كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

رحيل شاعر السينما : السويدي انجمار برجمان

شيء ما ..عن الباحث عن مشكاة وسط ظلام الذات وسطوة لأخر

د.طاهر علوان

عملاقان ميّزا فن السينما ورحلا..

بيرغمان وأنتونيوني

   
 
 
 
 

"لقد صمم كل شيء على أن يحصل كل فرد على فرصة لإذلال شخص آخر وأعتقد ان طقوس الإذلال الآن لا تقل عن الماضي أو بالأحرى أصبحت أكثر تقدماً"....... برجمان 

فقدت الأوساط الثقافية والسينمائية في العالم اجمع شاعر السينما وفيلسوفها الكبير السينمائي السويدي انجمار برجمان الذي اعلن عن وفاته في السويد في اليوم الأخير من شهر تموز يوليو الماضي .وبذك خسرت السينما والثقافة في العالم على حد سواء احد العمالقة الكبار في ميدان الأبداع المتعدد الأوجه .

فقد جمع هذا المبدع الكبير عبقريات متعددة سواء في ميدان السينما او المسرح او الشعر او النقد او كتابة السيناريو والنصوص الأدبية ، جمع كل هذه في بوتقة ابداعية واحدة من خلال انجاز مايزيد على 50 فيلما سينمائيا وضعف ذلك من الأعمال المسرحية وقد عبر عن نفسه من خلال نبوغه المبكر .

اذ كان برجمان قد ولد في مقاطعة اوبسالا السويدية سنة 1981 وتلقى تعليمه فيها حيث درس علوم السينما وتعمق مبكرا ايضا في دراية المسرح وانطلق في فضاءات الأبداع كاتبا ومخرجا وشاعرا وناقدا منذ منتصف الأربعينيات وتألق في اعقاب الحرب العالمية الثانية.

ومنذ ذلك الحين بدأ نجمه بالسطوع اذ كان معنيا بأعادة اكتشاف الذات الأنسانية قبل اي شيء آخر ، متجاوزا كليشيهات السينما السائدة ، غير متأثر كثيرا لابالسينما الأمريكية ونمطها الهوليوودي المعروف ولا سينما البلدان الشيوعية آنذاك من خلال ماعرف بمدرسة الواقيعة الأشتراكية .

وبموازاة ذلك فقد ظهر برجمان في وسط جيل من العمالقة الكبار في السينما في العديد من بلدان العالم اذ كانت الواقعية الجديدة في ايطاليا قد بلغت ذروة منجزها من خلال اعمال دي سيكا وفيسكونتي و انطونيوني ثم فليني وبازوليني والأخيران اتخذا منحى آخر غير سابقيهما من المخرجين الأيطاليين وفي المقابل كانت السينما الفرنسية والألمانية تقدم المزيد .

وسط هذا الضجيج والتنوع ظهر برجمان متلمسا طريقه وسط هذا المنجز العالمي الكبير ..وكان الأنسان والذات الأنسانية المأزومة هي رأس اهتماماته ، وكانت شخصية المرأة عنده محور اساس .

ولعل الملفت للنظر هو تكريسه موضوعاته دونما مواربة للتعبير عن سطوة الآخر على الذات: الأب ، الأم ، النظام الأسري ، الكنيسة ، الأيديولوجيا ولهذا كانت شخصياته تعيش صراعا صامتا مع تلك القوى الفاعلة ولعل ذاكرة اي مشاهد لأفلام برجمان لن تغيب عنها صورة النجمة العالمية ليف اولمان التي ظهرت في العديد من افلام برغمان مجسدة ذلك الشقاء الأنساني .

شاعر السينما

في وسط هذا ، سنتساءل :ترى من أية زاوية سنرى حياتنا التي نريد أن نرتقي بها الى مرتبة الشعر؟ تلك الصور المقدسة التي تحتوي اللحظة ؛ كما يقول شيلي، ولأية غائية تتحرك الصور التي تحتشد بجذوة الشعر وتتخذ لنفسها تعبيرها الخاص، منذ افلام برجمان : (صراخ وهمسات) و(التوت البري) و(فاني والكسندر) و(بيرسونا) و(وجهاً لوجه) و(سوناتا الخريف) و(ايفا) و(أسرار امرأة) و(الختم السابع) و(ساعة الذئب) و(عاطفة آنا) و(اللمسة) و(الصيف في مونيكا) ، ألا نلاحظ بأننا (مشوشون) في إدراك تلك البداية الموهومة التي ألقاها علينا النمط الأمريكي ـ خاصة في أعمال (اوليفر ستون) و(بيكنباه) و(سبيلبرغ) وسواهم. فمع هؤلاء نبحث عن حلقة أخرى من العنف لدى ستون خاصـة بعد عمله (القتل بالغريزة) وكذلك لدى (بكنباه). وعن حلقة أخرى من كائنات الفضاء الغريبة أو الحيوانات المنقرضة، فابحثوا عن ذلك التتابع الوهجي المجهول مع سينما (برجمان)، انه ببساطة منذ انبثاق (مشاعر الذات ) الحائرة وسط سطوة الأب ـ الكنيسة في آنٍ معاً واختناقات الصبي برجمان ازاء سطوة جده أو جدته كما يروي في مذكراته وغلظة الآخر وسيكولوجيا الإذلال التي ظلت تتفجر في أفلامه.. يقول: "لقد صمم كل شيء على أن يحصل كل فرد على فرصة لإذلال شخص آخر وأعتقد ان طقوس الإذلال الآن لا تقل عن الماضي أو بالأحرى أصبحت أكثر تقدماً".

منذ لحظة الإحساس تلك استنبت برجمان الصور ووجد ان أحاسيسنا تضيق بها تلك القصص الملفقة المليئة بالرصاص والدم والحقد والكراهية التي أتخمتنا بها ماكنة الغرب السينمائية، أما أن تثقف الحواس وترتقي بالنوع الفني الى مصاف القوة والإشعاع، فذلك ما نشعر ازاءه بالهيبة والثقة بهذا الفن الرفيع. ولذا فان تلك السينما هي التي يعنى بها برجمان وما دام قد اقترب من تخوم الدهشة، فقد بزغ عالم فلسفي خالص، فلسفة الذات الإنسانية عقلاً وعاطفةً ووعياً متحرراً، وليست تلك ارهاصات الشاعر وهو يكتوي بلظى وعيه ويسقط على تحولات زمنه ما تعتصره ذاكرته وانثيالات حزنه. ان برجمان، شاعر السينما الفذ سيُساء فهمه مراراً إذا ما أقدم كتّاب الأعمدة والارشيف على استعراض سيرته على طريقة ولد وعاش ثم يبدأ تسلسل أفلامه زمانياً فقط ، فهذا الذي أتحف ذاكرة العصر بأكثر من 50 فيلماً أُتيح لنا مشاهدة أروعها وأهمها، صار يُطلق عليه لقب الملك، فهو الذي قاد التحول عندما توغلت روح لغة السينما في ثنايا المحكي والمعاش الى اللاوعي المقفل، ولم يعد من مكان لسؤال تقليدي قديم مفاده (هل وفى الفيلم للحكاية)؟. ان ذلك العالم المشبوب المغلق الذي تنطلق من (نواته) حكايات لا تحصى ما انفكت كاميرا مدير تصويره في جلّ أفلامه وصديقه (نيكفست) تلاحقها بلا هوادة.. وأعطت خلالها الممثلة (ليف اولمان) أعمق ما تعبّر عنه المرأة التي يقيم معها برجمان أشد وأوثق العلاقات الساخنة المتحولة، التي لا تعرف لها نمطية البداية والنهاية، وإن هي إلا حوارات كحوارات ذاتنا في اللحظة حتى اننا نزيح في أثناء العرض البرجماني المبهر شيئاً من أثقال (جيمس جويس) و(بروست) في كل ما يخص الذات الإنسانية، وتيارات وعيها وانثيالات الزمن بالنسبة لها، حتى نأتي لتيار وعي فيلمي وأزمنة فيلمية خاصة.

شعرية السرد

يكرس برجمان الشكل السينمائي للتعبير عن تجليات الذات ، فهو يغوص في وعيها والمكبوت في لا وعيها، ولذا فالشخصيات كأنها معزولة عن أزمنـتها ولا يتوانى عن كشف إنسانيتها المفرطة وهي بسبب ذلك تنطق بحوار شعري تتقطع ففيه الأواصر أحياناً لتحل محلها الرموز والإيحاءات، فهو غير معني بالتتابع الحكائي بقدر عنايته بتتابع الأزمة، (الأم الأنانية في سوناتا الخريف والفتاة المعاقة). وهو ينشد اضاءة تلك العزلة المحببة التي تحولت الى وعاء للشخصية لا تشعر ازاءه بغرابة، انها تمارس أدوارها كما يفترض فيها الآخرون ذلك الاخلاص لتلك الأدوار، والنسق الشعري مفتوح من جهتين: الأولى توظيف الحوار الشعري المحمل بأثقال البُعد النفسي وتداعياته، والجهة الثانية جماليات الصورة التي يصنعها بعناية فائقة (نيكفست) مدير التصوير المفضل لدى برجمان، كما ذكرنا، ولذا تلتحم الصورة بحوارات الأزمة التي تحيل الى نسق شعري فريد ومتدفق.

إن الصعوبة والأشكالية إنما تكمن ـ فيما يخص أعمال برجمان ـ هي أين تضع هذه الأعمال تحت أية خانة وأي نوع، فهي أعمال اجتماعية ونفسية وإنسانية في آنٍ واحد لكنها فوق ذلك متدفقة في بنائها الشعري والسرد فيها قائم على احالات متداخلة ماضوية، خبرات مطمورة (وجهاً لوجه) وأحزان وخبرات قاسية وكلها تتناغم ليتدفق الحوار المحمل بالشجن والمأساة. سينما بيرجمان تختصر لغة السينما وتذهب بعيداً باتجاه الاستعارات والرموز الشعرية، وكل الخبايا الشخصية تغدو أموراً عابرة لا تثير الغريزة ولا تؤجج الإثارة، بل انها جزء من تلك التساؤلات المتعلقة بالذات وهي تواصل اجتياز أزماتها والغوص في اشكالياتها.

ولا ينتظم الراوي في نسق تعبيري محدد ، بل هنالك كم كثيف من المروي المتدفق عبر رواة جانبيين وافتراضيين يعبّرون عن الأزمة والعزلة والأمل في آن واحد.

http://dimension4future.blogspot.com/

مدونة "أبعاد" في

08.08.2007

 
 

عملاقا إخراج يتوفيان في يوم واحد

الوسط - محرر فضاءات

تبدو الأقدار غريبةً، وخصوصاً حينما تقرر أن يتوفى مخرجان عالميان كبيران في يوم واحد، على رغم أن أولهما في السويد، والآخر في إيطاليا، فإن ما جمعهما كان حياة ذات خط إبداعي واحد، ونهاية واحدة.

حدث ذلك إذ توفي يوم الإثنين الماضي 30 يوليو/ تموز الماضي المخرج السينمائي السويدي الأسطورة انغمار بيرغمان عن عمر ناهز 89 عاماً، إلى جانب وفاة المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني عن عمر ناهز 94 عاماً.

وحفلت حياة كلا المخرجين بالكثير من الإنجازات المتميزة في مجال السينما، إذ يعد بيرجمان أحد أكثر المخرجين أهميةً في مجال صناعة السينما في القرن الماضي، والذي دفن في جزيرة فارو السويدية (جزيرة الخراف) الواقعة على بحر البلطيق، والتي كان يعيش فيها منذ ستينات القرن الماضي واختارها لنفسه مدفناً.

أخرج بيرغمان أكثر من أربعين فيلماً طوال حياته الفنية الطويلة، بينها «صرخات وهمسات» (1972) و «مشاهد من الحياة الزوجية» (1974) و «سوناتة الخريف» (1978) و «فاني وإلكسندر» (1982) وهو فيلم بمثابة وصية.

واختار المخرج في خريف حياته العيش وحيداً معزولاً عن العالم ومكث غالبية الوقت في جزيرته، وعجز عن تخطي وفاة زوجته الأخيرة آنغريد فون روزن في العام 1995.

بموازاة الإخراج السينمائي، شمل إبداع بيرغمان المسرح أيضاً وأخرج الكثير من المسرحيات ولاسيما مسرحيات لاوغوست ستريندبرغ، مثاله الأعلى في شبابه.

بدأ عمله المسرحي في الأربعينات بدورة في الإخراج المسرحي في أوبرا ستوكهولم وفي 1960 انضم مخرجاً إلى المسرح الملكي للفن المسرحي (دراماتن).

وفي 1945، استخلص أن الوسيلة الحديثة الوحيدة للتعبير عن الأفكار هي السينما وقال بهذا الصدد: «إن إخراج الأفلام هو بالنسبة إلي غريزة، حاجة مثل الحاجة إلى الأكل والشرب والحب».

وغطى نتاجه السينمائي كل النصف الثاني من القرن العشرين وكان من معاصري فيديريكو فيليني ولويس بونويل واكيرا كوروساوا. كما كان من كبار محبي السينما وكان يهوى السينما الأميركية في حقبة الأربعينات والسينما الفرنسية في الثلاثينات والأربعينات.

وشهد العام 1955 أول نجاح دولي لبيرغمان من خلال فيلمه «بسمات ليلة صيفية» الهزلي، غير أن أفلامه ازدادت سوداوية اعتباراً من نهاية الخمسينات وعالج فيها بارهاف كبير صعوبة العلاقة بين الرجل والمرأة وأسئلة الإنسان عن وجود الله ومواجهة الموت، كما تغنى بسحر الحياة وتفاصليها الصغيرة.

أما المخرج الايطالي مايكل أنجلو أنطونيوني - الذي دفن بمسقط رأسه ببلدة فيرارا (شمال إيطاليا) - فقد حقق نجاحاً كبيراً في الستينات من خلال عدد من الأفلام مثل «انفجار» و «نقطة زابريسكي».

كان المخرج الايطالي برع في تصوير الوحدة وعدم التواصل والضيق والحب المستحيل. ويترك انطونيوني نتاجاً من ضمنه 20 فيلماً من روائع السينما كرسته دولياً بين كبار المخرجين.

وفاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية العام 1964 عن فيلم «الصحراء الحمراء» والسعفة الذهبية في مهرجان كان العام 1967 عن فيلم «بلوو آب» (الصورة المبكرة) وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان العام 1982 عن فيلم «التعرف إلى امرأة».

كما كافأته هوليوود بجائزة أوسكار عن مجمل نتاجه الفني في العام 1995 ومهرجان البندقية بجائزة أسد ذهبي عن أعماله السينمائية في العام 1997.

وولد انطونيوني في 29 سبتمبر/ أيلول 1912 في فيراري (شمال إيطاليا) من عائلة برجوازية وكان طالباً لامعاً في الاقتصاد في جامعو بولونيا، وبدأ العمل ناقداً سينمائياً في مجلة محلية قبل الانتقال إلى روما حيث التحق بمركز السينما التجريبي وساهم في مجلة «سينما» وكلاهما كان يعد من مراكز المقاومة ضد الفاشية.

عمل مساعداً للمخرج الفرنسي مارسيل كارنيه العام 1942 في باريس أثناء تصويره فيلم «لي فيزيتور دو سوار» (زوار المساء) قبل المساهمة في كتابة سيناريو فيلم «عودة طيار» للمخرج الايطالي روبرتو روسيليني.

وفي 1943 صوّر أول فيلم وثائقي له بعنوان «أهل بو» وأخرج أول أفلامه العام 1950 بعنوان «يوميات حب».

غير أن أسلوبه الفريد تأكد مع الثلاثية «المغامرة» (لافنتورا) العام 1960 و «الليل» (لا نوتي) العام 1961 و «الكسوف» (ليكليسي) العام 1962 والأفلام الثلاثة من بطولة ممثلته المفضلة مونيكا فيتي التي كانت رفيقته وملهمته طوال عشر سنوات.

أصيب انطونيوني العام 1985 بجلطة في الدماغ تركته نصف مشلول، وكان يعاني في السنوات الماضية من صعوبة في التنقل والتكلم فلجأ إلى عالم اللون مبتكراً أعمالاً فنية ولوحات وملصقات (كولاج) عرضت في روما في أكتوبر/ تشرين الأول 2006 تحت عنوان «الصمت بالألوان».

وعلق اختصاصي السينما الايطالي المدير الفني لمهرجان فلورنسا للسينما الفرنسية الدو تاسوني: «توفي انطونيوني يوم وفاة برغمان. كلاهما عبر عن القلق المعاصر ذاته، عن القيود العاطفية ذاتها في عالم ما بعد الحرب».

وتابع تاسوني «كان رجلاً يتمتع بحس الفكاهة إلى حد بعيد. كان يقول إنه يحب الضحك، ولكنه كان يقول أيضاً إنه حين يمسك الكاميرا يلاحظ أنه في غاية البرودة».

الوسط البحرينية في

09.08.2007

 
 

موت مخرج وخلود فيلم

بقلم : عدنان مدانات

مر زمن على السينما أنجبت فيه مخرجين مبدعين عظام أخضعوا التقنيات لفنهم ولرؤيتهم ولم يخضعوا لها كما هو الأمر بالنسبة لكبار مخرجي هذه الأيام، وفي جعبة كل من مخرجي أيام زمان عدد من الأفلام الخالدة التي تستمر قيمتها وحيويتها مع تقدم الأيام، كما هو الأمر، مثلا، بالنسبة لمعظم مسرحيات شكسبير. ولهذا يشكل رحيل أي من أولئك المخرجين، والذين ما توقف معظمهم عن الإبداع بالرغم من تقدمهم في العمر، خسارة كبيرة للسينما. من أولئك المخرجين الذين رحلوا عن دنيانا بعد أن شاخوا وتركوا لنا إبداعا سينمائيا لا يشيخ الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، الذي لمع نجمه السينمائي في ستينيات القرن العشرين ولم يخب حتى الآن.

قائمة الأفلام التي أخرجها أنطونيوني طويلة، وهو أخرج أولى أفلامه في إيطاليا ثم لاحقا صار يخرج أفلامه ما بين إيطاليا وبريطانيا (فيلم بلو أب ) وأميركا (فيلم المهنة مخبر صحفي و نقطة زابرينسكي ) وغيرها، مبرهناً في كل مرة على قدرة فذة على صنع أفلام ذات مواضيع راهنة وحيوية تبدو أنها تنتمي إلى المكان الجديد وكأنه عاش فيه طوال عمره، كما تنتمي إلى الزمان في إشكالاته الجوهرية التي تتخطى الخاص نحو التعبير عن العام. وفي كل فيلم من أفلامه كان أنطونيوني يبرهن على أنه ليس مجرد فنان سينمائي مبدع، بل أيضا سينمائي مفكر.

من بين العدد الكبير من أفلام أنطونيوني يحظى فيلمه الشهير بلو أب بأكبر اهتمام نقدي وبحثي في أرجاء العالم. وبين يدي كتاب سينمائي مترجم للعربية يتشكل من عدد كبير من الدراسات التي قام بها باحثون مختلفون مخصص بكامله لفيلم واحد لا غير هو بلو أب . ويحمل الكتاب عنوان إضاءات حول فيلم صورة مكبرة .

في هذا الكتاب الذي صدر ضمن سلسلة منشورات الفن السابع عن المؤسسة العامة للسينما بدمشق، تعالج كل من هذه الدراسات جانبا ما من جوانب الفيلم، بل إن إحدى الدراسات تكتفي بتحليل ثلاثة مشاهد محددة من الفيلم. صدور مثل هذا الكتاب السينمائي المتخصص بفيلم واحد حدث غير مسبوق في الكتب العربية عن السينما سواء كانت مؤلفة أو مترجمة. فيلم بلو أب وعلى الرغم من أنه مضى على عرضه عالميا أربعون عاما، إلا أنه ما يزال يحافظ على قيمته ومكانته كواحد من الأفلام المهمة في تاريخ السينما العالمية.

ففي العام 1966 أخرج الإيطالي الشهير مايكل أنجلو أنطونيوني هذا الفيلم كأول فيلم له في بريطانيا، ومصطلح بلو أب يعني تكبير الصورة. وحاز الفيلم عند مشاركته في مسابقة مهرجان كان للعام 1967 الجائزةَ الذهبية. هذه الجائزة لم تكن التقدير الوحيد للفيلم، فقد نجح الفيلم نجاحا جماهيريا عندما عرض في صالات السينما في أوروبا. وإضافة إلى ذلك، استخدمه الكثير من النقاد ومنظري السينما كمثال في أبحاثهم السينمائية.

وفيلم بلو أب من الأفلام القليلة التي تحتفظ بمعاصرتها رغم مرور الزمن، وهو يبدو عندما يعرض وكأنه مصنوع حديثا. المقولة الأساسية للفيلم هي صعوبة الوصول إلى الحقيقة الموضوعية. وقد كتب أحد النقاد عنه أن موضوعه الأساسي تصوير الصعوبة التي يواجهها أي إنسان يحاول أن يستوعب معنى الحقيقة الموضوعية وجوهرها. يحكي الفيلم عن مصور شاب متخصص بتصوير الفتيات للإعلان. وهو في الوقت نفسه يحمل آلة التصوير أينما ذهب ويصور كل ما يراه حوله من ظواهر حياتية. وذات يوم، وبينما هو يسير في حديقة عامة، يلحظ امرأة ورجل متعانقين فيلتقط لهما الصور. ويفاجأ بعد ذلك بالمرأة وقد جاءته إلى الأستوديو مرعوبة تطلب منه الفيلم الأصلي، فيعطيها فيلما آخر، وبعدها يذهب إلى غرفة التحميض لطباعة الصور بهدف اكتشاف سر خوف المرأة.

وعندما لا يرى في الصور ما يثير الانتباه يقوم بتكبير إحداها، فيلاحظ شكلاً ما بين الأشجار خلف الرجل والمرأة يوحي بوجود جثة. فيقوم بتكبير هذا الجزء من الصورة، لكي يتحقق أكثر من الموضوع. ثم يعيد تكبير الجزء الذي كبّره، ويكرر العملية مرات عدة، ولكن الحقيقة لا تنكشف أمامه، بل إن الأمر يزداد تعقيدا وغموضا، كلما أمعن في الاقتراب من التفاصيل.

يبدأ الفيلم بمشهد لمجموعة من الشبان والفتيات المهرجين في ثياب احتفالية يجوبون الشوارع مثيرين الضجيج أينما حلّوا ومروّا. وهذا المشهد الافتتاحي يبدو خارجا عن سياق الفيلم للوهلة الأولى، إذ لا يعود المخرج إلى هذه المجموعة إلاّ في مشهد النهاية من الفيلم، فتتضح أهمية المشهد الافتتاحي ودلالته، كما يتضح المغزى من الفيلم كله. ففي المشهد الختامي نرى المصور، وبعد أن عجز عن تفسير لغز الصورة التي التقطها، يسير بقرب ملعب للكرة الأرضية، فيلتقي بنفس المجموعة الغريبة من المهرجين والمهرجات، يدخلون إلى ملعب التنس ويباشرون اللعب، ويقف المصور يتفرج عليهم ولكنه يلاحظ أنهم يلعبون من دون كرة. وهم لا يمثلون أو يتظاهرون بأنهم يمارسون اللعبة، بل يلعبون بجد كامل كما لو أن الكرة معهم. ويتنبه المصور إلى أن أحد اللاعبين يشير له إلى أن الكرة قد وقعت خارج الملعب ويطلب منه أن يلتقطها ويقذفها إلى الملعب. ويحتار المصور، هل يصدق أم لا، ثم يقرر التقاط الكرة الوهمية وإعادتها إلى الملعب.

لا توجد في الفيلم حكاية بالمعنى المعروف للكلمة. فالحكاية هنا مجرد إطار ووسيلة للفكرة. ويوظف المخرج عناصر الإخراج أيضا لتعميق فكرته ويهتم بهذا الجانب أكثر مما يهتم بسرد الحكاية. وعلى سبيل المثال يركز الفيلم في أحد المشاهد على المصور لحظة عمله داخل الأستوديو على تصوير مجموعة من الفتيات الموديلات. وهو يجعلهن يقفن أمام ألواح زجاجية تجعل من صورهن مجرد خيالات وانعكاسات في مرآة. يمتاز الفيلم أيضا بجمال التصوير والألوان، وهو أمر برع فيه المخرج أنطونيوني، وخصوصا من حيث استخدام الألوان للدلالة على المعنى. كما يمتاز الفيلم بحيويته وإيقاعه الحي، بالرغم من أن الفيلم يناقش قضية فلسفية في محصلته النهائية.

من ناحية ثانية يمكن عدّ الفيلم نوعا من التفكير في إمكانية عكس الحقيقة الموضوعية من خلال الصورة الفوتوغرافية أو من خلال السينما نفسها. أي أن الفيلم يضع قدرة السينما على تقديم الحقيقة موضع التساؤل.

إضافة إلى هذا الكتاب صدر في العربية أيضا كتاب آخر عن أنطونيوني من منشورات المؤسسة العامة للسينما بدمشق بعنوان بناء الرؤية ، وهو يضم محاضرات له ولقاءات مع طلاب معاهد السينما ومقابلات مع نقاد وصحفيين.

* ناقد سينمائي أردني

الرأي الأردنية في

10.08.2007

 
 

إنغمار برغمان..

أو محاولة للتقرّب من عوالمه

هولندا ـ نوزاد بكر

قبل ايام قليلة رحل انغمار برغمان، المخرج السينمائي السويدي عن عمر ناهز التسعين بعد ان ترك لنا ما يقارب الخمسين فيلما وضعف ذلك من اعمال مسرحية. إن مسحاً لنتاجه السينمائي يبرز فرادة موقعه ضمن السينما العالمية. هذه الفرادة تجلت في القضايا التي تناولها عن اشكالات الحياة وتناقضاتها، تعقيد العلاقات الانسانية وتعدد مستوياتها، ثنائية الحب/ الكراهية، العنف الداخلي، التقرب الشديد من عالم المرأة وتسليط الضوء على انفعالات الانسان الاولية والثانوية المركبة.

لقد قيل وكُتب الكثير عن استخدام برغمان لرموز وهواجس خاصة تحمل معاني شخصية جداً، ألا ان أهميتها تكمن في أنه عرضها بأشكال تبدو و كأنها تخص كل مشاهد لأفلامه. فالدهشة والغرابة هما أول ما ينتاب المرء لاكتشافه سريعا مدى القرب وحتى التماهي بينه و بين بعض شخصيات أفلامه. ثمة تشابه ما، بين مصادر القلق والخيبة والخوف يربط المشاهد بخيط واهٍ غير مرئي بهم. لكن الدهشة هذه سرعان ما تتحول حيرة، عندما يبدأ برغمان بإعادة تشكيل وتركيب شخصياته جاعلا من الدراما والاحداث مسرحاً لمستويات متعددة من التصادم والتحول. والحيرة هذه تغدو أحيانا تيهاً وحتى ضياع عندما يتركنا برغمان أمام نهايات افلامه المفتوحة وإشكالاته المستعصية على الحل. لعل تفحص المناخات الثقافية و السينمائية التي تأثر بها أو تفاعل معها عبر السنين قد تقربنا من فهم فرادته هذه.

بدأت خصوصية برغمان تتجلى أولاً من طبيعة وماهية المسائل التي تناولها في زمن كان التركيز فيه والغلبة في الثقافة بشكل عام والسينما بشكل خاص للقضايا الاجتماعية والسياسية في عصر صعود الايديولوجيا والاستقطابات الحادة وإنعكاساتها على حياة الناس. لقد كان همّ برغمان الانسان كفرد غير منتمي لأية جماعة. فحين تناول الحرب وأهوالها في فيلمه (العار 1968)، رصد التحول النفسي لبطله (ماكس فان سيدو) ذي الشخصية الهشة وهو يتدهور وينهزم وحيداً. ينهار مجتمع فتتحطم العلاقات الاجتماعية ويصبح هذا الرجل الضعيف فظاً شرساً. يتمحورالفيلم برمته حول عنف البطل الداخلي.

الى هذا، فان برغمان لم يتبع أية موجة سينمائية لفترة طويلة ولم يؤسس لأية مدرسة سينمائية. بكلمات اخرى، لا يمكن تصنيفه في خانة اي من الاتجاهات السائدة. لكنه بالطبع لم يبدأ هكذا. فبعد النجاح الساحق لفيلمه يالفراولة البرية" (1957)، بدأنا نرى تأثيره الواضح على السينما الفرنسية و الايطالية. فإنطلاق تيار الموجة الجديدة في فرنسا لم يكن بعيداً من تأثيره هذا. فقد جمع بينه وبين هذا التيار الاهتمام العارم بجوانية حياة الانسان وإنشغالاته الوجدانية.

لقد وصف النقادُ برغمان غالبا بأعظم مخرج فرنسي في السويد! يرجع ذلك الى أن أفلامه الاولى تضمنت أجواء الغموض المترافقة مع مصائر أبطاله الفاجعة. وهذا ما كان سائدا في سينما الثلاثينات الفرنسية. حتى أن فيلمه "إبتسامات ليلة صيف" (1955) جاء متطابقا، من حيث موضوعه وأجوائه، مع فيلم "قاعدة اللعبة" (1939) لجان رينوار.

لكن برغمان وُصف أيضا كأعظم مخرج ألماني في السويد، بسبب النزعة التعبيرية التي لازمته طويلاً، والتي كانت سائدة في الفن و السينما في المانيا الثلاثينات مع رائدها فريتز لانغ. وجدت التعبيرية هذه التي ولع برغمان بها طريقها الى التعبير السينمائي (خاصة في افلامه الاولى) من خلال العناية بالديكور والخلفية وإظهار التناقض الحاد بين الضوء "من مصدر وحيد" والظلام، وعبر إبراز أو تلوين منطقة الظل. وكل ذلك من خلال طاقم من الممثلين والممثلات، ذوي قدرات تعبيرية ومسرحية فائقة. هذا كله نلحظه مثلا بوضوح في فيلمه "الفراولة البرية".

وأخيرا وُصف برغمان كأعظم مخرج روسي لميله الى معنى وروح الصورة/اللقطة والاطار/ الكادر. ومما لا شك فيه ان برغمان الشاب استلهم أو تشرب من كل المصادر السينمائية السائدة، لكن التوصيفات هذه التي تحصره أو تصنفه ضمن إطار بلد أو إتجاه معين ليست دقيقة. فأفلامه الاولى تظهر مدى إنتقائية خياراته من كل الاتجاهات والمدارس. فهذا "المزاج الفرنسي" الذي طبع أفلامه الاولى: الحب الاولي والبراءة في جو متحول ومصائر أليمة، له جذور عميقة في التراث المسرحي السويدي. وفيلمه (الفراولة البرية) يمكن ربطه بوضوح بأجواء الكاتب المسرحي السويدي الشهير ستريندبرغ. فحكاية هذا الفيلم جوانية ذات مزاج كابوسي، عن الشد في العلاقات بين الناس أو بينهم وبين الطبيعة. كل هذا في ذهن شخص واحد في مشاهد متتالية تخلط الحلم بالواقع. مسعى الفيلم هو في النهاية أخلاقي. فالحكاية عن رجل هرم مغرور، يطرأ تغير على وجدانه ويلتبس لديه مفهوم الحب وموقعه . هذا الخوف والقلق الوجوديين و النموذج المعقد من الفلاش باك ضمن الفلاش باك، هي مواضيع أثيرة طغت على الثقافة السويدية آنذاك. ومثل هذا الموقف والمعالجة هو بالضد تماماً لما جاء به السينمائيون التعبيريون الالمان. فالسمة الغالبة لهؤلاء كانت في خلق عالم من الهوس ومحيط من الاوهام في اطار تأملي وباطني كما نعثر عليه في فيلم لانغ الشهير (ميتروبولس).

أما بالنسبة لتأثير الجو والمزاج الروسيين في أعماله، فمما لا شك فيه ايضاً أن برغمان يشترك مع المخرجين الروس في العناية الفائقة بابراز تفاصيل شخصياته الروائية وفي دراسة طباع الفرد وسلوكه من خلال اللقطات المقربة وتعابير الوجه وأخيراً الاهتمام بتركيب وإعادة تركيب الصورة السينمائية وطرق توليفها. لكن برغمان لم يكن بحاجة الى إقتباس ذلك من السينما الروسية. فهذا الإتجاه كان حاضرا بقوة مثلا في أفلام مخرج سويدي آخر سبق برغمان في تقنياته هذه هو ستيللر.

ومن الجدير بالذكر أن للموسيقى علاقة واضحة بموضوعات أفلام برغمان وأجوائه. فبالإضافة الى إخراجه لفيلم مستلهم من أوبرا لموزارت (الناي السحري 1975) و فيلم آخر من أجواء السيمفونية التاسعة لبيتهوفن وبنفس اسم قصيدة شيللر في حركة السيمفونية الاخيرة (أنشودة الفرح 1950)، فإن موضوع فيلمه الشهير (الختم السابع) قد استلهمه ايضاً من اوبرا "كارمينا بورانا" لكارل اورف. أغاني طرقات لناس بلا مأوى في سنوات الطاعون. حضارة تنحدر وتتدهور وأناس يبتكرون أغاني جديدة. وحتى فيلمه "فاني والكسندر" (1982) ذو الموضوعات والحكايا المتعددة قد استلهم بعضه من اوبرا للموسيقار الالماني هوفمان. اما بداية الفيلم مع احتفالات عيد الميلاد فقد أخذها من اوبرا "كسارة البندق" لتشايكوفسكي حيث يجلس طفلان في الغسق عشية عيد الميلاد، ينتظران ان تضاء الشجرة وتفتح أبواب القاعة.

وإذا كان لنا أن نحدد أهم ما تميز به برغمان وطبعت أفلامه بها من أجواء وأمزجة وايقاعات، فيمكن لنا أن نشير الى:

1 ـ المقاربة الاخلاقية للفن: لقد قال مرة في مقابلة له: "الشيء الوحيد الذي علينا أن نتعامل معه بصيغة درامية هو المشكل الاخلاقي... وجودنا كله مبني حول مسألة فيما إذا كان ممكناُ لنا عمل شيء ما من عدمه. إنها هذه العقد والاشكالات التي نواجهها يومياُ والتي تحدد مجمل سلوكنا تجاه الآخرين".

2 ـ الولع والنزوع لخلق نماذج مجردة وجديدة للاشكالات الاخلاقية الكلاسيكية. ثنائي الرجل/ المرأة، العلاقات الثلاثية، دور الجنس وعلاقة الانسان بالخالق والطبيعة. لقد أبدع برغمان في خلق ايقونات رمزية وشخصيات مميزة وفريدة. إن المشهد الشهير لماكس فون سيدو وهو يلاعب "الموت" الشطرنج في فيلمه (الختم السابع) أصبح خالداُ في ذاكرة السينما العالمية. الموت بشكل مهرج ابيض ملفع بالسواد، شخص لايحمل اي سر. أنه باختصار فيلم منعتق من كل أنواع العصاب، تسوده هدنة بين ورع طفولي وعقلانية صارمة. وبالمناسبة فإن للموت والشياطين حضوراً شبه دائم في أفلامه بصيغ متعددة ومتغيرة، وهو جزء من إرث له كإبن كاهن لوثري متشدد. لقد لجأ برغمان الى أقصى درجات الرمزية في تعامله مع المعتقدات المسيحية السائدة. فثلاثيته (عبر المرآة، ضوء الشتاء والصمت) في بداية الستينات، عن علاقة الانسان الملتبسة بالخالق وتحولات الشك والاسئلة الشائكة، إبتعد فيها عن طرح اليقين والتساؤلات الكلاسيكية، جاعلاُ من الحيرة دافعه في رحلة البحث عن مغزى الحياة. أما الموت فهو شىء فوق طبيعي، ليس للخالق دوراً فيه. "عبر المرآة" كان البداية، بداية شيء جديد. أشخاص يخرجون من البحر وقد أتوا من حيث لاندري. الفيلم ذو نبرة إنفعالية ورومانسية. أما "ضوء الشتاء" فيمثل انتقالاً من إشكالية دينية الى إشكالية أرضية. قس يصارع الموت عاطفياً. يفقد زوجته ليحتاج الله، لكنه لايلقي الا السكون. من هنا يبدأ شكه ووحدته واكتشافه ان الموت هو نهاية لكل شىء.

أما في فيلمه "مشاهد من حياة زوجية" (1973) فقد قدم حكاية فريدة. إستحالة ديمومة الحب بين إمرأة ورجل تدفعهما للافتراق، ثم يغدو الافتراق بينهما مستحيلاً. كل المشاعر والامزجة والمواقف تتغير وتتقلب. ويبدو أن برغمان لاتعنيه فكرة الزواجات السعيدة. فهي تتشابه أخيرا في سعادتها. ولكنه، كالكاتب الروسي الشهير تولستوي في روايته (آنّا كارنينا)، مأخوذ بالزواجات التعيسة، التي ينفرد كل زواج بتعاسة مميزة. إنها ربما دعوة من برغمان الى أن الزواج زائل، والحب باق خالد!

3 ـ رغم أن برغمان رفض دائماً المحتوى العدمي في أفلامه، مشيراً الى أنه كان مشغولاً دوماً بمسألة الفراغ الذي يستهلكنا ويحتوينا. إلا أن شيئاً من العدمية، كاتجاه ومنطلق فلسفي غلف باستمرار مواضيع أفلامه. هنالك رفض وشك بالمنظومة الاخلاقية السائدة ولهياكل السلطة وخاصة الدينية منها. ثم أن الجو الكئيب والايقاع الرتيب وحيرة أبطاله، التي طبعت أفلامه بها، تحمل إشارات تقترب من العدمية في نفيها لوجود حقيقة ما. وهذا كان حال معظم الاتجاهات الفنية في القرن الماضي كالتكعيبية والسوريالية والمودرن آرت في عدم تمثيلها بل ورفضها لكل قواعد الواقع والطبيعة، وحال مدارس فلسفية عديدة كالبنيوية وما بعد الحداثة في تجاهلها أسس الحضارة المعاصرة والمعرفة وتقدم التأريخ الايجابي. ولو قارنا هنا برغمان بالمخرج الايطالي فيلليني، والذي كان ناقداً حاداً وساخراً لمجتمعه (بشكل مبطن غالباً)، فقد تناول هذا أيضاً مسألة الفراغ الذي يلفنا، إفتقار حياتنا للحب ومقدار الزيف الذي يغلب على سلوكنا وكانت له مواقف جريئة من العقد والاشكالات المجتمعية. لكن فيلليني ربط هذا كله دوماً بشىء ما، بدائل أو مخارج ما. أما خيارات برغمان فقد ابتعدت عن إحالات كهذه، لتكتسب صفات صادمة ومرعبة.

4 ـ برع برغمان في خلق ايقاع ومزاج سينمائيين خاصين به. فقد تميز في استخدام بعض التقنيات السينمائية: قطع سريع ومفاجىء للقطات، تزامن أو توازٍ للقطات الطويلة و تصوير مقرب للوجوه، باعتبار أن عمل السينما يبدأ بمقاربة وجه الانسان. وقد نجح برغمان في خلق ثنائية خاصة في أفلامه: المزج بين الالق البارد والكآبة الشفافة، الشد بين أناس يحملون مشاعر وعواطف أولية وبين أولائك الذين يجسدون الحكمة والرزانة والتحول المستمر في الادوار بين هؤلاء واولئك لنصل الى حالة من توازن هش، مفسحة مجال التعبير عن أقصى درجات الانفعال الناجمة عن صراعات هؤلاء فيما بينهم أو مع ذواتهم. في فيلمه "برسونا" (1966)، مونولوج مزدوج بين إمرأة صامتة وممرضتها التي تتكلم طوال الوقت بثقة عالية بالنفس. حينما تكتشف ان مريضتها قد كتبت لزوجها رسالة عن رأيها بحال ممرضتها النفسي، تبدأ الثقة بالانهيار ليبدأ طور تبادل الادوار وتداخل الهويات بينهما. يستخدم برغمان هنا الوجه والإضاءة إستخداماً مذهلاً في تشكيل وتصوير هذا الازدواج والتداخل. إضاءة نصف وجه وترك النصف الآخر في ظلام، ثم يُدمج النصفين المضاءين من الوجهين حتى ينصهرا في وجه واحد. معظم الناس لديهم جانب في وجههم يعطيهم الى حد ما مسحة من الجمال أكثر من الجانب الآخر. الصور نصف المضاءة لوجهي بطلتي الفيلم بينت الجوانب الابشع في كل منهما.

ولعلنا نختتم هنا بكلمات ناقد سينمائي فرنسي، حينما قال أن يبرغمان مثل جان كوكتو، قدم لنا عالمه الخاص المليء بالاوهام والرموز والخرافات. كل شيء موجود، عدا مفتاح الباب الاخير للخلاص".

المستقبل اللبنانية في

10.08.2007

 
 

ألف وجه لألف عام

«الصحراء الحمراء» لأنطونيوني» مصانع وامرأة وضباب وصمت

ابراهيم العريس

في العام 1964 كانت سنوات أربع قد مرت منذ الصخب الذي ثار حول فيلم «المغامرة» للمخرج الإيطالي (الراحل عن عالمنا قبل أيام) ميكائيل انجلو انطونيوني، خلال دورة العام 1960 لمهرجان «كان» السينمائي. خلال تلك السنوات كان تبدد الغضب الذي اندلع في وجه فيلم رأى فيه كثر من المتفرجين عملاً مملاً بالكاد يمكنهم تعيين أنه يريد أن يقول أي شيء. فالناس خلال تلك السنوات كانت اعتادت الفيلم، كما كان زال سوء تفاهمها مع سينما انطونيوني. وكان نقاد كبار وسينمائيون من الصف الأول، ببيانهم الذي أصدروه ضد الذين أثاروا الصخب المناهض لـ «المغامرة» في «كان»، هم الذين أسهموا في إعادة الاعتبار الى انطونيوني وسينماه، ما سهل عليه أن يحقق فيلمين تاليين لـ «المغامرة» شكّلا، في شكل أو آخر ثلاثية مع هذا الأخير، أولهما «الليل» (1961) والثاني «الكسوف» (1962). وهكذا اذاً حين عرض انطونيوني فيلمه الثالث «الصحراء الحمراء» سنة 1964، كانت مكانته قد ترسخت تماماً، وتحديداً في الوقت الذي انتهت فيه، تقريباً، مرحلته الإيطالية (سجل «الصحراء الحمراء» هذه النهاية)، لأن أنطونيوني بعد «الصحراء الحمراء» بسنتين سيذهب الى لندن ليحقق فيلماً انكليزياً – عن رواية للأرجنتيني خوليو كورتاثار – هو «بلوآب»، وبعد ذلك سيتوجه الى الولايات المتحدة ليحقق «زابريسكي بوينت»... مواصلاً منذ ذلك الحين بداوة سينما وتجواله في أفلام تقول العالم وشؤونه، ونظرة المبدع اليه.

> لكن هذا كله كان لا يزال بعيداً – الى حد ما – زمن «الصحراء الحمراء». ذلك أن هذا الفيلم جاء ايطالياً خالصاً، في معناه ومبناه. وان كان جدد فيه المخرج تجديداً أساسياً بالنسبة الى سينماه السابقة: فـ «الصحراء الحمراء» كان أول فيلم صوره بالألوان. بيد أن هذه الألوان لا ينبغي أن تخدعنا، لأن «الصحراء الحمراء» جاء – في نهاية الأمر – أشبه باستكمال للثلاثية، ليصبح معها رباعية، حيث نجد أنفسنا من جديد أمام الحب المستحيل والملل إزاء الشرط الإنساني، والسينما الحميمة، وصعوبة التواصل، والشعور المبهم بمرور الزمن وصولاً الى عجز اللغة عن التعبير عما هو جواني لدى الكائن البشري. ونعرف أن انطونيوني جعل من كل هذه المواضيع جوهراً لأفلام مرحلته الحميمة التي شعلت لديه النصف الثاني خمسينات القرن العشرين والنصف الأول من ستيناته. طبعاً لو عرض انطونيوني «الصحراء الحمراء» في العام الذي عرض فيه «المغامرة» في «كان» كان من الممكن أن يلقى «الصحراء الحمراء» القدر نفسه من الاحتجاج الذي لاقاه «المغامرة» أولاً. لسبب وجيه أن رد الفعل الأول كان ناجماً عن سوء تفاهم بين الجمهور وسينما انطونيوني. فهذه السينما لا تبدو انها تقول شيئاً. أو بالأحرى هي تقول ولكن بهمس، ومن دون دراما صاخبة. تقول الأشياء من خلال جوانية أصحابها ومن خلال شعورهم الطاغي بوحدتهم. والجمهور، حتى النخبوي منه، لم يكن معتاداً على مثل هذا الخطاب السينمائي الجديد. ولكن اذ عرض «الصحراء الحمراء» بعد أربع سنوات من «المغامرة»، وبعد أن كان النقاد قد اشتغلوا طويلاً على سينما أنطونيوني يحللونها في دراسات معمقة، رابطين بينها وبين أزمات الإنسان المعاصر، لم يكن للجمهور النخبوي إلا أن يتبع. ومن هنا لم يصل ولو صوت احتجاج واحد حين فاز «الصحراء الحمراء» بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين لذلك العام. علاقة الجمهور مع سينما انطونيوني كانت هي التي تبدلت... أما انطونيوني نفسه، فلن يتبدل، ويبدل سينماه في شكل شبه جذري، إلا مع خروجه من ايطاليا.

> هنا، في «الصحراء الحمراء» كنا لا نزال في قلب ايطاليا، وتحديداً في قلب مشاكل الطبقة الوسطى المدينية الايطالية وفي قلب مشكلة الثنائي (الزوجين). وفي هذا الفيلم تدور الأحداث حول الأزمة الخانقة التي نعيشها – على المستوى الوجودي العام، كما على مستوى الحياة والعلاقات الاجتماعية – شخصية الفيلم النسائية الرئيسية جوليانا (مونيكافيتي، التي كانت لعبت الدور الأساس في «المغامرة» وأصبحت منذ ذلك الحين رفيقة انطونيوني وملهمته). وهذه الأزمة هي اختصار في الحقيقة لكل الأزمات التي عبر عنها انطونيوني في القسم الأقوى من أفلامه. انها امرأة حسناء تعاني شيئاً من اللااستقرار العقلي منذ أصيبت في حادث سيارة كاد يقضي عليها. انها، كما سيتبين لنا بسرعة من خلال المنطقة الصناعية التي تدور فيها حكاية الفيلم، ومن خلال لغة الفيلم الهندسية التقنية، امرأة تنتمي الى طبقة عصر التكنولوجيا الصناعية، حيث كل شيء بات يحسب بالأرقام ويدرس على ضوء جدواه المادية. جوليانا متزوجة من شخص ناجح في عمله هو أوغو، الذي يمارس مهنة شديدة الحداثة: مهندس مصانع ومنشآت، ولها منه ولد. انهما الآن معاً في تلك المنطقة الداكنة اللون المغطاة بالغبار والضباب. هو منهمك في عمله والسعي الى النجاح. أما هي فتغوص في وحدتها يوماً بعد يوم. انها تهيم على وجهها بين المنشآت وفي أحضان طبيعة لم تعد كالطبيعة. تشعر أنها في انفصام تام عن العالم، وعن العائلة وعن زوجها. بالكاد تجد لديها رغبة لقول كلمة. يحيط بها عالم لا تمت اليه بصلة... لا تعرف كيف تتواصل معه، بل لا تريد ذلك أصلاً. وهي تشعر في كل لحظة أن ثمة ما هو خطأ... لكنها لا تعرف ما هو. ويحدث ذات يوم أن يصل الى المكان المدعو زيلر، وهو صديق زوجها القادم لتسيير بعض الصفقات. وزيلر، ما أن يرى جوليانا، حتى يشعر بنفسه منجذباً اليها. بل يشعر أنه قادر على فهم ما تعاني منه، وبالتالي على سبر جوانيتها، هو الذي يفتنه جمالها وما يبدو لديها من غموض. من هنا لم يعد غريباً أن يفهم زيلر هذه المرأة أكثر كثيراً من فهم زوجها لها. غير أن هذا لا يحل المشكلة بالطبع... طالما أن ما يبدو زيلر مستعداً لتقديمه غير كاف... وهكذا بعد بارقة أمل ضئيلة تلوح ذات لحظة يعود المناخ نفسه ليخيم على حياة جوليانا وأفكارها... ويبدو بالتالي أن أي شيء لم يحدث خلال ساعتي الفيلم.

> واضح هنا أننا أمام فيلم همه الرئيس – من خلال شخصياته ولا سيما من خلاص شخصية جوليانا – أن يتحدث عن هذا العالم الذي نعيش فيه، والذي يتطور يوماً بعد يوم من الناحية المادية، ولكن من دون أن يكون التطور الروحي والعاطفي فيه موازياً لذلك التطور. انه فيلم يرصد، من خلال جوليانا والعالم الغريب المحيط بها – حكاية عالم بات شديد القسوة، ولكن أيضاً بات من الغباء بحيث لم يعد في وسعه أن يشاهد الكون الذي خلقه. ومن هنا حتى وان كانت شخصية جوليانا تبدو ملتبسة وكالمصاب بمسّ، سنلاحظ في سياق الفيلم وموقعها منه، انها الوحيدة التي تأمل «بالشفاء» طالما انها الوحيدة التي تعي حقيقة هذا العالم والتي تشعر في عمق أعماقها بالاستلاب الذي يجابهنا العالم به.

> من هنا لم يكن غريباً أن يبدع أنطونيوني (1912 – 2007) في تصوير بطلته بأناقتها وغموض نظراتها وسط ديكور تلك المنطقة الصناعية الجرداء في رافينا، حيث لا يتشكل الديكور إلا من منشآت باردة صامتة مليئة بالأعتدة والآلات، حيث يهيمن الغبار المحمر اللون، والضباب الأبيض ودخان المصانع على كل شيء. وتتشكل الخلفية الصوتية من أبواق السفن في المرفأ الصناعي القريب. جو خانق هو هذا الذي صوره انطونيوني في هذا الفيلم... جو خانق له ولبطلته، ولكن أيضاً لنا، نحن المتفرجين، الذين عشنا ساعتين متماهين تماماً مع مونيكا فيتي، في شكل زاد من شعورنا بمعاناتها... بل بالأحرى، بمعاناتنا.

الحياة اللندنية المصرية في

10.08.2007

 
 

وودي ألن عن إنغمار بيرغمان:

المرأة. الرجل. الموت

خلال تواجده في أسبانيا حيث يصوّر فيلمه الجديد، تبلّغ وودي ألن نبأ وفاة المخرج السويدي الكبير إنغمار بيرغمان (1918ـ 2007). فكان لمجلّة تايم الأميركيّة (13\8\2007) أن أرسلت محررها وناقدها السينمائي ريتشارد كورليس، لسؤاله عن الراحل، وهو أحد مخرجي ألن المفضّلين.

·     تايم: عندما يشاهد الشبان أفلام بيرغمان العائدة إلى الخمسينات، فهم يفاجأون بما يكاد أن يكون إيماناً دينياً راسخاً. والدين ذاك هو أن السينما فنّ.

وودي ألن: أوافق على هذا. بالنسبة لي هو "وايلد ستروباريز". ثمّ "ذا سيفنث سييل" و"الساحر". أدركنا أن بيرغمان كان سينمائياً سحريّاً. لم يشبهه أحد في كونه مثقفاً وفناناً وتقني أفلام.

·         تايم: بعد طول إعجاب فقد تعرّفت عليه أخيراً من خلال الممثلة ليف أولمان.

وودي ألن: جمعنا العشاء في جناحه بفندق في نيويورك. لم يكن أبداً ما قد تتوقعه عنه: الوقور والسوداوي والعبقري المكتئب. بل كان شاباً عادياً. وقد تحادث معي عن الأرباح المتدنّية لشبابيك التذاكر وعن النساء وعن العمل في الاستديو.

بعد ذلك كان يحادثني عبر الهاتف من جزيرته الغريبة الصغيرة (فارو، حيث عاش سنواته الأربعين الأخيرة). كان يروي لي أحلامه غير المنطقيّة، كأن يكون خلال التصوير وينسى فجأة كيفيّة التعامل مع الكاميرا ويصاب بالرهاب. فيستيقظ حينذاك ليقنع نفسه بأن لديه خبرة كبيرة، وأنّه مخرج معروف، وأنّه بالتأكيد يعرف كيفيّة التعامل مع الكاميرا. وقد ظلّ ذلك القلق يرافقه حتّى بعد تحقيقه لـ خمس عشرة أو عشرين تحفة سينمائيّة.

·         تايم: أنت كنت تعرف بأنّه أنغمار بيرغمان، فيما هو ربّما لم يعرف ذلك. إذ لم يحظ بسمعته عن نفسه من الخارج.

وودي ألن: تماماً. فقد نظر إليه العالم كعبقري، فيما هو كان يحيا قلقاً من خسائر آخر الأسبوع. إلى ذلك فقد كان واضحاً ومباشراً في أحاديثه، ولم يكن شغوفاً بالتصريحات الكبرى حول الحياة. سفين نيكفيست (كاتب سيرته السينمائيّة) أخبرني أنّ الاحاديث، حين كانوا يحققون تلك المشاهد عن الموت والموتى، لم تكن أكثر من نكات وثرثرة عن حياة الممثلين الجنسيّة.

·         تايم:عملت مع نيكفيست في أربعة أفلام. ويبدو أنّك تشارك بيرغمان أخلاقيات العمل.

وودي ألن: لقد نسخت بعض ذلك منه. أعجبتني فكرته عن أن الفيلم ليس قضيّة كبيرة. تحقيق فيلم بالنسبة له كان معناه أن ثمّة مجموعة من الأشخاص يقومون بعملهم. كان يعمل بسرعة كبيرة. كان ليصوّر سبعا أو ثماني صفحات من السيناريو في وقت واحد. لم يكن لديهم المال الكافي ليفعلوا غير ذلك.

·     تايم: كلانا، أنا وأنت، نعرف عظمته. لكنّه للكثير من الشبان ـ أقصد الشبان الأذكياء واللامعين في السينما ـ هو "إنغمار...ماذا؟ ما مدى حضور أفلامه اليوم؟

وودي ألن: أعتقد أن لأفلامه حضوراً خالداً، لأنّها تتعامل مع صعوبة العلاقات الشخصيّة ومع انقطاع التواصل بين الأفراد ومع الطموحات الدينيّة والأخلاقيّة ـ وهذه ثيمات وجوديّة ستبقى حاضرة لألف سنة من الآن. وعندما تحال الكثير من الأعمال الناجحة اليوم إلى تراث لا بدّ من الاطّلاع عليه، فإن ما تركه يبقى عظيماً.

·     تايم: لكن لا يوجد الكثير من الفنانين في هذه الأيام ممن يقلقهم صمت الله. الحرب، بحسب الإعلام، هي بين مسلحين مؤمنين وبين ملحدين مخلصين. اللاأدريون المعذبون اليوم هم قلّة.

وودي ألن: أنت محق. هذا كان هاجسه. فقد تربّى تربية دينيّة ( والده كان قسّا لوثريّاً) وكان يتوق إلى احتمال الظاهرة الدينيّة. ذلك التوق عذّبه طيلة حياته. لكنّه في النهاية كان ترفيهيّاً عظيماً. أفلام مثل "ذا سيفينث سييل" و"الساحر" تأسرك. أعماله لم تكن كفروض واجبة.

·         تايم: إن سألك أحد ممن لم يشاهد شيئاً من أفلامه، تزكية خمسة أفلام يتعرّف من خلالها عليه ماذا تزكّي؟

وودي ألن: "ذا سيفينث سييل"، "وايلد ستروباريز"، "الساحر"، "صرخات وهمسات" و"بيرسونا".

·     تايم: الكثير من المخرجين كان ليكون سعيداً لو صنع هذه الأفلام الخمسة فقط.

وودي ألن: لا بل واحد منها فقط.

المستقبل اللبنانية في

12.08.2007

 
 

رحيل شاعر السينما الإيطالية أنطونيوني

موسى الخميسي

غيب الموت المخرج والكاتب والشاعر والفنان التشكيلي الايطالي ميخائيل آنجلو انطونيوني عن عمر 89 عاما،حيث توقف قلبه عن النبض، وهو على كرسيه في بيته وسط العاصمة الايطالية، وكانت تجلس بالقرب منه زوجته الشابة انريكا فيكو. وقررت بلدية مدينة روما وضع جثمانه في مدخل المبنى التاريخي للكامبيدوليا لالقاء نظرة الوداع الاخير من قبل الجمهور الايطالي، وشيع جثمانه في مدينة فيرارا التي ولد فيها.

انطونيوني الذي حصل على البكالوريوس من جامعة بولونيا في الاقتصاد، عمل كناقد سينمائي وتشكيلي في عدد من الصحف المحلية، الا انه سرعان ما قرر الانتقال الى مدينة روما ليبدأ العمل كمساعد مخرج مع كبار السينمائيين الايطاليين، امثال روبريرتو روسلليني في فيلم" عودة الطيار" وجوزيبا دي سانتيس في فيلم" صيد تراجيدي"،1946ومع فلليني الذي عمل معه كمساعد مخرج في فيلم " الشيخ الابيض" 1952.

يعتبر انطونيوني واحدا من ابرز مخرجي السينما في العالم والذي حاز في العام 1995 على الجائزة الاوسكار التقديرية واعتبره االنقاد بانه ابرز من ترك علامة فارقة في السينما العالمية في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي. كان احد نقاد مجلة " السينما" ومخرجا تسجيليا ومساعدا للمخرج الرائد مارسيل كارنيه في فيلم"زوار المساء" قبل ان يقدم فيلمه الروائي الاول" يوميات حب" عام 1951، وقد عالج هذا الفيلم وما تلاه من افلام متاعب الطبقة البرجوازية الايطالية التي كانت تشهد صعودها السريع، عبر تأملات لواقع المجتمع الايطالي المعاصر، فقد تناول بالفحص والتدقيق حالة القلق واليأس والتصدع التي تعيشها شبيبة هذه الطبقة، ثم اعقبه بفيلم" المنهزمون" 1952 وبعده فيلم" سيدة بلا زهور الكاميلا" 1953 وفيلم " المحبة" 1955، ثم جاء فيلمه الشهير" الصرخة" ليحكي من خلاله قصة رجل يبعد عن زوجته ويتشتت في طريق وادي نهر " البو". الا ان انطونيوني" في فيلمه "المغامرة" 1960 الذي يعتبر واحد من افضل عشرة افلام في تاريخ السينما العالمية،اكتمل اسلوبه المتميز والشديد التفرد، لتتأصل ملامح التعبير السمعي البصري بالتلازم مع موضوعه المباشر والمفتوح على حركة وقلق شبيبة الستينيات من القرن الماضي ومظاهر معاناتهم تحت اشكال عديدة من الوان الهيمنة التي يحاول المجتمع الايطالي الجديد الخارج لتوه من قيود الاعراف والقيم والتقاليد الريفية، فهو لم يعر نبض الشارع والحياة اليومية كما فعل زملائه اصحاب تيار الواقعية الجديدة في اقترابهم من حدود الميلودراما لينتجوا افلاما تغوص عميقا في وجدان الناس وافئدتهم اكثر مما تغوص في عقولهم، فهذا الفنان استخدم ببراعة الفنان هشاشة العواطف الانسان الجديد وهو يواجه المتغيرات الكبيرة التي يعيشها العالم الجديد، ليس في تقدمه التكنولوجي المتسارع فقط وانما فيما تركه من آثار على البشرية من عزلة واحباط وشعور بالاغتراب. وهذه الاهتمامات تابعها انطونيوني في الافلام التالية مثل" الليل" 1961 و" الكسوف" 1962 و" الصحراء الحمراء" 1964 والذي فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 1965 و" الانفجار" 1966 الذي حققه في بريطانيا وتناول فيه حالة الضجر والقلق التي يعيشها الشباب الجديد، واعتبر بمثابة الجزء الاول في ثلاثية تشمل الجزء الثاني وهو فيلم " نقطة زيربريسكي عام 1970، الذي تناول فيه الثورة اللطلابية في قالب بوليسي.اما الجزء الثالث فهو" المهنة مخبر" عام 1975 الذي قام ببطولته الممثل الامريكي جاك نيكلسون مع الالمانية رومي شنايدر، وصوره ما بين اسبانيا والمغرب. وقبل هذا الفيلم انجز رائعته" بلو اب" عن قصة لخوليو كورتارثار. وكان اخر افلامه قبل مرضه العصيب بسبب جلطة دماغية جعلته نصف مشلول، هو فيلم هوية امرأة" عام 1982، لينهي تجربته الهوليودية ويعود الى ايطاليا بعد ان ذهب الى الصين مكتشفا ذلك العالم الخفي المعلق ويصور فيلما وثائقيا طويلا، يغيب فيه الكلام كما هو الحال في العديد من اعماله ليركز على الصورة والحركة كوسيلتي تعبير مثاليتين لديه، بحيث يبدو الكلام والحوار مجرد اضاءات تزينية.

في عام 1980 يقدم للسينما "سراوبرولد" مع الممثلة مونيكا فيتي التي ساهمت بالعديد من افلامه وشاركته حياته لسنوات طويلة. عام 1982 يقوم باخراج فيلم فيديو للمغنية الايطاية جانا نانيني، بعدها يعود ومن جديد للسينما عام 1982 امراة بلا مواصفات مع توماس ميلان، وكريستينا بويسون. يقوم باخراج فيلم وثائقي عن روما التي احبها بعمق عام 1990.

الملاحظة الاولى التي تتبادر الى ذهن اي متابع لعالم السينما، بان هذا الفنان الذي لم يخف ميله اليساري الانساني في كيفية تعاطيه مع شؤون الناس وشجون المجتمع الذي يقيمون فيه. ذلك ان ولعه في رسم الملامح القاسية للمعاناة التي تتخبط فيها شخصيات افلامه، او بالاحرى اختياره هذه الشخصيات من وسط المجتمع المسكون بالف خيبة والم واحباط، فهو يشير الى رغبته في اعادة تشييد هذه العمارة الانسانية المكونة من مشاعر فياضة طافحة بالقلق والمحبة والامال المنكسرة.

لقد سعى انطونيوني في معظم افلامه الى ان يروي بجمالية تكاد تكون متميزة شبه توثيقية كيف ترسم الحدود الداخلية للنفس البشرية في الاطار الذي يتطور ويسير فيه التاريخ الانساني، عاكسا لحظات تاريخية في اعماق النفس البشرية، مما يجعل العديد من اعماله وكانها موضوعات ساخنة في قراءة القلق الانساني.

والأستاذ الذي ظل حضوره يتسع يوما بعد آخر، حتى اخر ايام حياته حيث اقام معرضا فنيا لاعماله التشكيلية في احدى القاعات المرموقة في ميلانو، يستدعي استرجاع إنجازات وإبداع فنان يعتبر أحد بناة السينما الأوربية التي توسمت لنفسها منحى ولغة متميزة غير تقليدية اقتربت من حياتنا اليومية المعاصرة بكل دلالاتها ورموزها ومجازياتها، اعتمدت على توظيف ملامحها الجمالية لتقدم للمواطن كشوفات وقضايا ومواضيع فنية لم تجرؤ السينما من قبل على الاقتراب منها.

انطونيوني الذي برز في الستينات كان من رواد جيل السينما الجديدة التي بدت آنذاك اكثر تواضعا في مطالبها الاقتصادية للتخلص من دكتاتورية الجمهور العريض، وهي اكثر طموحا في نزوعها الإبداعي، فكانت تقصد جمهورا خاصا يهتم بالقيم الفنية العالية، ولهذا ضمنت لنفسها البقاء وكان المستقبل لها مع انها ظلت نخبوية في توجهها العام، اذ وضعت مشاهدها أمام دور جديد يستدعي الاهتمام الذاتي والتركيز الذهني والنفسي في عملية مواجهة العمل الفني المبدع.

وكانت أعمال انطونيوني وكأنها قراءات متجددة لنفس الموضوع المتعلق بفلسفة الوجود الإنساني. كل فيلم هو قراءة وكل قراءة هي إعادة كتابة مختلفة، تفتح افقا جديدا، وترسم معالم رؤية اخرى، وتستشرف تخوم عالم جديد، وكانت أسئلة صعبة في واقع صعب يجيب عنها انطونيوني الذي اندرج في الظاهرة التي أثارتها الفلسفة الوجودية في أوربا، فقد قال" اطمح ان اتتبع شخصياتي الى ما وراء اللحظات التي تعتبر تقليديا لحظات مهمة لاظهرهم حتى عندما يبدو ان كل شيء قد قيل".

وبعد فترة صمته الطويل بسبب مرض الشلل النصفي الذي أقعده اكثر من عشرين عاما لا يتكلم ولا يستطيع تحريك ذراعه لحد يوم وفاته، كانت تحفته ( فوق الغيوم) 1995 حيث وظف أربعة قصص تقع أحداث اثنين منها في إيطاليا واثنين في فرنسا، وهي مأخوذة من مجموعته القصصية التي كتبها في مطلع الثمانينات تحت اسم (كرات البويلينغ على نهر التيفر) ليقوم بإخراج هذا الفيلم يساعده المخرج الألماني فيم فيندر، واخر ما قام باخراجه هو فيلم " الخيط الاخير" عام 2004 وهو يحوي ثلاث قصص يروي من خلالها قصة حياته الايروتيكية وعرض في مهرجان فينسيا عام 2004 تمثيل كريستوفر بوخلوس وريجينا نيني ولويزا رانيري.

ترك انطونيوني لفن السينما ما يقربب من عشرين فيلماً وهو رصيد متواضع لمخرج معمر ولكنه ثروة فنية كبيرة استحقت تقدير العالم اجمع. وحصل انطونيوني فيي مشواره الطويل على العديد من الجوائز منها الاسد الفضي من مهرجان فينسيا 1955 على فيلم "النساء فيما بينهن" وجائزة لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان كان الفرنسي 1061 عن فيلم " المغامرة"" وجائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين 1961 عن فيلم " الليل" وجائزة لجنة التحكيم الخاصة بمهرجان كان عن فيلم" الخسوف" 1962، وجائزة الاسد الذهبي من مهرجان فينسيا 1964 عن فيلم" الصحراء الحمراء"، والسعفة الذهبية من مهرجان كان عام 1967 عن فيلم" تكبير الصورة" وجائزة لجنة التحكيم الخاصة لمهرجان كان الدولي عن فيلم" تعريف امرأة". اضافة الى عدد كبير من الجوائز المحلية في ايطاليا.

برحيل مخرج في قامة الايطالي انطونيوني الشاعر والرسام والناقد، تكون السينما العالمية قد خسرت واحدا من اولئك المخرجين الذين طالما كرمتهم السينما العالمية في اكثر من مناسبة سواء باختياره رئيسا للجنـــة تحكيم في مهرجانات دولية شهيرة او في اقامة عروض استعادية لافلامه تفاعل فيها حضوره الابداعي مع ايمانه العميق بمفهوم الحرية في العمل الفني، لتنطوي مرحلة كبيرة من تاريخ السينما الايطالية والعالمية.

المدى العراقية في

16.08.2007

 
 

تركة بيرغمان السينمائية

الختم السابع : بيرغمان وشعريّة السينما

دلور ميقري

1

أغسَق ليلُ الفنّ، بما كان من خمود نجمه الأكثر سطوعاً ؛ إنغمار بيرغمان. إنه المخرج السويديّ، المبدع في مجاليْ السينما والمسرح، ومن جعل حياته رهينة لهما ؛ حدّ أنه قال مرة مازحاً : " المسرح بمثابة الزوجة والسينما عشيقة ! ". وإذا كان المسرح ـ ولا نعني هنا النصّ ـ من الصعب أن تلقى أعماله المنجزة رواجاً خارج لغتها ؛ فالفيلم، على العكس من ذلك تماماً. إننا على بيّنة من حقيقة، أنّ أشهر كتاب المسرح العالميين، المعاصرين للقرن الفائت، كان سويدياً ؛ وهوَ اوغست ستريندبيرغ. بيدَ أنّ السينما، العريقة فعلاً في تلك البلاد، ستنتظر إسمَ إنغمار بيرغمان، لتتواشج به، أبداً، وخاصة على مستوى معمورتنا. ولكنّ إعتراف السويد بمبدعها هذا، قد جاء متأخراً. فضلاً عن كونه ـ الإعتراف ـ ما فتيء مظللاً بالريبة والشك فيما يتعلق بالتأثير البالغ الأهمية لبيرغمان على الفنّ السابع، عالمياً. على أنّ هذا حديثٌ آخر. إنّ ما يهمنا هنا، هوَ محاولة تتبع تجربة هذا الفنان العظيم وما فيها من مواضيع مجددة، على مستوى الأسلوب والمضمون سواءً بسواء، وعلى الأقل من خلال أحد أهمّ أعماله ؛ " الختم السابع ". هذا الفيلم، المنتج عام 1957، حقق لمخرجه شهرة فورية، خارج بلاده، تجلى بنيله تقديراً رفيعاً من النقاد وصانعي السينما. وعلى رأيي البسيط، فربما أنّ تحفة السينما هذه، شكلت ليسَ فاتحة مسيرة الإبداع لبيرغمان فقط، بل وخاصة ً نقطة تحوله إلى المواضيع الكونية، الشاملة ـ كمسائل الشك والإيمان ومعنى الحياة والموت ؛ وهيَ المواضيع، التي شغلت من جايله أو جاء بعده من مبدعي الصورة والكلمة، مثل فلليني وبازوليني وكامو وايكيلوف ومحفوظ.. وغيرهم.

2

حينما تبادرت له فكرة فيلم " الختم السابع "، كان بيرغمان على أبواب العقد الرابع من عمره ؛ رجلاً مفعماً بالحيوية والثقة بقدراته وطاقاته الإبداعية : هوَ من سبق له إجتياس خشبة المسرح إخراجاً وتأليفاً، ومن أثبت حضوره الجماهيريّ حدّ أن تسند له وظيفة إدارية، سامقة ـ كمدير لمسرح مدينة " هلسينبورغ "، وكان بعدُ في منتصف العشرينات من العمر. شغفه بالخشبة، الغامر، ظل مكنوناً في أعماقه، وإنعكس لاحقا بهذه الدرجة وتلك على أعماله السينمائية. الدور الأول، الذي تعيّن على مبدعنا التضلع به، كان أثناء طفولته ؛ التي ما كانت سعيدة بحسب سيرته الشخصية. فكما كان حال زميله، المعلم الفريد هيتشكوك ووالده الشرطيّ القاسي ـ كذلك الأمر معه، حينما تعيّن عليه صبياً التحايل على وطأة أبٍ متزمّت وحاد الطبع ؛ وبكلمة اخرى، قسّ بروتستانتيّ ! هذا الأب، كان من بيئة متوسطة الحال حينما تعرّف بالأم، التي إنحدرت من طبقة أرقى وكانت حينئذٍ قد أنهت للتو دراسة التمريض. يجدر القول، بأنّ صفة " الممرضة " قد أضحى لها بريق خاص، شاعريّ، مع حلول الحرب العظمى ؛ وبالرغم من أنّ السويد بقيت بمنأى عنها. حينما ولد للعائلة في 14 تموز 1918، صبيّها الثاني ـ الذي دعيَ " إنغمار " ـ كانت وقتذاك مستقرة في مدينة " اوبسالا ". إنها إحدى العواصم القديمة لبلاد الفايكنغ، والتي إجتلبت لها جامعتها ومكتبتها وكاتدرائيتها، صيتاً عالمياً في الزمن الحديث. هنا في مسقط رأسه، درس إنغمار علومه الأولى، قبل أن ينتقل مع الأسرة إلى ستوكهولم، ليواصل من ثم فيها دراسته العليا في المسرح. كان ا|لأب قد إنتقل للعاصمة، مع تعيينه راعي أبرشية " اليانورا "، في المنطقة الارستقراطية " اوسترمالم "، ومن ثمّ ترقيه فيما بعد إلى خدمة القصر الملكيّ. لا ريب أن جوّ القسوة والتزمت، المستهج بطفولة مبدعنا، قد وجّها روحه الشفيفة، المرهفة، ناحية الفن والأدب، كيما تجدَ متنفساً طبيعياً لمكنوناتها. وسنعاين كيف وجدَ هذا الجوّ الدينيّ، البروتستانتيّ، ترجيعاً له في أعمال مخرج المستقبل، العبقريّ ؛ كما في مثال الفيلم الذي نحن بصدد دراسته.

3

بما أننا عقدنا مماثلة بين بيرغمان وهيتشكوك، لناحية تشابه البيئة العائلية، فلنقل أنّ كلاهما إشترك كذلك في إبداع النصوص الخاصة بأفلامه، علاوة على الفترة المطولة اللازمة لتحضيرها، إلى تقشف الميزانية الخاصة بها. إلا أنّ بيرغمان إختلف مع سلفه ذاك في نواح كثيرة ؛ ما كان أقلها طبيعته الرقيقة، السلسة، فيما يتعلق بطريقة التعامل مع طاقم العمل. هذا الطاقم، شاءَ مخرجنا التواصل معه لعقود من الزمن، كما لو أنه أسرة حقيقية وهو والدها وراعيها. إذ المعروف الآن، أنّ ممثلين سويديين، معينين ـ كماكس فون سيدو وغونار بيورنستراند وبيبي اندرسون ونيلس بوبه ـ دأبوا على لعب الأدوار الرئيسة في أفلام بيرغمان، فضلاً عن النرويجية ليف اولمان ؛ التي تناهت علاقته بها، الحميمة، في منتصف السبعينات إلى العيش معاً تحت سقف واحد. هذه الأخيرة، ما كان مخرجنا قد تعرف بعد بها، أثناء تحضيره لفيلم " الختم السابع " ؛ المبتدع من لدنه قصة ً وسيناريو وحوار. إسم فيلمه هذا، كما أفترضُ، مستلّ من البوق السابع لـ " سفر الرؤيا "، الإنجيلي : " إختمْ على ما تكلمتَ بالرعود السبعة ولا تكتبه، خذه وكله ". وعندي، أنّ المشهد المتمثل بلقاء الفارس " انطونيوس " ( النجم العظيم ماكس فون سيدو ) مع الفتاة المتهمة بالسحر، ربما ليجسّد بشكل حرفيّ هذه الآية. إذ يطلب الفارس منها عدم مواصلة الكلام، ومواجهة الموت كقدر محتوم، فيما هوَ يناولها نبتة سامة لتساعدها على الخلاص من عذاب المحرقة. يبدو أنّ فارسنا كان محتفظاً بالسم لنفسه، كما نقرأه من محاورته مع الرجل الموصوف بـ " الموت ". يقيناً إنّ هذا المشهد، إضافة لعنوان الفيلم ودلالاته اللاهوتية والفلسفية، قد وجدَ له صدىً في رواية امبرتو ايكو، الكبرى، " إسم الوردة " : فهنا في " الختم السابع "، نعايش أجواءً شبيهة بما يعقب نذير القيامة وقدوم المسيح الدجّال، المتحكم بعقلية القرون الوسطى، الأوربية ؛ مجاعات، أوبئة، تزمت ديني، إنشقاقات مذهبية وهرطقات.. الخ. ففي عام 1351، يؤوب بطل الفيلم، الفارس أنطونيوس، إلى بلاده من فلسطين ـ " الأرض المقدسة " ـ حيث كان مشتركاً في حملة صليبية. صدمه هنا للوهلة الأولى، مشاهد الرعب المكتنفة البشر والمتمثلة بفرارهم بأرواحهم أمام زحف الوباء ( لنتذكر أيضاً هذه الثيمة ودلالتها في " الطاعون " لكامو، و " الحرافيش " لمحفوظ ). ها هيَ مفارقة، يقدمها الفيلم للمُشاهد : أنّ البطل الفارس، الذي نجا من غمار الحرب الطاحنة، سيعود إلى موطنه مع رفيقه " حامل الأسلحة " ( النجم غونار بيورنستراند )، ليواجها مصيرهما بالمرض القاتل. اللقطة المستهل بها الحدث، كانت ذات مغزى لناحية الأجواء الملحمية والفنتاسية للحكاية ككل. فنحن سنتابع مواجهة في لعبة الشطرنج، بين ما يمكن وسمه بـ " الموت " وبين الفارس ذاك. هذه اللقطة، بحسب مؤرخي فن السينما السويدية، كانت على خلفية تأثر المخرج بأجواء بيئته الدينية : إنها صورة عن لوحة للرسام القروسطي، البيرتوس بيكتور، مثبتة في كنيسة " تيبي " بالسويد. المشهد التالي للفيلم، كان على موعد مع مفارقة اخرى ؛ حينما نجد الناس يسلون الخطر الداهم ويتحدون الموت المتربّص بهم، عن طريق اللهو والعبث وممارسة الحبّ المحرّم. ها هنا، إذاً، سيكون على رجال الدين التحرك، همُ القائمون على كبح الخطيئة وتذكير الناس بلحظة الحشر، القريبة. إنّ عائلة مكوّنة من زوج ممثل، أشبه بالمهرج، يدعى " يوف " ( نيلس بوبه ) وزوجته الوفية " ميا " ( بيبي اندرسون ) وطفلهما، كانت في طريق الفرار من الوباء، حينما تلتقي بشخوص الحكاية الآخرين ـ الأشبه بالفنتاسيين ؛ وهم قسّ وصائغ وزوجه وعشيقها وفتاة متهمة بالسحر، علاوة على الفارس و حامل أسلحته. إنهم سبعة شخوص إذاً، مما يحيلنا إلى عنوان الفيلم بالدرجة الاولى. المشهد الأخير من الفيلم، سيجسّد رمز الإحالة تلك ؛ بما كان من عرضه لحضور المسيح، المنبثق نوره في حلكة المشهد وغموضه، ومن ثمّ متابعتنا لأولئك السبعة ـ إثر موتهم، على الأرجح ـ وهم على هيئة أشباح، منطلسة الملامح، ممسك الواحد منهم بيد الآخر ويبدو في حالة من التدافع والهرج، وكأنما يفرّ من مصير ما، محتوم : هيَ ذي إحدى مفارقات الحكاية، ما دام الأموات بدورهم على موعد مع مسائل الوجود، الملغزة، التي سبق أن واجهوها في حياتهم وعانوا من وطأتها. من ناحية اخرى، يبدو تأثر إنغمار بيرغمان بالمسرح، لناحية شخصية الممثل ( المذكرة بمهرج " الملك لير " لشكسبير )، إلى مشاهد الحوار، المطوّلة ؛ وخصوصاً حينما نعلم أن مدة عرض الفيلم كانت أقل من مائة دقيقة. كما في مشهد الموكب الكنسي، الذي ولجت خلله شخصية القس / الأب، المسكونة في أعماق المخرج ! في ذلك المشهد، تُحَث الرعية على نبذ الفسق والفجور، ما دام الأجل المحتوم بات على مرمى حجر : " أن يموت الإنسان نظيفاً، لهو خير له من جهنم "، يخاطبهم القس. ثيمة " التطهير "، الدينية، ملحوظة هنا. وفي مشهد تال، سيكون على إحدى الفتيات أن تتطهر من لوثة السحر والإتصال بالشيطان عن طريق إحراقها حيّة. لكأنما مخرجنا، يقدم ترميزاً للنازية ومحرقتها ضد اليهود، التي ما كان قد مضى عليها دزينة من السنوات وقت تصوير الفيلم. المحرقة نفسها، المهللة لها آنذاك أسرة بيرغمان بالذات ـ كما الكثير من السويديين ـ والتي عاد هوَ في أحد أفلامه الأخيرة، " بيضة الثعبان " ( 1976 )، لإدانة التواطؤ والصمت العام حيالها.

Dilor7@hotmail.com

موقع "إيلاف" في

16.08.2007

 
 

عظمـــة انجمــــار بــرغمـــان

صحيفة: التايم

ريتشارد كوريس   ترجمة: عدنان توفيق

كان برغمان طوال حياته جادا في كل اعماله، فأغلب افلامه الستين تتعامل مع محنة الروح الحديثة، الشياطين والشكوك، الاسرار والاكاذيب التي يحاول الرجال والنساء تجنبها ولكنهم مضطرون لمواجهتها بسبب تلك المحنة بالذات. ان هذا السويدي المعذب كان الجراح الذي يشرح نفسه، كان يشرح مخاوفه ويحلل اخفاقاته ربما لانه كان يطلب الغفران بواسطة الفن، ولعله لم يعثر عليه، حيث امضى سنواته الاخيرة وحيدا في جزيرة فارو ولا يتحدث الا نادرا مع اصدقائه وزملائه القدامى ولكنه عندما توفي عن 89 عاما ترك برغمان وراءه جمهورا واسعا من المعجبين ومجموعة من الاعمال الفنية الفريدة في كثافتها وتأثيراتها. لاشك ان برغمان قد تفاجأ بالترحيب الحار لاعمال يغلب عليها الطابع الشخصي، اعمال كانت تبدو اشبه بالصرخات وفي مقابلة جرت معه عام 2001 قال "ان الارواح الشريرة لا متناهية وتظهر في اكثر الاوقات غير المناسبة لتخلق الالم والرعب". ويضيف في نفس المقابلة "ولكني تعلمت بأني اذا ما استطعت ان اسيطر على القوى السلبية واشدها الى عربتي فانها تستطيع ان تعمل لصالحي". لقد كان برغمان ومن خلال فنه الذي يفتقر الى التسامح ومن خلال المونولوج الداخلي لعقل معذب يحقق التأثير المطلوب على المستوى العالمي. ان افلام برغمان لا تخاطب الجيل المستغرق في علاج التحليل النفسي ولكن الانسانية بأجمعها تحثها علىاكتشاف الاسوأ والاقوى في داخلها وللقيام بتلك الرحلة نحو الظلام من دون دليل سوى تلك الحاجة الماسة الى المعرفة. وخلال ربع قرن من الزمان يبدأ من اول انطلاقة في عالم السينما في الخمسينيات ويستمر حتى تقاعده بعد الانتهاء من فلمه "فاني والكسندر" عام 1982 خلق برغمان ما يسمى بالسينما الجادة وقد حاز فلمه "Vigin Spning” الربيع العذري على جائزة الاكاديمية عام 1961 وجائزة اخرى عام 1962 عن فلمه “عبر الزجاج الاسود Through aclass Darkly” واخر عام 1984 عن فلم فاني والكسندر، كما تم ترشيحه ثلاث مرات لجائزة الاوسكار عن الاخراج في افلامه “Criesand Whis Pens” صرخات وهمسات ووجها لوجه “Facetoface” وفيلمه الاخير فاني والكسندر كما رشح خمس مرات عن كتابه سيناريوهات افلام (التوت البري) “Wildstrawbennies” و”عبر الزجاج الاسود” صرخات وهمسات و”فاني وسوناته "الخريف" “Autumn Sonata and fany” كما كرمته الاكاديمية بجائزة ايرمنغ تالبريغ عن مجموعة اعماله وهو اول مخرج سينمائي خارج الولايات المتحدة يفوز بها. وفي عام 1960 تم تكريمه بأعلى درجة عندما تصدر في صورته غلاف مجلة التايم، وهو اول مخرج من خارج الولايات المتحدة ينال مثل هذا الامتياز منذ تكريم ليني رفيني ستال عام 1936. في تلك الايام كانت الافلام الاجنبية التي تؤثر على الخبراء هي من فرنسا وايطاليا واليابان اما برغمان فلأنه كان يمثل حركة صناعة الافلام لوحده اصبحت الحركة تسمى بأسمه “البرغمانية” واذا ما اعتبرنا الافلام ادبا فان برغمان هو شكسبير السينما. عندما شاهدنا فلم الختم السابع “The Sevententhsead” شعرنا بان هذا هوالفلم الجدير بالدراسة والذي يمكن للدراس ان يكرس حياته له. فقد اكتشفنا بأننا لسنا في مواجهة مخرج يتعاون مع كتاب السيناريو بل صانع للفلم من مختلف وسائل صناعة الفلم. فبأستثناء فلم “الربيع العذري” الذي كتبه اولا ايزاكسون والمزمار السحري وهو تبني مخلص لاوبرا موزارت فان جميع افلام برغمان هي نتاج عقله الخصب حيث يستند على ذكريات الطفولة واغواءات المراهقة، ووساوسه وحساسيته الشاسعة. ونحن الباحثين عن نماذج تصلح للدراسة احببنا هذا الهوس. فمن خلال رؤيته للرجال كمتواطئين يتسمون بالضعف والنساء كقوة الحياة الحكيمة، ومن خلال الفن الغارق في الالاعيب “كما في فيلمه من نوع الكوميديا السوداء الساحرة. ومن خلال دراسته للاغتراب الجنسي “فلم ــ الصمت” ومن خلال تساؤلاته الداخلية لعقول تقترب من الجنون، ومن خلال رحلاته الى الماضي المرير واخيرا في معركته الطويلة مع الله يمكننا ان نقول بان برغمان هو من اعظم صانعي الافلام في العالم.

ولد برغمان عام 1918 في ايسالا من آب يعمل راهبا على النظام اللوثري وكان برغمان مقسما بين دفء الام وتحريمات الاب والتي استوحى برغمان منها العديد من بطلاته. ويمكننا ان نتخيل برغمان بطبعه النكد والميال للتأمل، كان يمتلك عاطفة واحدة هي عاطفة الفن. فعندما تلقى هدية المصباح السحري عندما كان طفلا انبهر بقدرة المصباح على تحريك الصور.

وقد اعطى للكتاب الذي يغطي سيرته الذاتية عنوان المصباح السحري والذي يمكننا ان نقول بانه عبارة عن ابتهال للوحدة التي كان يعاني منها والحماقات التي ارتكبها ويدفعنا الى التفكير بان مثل هذا الطفل الانطوائي كان قد وقع في فخ داخل محارة ولم يكن باستطاعته النجاة منه. ان الصوت المسيطر للمؤلف في افلام برغمان هو تعبير عن قوة شخصيته، فهو يسحر الممثلين والمنتجين وطاقم العمل الذي يعمل تحت اشرافه. في بداية الاربعاينيات تقدم بطلب للعمل في مؤسسة سيفنسك لصناعة الافلام والتي كانت تمتلك الاستوديو الوحيد في السويد وقد اجرت ارملة الكاتب المسرحي هلمار بيرغمان سيتنا بيرغمان لمقابلة معه وتقول ستينا وهي تتذكر تفاصيل المقابلة “لقد ظهر بضحكة يملؤها الاحتقار في الزاوية الاكثر ظلاما في الجحيم، ولكن بسحر اخاذ الى درجة انه بعد عدة ساعات من الحوار تناولت عدة اكواب من القهوة لأ ستيعد نفسي”. وقد وافقت على الحاقه بالعمل في نفس اليوم. وفي السنوات التي سبقت انطلاقة شهرته رآى في السينما اغراء شديدا وهي تقدم له ما لا يستطيع المسرح ان يقدمه له “المال” ويذكر بيرغمان عن تلك الايام “كنت فقيرا جدا وكان لدي العديد من الاطفال والعديد من النساء اللواتي كن بحاجة الى ان ادفع لهن. ان السبب في صناعتي لافلام ممتازة في ايامي الاولى كان لافتقاري الى الاموال” فالمخرج الكبير كان عاشقا كبيرا لا يبالي بالنساء اللواتي ينبذهن. وهناك شائعات تقول بان البطلات السبعة لفلمه “All these women” كل هؤلاء النساء كن عشيقاته. ومن المعلومات المتوفرة عنه انه تزوج خمس مرات. وخلف تسعة اطفال وعاشر عددا كبيرا من الممثلات واللواتي ساعد عدد   كبير منها ان يصبحن نجمات شهيرات.

ان المخرجين الكبار يفقدون بعض شهرتهم عندما يتوقفون عن صنع الافلام وبرغمان توقف عن العمل في منتصف الثمانينيات رغم استمراره في اخراج المسرحيات وكتب بعض السيناريوهات اخرجت من قبل اولمان ومن قبل ابنه دانييل ولكن ومع التغيير الحاصل في المناخ الثقافي لم يعد احد (بأستثناء كاتب هذه السطور" يعتبره من اعظم صانعي الافلام في العالم.

الإتحاد العراقية في

17.08.2007

 
 

سينمائيات..

مصطفي درويش

شاء المخرج السويدي 'انجمار برجمان' ان يسترجع علي شاشة ذاكرته، وهو علي مشارف الخامسة والستين، ما في وسعه ان يسترجعه من قصاصات حياته، وان يصوغ تلك القصاصات في شكل سيرة ذاتية، ضمنها كتابا اسماه 'الفانوس السحري'، ثم اخرجه إلي الناس، قبل ربع قرن من عمر الزمان.

ولقد شاء له قدره ان يجيء رحيله عن دنيانا في نفس سنة الاحتفال باليوبيل الفضي لهذا الكتاب النفيس، وتحديدا صباح يوم الثلاثين من شهر يوليه الماضي، عندما طيرت وكالات الانباء خبر اختفائه بالموت، عن عمر يناهز التاسعة والثمانين.

واللافت للنظر في فانوسه السحري هذا، صدق صاحب السيرة وجرأته علي نحو قل ان يكون له نظير فعن ابيه يقول.

'كان أبي يمتلك موهبة التمثيل، وكان قلقا شرسا.

لم يكن مسموحا لنا ان نصفر، او نمشي وايدينا في جيوبنا.

نشأت في جو متصلب وقاس، كانت تعاليمنا قوامها الاعتراف بالخطيئة وطلب الغفران.

وبعدما كان يضربنا، عقابا لنا، كان علينا ان نقبل يده.

امضيت عمري اكرهه، غير انه عندما توفيت أمي تقاربنا كثيرا.

كانت تذهلني نزاهته، فجأة اسقط قناعه القاسي'.

وعن مذكرات امه نقل فقرة، بها أختتم فانوسه السحري.

وفيها، تصف علاقتها الزوجية المتوترة بأبيه، وكيف كادت تؤدي إلي الانفصال.

ورغم اعجابه بالمخرج الايطالي 'ميكيل انجلو انطونيوني' الذي جاءه الموت، هو الآخر، بعد رحيله ببضع ساعات، رغم ذلك، وصفه علي النحو الآتي 'كان انطونيوني' سائرا في الطريق الصحيح، ثم ضاع.

لقد اضاعه الشعور بالملل والاكتفاء' وعنده 'الفيلم حلم، وهو ايضا موسيقي والاخراج فن يحاول الغوص في الزمن، وفي الحلم وجذور الحلم تقبع في مكان ما منا'.

وليس هناك فن يسبر اغوارنا المظلمة، مثل فن السينما'.

أما كيف دخل غرفة الاحلام، اي السينما، حيث بعث مخرجا، صانع اطياف، فذلك يرجع الفضل فيه إلي فيلمه الاول 'ازمة' (1946).

ولاتجيئه الشهرة الا بعد ذلك بعشرة أعوام، بفضل مهرجان كان، حيث فاز فيلمه 'ابتسامات ليلة صيف' بجائزة خاصة (1956).

وفاز فيلمه الشهير 'الختم السابع' بجائزة التحكيم الخاصة (1957).

ومن أغرب ما جاء في سيرته، انه بعد تتويجه بجائزة اوسكار افضل فيلم اجنبي عن رائعته 'من خلال مرآة مظلمة' (1961).

وتتويج فيلمه 'صرخات وهمسات' بجائزة اوسكار افضل تصوير (1974).

فضلا عن منحه جوائز أخري من اكثر من مهرجان، وتكريمه من اكاديميات وجامعات.

moustafa@sarwat.de

أخبار النجوم المصرية في

18.08.2007

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)