كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

Mere Gharib Nawaz

هل يمكن أن تصبح السينما إسلاميةٌ، نظيفةٌ، ومُحجبّة؟

صلاح سرميني ـ باريس

ملف خاص عن

السينما الهندية

   
 
 
 
 

بدأت السينما اكتشافاً غربياً ظهر في بلادٍ يعتنق معظم سكانها الديانة المسيحية، وتطورت تقنياً، وفنياً على أيدي المسيحيين، واليهود، واقتحمت ديارنا بدون أن نبذل أيّ جهدٍ في البحث عنها.في البداية، انشغلت بتسلية الرعايا الأجانب الذين كانوا يعيشون، أو يعملون في بلادنا، وتأخرت كثيراً عن بعض البلدان العربية عرضاً، وإنتاجاً بسبب مواجهة السلطات الدينية لها منعاً، وتحريماً .منذ بدايتها، اهتمت السينما بالقضايا الدينية، وجسّدت تاريخ الأديان، وتحدثت عن الأنبياء، وأرخت لشخصياتٍ فاعلة، وأظهرت المُجتمعات، والجماعات، والأفراد في علاقاتها العلنية، أو الضمنية مع الإيمان...

ومع ذلك اصطدمت التفسيرات الدينية الإسلامية مع الصور المُتحركة، ولكنّ السينما فرضت نفسها كفنٍ إنسانيّ شامل، ومؤثر.

تدريجياً، تراجع التحريم المُطلق، وأصبحت السينما تخضع لأهواءٍ، ورغباتٍ، وتعاليمٍ تتأرجح بين الأبيض، والأسود، الخير، والشرّ، الحلال، والحرام.

ومن هذا الانفصام، ظهرت مصطلحات متذبذبة اختلفت معانيها من متفرجٍ لآخر، وخضعت لميراثٍ دينيّ مُشوّه، وإيمانٍ شكليّ وصل في أحيانٍ كثيرة إلى ازدواجيةٍ في المواقف، والحكم على أيّ فيلمٍ انطلاقاً من توافقه، أو تعارضه مع عقلية كلّ متفرجٍ على حدة.

ومن ثمّ بدأت السينما تواجه صراعاتٍ متفرقة مع شريحةٍ كبيرة من جمهورٍ مُتدين، متشدد، متصلب، وغافلٍ عن كلّ شئ إلاّ السينما الأكثر التزاماً، وحياءً من فطريات التلفزيون (الفيديو كليب خاصةُ) .

وحاول البعض اختطافها بهدف تنظيفها من سيئاتها، وشرورها، والالتفاف عليها اعتقاداً بأنها الوسيلة الأمثل لنشر التعاليم الدينية.

ولكن، كيف يستطيع أحدٌ استخدام وسيلةٍ ينبذها، ويُشكّك في طبيعتها، وأهدافها، ويعتبرها رجسٌ من عمل الشيطان. 

وانطلاقاً من المواقف الصارمة ضدّ الصورة، لا يمكن أن تكون السينما إسلامية، ولن تكون، لأنّ التعاليم السماوية لا تُناقض نفسها(السينما المُحرّمة ماضياً، لن تصبح حلالاً حاضراً، أو مستقبلاً) .

ولهذا، لم ترتبط السينما بدينٍ معين، ولن ترتبط إلاّ إذا اعتكف السينمائيّون في أماكن العبادة، واعتلوا المنابر، وشمّر الشيوخ، والأئمّة عن سواعدهم، ووقفوا خلف الكاميرات، وصاحوا (الله أكبر) بدلاً من (أكشن) .

ويبدو بأنّ (بعض) المخرجين الهنود قد سبقوا نظرائهم المصريين إلى تحقيق ما أسماه (حُراس الأخلاق الحميدة) بسينما إسلامية، نظيفة، ومُحجبّة .

وأحد تلك الأفلام (Mere Gharib Nawaz) ـ من إنتاج عام 1973، وإخراج (G.ISHWAR) .

فيلمٌ يتناقض مع رسالته الإنسانية النبيلة، والتعاليم الإسلامية التي يريد نشرها من خلال وسيلةٍ إبداعية يمقتها، ويدعو ضمنياً إلى إحراقها.

السلطات الإسلامية الإيرانية تُجبر السينمائيين على كتابة البسملة على لوحةٍ تسبق عناوين أفلامهم، ومن عادة بعض المخرجين الهنود(معتنقي الهندوسية، الجينية، والبوذية خاصةً) افتتاح أفلامهم بإحدى الرموز المُتعلقة بمعتقداتهم (أُوم، الصليب المعقوف، صنم ناندي).

أما(G.ISHWAR) فقد تخيّر افتتاح فيلمه(Mere Gharib Nawaz) بلوحةٍ كُتب عليها (الله أكبر)، قبل أن يبدأ الآذان.

يُبدع بعض المخرجين في إظهار الآذان على الشاشة (أتذكر هنا الفيلم المُتوسط الطول "ليلي" تحفة المخرج المصري مروان حامد).

ولكن في (Mere Gharib Nawaz) يتردد مصحوباً بلقطاتٍ مُكررة تستعرض مدينة(Jaipur) والطبيعة المُحيطة حولها، حركاتٌ بانورامية ثقيلةٌ، يميناً، وشمالاً، وانتقالاتٌ مونتاجية فظّة(عندما يحدث القطع قبل نهاية الحركة)، وحركات زوم إلى الأمام، والخلف، كثيرةٌ، ومُتعبة.

تستغرق تلك المُقدمة التمهيدية 8 دقائق تقريباً، وكأننا نشاهد وثيقةً تلفزيونية سياحيةً عن المدينة، ومعالمها.

يلجأ السيناريو إلى حكايةٍ مُتخيلة(مُلفقة بالأحرى)، ويستخدمها واجهةً لإظهار إحدى معجزات أحد أشهر الأولياء الصوفييّن في جنوب آسيا، معين الدين جشطتي(1141-1230) المُلقب بالخواجة غريب نواز (كان من الأفضل بأن يكون الفيلم سيرةً تاريخيةً عنه).

(ميرزا بيك)، وزوجته لم يُنجبا أطفالاً منذ زواجهما قبل خمسة عشر عاماً، وقد ذهبا إلى الكثير من الأماكن الإسلامية المُقدسة بدون نتائج مُثمرة، فيقررا السفر إلى Ajmer  لزيارة  ضريح الخواجة غريب نواز، ويستجيب الله لدعائهما، وتلدّ الزوجة طفلاً تُسميه(يوسف).

الرسالة المُستخلصة واضحةٌ تماماً، ولا تقبل تأويلاتٍ جانبية، لقد تحققت أمنية الزوجيّن بزيارة ضريح الخواجة غريب نواز بالتحديد، وليس غيره، وبالدعاء فقط، بدون اللجوء إلى الطبيب، والبحث عن أيّ سببٍ يمنع الحمل سابقاً(الفيلم يضع العلم جانباً، ويتخيّر توجهاً دينياً خالصاً).

بعد ثلاث سنواتٍ، يسافر الزوجان مرةً أخرى إلى Ajmer بصحبة طفلهما لتقديم غطاء جديد، وصينيةً من الزهور لضريح الخواجة غريب نواز، ..

يتضمّن ذلك المشهد الكثير من التصنع، وقد تخلى شريط الصوت عن الأغاني (ولا داعي للتذكير بموقف الإسلام منها)، واستعاض عنها بأناشيد دينية صوفية(لا أنكر بأنني أستمتع بها خارج الإطار الذي حُشرت فيه).

الله، ومحمّد، هي الكلمات الأولى التي يتعلمها الطفل (يوسف)، وبعدها القرآن الكريم، ولا  اعتراض على ذلك أبداً(إنها خيارات الوالدين)، ولكن المُستفزّ في الأمر، ربط هذا التلقين الآليّ  بالافتخار المُتواصل للوالدين بذكاء ابنهما(بديهيّ بأنّ الأطفال في ذلك العمر يرددون كلماتٍ يسمعونها، ويحفظونها بدون الحاجة لذكاءٍ خارق) .

تمرّ السنوات، لقد أصبح (يوسف) طالباً في الجامعة، يتفادى مغازلة (فيروز) له، وتثير انتباهه (سلمى) المُحجبّة، والمُلتحفة بالسواد(الفيلم من إنتاج عام 1973).

إيقاعٌ بطئٌ إلى حدّ الملل، الكاميرا مُجهدةٌ، ومُنهكة، تتحرك بثقلٍ، وتتعثر أحياناً، لا تعرف غير الحركة البانورامية يميناً، ويساراً، أو الانقضاض، والتراجع عن طريق عدسة الزوم، والمونتاج كسولٌ للغاية (فقرٌ في المادة الفيلمية نفسها لأسبابٍ إنتاجية، أو ارتجالية ربما).

في الجامعة، عندما ألقى (يوسف) أشعاره غناءً، كانت الكاميرا تُركز على (سلمى) بدون غيرها من الحاضرين، تتكرر نفس اللقطات في المشهد الواحد، وتتمايل الكاميرا وكأنها متأثرةً بأناشيده.

ينجح (يوسف) في الامتحانات، يريد الوالدان الابتهاج به، وبذريته القادمة.

كلّ شئ معقولٌ في السينما الهندية، ولكن، ما هي المُبررات في فيلم (دينيّ) بأن يتزوج شابٌ ذكيّ، ومستقيم، وخريج جامعيّ من فتاةٍ اختارها والداه، ولم يكشف لهما عن رغبته بالزواج من (سلمى) ؟.

رسالةٌ أخلاقيةٌ واضحة المعاني، الشاب المُسلم المُتدين مطيعٌ لوالديه، ويُلبي طلباتهما بدون مناقشة، حتى لو تطلب الأمر الزواج من فتاةٍ لم يلتقٍ بها سابقاً،...

هل هذا الموقف احترامٌ، وطاعةٌ، أم خنوعٌ، وسلبيةٌ، وتهوّر ؟.

الإعجاب المُتبادل ـ من خلال النظرات فقط ـ بين (يوسف) و(سلمى) لم يتحول إلى علاقة حبٍّ، ولقاءاتٍ جانبية .

ولكن، في فيلم (دينيّ)، المُفترض بأن يبتعد عن مصادفات بوليوود، ويتحلى بالمصداقية، والصدق، يُتحفنا بمُفاجأةٍ كبرى، مُثيرةٌ للسخرية، وعسيرة الهضم .

في ليلة الزفاف، يكتشف (يوسف) بأنّ زوجته ليست إلاّ (سلمى) التي خفق قلبه لها عندما التقى بها في الكلية.

الله أكبر....

من تدّخل في تلك الصدفة العجيبة، الله، النبيّ محمّد، الخواجة غريب نواز، القدر، النية الطيبة ؟

ولأنّ (سلمى) مُحجبّة، فقد كانت زوجة هادئة، مُطيعة، صالحة، وخدومة، ...

في مكانٍ آخر، يتزوج (نوار) من (فيروز) التي كانت ترغب الاقتران بيوسف (مع أنهما شخصيتان متناقضتان، ولا يوجد أيّ مبررٍ لتعلقها به).

(فيروز) فتاةٌ متمردةٌ، عنيدةٌ، ومتحررةٌ من قيود العادات، والتقاليد،.. وأكثر من ذلك، تريد أن تصبح ممثلة بموافقة والدها الذي يقترح إنتاج فيلمها القادم.

كيف وافقت على الزواج من (نوار) وهي لا تحبه ؟

وبعيداً عن رغبة السيناريو، كانت أقلّ كلمةٍ يمكن أن تقذفها في وجهه هي : نيهي(لا)، بدل الزواج منه، والانفصال عنه (كي يُظهر الفيلم فشلها في الحبّ، والزواج، والعمل).

في الفيلم، تتجسّد الرغبات من خلال الأناشيد الدينية، يحلم الأب بالأراضي المُقدسة، قدمها المخرج في لقطاتٍ أرشيفية تمتزج مع لقطة يتيمة للأبّ (ميرزا بيك) يتطلع حوله، ويتصنع الدهشة، الابتهاج، الإيمان، والورع.

ولم يجد السيناريو أفضل من تلك الحيلة النبيلة، والمُبررة درامياً لاصطحاب (يوسف) لوالديه إلى مدينة (بومباي) في طريقهما إلى الحج، وبعدها تصدمه (فيروز) بسيارتها.

يفكُ الطبيب رباط رأسه، هو في أحسن حالاته، تسريحة شعره، ذقنه المحلوقة، سحنته،..

يفتعل هول الصدمة تمثيلاً مُبالغاً، ويحاول استرجاع ما حدث، لقد فقد ذاكرته، ويبدو بأنه جاء إلى (بومباي) بدون أوراقٍ تُثبت شخصيته، والشرطة الهندية في حالاتٍ كهذه لا تتدخل، ولهذا، تنتهز (فيروز) الفرصة، وتمنحه(إسلام) اسماً بدلاً من (يوسف)، ويجب عصر أدمغتنا جيداً لفهم أسباب ذاك الاختيار؟، وتأخذه إلى بيتها، وتجعله عشيقاً(لم تؤكد الأحداث اللاحقة هذا الافتراض كي تجعل يوسف مُنزهاً عن الخطيئة حتى مع فقدان ذاكرته)، وبطلاً للفيلم الذي تُمثله، وينتجه والدها الثريّ، ويُخرجه نصابٌ، ومعه أراد السيناريو بأن تقتنع (فيروز) بأول من يدقّ باب مكتبها مُدعياً بأنه مخرجٌ عتيق، وهنا يقدم الفيلم رسالةً علنيةً، وضمنية .

لقد تخيّر السيناريو خطواتٍ متهورة لتحقيق رغبة (فيروز) بأن تصبح ممثلة، ووضعها في طريقٍ خاطئة تُشوّه صورة العاملين في مهنة السينما، واحتقر رغبتها، وورطها في مشروعٍ فاشلٍ كي تدفع لاحقاً ثمن تحررها.

وعلى الرغم من الطابع (الدينيّ) للفيلم، لم يتباطئ المخرج لحظةً عن تقديم لقطاتٍ شهوانية كبيرة، ومتوسطة تُظهر سحر عينيّ (سلمى)، وحلاوة شفتيّها، وهي تئنّ من الوجع غناءً .

(سلمى) زوجةٌ مُتدينةٌ، وصالحة، تصلي، وتدعو ربها دائماً كي يُعيد الذاكرة لزوجها (يوسف)، وفي كلّ نشيدٍ/ دعاء يُكرر المونتاج نفس اللقطات لمسجد، وضريح الخواجة غريب نواز.

ولا تجد الكاميرا ما تفعله في غرفتها غير الدوران، والتمايل يميناً، وشمالاً منتشيةً.

في تلك الليلة العاصفة، يستجيب الله فوراً لدعاء (سلمى)، وتعود الذاكرة تدريجياً ل(يوسف)، ولا أفهم السبب الذي يدعو شخصيات الفيلم المُتدينة تتوجه بدعواتها للخواجة غريب نواز بدلاً من النبي محمّد ؟

في ذلك المشهد المشحون بالإيمان، تتضرّع (سلمى) إلى الله، وتتسابق حركات الزوم من/ وإلى وجهها، وتزعق مؤثرات البرق، والرعد مثل ضربات سوطٍ فوق أجساد المتفرجين، ويصرخ (يوسف) :

ـ سلمىىىىىىى...

الله أكبر... الله أكبر...

بالدعاء فقط استرجع (يوسف) ذاكرته، واللعنة على العلم،...

وفي مكان آخر يحترق الفيلم الذي تُنجزه (فيروز)، وبدل أن تمزق ملابسها، وتئنّ ملتاعةً، فإنها تبتهج بصحوة ضميرها.

لقد تخيّر المخرج احتراق الفيلم بدلاً من الكشف عن المُدعيّ النصاب، وهذه الفكرة (الجهنمية) ليست بعيدة عن طبيعة العقاب الذي ينتظر من ضلّ الطريق المُستقيم.

وهنا، يشتمّ المتفرج الفضوليّ، الخبيث رائحة كراهية للسينما، وصانعيها، وحتى الإيحاء بعذابٍ أليم .

وهذا يعني، بأنّ (G.ISHWAR) يستخدم وسيلةً إبداعيةً يكرهها، ويُدينها، ويعتبرها مصدراً للخطايا، ويكشف عن مواقفه المُتناقضة، والمُزدوجة تجاه السينما، ويشير ـ ضمنياً ـ إلى (فيلمٍ حرام) أرادت (فيروز) إنجازه، و(فيلم حلال) هو (Mere Gharib Nawaz) الذي نراه على الشاشة .

وهنا، لا أعرف إن كان (G.ISHWAR) رجل دينٍ ارتكب خطأ عظيماً، فوقف خلف الكاميرا، أم مُبدعاً سينمائياً عاد إلى رشده، فصعد منبر الجامع، وصاح في المُصلين : يا قوم ....

وتكفيراً عن خطاياها، تقرر (فيروز) الذهاب إلى ضريح الخواجة غريب نواز، هناك حيث تلتقي مع (يوسف) و(سلمى)، وتعتذر منهما، وتعود إلى زوجها (نوار) الذي وضع قبعةً إسلاميةً على رأسه(إشارة إلى عودة الإيمان إلى قلبه)، ويصل الوالدان فجأةً من الحج، ويرفع الجميع أكفهم خاشعين، ومن شريط الصوت، تنطلق الأناشيد الصوفية تشدو بمحبة الخواجة غريب نواز.

(Mere Gharib Nawaz) فيلمٌ متواضعٌ سينمائياً يتناقض مع التعاليم الدينية، والأخلاقية التي يقدمها، جعلني أطرح على نفسي سؤالاً :

هل السينما حلالٌ، أم حرام ؟

وإذا كانت حراماً، فهل ارتكبتُ ذنوباً عظيمة، وأنا المُغرم بها منذ طفولتي ؟

سينماتك في 10 أغسطس 2008

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)