير الإنسان فمن منا يعرف مصيره هو واقع أعبر عنه أننا جميعا نحمل مصيرا غامضا.

الساحر

·     «مواطن ومخبر وحرامي» مثلث الموسيقي فيه نقطة تعريف بالشخصيات الثلاثة وفي «رسائل البحر» كانت الموسيقي نقطة تعريف البطل وارتباطه بالبطلة حتي قبل رؤيتها، وفي «الكيت كات» وضعت الموسيقي ضد مشهد «الموتوسيكل» ليتوقف المشاهد عن الضحك ويفكر.. هل الموسيقي بطل أساسي تحرص عليه لهذه الدرجة؟

- نعم أعتقد أن التوظيف الموسيقي في الأفلام مهم جدا وأنا أفضل الاهتمام بكل تفاصيل الفيلم سواء موسيقي تصويرية أو حتي موسيقي موجودة من الواقع مثل أغنية قديمة أو مقطوعة معينة لأنها دائما مؤثرة وأسرع في الوصول ولهذا أفضل العمل مع راجح داود وأعتبره أحسن مؤلف موسيقي في مصر.

·     الفنانة بسمة قالت «إنك جعلتها تكتشف في نفسها قدرات خاصة» هل المخرج يقبل الممثل بقدراته أم عليه رؤية طاقات بداخله لإخراجها؟

- «المخرج ليس ساحرا أو صانع معجزات» ولكني كمخرج أجد من يصلح لأن يقوم مثلا بأدوار مختلفة عن الأدوار التي اعتاد عليها وأجرب وهذا ليس مع بسمة فقط مع أي ممثل، أحاول اكتشاف وجوه أخري للممثل ولكن السينما التجارية للأسف حاجبة لهذه القدرات لأنها غير مهتمة بالممثل والمخرج الجيد يحاول أن يعمل علي قدرات الممثل وإخراج الأفضل وعلي الممثل مساعدته في هذا.

التزمت الديني الجاهل

·         متي تختفي الرقابة الجماهيرية في رأيك؟

- عندما يفهم المجتمع وأفراده أن هناك آخرين مختلفين في الرأي والتفكير وأسلوب الحياة ويرضي عن هذا الوجود تختفي الرقابة الجماهيرية بمعناها القمعي فيحاولوا استيعاب الرأي الآخر دون رفض أو منع وفي رأيي الرقابة الجماهيرية موجودة بسبب التزمت الديني المنتشر شديد الجهل.

·         ما دور المثقف وسط كل هذا.. وأين تراه الآن؟

- المثقف ليس دوره الثورة ولكن دوره بسيط جدا وهو القيام بعمله جيدا سواء أستاذ جامعة أو مواطنا بسيطا أو كاتبا أو فنانا حتي لا يتحول مجتمعنا إلي فوضي وهو ما يحدث الآن ويتسلل الفساد إلي حياتنا ولا أقصد بالفساد سرقة فلوس بل أقصد إهمال العمل وعدم إتقانه.

·         هل نعاني من الازدواجية؟

- نعم نحن نتحدث عن التوريث ورفضه فقط في رئاسة الجمهورية ونقبل أن يورث الأستاذ الجامعي ابنه والفنان وضابط الشرطة والطبيب أيضا يورث المهنة لابنه حتي القضاة، المجتمع يقبل فكرة التوريث وكأنها ميزة المفروض استغلالها ولا يوجد مجتمع حديث يقبل هذا.

·         علي ماذا تراهن بأفلامك العميقة وسط هذه الفوضي؟

- لا أراهن علي شيء بل أصنع شغلي بشكل جيد ليستمتع به الناس وأحاول أن يكون لي رأي سياسي لو احتاج الأمر.

·     لا تسير حسب قواعد وتقول إنك تفعل ما تشعر به فقط.. هل المبدع يحتاج إلي البعد عن النمطية والخروج عن المألوف ليحقق فنا؟

- جانب كبير من الإبداع هو الحرية الشديدة في العمل وعدم وجود قواعد لتكتمل جاذبية العمل الفني والوصول إلي المستوي الجمالي والوجداني.

علي بدر خان

·     المشهد داخل فيلم «اسكندرية كمان وكمان» ورفض السينمائيين التجديد لسعدالدين وهبة لفترة ثالثة.. نقطع المشهد وندخل إلي المشهد الحالي علي الساحة والبحث عن هوية سينمائية في الانتخابات الأخيرة.. كيف تري المشهدين؟

- ما حدث وقت سعدالدين وهبة وفكرة البقاء الأزلي علي الكراسي التي نعاني منها حتي الآن ومطروحة علي كل المستويات من رئيس الجمهورية وحتي الوزير.. أما المشهد الحالي، كنت من مؤيدي علي بدرخان ومازلت من مؤيديه فهو الأصلح للنقابة ولكننا للأسف في مرحلة النجاح في الوصول للكرسي عن طريق الخدمات حتي نواب مجلس الشعب «نواب خدمات» ولهذا فالاختيار ليس حسب المصلحة العامة بل الخاصة وتقديم الخدمات وهو في رأيي بقايا «النظام الإقطاعي» من يقدم «بطاطين، رشاوي، وخدمات» الناس معاه وهذا تحليلي للموقف.

·         نعود إلي رسائلك للبحر.. هل هي موجهة لكل شاب موهوب ومحبط؟

- هي لكل إنسان وليس فقط الشباب لمن يستطيع أن يشعر ويتذوق ويحب ويقبل الآخرين.

·         المشهد الأخير في الفيلم حمل الكثير من المعاني فالبطلان داخل قارب في البحر وحولهم السمك النافق من الديناميت.. لماذا؟

- السمك الميت عبر عن العنف الذي ملأ حياتنا ونستخدمه ضد المجتمع وضد الآخرين وضد الطبيعة فجميعنا في قارب واحد وسط نتائج هذا العنف.

·         صرحت بأن حركة النقد في مصر متخلفة.. ما دور الناقد في حياة المبدع في رأيك؟

- أتصور النقد مثل «التشريح» فهو يفسر العمل ويبين جمالياته ووظائف أجزائه ويقارن بينه وبين الأعمال الأخري المصرية وغير المصرية لخدمة المبدع في النهاية ولكن ما هو موجود في مصر ليس نقدا بل «عرض صحفي» وقد كان لي رأي حاد من قبل في هذا ولكني بعد سنوات اكتشفت أنه لا يوجد نقد جيد لعدم وجود أعمال فنية جيدة فالنقد الفني علي نفس مستوي الأعمال المقدمة.

الأهالي المصرية في

10/03/2010

 

.. وأنسي أبوسيف:

ديگور الفيلم استغرق شهرين فـــي بنائــــه  

الديكور.. أحد أبطال فيلم «رسائل البحر» وجزء مهم من مكونات الفيلم ونجاحه.. اسكندرية التي يراها عبدالسيد العاصمة الثانية ونموذج الانفتاح الراقي ديكوراتها لم تكن سهلة، شكل الشقق ذات الطراز المعماري الخاص احتاجت إلي مجهود خاص ويد فنان صاحب رؤية فكان أنسي أبوسيف الذي عمل مع داود عبدالسيد أيضا في «الكيت كات» وقدم رائعة فنية لحي شعبي مهم.

مهندس الديكور أنسي أبوسيف يتحدث قائلا: عملت مع داود عبدالسيد جميع أفلامه ماعدا فيلم «البحث عن سيد مرزوق» ويري أن الديكور جزء من العمل لا يمكن تجاهله فمهندس الديكور يقرأ السيناريو جيدا ليستطيع أن يضع ديكورا مناسبا، والديكور هو مجموعة مشاهد تحدث في «أماكن» لهذا دائما يطلق مهندس الديكور عليه «أماكن» والذي يجب أن يخرج بشكل هادف علي الشاشة ليصدق المشاهد أنها مناظر طبيعية ويشعر بانسجامه مع الحدث، أما عن «رسائل البحر» فهو فيلم رومانسي يحتاج إلي ديكور دافيء يقدم من خلاله العلاقات بين الأبطال وقد تم بناء «الشقتين» في الفيلم كديكور والتي يدور خلالها أحداث الفيلم وهذا للتحكم في الجو العام وهو ما يلائم فكر داود عبدالسيد ويخدم أسلوبه في الإخراج، حيث يحاول التحكم في إضاءة المكان المهمة جدا للمشاهد المصورة عكس التصوير في شقق حقيقية.

ويعبر أبوسيف عن عمله بأنه بحث جديد في كل فيلم فأي عمل جاد لا يراه سهلا ويحتاج لمساحة من الابتكار لمحاولة تقريب الواقع والطبيعة وفن الديكور يحتاج إلي «خبرة، مزاج، أسلوب، وعمل».

ويتذكر أبوسيف أن ديكور غرفة النوم الخاصة بالبطلة «نورا» أو بسمة احتاج إلي مكان حي لتصويره فرغم عدم سعادتها لابد أن يكون الديكور لامعا وهذا هو دور فن الديكور كما يعبر الممثل بجسمه وتعبيراته والمخرج بالكاميرا يعبر فن الديكور أيضا عن حالة الشخصية، وعن الاهتمام بفن الديكور في المرحلة الأخيرة يري أبوسيف أن بعض الأعمال الفنية بدأ يظهر فيها هذا الاهتمام سواء المبنية أو المصورة ولكن في نفس الوقت هناك استديوهات فقيرة جدا في ديكوراتها خاصة الموجودة في مدينة الإنتاج الإعلامي وعن حبه للعمل مع عبدالسيد يقول إننا جيل واحد وثقافة واحدة وقريبين فكريا بجانب تميز داود بالغزارة الفنية، وقد استغرق بناء ديكورات رسائل البحر حوالي 8 أسابيع وقد اهتم داود عبدالسيد بها ولم يستسهل مثل أي مخرج آخر يصور في أي شقة، يفضل أنسي أبوسيف أعمال شادي عبدالسلام وصلاح مرعي ومن الجيل الجديد فوزي العوامري.

الأهالي المصرية في

10/03/2010

 

داود عبد السيد:

«رسائل البحر» بشر يبحثون عن الحب والتسامح

القاهرة – محمد الصاوي

عادة يطلق المخرج داود عبد السيد لشخصياته العنان حتى تسير لحتفها. ولكن هنا في فيلمه الجديد «رسائل البحر» يرسم هذا المبدع شخصيات تخوض غمار تجارب مضنية من أجل اكتشاف ذاتها. وانطلاقاً من رسم حدود علاقتها بالآخرين، هي شخصيات أقرب إلى أبطال الأساطير الإغريقية، تتحدى أقدارها وتقف شامخة حتى ولو كانت على وشك الانهيار. أما العالم السينمائي من حولها فمسحور بأجواء ليل الإسكندرية والمطر، وبشر يلاطمهم موج البحر والحياة. هنا يعود داود عبد السيد إلى المدينة التي دارت فيها أحداث أول أفلامه «الصعالي». ويوضح مخرج ومؤلف «رسائل البحر» لـ «الحياة» أن فيلمه عبارة عن حكاية بشر في زمان ومكان ما في هذا العالم، يسعون إلى عيش حياتهم كما يروق لهم، يتسامحون مع بعضهم البعض ويلتمسون الأعذار للآخرين، حكاية في شكل سينمائي، ويقول: «حاولت أن يخرج الفيلم مشوَّقاً وراقياً. لا يعنيني وجود أفلام عدة تعرض حالياً تتعرض للشذوذ الجنسي ومعبأة بالمشاهد الساخنة. فلكل مخرج رؤية وهدف. وأنا بدأت أكتب سيناريو«رسائل البحر» من أكثر منذ ثلاث سنوات. لست في سباق أو منافسة مع أحد، فالحلول الدرامية الجمالية التي استخدمتها للإيحاء بالجنس سواء بين البطل والبطلة أو بين الصديقتين، لا تثير الغرائز أو الاشمئزاز، على رغم أنها محور العلاقة بينهم».

مرت ترشيحات داود عبد السيد لأبطال الفيلم بمراحل عدة. أثناء الكتابة كانت البطولة تنادي الراحل أحمد زكي حتى وصلت إلى آسر ياسين، و«أثناء التحضير النهائي لدخول التصوير كانت الصعوبة الحقيقية التي تواجهني تتمثل في دوري الصديقتين، سيدة الأعمال وكارلا ذات الأصول الإيطالية، اخترت «بسمة» لتعلب هذه الشخصية، ولكنها ترددت كثيراً حتى كادت تنسحب من الفيلم فاقتنعت بعد ذلك بتجسيد شخصية «نورا» وكذلك كانت حال دور «فرانشيسكا» الست الايطالية العجوز أم كارلا، لم يكن في ذهني ممثلة بعينها. وبحكم صداقتي لمخرجة الأفلام التسجيلية نبيهة لطفي عرضت عليها الدور وتفضلت ووافقت واستطاعت أن تؤديه بمنتهى السلاسة والصدق».

أبطال... أصدقاء

وعن تعامله مع أبطال أفلامه، يقول: «أتعامل مع أبطال أفلامي كأصدقاء، في جو من الحب والتفاهم. أقرأ السيناريو معهم، نتكلم، أستمع الى أسئلتهم، وأوضح لهم أبعاد الشخصيات وأدخلهم في أجواء الفيلم. وبالطبع أثناء التصوير يتوقف التعامل مع كل ممثل على المشهد الذي سيؤديه من أجل تهيئته للانفعالات المطلوبة لأحصل على الأداء الذي يرضيني ويخدم رؤيتي للفيلم. خصوصاً انهم ممثلون ولديهم حساسية ورهافة تجاه الكاميرا. وأذكر هنا أن كثيراً من مشاهد الفيلم صورت في وقت هبوب «النوة» في الإسكندرية في جو ممطر وعاصف، لأنني كنت أنتظر هذا الجو!. صحيح أن الممثلين وطقم المصورين أرهقوا إلى حد كبير لأننا صورنا نحو 18 ساعة في اليوم واستمر ذلك خمسة أسابيع، لكني أجد ذلك أمراً منطقياً يجب أن يعتاده الممثل المحترف في بلادنا مع الحفاظ على تركيزه».

وعن طريقة كلام آسر ياسين (يحيى) في الفيلم بشكل متلعثم يقول: «وجدت فيه دلالة على عدم قدرته على التواصل مع الناس من حوله حتى أصبح وحيداً، ومن هنا تفشل محاولة عودته الى حب الطفولة (كارلا) ويفشل في عمله كطبيب فيعيش من صيد السمك. وقد اجتهد آسر في اتقان هذه «الثأثأة» وحاول دراسة هذه الطريقة في الكلام ولكني منعته من ذلك».

ويضيف عبد السيد: «أعمل مع راجح داود كمؤلف للموسيقى التصويرية وأنسي أبو سيف كمهندس ديكور في شكل دائم لأننا نصل إلى أعلى مراحل التكامل مع بعض، وشيء طبيعي أن يكون هناك تواصل في الأفكار بين فنانين بعينهم».

ويشير عبد السيد إلى أن المشاهد الفاصلة في الفيلم كثيرة لكن أهمها – بحسب رأيه مشهد عنف البوليس في تعامله مع يحيى ليلة رأس السنة إذ كان تعاملاً ليس فيه أي احترام، وبالطبع هذا موجود بل يغلب في علاقة البوليس بالمواطنين، فالعنف أصبح شيئاً عادياً في عصرنا».

ويذكر عبد السيد أيضاً أن «هناك مشهد طرد يحيى ونورا، من المنزل من قبل المالك الجديد، فهو مشهد أشار إلى سطوة الرأسمالية وسعيها إلى تحقيق أهدافها ولو على حساب حياة وكرامة الإنسان». وبسؤاله عما يعنيه الجمهور بالنسبة اليه خصوصاً ان الجمهور هو ممثل أحد أضلاع نجاح أي فيلم، يجيب: «الجمهور دائماً في خاطري، وأعمل من أجل أن أقدم له سينما ممتعة في إطار حكاية بأسلوب راق وبسيط قدر المستطاع، الفيلم مدته مئتان وعشر دقائق لذا، حين يشعر المتفرج بالملل يستطيع الانصراف».

وعن تأليفي بعض أفلامه: «لست مصراً على تأليف وإخراج أفلامي والانحياز لسينما المؤلف، فقد قدمت «الكيت كات» عن رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان و«سارق الفرح» عن قصة لخيري شلبي، و«أرض الأحلام» عن سيناريو لهاني فوزي».

ويشدد عبد السيد على أنه لا يطالب الدولة بإنتاج أفلام وإنما بتوفير الدعم لصناعة السينما بشكل عام، فذلك سيحدث تأثيراً في الخريطة كلها، وفي أوروبا يحدث ذلك وفي المغرب تجربة مفيدة» في هذا الصدد.

الحياة اللندنية في

12/03/2010

 

داود عبد السيد سينمائي المجازفة والمجاز

«رسائل البحر» تنعش الشاشة المصريّة

القاهرة ــــ محمد خير

بعد غياب تسع سنوات، يعود المخرج المصري بفيلم مفاجئ وغنيّ بمستويات القراءة. صاحب «الكيت كات» ما زال رومنطيقيّاً يسكنه الحنين. بعيداً عن الحبكة بمعناها التقليدي، يترك لأبطاله أن يستأنفوا رحلة البحث أو الهروب، وللكاميرا أن تشرد في بحر الإسكندريّة وبناياتها القديمة

«لازم نتعب عشان نسمع مزيكا» يقول يحيى (آسر ياسين) ثم يطفئ جهاز الكاسيت. هو لا يحب الأنغام المضبوطة سلفاً التي تمنحنا إياها الأسطوانات، بل يفضّل المجازفة بتحمّل نشاز عازف، أو خطأ مايسترو، في سبيل موسيقى حية. ليس غريباً بالتالي أن يترك كل شيء، حتى رفيقته، كي يلتزم بموعد ليلي أسفل شباك يبثّ موسيقى غامضة، يَكمن سحرها في أنها ليست موجهة إليه تحديداً... كأنّها متعة التلصّص على رسالة بعثها مجهول إلى آخر. موسيقى تشبه «رسائل البحر» التي يحملها الموج فتصل أو لا تصل.

بعد غياب تسع سنوات منذ «مواطن ومخبر وحرامي»، عاد داود عبد السيد بفيلمه الروائي الثامن «رسائل البحر». وربما لولا منحة وزارة الثقافة المصرية، لطال انتظاره أكثر. صاحب «الكيت كات» ما زال رومنطيقياً، يخاطب الحنين ويقدم الأماكن والشخصيات كمجازات لا كحقائق. في «الواقع»، لا يترك المرء حبيبته ليبحث عن «المزيكا»، ولا يعثر في لحظة يأس على رسالة بحرية في زجاجة. لكن واقع داود، كما عوّدنا، رسالة فنية وشعورية خالصة. لا مجال إذاً للمقارنة بين الإسكندرية كما رأيناها في الفيلم، والإسكندرية «الحقيقية». الشخصيات هنا لا تنطق اللغة التي تناسب دورها في الواقع، بل ما يناسب دورها في السيناريو. من هذه الزاوية، يمكن استقبال الفلسفة المنسوجة على لسان الشخصيات، ويمكن فهم حركتهم وقراراتهم، شرط عدم فصلها عن جمالية الفيلم.

أمسك آسر ياسين بالشخصيّة الرئيسية التي كان قد رُشّح لها الراحل أحمد زكي

هل يمكن طبيباً ممارسة مهنته، وهو مثار سخرية المرضى والممرضات؟ إجابة يحيى كانت بالنفي، لم يتحمّل ضحكات المرضى والممرضات إزاء معاناته في النطق (التأتأة). هكذا، تحوّل إلى طبيب عاطل، بعدما عجز عن تحدي إعاقته الجسدية كما تحداها الشيخ حسني الأعمى (محمود عبد العزيز) في «الكيت كات»، أو كما تقبّلتها نرجس اللثغاء (فاتن حمامة) في «أرض الأحلام».

في «رسائل البحر»، تزداد عزلة يحيى برحيل الأهل، فيقرر خوض الرحلة التي يخوضها عادة أبطال داود: رحلة البحث أو الهروب أو مجرد الرحيل. هنا، يغادر يحيى القاهرة إلى شقة للعائلة في الإسكندرية. يمارس الصيد فيبدأ بتلقّي رسائل حياته الجديدة. وفي ذروة أزمته، تصله رسالة: ورقة ملفوفة داخل زجاجة قذفها إليه الموج، الرسالة مكتوبة بحروف لاتينية. يبدأ بالبحث عمن يترجمها له، فهل يجده؟

لكنّ الرسالة الأهم هي نورا (بسمة)، المرأة الغامضة التي تقدِّم نفسها بوصفها مومساً، ثم يتضح أنها مومس وفقاً لوجهة نظرها الخاصة. أما حبّه القديم كارلا (سامية أسعد) فتتركه إلى خيار عاطفي وجنسي مغاير. خيار لا تعرف عنه شيئاً أمها فرانشيسكا (نبيهة لطفي)، الإيطالية التي عاشت في الإسكندرية. تحتضن يحيى وتسدي إليه نصائحها مع حنانها. لكن لا النصائح ولا الحنان أفلحا في أن تقضي فرانشيسكا أيامها الباقية في بيتها. العصر المتغيّر يدهمها في صورة مالك البيت الجديد الحاج هاشم (صلاح عبد الله) الذي يصطاد السمك أيضاً، لكن بالديناميت!

لسنا هنا أمام حبكة وصراع وذروة بالمعنى التقليدي. كل شخصية حكاية يمكن التحرك فيها طولياً وعرضياً. يمكن تأمل صراع البشر الهادئ ضد شروط حياتهم. وعندما يدخل يحيى البار ليسكر لأول مرة في حياته، تنحلّ عقدة لسانه ويتحدث بطلاقة لأول مرة، لكنه ينهار من السكر فيستيقظ في بيت قابيل (محمد لطفي)، الـ«بادي غارد» المخيف شكلاً والطيب القلب الذي أقسم ألّا يضرب أحداً في حياته. الصداقة التي تنشأ بينهما تصطدم لاحقاً بالخطر الذي يهدد حياة قابيل: ورم في المخ يمكن إزالته بجراحة، لكنها جراحة تهدّده بفقدان الذاكرة. يكلّف قابيل زميلته في الكباريه بيسة (مي كساب) بأن تحفظ عنه كل ذكرياته. وفي أحد أعذب مشاهد الفيلم، يلقّنها أسماء إخوته ورفاق الحي، إذ يخشى ألّا يتذكرهم بعد الجراحة فيظنوا أنه يتعالى عليهم!

طبعاً، لا يدين داود شخصياته، ولا يطلق ضدها الأحكام... ربما باستثناء الحاج هاشم الذي ظهر في مشهدين يجسدان اقتحام الواقع لأرض الخيال. «مسحة» الواقعية هنا تبدو في شكلها الأرقى، حيث الحياة صراع بديهي بين حلم ويأس، ماض وأمل. ورغم بعض مشاهد الزحام ومخفر البوليس والكباريه، إلّا أن أياً من ذلك لا يخدش هدوء المدينة التي يبتكرها الفيلم. بدت فرانشيسكا وابنتها كارلا كحيلة درامية أكثر مما بدتا «رمزاً للإسكندرية الكوزموبوليتية». تنسى الكاميرا نفسها أحياناً فتشرد في تأمل البحر والبنايات القديمة بنقوشها المنمنمة. التفاصيل الصغيرة تقول كل شيء: خلال الإفراج عن يحيى من المخفر، نرى يده مقيّدة في باب الحجر بصورة لا آدمية. ونرى كيف يخدش البواب الجديد بهيئته العدوانية نسق البناية العتيقة.

كعادته، يستخرج داود من الممثلين أقصى طاقاتهم. لذا لم نأسف لذهاب دور يحيى إلى آسر ياسين، بعدما كان مرشحه الراحل أحمد زكي. أمسك آسر بالشخصية من الداخل والخارج، وقدمت بسمة أداءً أبان عن تعدد مستويات الممثلة داخلها. وأدى محمد لطفي دور عمره. موسيقى راجح داود كانت جيدة وإن لم تتألق. أما كاميرا أحمد المرسي فاتسقت مع روح الفيلم وإيقاعه، حتى بدا كأن المخرج والمصوّر شخص واحد.

الأخبار اللبنانية في

15/03/2010

 

«رسائل البحر» لداود عبد السيد..

حلول درامية تنأى عن المنافسة 

وكالات: يرى المخرج داود عبد السيد أن فيلمه (رسائل البحر) والذي عرض مؤخرا في الصالات، هو عن شخصيات تنطلق من فهم مشترك يجمعها أساسه العيش بطريقه خاصة تروق لها، شخصيات تجد ايضا اعذارا للآخرين الذين يختلفون معها، ويقول عبد السيد في تصريح ادلى به مؤخرا: «حاولت أن يخرج الفيلم مشوَّقاً وراقياً. لا يعنيني وجود أفلام عدة تعرض حالياً تتعرض للشذوذ الجنسي ومعبأة بالمشاهد الساخنة.

فلكل مخرج رؤية وهدف. وأنا بدأت أكتب سيناريو«رسائل البحر» من أكثر منذ ثلاث سنوات. لست في سباق أو منافسة مع أحد، فالحلول الدرامية الجمالية التي استخدمتها للإيحاء بالجنس سواء بين البطل والبطلة أو بين الصديقتين، لا تثير الغرائز أو الاشمئزاز، على رغم أنها محــــور العلاقة بينهم».

وحول تعامله مع أبطال أفلامه، يقول: «أتعامل مع أبطال أفلامي كأصدقاء، في جو من الحب والتفاهم. أقرأ السيناريو معهم، نتكلم، أستمع الى أسئلتهم، وأوضح لهم أبعاد الشخصيات وأدخلهم في أجواء الفيلم. وبالطبع أثناء التصوير يتوقف التعامل مع كل ممثل على المشهد الذي سيؤديه من أجل تهيئته للانفعالات المطلوبة لأحصل على الأداء الذي يرضيني ويخدم رؤيتي للفيلم. خصوصاً انهم ممثلون ولديهم حساسية ورهافة تجاه الكاميرا. وأذكر هنا أن كثيراً من مشاهد الفيلم صورت في وقت هبوب «النوة» في الإسكندرية في جو ممطر وعاصف، لأنني كنت أنتظر هذا الجو!. صحيح أن الممثلين وطقم المصورين أرهقوا إلى حد كبير لأننا صورنا نحو 18 ساعة في اليوم واستمر ذلك خمسة أسابيع، لكني أجد ذلك أمراً منطقياً يجب أن يعتاده الممثل المحترف في بلادنا مع الحفاظ على تركيزه».

الإتحاد العراقية في

14/03/2010

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)