كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

أحمد زكي ..

الروح القلقة الباحثة عن جسد

عصام قلاوون

عن رحيل الإمبراطور

أحمد زكي

   
 
 
 
 

في أحد أفلام الخيال العلمي الهوليوودية، كان ثمة مركبة فضائية آتية من الفضاء الخارجي تجوب اجواء الكرة الارضية ثم تتوقف فوق بعض البلدان لتطلق شعاعاً مبهراً يمتص أهم معلم حضاري في كل منها ويجتذبه الى داخل المركبة. هكذا شاهدنا برج ايفل وساعة بيغ بن وهيكل الاكروبول يتصاعدون الواحد تلو الآخر الى السماء لتبتلعهم احشاء تلك المركبة العملاقة، بغية مقايضتهم لاحقاً مع سكان كوكب الارض.

البارحة حلقت تلك المركبة فوق القاهرة، العاصمة المصرية، وشوهد هرم من اهراماتها ينجذب صعوداً الى سمائها. لدى تفقدنا اهرام الجيزة ألفيناها لم تمس حتى انها لم تخدش. سرعان ما تبين ان ذلك الهرم المختطف لم يكن من حجر بل من لحم ودم وانه يحمل اسماً: أحمد زكي.

لا مندوحة من القول ان تلك المركبة الفضائية سوف لن تجني شيئاً فيما لو حاولت المقايضة. فجسد احمد زكي قد لا يساوي ثمن كفته، اما روحه الطاهرة التي لا تقدر بثمن فما زالت مطمئنة الى قدرها حتى يقيض الله لها جسداً آخر من عباده لتدخل فيه وتكمل مشوار الابداع الذي نذرت نفسها له، وربما منذ الازل.

كان احمد زكي طوال مسيرته الفنية القصيرة نسبياً يمتلك جسداً برسم الايجار، فيما روحه المتوثبة والمسكونة بهاجس القلق الابداعي تتحين بعض هنيهات الراحة بين نزيلين لكي تستكين داخل جسد الفتى الاسمر المهيوب، ثم لا تلبث ان تنسحب لتمضي معظم وقتها في قاعة الانتظار متحينة هنيهات اخرى قد يمنحها اياها نزيل مستعجل او نزيل آخر الغى حجزه في آخر دقيقة. وكيف لها ان تجد متسعاً وقد تناوبت على سكنى صاحبها شخوص البيه البواب والطبال والرجل المهم واليتيم والراعي والامبراطور والباشا وسواق الهانم وابو الدهن وحسن اللول والبطل وطه حسين وناصر والسادات والوزير وأخيراً حليم.

في مقابلة تلفزيونية نادرة اجريت معه منذ اربع سنين ـ تجرأ الفتى الاسمر وروى للمرة الاولى ما حدث معه ذات ليلة عندما انفصلت روحه عن جسده، وكيف انتصبت في سقف الغرفة كباقة من "غزل البنات" وراحت ترقب من عل جسده المتكوم ارهاقاً على اريكة بعد يوم عمل شاق، ثم انقضت عليه ودخلته مجدداً مما ادى الى سقوطه عن الاريكة ارضاً. في تلك اللحظة، بدت تلك الروح كأنها تلوم صاحب الجسد على اهماله لها وتفضيله اولئك الشخوص الافتراضيين، أو كأنها تهدده بالهجر فيما لو ثابر على خيانته لها وعدم الالتفات الى متطلباتها ولو بالحد الادنى.

لنستمع اليه يتحدث عن نفسه: "أنا لا أحيا الا على الشاشة، حتى حين أغني في فيلم ما، أكون اصدح بصوت الشخصية التي أجسدها وليس بحنجرتي. وشخوص افلامي ترافقني بعد انتهاء التصوير الى الفندق، مركز اقامتي الدائم بعيداً عن هموم الحياة اليومية، فتأكل من صحني وتشرب من كأسي وتهيمن على جهازي العصبي".

لم يكن أحمد زكي يشبه احداً من اقرانه العرب. هو نسيج وحده، ظاهرة استثنائية في سماء الفن السابع المصري قد يطول الوقت قبل ان تتكرر مرة اخرى. لم يكن يسعى الى الاضواء ولا يلهث خلف الجوائز. هذه وتلك كانت تأتيه صاغرة منصاعة. وقته أثمن من ترف الحفلات الصاخبة واللقاءات الفارغة المضمون.

لعل فرادة احمد زكي وتميزه تكمن في ابتعاده عن النمطية في ادائه وحرصه على عدم تكرار الشخوص التي تعرض عليه. وهو حاول بلا ريب ونجح في مسعاه الى حد بعيد. أما التي ظلت قاصرة عن استثمار مواهب هذا الممثل الفذ والنادر (بعد رحيل زكي رستم ومحمود المليجي) فهي السينما العربية عامة والمصرية خاصة اذ لم تبذل جهداً خلاقاً في انتاج سيناريوات تبتعد بشكل جذري عن الانواع التي سادتها طوال عقود مديدة وتقترب رويداً من موضوعات افلام مثيلاتها في اوروبا واميركا وحتى في بعض آسيا، وكان لتواجد ممثل عربي من خامة احمد زكي ضمن فنانيها ان يمنحها انتشاراً عالمياً تحتاج اليه في شدة للخروج من أزمتها المزمنة خاصة بعدما اصبحت "المحلية" جواز المرور الاساسي نحو العولمة السينمائية.

ثمة "شريفان" اعترفا متعملقين بافضلية أحمد زكي عليهما. "الشريف" الأول، عمر، عندما سئل عن وصفه لمميزات النجم العالمي، فاجاب: "ممثل من طراز احمد زكي". اما "الشريف" الآخر، نور، فأقر بتواضع الكبار: "احمد زكي هو الممثل الأول في مصر وهو يتقدمني".

كان احمد زكي يتجنب مصطلح "التمثيل" للدلالة على مهنته – هويته. كان يفضل عليه مصطلحات رديفة مثل "التجسيد" أو "التشخيص" أو "التقمص". سألني أحدهم يوماً: "هل يصلح احمد زكي لدور العندليب عبد الحليم حافظ؟ فأجبته: "هو الاصلح والاجدر والأذكى، لأنه يمتلك خامة وموهبة الممثل المتكامل صوتاً وصورة واحساساً، وهو بالتأكيد لن يتورع عن الغطس في مستنقع مليء بجرثومة البلهارسيا سعياً للمزيد من الصدقية في تجسيد شخصية العندليب المريض. ألم يفعلها من قبل في فيلم "موعد على العشاء" عندما أصرّ على التمدد داخل براد مشرحة حقيقية كجثة باردة لميت حسبما اقتضت متطلبات الدور؟".

البارحة، لم يعد احمد زكي في حاجة الى ذلك الجسد المتهالك الذي أضناه المرض الخبيث. ولعله كان من مخلفات احدى الشخوص التي تقمصها سابقاً، ولما خرجت منه نسيت او تناست اخلاء جميع امتعتها فتركته معششاً في ثنايا الكبد والمرارة والرئة. لتأخذ تلك المركبة الفضائية ذلك الجسد، فللمرة الاولى اصبحت روح احمد زكي طليقة حرة، هائمة على سجيتها، راضية مرضية، قلقة متمهلة في خيارها المقبل، عسى ان يكون مصرياً مرة اخرى، لأن مصر رائدة السينما العربية ما زالت في أمسّ الحاجة الى موهبة فذّة تقارع بها سينمات العالم. في عهد احمد زكي كنا نتجرأ ونتحدى: ماذا لدى اولادكم مارلون براندو وجاك نيكولسون او روبرت دو نيرو افضل من ولدنا احمد زكي. اما اليوم بمَ عساي اواسي داود عبد السيد ومحمد خان وخيري بشارة وعلي بدرخان؟

"لم أشبع من الحياة بعد" عبارته الاخيرة التي همس بها قبيل رحيله. نحن ايضاً لم نشبع منك بعد ايها النمر الاسود!

النهار اللبنانية في

30.03.2005

 
 

رحيل النمر الأسود يخيّم على ذكرى العندليب

القاهرة - أمينة خيري 

في مثل هذه الأيام من كل عام، منذ 27 عاماً، كانت محطات الإذاعة والتلفزيون المصرية تكثف الجرعات «الحليمية» من أغانٍ وأفلام ومقاطع من أحاديث مسجلة، وذلك استعداداً لحلول ذكرى وفاة العندليب الراحل عبدالحليم حافظ·

لكن في هذا العام، ومع قدوم الذكرى الـ82 لرحيله (توافق اليوم 30 آذار/ مارس)، تناول المشاهدون والمستمعون جرعات مكثفة من أغنية «موعود» التي رأى القائمون على غير محطة تلفزيونية وإذاعية، أنها خير ما يمثل الفترات الحرجة الأخيرة من حياة الراحل أحمد زكي الذي جسد شخصية العندليب في فيلم لم يكتمل بعنوان «حليم».

وفي السنوات القليلة الماضية، كانت الذكرى التي تؤلب مواجع المتضررين من الفيديو كليب والتطورات الحادة التي فتكت بالأغنية المصرية، فرصة للولولة على الرصانة والوقار، والبكاء على أطلال الفن الراقي، والنحب على زمن الالتزام، وذلك تحت ستار إحياء ذكرى العندليب.

في هذا العام، خف هذا الاتجاه - بل كاد أن يختفي تماماً - وذلك لسببين، أولهما: الاستقرار النسبي الذي تمكن الفيديو كليب من تحقيقه رغم أنف الجميع. والسبب الثاني هو تشابك أضلع مرض أحمد زكي، ورغبته العارمة في تجسيد شخصية عبدالحليم حافظ حتى في الأيام الأخيرة لمرضه، وأوجه التشابه الكثيرة التي تربط قصة حياة الفنانين حافظ وزكي ثم رحيل زكي قبل أيام من حلول ذكرى حليم· ولسبب ما، اعتبر المصريون عبارات ولقطات تأبين الفنان أحمد زكي في حد ذاتها احتفالاً بذكرى رحيل العندليب من دون الحاجة إلى الإشارة المباشرة لذلك·

وبدلاً من التركيز على التفتيش في الدفاتر القديمة الموضوعة في أدراج الصحافيين منذ ثلاثة عقود، وذلك لإعادة تدوير مقالات ومواضيع لا تخرج عناوينها عن إطار «أسرار لم تنشر من قبل عن العندليب» و»الحب الوحيد الحقيقي الذي لا يعرفه أحد في حياة العندليب»، اتسع المجال هذه المرة ليشمل كذلك «أسرار لحظات رحيل الفتى الأسمر»، و»محطات ننشرها للمرة الأولى من حياة أحمد زكي»·

صحيح أن دار الأوبرا المصرية لن تغير من عاداتها في الاحتفال بذكرى عبد الحليم حافظ بإقامة حفلات موسيقية يحييها مطربو الدار ومطرباتها، من دون الإشارة إلى أحمد زكي لأنه لم يكن مطرباً، لكن المؤكد أن مرتادي حفلات الأوبرا سيستمعون الى أغاني عبدالحليم حافظ على إيقاع ذكريات النمر الأسود·

الحياة اللبنانية في

30.03.2005

 
 

مات مبكراً ككل أحلامنا.. أحمد زكي كما يراه نقاد وفنانون سوريون:

رجل من لوننا.. أعاد للتمثيل بهجة اللعب والتجريب والخيال

(دمشق) راشد عيسى

هل هناك معادل سوري لأحمد زكي؟ نلقي بالسؤال كنوع من المجازفة إلى مثقفين وفنانين سوريين، أو كنوع من إثارة حوار حول الرجل، وسرعان ما تأتي إجابات متأثرة ومحبِّة: بل ليس هنالك من يعادل أحمد زكي حتى في مصر نفسها. هكذا أجابني نجيب نصير الناقد وكاتب السيناريو التلفزيوني. فيعلق عبد اللطيف عبد الحميد (كنت قد التقيتهم في موعد <<السابعة مساء من كل ثلاثاء>> في مقهى الهافانا، لمن يريد موعداً سورياً سينمائياً ثابتاً) يقول: لا يخلو الأمر، ولكن هذا يحتاج إلى تراكم في السينما والمسرح يمكن أن ينتج ما له نكهة خاصة. ويتذكر عبد الحميد لقاء وحيداً، وهو لم يكن لقاءً على وجه الدقة، قال بعد أحد أفلامي التي عرضت في مهرجان دمشق السينمائي جاءني معانقاً، قال كلمة واحدة: <<جدع>>. ومضى. ويضيف عبد الحميد: <<لم أر ممثلاً عربياً أمسك بناصية الشخصيات بهذا العمق وهذه الحساسية، في حضوره تشعر وكأنه معك، إلى جانبك، حتى لو كان يؤدي واحداً من أدوار الشر. كان أقل نجوم مصر كلاماً. أمس، سمعت من يقول إن لونه كان عائقاً له في بداياته، مثله لديه من الغنى الداخلي ما يجعله يتجاوز ذلك>>.

ويحكي حسن سامي يوسف، كاتب السيناريو الأكاديمي الوحيد في سوريا، عن لقاءاته مع أحمد زكي: <<التقيته أول مرة قبل أكثر من خمسة عشر عاماً. جمعتنا مناسبة واحدة: دورة مهرجان دمشق السينمائي السادسة. كلانا كان عضواً في لجنة التحكيم. حدث هذا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989. عملنا في اللجنة سوية عشرة أيام، أو نحو ذلك. كانت اللجنة حسب ما أتذكر الآن تتألف من تسعة سينمائيين ينتمون إلى بلدان مختلفة، وبالتالي إلى ثقافات مختلفة، أو حتى حضارات مختلفة. كان فيها الياباني والروسي والألماني والفرنسي والبرازيلي والتركي والعربي. وكان المنطق يقول إننا (أحمد زكي وأنا) ننتمي إلى ثقافة واحدة، أو تقريباَ واحدة. والذي جرى هو أننا -رغم ثقافتنا الواحدة لم نكن على وفاق في نقطة جوهرية عند أي لجنة تحكيم: الجوائز. كانت تلك الدورة من المهرجان حبلى بالأفلام الجيدة، بل وحتى الممتازة، وكان عددها سبعة عشر، وبعد التصفيات، التي ربما كانت قاسية، بقي لدينا خمسة أفلام تتنافس على الجوائز الرئيسة الثلاث. وكان الخلاف في اللجنة حاداً، على وجه الخصوص حول الجائزة الكبرى. كنت في حواراتنا أحاول أن أقنع الرجل الذي أشاركه الثقافة ذاتها بأن نمنح هذه الجائزة لفيلم (من الخمسة المتبقية طبعاً) ينتمي إلى سينما فقيرة. كان متعصباً للسينما فقط، كان متعصباً للفن فقط. وكان تعصبه غير محدود، فكان بالتالي منسجماً مع نفسه بلا حدود، فهو رجل شديد الانتماء للفن، وشديد الإخلاص له. ولو لم يكن كذلك لما نجح في تجسيد كل تلك الشخصيات التي تذكرني ولست أدري لماذا بالضبط بالكوميديا الإنسانية؛ شخصيات يعجز عن نظمها أي عقد اجتماعي، أو سواه؛ من بواب العمارة إلى رئيس الجمهورية، مروراً بالطبيب والجندي والمهندس والراعي والفتوة والكوافير وسائق التاكسي ورجل البوليس المهم والمتشرد ورب الأسرة الفقير والمهرج والخارج على القانون والطبال والفلاح والمكنسيان، إلى آخر القائمة الذي هو <<حليم>> أو العندليب الأسمر كما نحب جميعاً أن نسميه. ألا يذكرنا هذا كله ببلزاك أو الكوميديا الإنسانية؟ إن إنجازاً بهذه الجسامة وهذا التأثير لا يمكن أن يقف وراءه إلا رجل عبقري، ولو لم يكن أحمد زكي كذلك لما أمكنه أن يلعب شخصيتين تبدوان لكثيرين منا شديدتي التناقض (من وجهة النظر الأيديولجية على الأقل): جمال عبد الناصر في <<ناصر 56>> وأنور السادات في <<أيام السادات>>. ألا تنظر غالبيتنا إلى هاتين الشخصيتين بوصفهما من الأضداد؟ أظن أن الأمر كذلك. وإن كان ما أظنه جائزاً يكون أحمد زكي قد جسد الأضداد أمام الكاميرا بالإخلاص نفسه، وبالحب نفسه، الإخلاص للسينما، والحب للسينما، وكلاهما بحماسة غير محدودة. أتذكر اليوم ذلك الخريف الذي صار بعيداً. وأتذكر أنه كان خريفاً بارداً بخلاف حواراتنا (أحمد زكي وأنا)، صحيح أننا كنا مختلفين إلى النهاية في نقطة مهنية ما، ولكن الصحيح كذلك أننا كنا متفقين في كل شيء آخر، تقريباً، حتى إن درجة من الصداقة قامت بيننا، رغم قلة الأيام التي ترافقنا بها معاً. أذكر تسكعنا في شوارع دمشق وحواريها العتيقة، وأتذكر أننا اتفقنا على أن نلتقي مستقبلاً في مدينة ما، وأتذكر أنه كان بيننا، فيما بعد، بعض التحيات والرسائل الشفوية عبر هذا الصديق المشترك أو ذاك، في هذه المدينة أو تلك>>.

سوريون في فيلم <<حليم>>

كانت المشاركة السورية في فيلم <<حليم>> أمراً مفاجئاً للكثيرين، رغم أنها لم تكن المرة الأولى التي يشارك فيها سوريون في أعمال مصرية، فما من ضرورة درامية على ما يبدو لمشاركةٍ سورية، سوى أن الأمر يعكس هوى قومياً عند منتج الفيلم عماد الدين أديب وعند الفنان الراحل. والمشاركة ليست هامشية على عادة أعمال كثيرة سابقة، فالفنان جمال سليمان يلعب دور الكاتب مصطفى أمين الذي يلازم حليم جل حياته وعبره تروى سيرة العندليب. فيما تلعب سلاف فواخرجي، الوجه الأجمل في الدراما السورية، دور حبيبة مجهولة لعبد الحليم. تقول سلاف إن أجمل أغاني حليم كانت لتلك المرأة التي حال انتماؤها الطبقي من زواجها من حليم. ورغم أن حكايتها موثقة غير أنها ستأخذ في الفيلم اسماً آخر، مراعاة لعائلتها على ما يبدو. وتضيف سلاف: <<التقيت بأحمد زكي للمرة الأولى في 16 كانون ثاني الماضي، في المؤتمر الصحفي الذي أجري بمناسبة انطلاقة الفيلم، وكانت المرة الأولى التي يظهر فيها على الوسط الفني منذ عام، بدا تعباً أول الأمر، وبعد لحظات عادت روحه. أنا كان عندي فرح بلقائه، وخوف على ممثل غير عادي. كان استقباله لي مريحاً، قبّل رأسي وعبّر عن سروره بي، وكان شديد الاهتمام بي وبجمال سليمان، وقال إنه كان متابعاً لنا تلفزيونياً>>.

يتذكر الفنانون السوريون أحمد زكي بتأثر بالغ ويروون عنه لقاءات أو كلمات مهما قلّت. يتذكر الممثل زهير عبد الكريم: <<التقيت أحمد زكي في مهرجان السينما في دمشق بعد عرض فيلم <<نجوم النهار>>، كانت كلماته كالأوسكار بالنسبة لي. سألني: <<كم فيلم عامل؟>>، قلت هذا فيلمي الأول. قال: <<مش صحيح، ده انت ممثل ابن..>>. دعوته إلى قريتي <<معربة>> وكانت كلها بانتظاره ذلك اليوم، حتى عمتي عزيزة التي لم تكن تعرف ماذا يفعل أحمد زكي. حينما ذهبت إليه في الفندق، انتبهت إلى أنه لا يهتم بصحته، قال أنا عملت كل حاجة، ولا أريد شيئاً من الحياة. ما زلت أذكر انطباعات الناس في قريتي عند لقائه، من بائع السجائر المهربة الذي راحت علب السجائر تتساقط منه مرتبكاً حينما رآه، إلى نادلي الفندق الثلاثة الذين أسقطوا الصحون تباعاً لدى رؤيتهم له>>. ربما كانت الممثلة أمل عرفة تقد بالمصادفة تفسيراً لحوادث السقوط والارتباك تلك، حين تقول إن الفنان أحمد زكي من أولئك الذين <<إذا أتوا إلى مكان يختل توازن الأشياء وتميل الأرض باتجاه أقدامهم ويبقى كل المحيط دون جاذبية. وهم وحدهم أصحاب المدار، أصحاب الدارة السحرية التي لا تدخل في تركيبتها لا الكهرباء ولا الكيمياء ولا بقية العلوم بل يدخل فيها شيء لا ندركه نحن البشر لأنه سر الخالق>>.

أما حاتم علي، المخرج التلفزيوني والمسرحي، فقد اعتبر أن رحيل الفنان فاجعة شخصية له، يقول: <<في زمن لا وجود فيه للعمالقة، يبدو أحمد زكي وكأنه آخرهم، فهو أستاذ مهنة، أضاف لها الكثير، وأثبت أنها مهنة إبداعية بامتياز، أعطاها من روحه الكثير، وقدم شخصيات نادرة، حارة، وخاصة، عبر تقنيات متميزة، لا يستطيع غيره أن يفعلها. إلا أن جوهر الأمر ليس هذا وحسب، فأحمد زكي نموذج للنجاح في أبهى صوره، مسيرة حياته هي إحدى حكايات الطموح النادرة، فقد بدأ فقيراً معدماً، ولم يكن يملك مواصفات النجم بالمقاييس السائدة، ولكنه استطاع أن يتربع على عرش مهنة التمثيل، ولهذا أصبح الحافز والقدوة، والمثال الذي يبعث فينا الأمل. رحيل أحمد زكي محزن وفاجع لي شخصياً، رغم أنني لم أعرفه يوماً، ولم ألتق به أبداً، ولكنه كان الأمل، والمثال، والطموح الذي نمتلكه جميعاً. وإذا كنا قد فقدناه اليوم، فإن قصة نجاحه ستبقى. ذهب الرجل، لكن حكايته ستبقى>>.

شيء غريب كانت تشير إليه شهادات الناس وذكرياتهم عن الفنان الراحل؛ أليس غريباً أن يتذكر الناس من بين ستة وخمسين فيلماً، وغيرها من أعمال تلفزيونية ومسرحية، ذلك الدور البعيد لأحمد زكي في <<مدرسة المشاغبين<<؟ ما السرّ في ذلك؟ ألأن الفتى الهادئ والجاد في مدرسةٍ للمشاغبين كان أقرب ما يمكن إلى صورة الطفل الذي كانه أحمد زكي، فتى يتيماً، وحيداً، وضائعاً؟ أم لأن تلك الصورة البائسة تصلح منطلقاً للمقارنة بين ما كانه الرجل وما صار إليه؟ أي ما يصلح باختصار ليكون تراجيديا تلخص الوضع البشري الممتلئ أملاً والمأسوي على حد سواء، كما يقول الشاعر عابد اسماعيل حين يشير إلى <<كآبة خفية ظلت ترافق الفنان في كل الأدوار التي لعبها، يستشعرها المرء في صوته الخفيض وابتسامته الهادئة، لتضفي على الأدوار، رغم تباينها وتعددها، إيقاعاً شخصياً يمكن اعتباره بصمة زكي الفنية.

ثمة حزن مستقر في ملامحه، ومسحة تأمل في عينيه، ووداعة لا مرئية تزيدها شجناً البشرة السمراء الضاربة إلى غروب مبكّر. منذ <<مدرسة المشاغبين>>، العمل الكوميدي الأكثر انتشاراً وشهرة، علقت في الذاكرة صورة هذا الممثل الموهوب، بخطواته الواثقة فوق خشبة المسرح، وتماهيه الصادق مع الشخصية، ليعلمنا درساً جميلاً في الفن آنذاك، مغزاه أن الحزن هو الوجه الآخر للفرح، والمأساة هي الوجه الآخر للملهاة. في ذاك العمل الكوميدي، ساعدت <<جدّيته>> كلاً من سعيد صالح وعادل الإمام على إبراز موهبتيهما الكوميدية، وحسّهما الهزلي العالي، ولطالما استطاع حضوره الفني، لاحقاً، وفي أفلامه الكثيرة، أن ينقذ ممثلين كثر من عثرات النمطية، ليرتقي أداء الجميع ويتناغم، ليصبح زكي المايسترو الحقيقي في أعمال كبيرة، كما في فيلمي <<ناصر 56>> و<<أيام السادات>>. في آخر عمل له لم يكتمل عن الراحل عبد الحليم حافظ تكتمل الحلقة التراجيدية في حياة هذا الفنان المبدع الذي أراد أن يجسد أكثر الأدوار رهافة، بتقمصه شخصية العندليب الأسمر. أراد أن يكمل سيرة الغائب عبد الحليم، قبل أن يغيّبه الموت، لتندمج سيرتان في سيرة واحدة، ولكن ذلك لم يتم، وكأن حياة زكي تحولت إلى تراجيديا يونانية بطلها أحمد زكي نفسه. وكان عليه أن يلعب الدور التراجيدي الأخير في ملهاة <<الحياة>>، في لحظة استرجاع قصوى للسموّ الفني، كمن يعيش سيرة الألم مرتين، قبل غيابه وتحوّله إلى سيرة. في لحظة الألم تلك، التي هي جوهر الفن أصلاً، تلتقي الشخصيتان، عبد الحليم وزكي في نص ظلّ معلقاً، وفي فيلم ليس له نهاية، كل يكلّم الآخر بلسان الرهافة>>.

وجه مثقف

فارس الحلو ينظر إلى الحادثة/ المسرحية ذاتها ولكن من زاوية نظره كممثل بذاكرة هشة كما يقول هو نفسه: <<يعيب عليّ الأهل والأصدقاء أمراً يصعب تصديقه، وبخاصة أني أحد العاملين في الشأن الفني، وهو قلة حفظي أو تمييزي بين وجه هذا الممثل أو ذاك، حتى لو كان الأمر متعلقاً بالنجوم العالميين من ممثلين أو مطربين مشهورين.

والحق أن أحداً لم ينصفني أو يفهمني لسبب قلة حفظي وعدم تركيزي وتمييزي لوجه هذا الفنان عن ذاك، اللهم إلا بعض وجوه الفنانين العالميين الذين حفلت حياتهم ببعض الدراما واهتم بها الإعلام فانطبعوا برأسي بالقوة فحفظت وجوههم. فمن طبيعتي أن أركز مشاهداتي الفنية على فكرة العمل وطريقة حبكه، ومن ثم أداء الممثل وبريق عينيه وإيماءاته وحركاته وميزانسيناته النفسية والفيزيولوجية ومقارنتها مع منطوق الشخصية المؤداة، ومن استطاع من الممثلين الطباق والتنافر الجذاب بين الداخلي والخارجي يثير فيّ الفضول والاهتمام.

ورغم كل هشاشة ذاكرتي، رأيت أن أمراً غريباً جرى معي حين شاهدت الممثل أحمد زكي في باكورة أدواره في <<مدرسة المشاغبين<<؛ حين انطبعت صورة وجهه في ذاكرتي، على غير عادتها. فدوره في هذه المسرحية كان أكثر من سيء، ومشاكله الفنية تتفاقم عبر عرض المسرحية، إضافة إلى عدم انسجامه فكرياً وفنياً مع محيطه في المسرحية، ولا مبرر مقنعاً لوجود شخصية طالب فقير في مدرسة خاصة يؤمها طلاب الطبقة الثرية. وبالإضافة إلى هذا الضعف الفاضح للدور المسند إليه، تأتي المسرحية ممتلئة بصولات وجولات الممثلين الموهوبين لتزيد دوره ضعفاً وحجباً فلا تترك له مجالاً لظهور مميز.

تعامل زكي مع فيض كوميديا زملائه بطريقة تنم فعلاً عن إدراك ووعي وثقافة فنية عالية، فاستطاع أن يحمي الشخصية الضعيفة المسندة من الانهيار، حين منع نفسه أولاً من الانخراط مع ما يمكن أن يسمى (ميوعة الشخصيات الأخرى)، فالقارىء على العموم لا يعرف حجم الغيظ وقوة الاندفاع والمغنطة والجذب الحثيث الذي يتعرض له الممثل لمشاركة أفعال زملائه حين يجد نفسه وحيداً أعزل في الصف الخلفي من المشاهدة ولا أحد يلقي إليه بالاً. ولكي يستطيع الممثل لجم هذه النرجسية فهو بحاجة فعلاً إلى وعي وإدراك متميزين وموهبة فطرية تسندها ثقافة حسية عالية. والأمثلة كثيرة على ذلك، ويمكن للقارىء أن ينتبه لها في أغلب العروض المسرحية المصرية والسورية التجارية حين يشاهد الممثل الثاني يبالغ في أداء الحركات المضحكة ويرحب بخلق حوار إضافي ليزيد من مدة ظهوره على الخشبة المسرحية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى استطاع الفنان أن يرسم لهذه الشخصية حزناً دفيناً ملفتاً، بدون استجداء لشفقة أو عطف المشاهد وبمهارة فائقة لاتجعل المشاهد ينفر منها وسط هذا العالم الكوميدي الفاقع. ولعل كثيراً من الممثلين، لو كان محل زكي، لجعل من الشخصية دمية كاريكاتورية سمجة تحشر نفسها في مشاهد ليست معدّة لها، فقط لكي يظهر الممثل بأي طريقة كانت.

لقد فاجأني حقاً أحمد زكي في تلك المسرحية، فهو لم يسقط في الفخ النرجسي الجذاب، كما الممثلين الآخرين، وأكبرته أكثر حين أمعنت التدقيق بأدائه المنسجم والمتوافق مع ذاته دون أن يسمح لنرجسيته المتوفزة بامتطاء الدور الضعيف لكي يبرز على حسابه.

هذه السلوك الذكي في معالجة دوره البسيط وتقديمه الشخصية بأمانة كما هي، والسيطرة على رغباته كممثل غيور للظهور كما زملائه، حمى الشخصية الفنية الضعيفة المسندة إليه من انزلاق حتمي أمام الفوضى الكوميدية العارمة التي صنعها زملاؤه وبالتالي استطاع أداؤه أن يقدم شخصية منضبطة وواضحة حتى ولو كانت ضعيفة، فاستطاع بجدارة أن يرسم وجهه المثقف في ذاكرتي الهشة للأبد>>.

بهجة اللعب

الممثل باسم ياخور، ذهب إلى القول إن هنالك مدرسة في فن التمثيل اسمها أحمد زكي؛ لم يمتلك الرجل ذلك الشكل الوسيم، لقد كرس مفهوم الممثل النجم، لا مفهوم النجم. يقول ياخور: <<إنه مدرسة في تناول الأدوات التي تعطي الممثل المصداقية، لديه الشخصية عبارة عن تفاصيل، الحركة وطبقة الصوت، وسواهما. من الواضح أنه عندما اشتغل دور السادات قام بدراسته دراسة نفسية وحركية كاملة، درس العادات البسيطة لديه؛ كيف يحك رأسه، وطريقة شربه من كأس الماء أثناء الخطابات، وغير ذلك>>. ونسأل الممثل إذا كان يصنف أحداً من الممثلين السوريين ضمن مدرسة أحمد زكي، فيجيب: <<أعتقد أن الفن السوري بشكل عام هو أقرب إلى مدرسة أحمد زكي، مدرسة الممثل الذي يقوم بلعب أدوار متعددة>>.

لكن اللعب لم يتوقف فقط على تعددٍ في الأدوار، أو تأرجح بين النقائض، كان لعباً داخل الدور نفسه، ربما هذا ما قصده الروائي والسيناريست خالد خليفة بما يسميه بهجة اللعب: <<يعتبر أحمد زكي واحداً من الممثلين القلائل الذين أعادوا لمهنة التمثيل بهجة اللعب والتجريب المنظم ضمن فوضى الفن، وأيضاً واحداً من الممثلين الذين آمنوا بأن الخيال هو عنصر أساسي في هذا الفن كما في كل الفنون الأخرى، هذا العنصر الأساسي الذي تناساه المؤدون الكثر في عملهم وادعائهم بأن التمثيل هو فقط ظهور على الشاشات بالإضافة إلى أن قطاعات كبيرة من الجماهير تماهت معه لأنه يشبهها في ظهوره الآسر، وأحست لأول مرة بأنها ليست كومبارساً في الحياة.

سيبقى الفن العربي يذكر لمعة عينيه وإحساسه الفائق في أدائه لكل الشخصيات التي لعبها وحاول مرة أخرى إعادتها إلى الشك وهو أصعب ما يستطيع أي ممثل فعله، وقد فعله أحمد زكي كما لو أنه يشرب كأس ماء على ناصية طريق مزدحم>>.

لا شك بأننا غالباً ما نرى في الخسارات المتلاحقة لآخر المبدعين الكبار، رديفاً لخسارات أخرى وهزائم، وخيبات بحجم تلك الأحلام التي عشناها منذ حوالى نصف قرن وأكثر، هكذا يفعل الناقد السينمائي بندر عبد الحميد حين يرى في الموت المبكر >>لأحمد زكي جزء من الموت المبكر الكبير للأحلام العربية المتهاوية، أحلام الفن والحرية وتحديث الحياة بالتقدم العلمي الديموقراطية غير المشروطة، وإزاحة الإرث الثقيل، هذا الكابوس الجهنمي للتعصب الديني والإيديولوجي المتخلف والمسلح بالساطور والسيارات الأنيقة المتفجرة.

أحمد زكي نجم شعبي محبوب، متجدد، متواضع، متألق، مشاغب، صقل موهبته في أعمال مسرحية وتلفزيونية، في الحركة والصوت والصورة، وهو لا يشبه غيره، في نزعته الاقتحامية الجريئة، كما نراه في فيلم <<ناصر56>>، أو في رهانه على أداء دور شخصية سياسية معقدة وغامضة في فيلم <<أيام السادات>>، وكانت له موهبة نادرة في تقليد نجوم الفن المصري، وموهبة غير معلنة في الغناء والضحك والسخرية اللاذعة. كل هذه الميزات الخاصة، وغيرها، أعطته قدرة على ألا يكون شخصية نمطية محددة، جامدة، أو مكررة، كما هي حالة بعض النجوم من أبناء جيله. وربما يكون في فيلمه الجديد <<حليم>> تحية وداع طيبة لعبد الحليم حافظ رمز أحلام الشباب العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحية وداع طيبة أخرى، من أحمد زكي إلى جمهوره العربي الواسع، المنكوب بكوارث الاضطهاد والتعصب والموت المبكر والقتل العائد إلينا من كهوف طالبان>>.

رجل من لوننا

قلما تحدث السينمائيون عن لون أحمد زكي بطريقة سينمائية، فإذا كانت السينما لوناً وصورة كان لا بد للأسمر، متراوحاً بين القمحي والأسود أحياناً (وأحمد زكي نفسه كان يتراوح في السمرة)، كان لا بد أن يشكل اللون ثقلاً، مركزاً في الصورة، ولعل البعد اللوني هو واحد من مرامي حضور الأسود في السينما الأميركية مثلاً. الناقد السينمائي بشار ابراهيم، يتحدث عن <<رجل من لوننا>>، لا أدري إن كان يقصدنا نحن أبناء المخيمات، أم يقصد أبناء الطبقات الشعبية والفقيرة، ليست البطولة فقط في صعود هذا اللون القريب جداً من الأرض نحو هذه المكانة، وإنما بطولة زكي في تحرّرنا من عقدة اللون. يقول بشار: <<لم يكن موت أحمد زكي مفاجئاً، بل هو من طراز الموت الذي ضرب موعداً مع صاحبه، منذ سنة على الأقل. ومع ذلك كان موتاً فاجعاً.

فما بين لحظة إعلان الموعد، المحمول على أكفّ المرض العضال، ولحظة الانطفاء الأخيرة، كان ثمّة الكثير من الأمل في تبديل المواعيد، أو تأخيرها، أو التحايل عليها ما أمكن ذلك.

وفي تلك المسافة، كانت محاولات الفنان الكبير في مقاومة المرض، مسلَّحاً بحبّ الناس، وعواطفهم، وأكفّ الأدعية الناهضة إلى السماء.

وفي تلك المسافة، أيضاً، كانت المحاولة الإبداعية الأخيرة، من خلال العودة (متعبّداً) إلى محراب الكاميرا السينمائية، لتصوير فيلم <<حليم>>.

الآن، رحل أحمد زكي، تماماً، كأنما رتَّب أشياءه، وحزم أمتعته، ورمى تلويحة الغياب، هناك عند منعطف الموت، ومضى.

ولم يكن مفاجئاً أن نكتشف، لحظة غيابه، تماماً، أنه ترك فينا الكثير.

دائماً كان أحمد زكي <<رجلاً من لوننا>>، فيه الكثير من نبض أحلامنا، من وجعنا، والكثير من الكلام الواقف على حافة اللسان، خائفاً ومرعوباً من أن يُقال، وأكثر خوفاً ورعباً من أن يظل مسكوتاً عنه. من تراه لم ينتبه إلى نبرة الحزن العميق الساكنة في عينيه، وفي رفّة الرمش القلقة؟ من فقر وقهر وتعب جاء، ليرجّ الساكن في السينما العربية، وليعيدها من انزياحها إلى حيث يجب أن يكون. لم يغيِّر أحمد زكي من نمطية البطل في السينما العربية فقط، بل لعله ارتقى بالإنسان العادي إلى مصافّ البطولة، وهذا مجده. مجده أنه كان واحداً من هؤلاء الناس المرميين على قارعة رصيف الصمت والإهمال والتعاسة، فانتقل بهم إلى بؤرة عين العدسة، ليكشف عن إنسانيتهم الطافحة. في موت الرجل الذي من لوننا ستبهت ألوان كثيرة، وسيبقى الحزن مقيماً، حتى إشعار آخر>>.

أخيراً يشير السينمائي فجر يعقوب، بغضب إلى موجة الرثاء التي استبقت موت الرجل، ولا ندري إن كان يلمح إلى ما نشرته صحيفة <<الثورة>> المحلية، التي سبقت موت الفنان بأيام لتعلن موته إلى الناس في زاوية تقول: <<رحل أمس، الفنان أحمد زكي>> من دون أي مجاز، أو اعتذار فيما بعد. تظل <<الثورة>> تخطئ، من دون أن يعتذر أحد، ومن دون أن يحاسب أحد!

يقول يعقوب: <<قد لا يبدو رحيله مفاجئاً للذين استعجلوا الكتابة عنه بمنتهى القسوة لأن نية مبيتة من سادية إنشائية غير مفلترة تصنع باسم السبق الصحفي الذي لا يتكئ إلى وقائع، كانت تسكنهم في اللحظة التي تم فيها تداول تلف دماغه بالكامل عبر الفضائيات والأقمار المأهولة وغير المأهولة.

فما يبدو لهم غير مفاجئ في هذه اللحظة، يبدو للبعض الآخر منا نحن الذين نحتكم إلى هواية الرثاء من بعد الموت بالألم المفترس، وكأننا على غير عاداتنا الأليفة في هذا النوع من الكتابة غير المكلفة لنا جميعاً، نحيي المرض العضال الذي يجيء بنا أو يذهب مع بعض التحريف في <<أيتها النفس أجملي جزعاً.. إن الذين تحذرين قد وقعا>>.

لم يوصِ أحمد زكي بشيء، ولنا أن نقف على مبعدة من جنازته، لا أن نقيسها بالأمتار التي تفصلنا عن جنازة <<حليم>>، حيث يمكن إكمال الفيلم بها، مع التأكيد على حسن الاستعارة، مادام قد استُخدم منها تسعين بالمئة فقط.

هل تمتلك الجنازة تلك العشرة بالمئة الباقية من الفيلم كي نكمل بها مشوار عندليب أسمر أصبح ونحن في عوز إليه نمراً أسود <<ومحارباً>> لا يسمي الأشياء إلا بمجاز نادر الوقوع في مثل حالاتنا الطارئة ؟!>>.

السفير اللبنانية بتاريخ الأول من أبريل 2005

 

يشبهنا جميعاً

عزة عزت  

ليس مصادفة أن يُطلق الفنانون على أحمد زكي وعن طيب خاطر و بالتزكية دون منافس لقب <<رئيس جمهورية التمثيل>>، كما أنه ليس من قبيل المصادفة أيضاً أن تصفه بعض الصحف المصرية بأنه <<رئيس جمهورية القلوب العربية المتحدة>>، وليس مصادفة أيضاَ أن يكون أحمد زكي هو الفنان الذي لم يختلف على موهبته وتفرده اثنان على امتداد الوطن العربي... لا بل ونرى إجماعا عاما على أنه ممثل قدير منذ بداياته، وأنه خير من مثل الإنسان المصري البسيط، بنفس المقدرة التي تقمص بها شخصية الزعامتين المصريتين عبد الناصر والسادات، إلى جانب تجسيده لشخصية عميد الأدب العربي طه حسين، ثم أخيراً اضطلاعه بتمثيل شخصية العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، الذي امتلك القلوب بغنائه وفجعها بمرضه ورحيله المبكر، فجاء أحمد زكي ليجسد شخصيته؛ وليختم بها حياته الفنية الحافلة فيكون في ذلك صادقاً وواقعياً في آن معاً؛ ولذا كانت فجيعة الجميع في مرضه العضال ثم وفاته في نفس الشهر، قبل أيام من ذكرى عندليب الغناء ليتشابه الفتيان الأسمران في الفن وفي الحياة، ومن هنا كان اهتمام الشارع العربي وبعض القيادات العربية بمتابعة أخباره الصحية، ومحاولة تقديم كل عون لإنقاذه، والتوصية برعايته على أعلى مستوى في مصر وفي الخارج، وأستمر الدعاء له من أعماق كل القلوب المحبة لفنه بالشفاء، وما زال الدعاء متواصلا له بالرحمة والمغفرة.

هذا وقد تتبادر للذهن أسئلة كثيرة حول كيفية صنع الفنان لمجده لبنة لبنة؟ وكيفية البقاء متربعاً على عرش القلوب وعلى قمة الأداء كما فعل أحمد زكي؟؟ وما هي أدواته وقدراته التي مكنته من تحقيق ذلك؟ فنجد أن أول ما يتبادر للذهن على الفور من أسباب لا خلاف عليها بالنسبة لأحمد زكي أو لغيره من الكاريزمات الفنية التي حققت من قبله هذه المكانة (عبد الحليم، أم كلثوم وفيروز)، لتكون أول الأسباب: الموهبة والصدق والقبول أو الكاريزما، فأحمد زكي كان موهوباً لا جدال، وصادقاً مع نفسه، ومُصدِّقاً لكل ما يُقدم؛ ولذلك صدقته جماهيره، وكانوا يشعرون بصدق كل ما قدم من شخصيات... حتى منذ بداياته الأولى حينما كان لا يُحرز البطولة السينمائية المطلقة... ولكن يشارك في بطولات جماعية، أو يقدم أدواراً ثانية وثالثة، فنجده يؤديها بنفس الصدق وبنفس الحماس.

نماذج لا تنسى

فمن منا ينسى دوره في فيلم البريء؟ الذي قام فيه بدور مجند في أمن الدولة، يصدق ببراءة شديدة يعكسها أداؤه البسيط من خلال نظرات عينيه يصدق كل ما تقوله القيادات من أن المسجونين السياسيين هم أعداء الوطن، ويؤدي المطلوب منه في تعذيبهم بحماس أبله... إلى أن يدرك الحقيقة المفجعة بالنسبة له، فيدرك فُحش ما شارك فيه، وكلنا يذكر كيف أدى أحمد زكي كل هذه المشاعر والأحاسيس، فقط بنظرات عينية التي تراوحت بين البراءة الشديدة، وبداية الإدراك، ثم اكتمال الوعي... كل ذلك دون أن ينطق كلاماً يفيد تدرج وصول الحقيقة إليه!!

ومن منا ينسى أو يستطيع أن ينسى كم هي الشخصيات المتباينة التي أداها أحمد زكي في المسلسل التليفزيوني الاجتماعي <<هو وهي>>!؟ وكان أداؤه فيها أقرب إلى كوميديا الموقف أحيانا، وقمة المأساة أحياناً، فصدقناه جميعاً حينما كان ذلك الموظف الريفي المتطلع، وحينما كان عامل التليفون المحب الوله المصدوم، وحينما كان الموظف الكبير الذي تنكر لأهله وأصله في طريقه للوصول ومصاهرة الثروة... إلى آخر الشخصيات المتباينة التي أداها جميعاً ببراعة وبساطة لا نستطيع أمام إمكاناته في الجمع بين مفرداتها إلا وصفه بأنه السهل الممتنع.

ومن منا يستطيع أن يتجاهل إجراء مقارنة بين دوريه العظيمين عبد الناصر والسادات... رغم ما بين الشخصيتين من تباين... ومع ذلك صدقناه وهو عبد الناصر، ثم ما لبثنا أن صدقناه وهو السادات... ليس من حيث الشكل الخارجي والملابس والحركة الظاهرة للشخصيتين وحسب... ولكن من حيث العمق في الأداء، والصدق في عرض وجهتي نظر متباينتين بنفس الحماس والقدرة على الإقناع، والأكثر من ذلك تفانيه في تحقيق أمنيته بتمثيل شخصية السادات، ورغبته في خروج الفيلم إلى النور على أكمل وجه، الأمر الذي اضطره لبيع كل ما يملك بما في ذلك شقته التي يسكن فيها ليساهم في إنتاج الفيلم بميزانية ضخمة فكان مثالا للفنان الصادق المضحي من أجل فنه.

ومن يستطيع أن ينسى دوره في فيلم <<شفيقة ومتولي>> مع سعاد حسني، وكيف أدى المشاهد المشتركة بينه وبينها دون حوار... ولكن من خلال نظرات متبادلة بينهما، تعكس ما يمكن أن يعتمل في صدر شقيق يتمزق بين الإحساس بالعار، والرغبة في غسله بجريمة شرف، والصراع بين الرغبة في قتل شقيقته التي يحبها وإشفاقه عليها، وصراعه بين المشاعر والموروث، واختزال أحمد زكي لتضارب كل هذه الانفعالات والعواطف المتباينة، والتعبير عنها فقط بنظرات عينيه وخلجات وجهه، فنصدقه ونتعاطف مع أزمته الإنسانية، ويتأثر بها الملايين من المشاهدين!!

قبل الختام

هذا ولو أردنا الاسترسال في التذكير بأعمال أحمد زكي أو في تذكر أدواره المتعددة وأهميتها في طرح قضايا مهمة في المجتمع المصري والعربي، فسنجد الكثير والكثير، فأفلام أحمد زكي لا يوجد بينها ما يمكن أن ندرجه في خانة الأفلام المتواضعة المستوى أو أفلام المقاولات، فقد كان كل فيلم يطرح قضية هامة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: قضية مافية التعويضات في فيلم <<ضد الحكومة>>، وقضية الغربة وإثبات الذات بعيداً عن الوطن والتحدي للنفس وللمجتمع الغربي والنجاح فيه في فيلمه <<النمر الأسود>>، و تعرضه لقضية السحر والشعوذة ومحاربتهما بوصفهما وهم ولعب بأحلام البسطاء ومعاناتهم في فيلم <<البيضة والحجر>>، وتعرضه لحياة المهمشين وأحلامهم، ورفضهم أن يدوسهم الآخرون في أفلام كثيرة مثل: <<مستر كارتيه>> و <<حسن اللول>> و<<طائر على الطريق>>، ورصده للتحول الاجتماعي وصعود بعض الطبقات في <<البيه البواب>>، وقضية الثأر للشرف في <<شفيقة و متولي>>، وتجسيده لمعاناة من تفسدهم السلطة ويستغلون نفوذهم في <<زوجة رجل مهم>>، ثم رصده لمعاناة ذوي النفوذ وكيف تفسد السلطة حياتهم فلا يعودوا يستمتعون بها في فيلمه <<معالي الوزير>>... والكثير الكثير مما يضيق المجال عن حصره.

وبعيداً عن الفن من يستطيع أن ينسى أحمد زكي الإنسان عاشق البسطاء، الذي كان منهم، وصعد إلى طبقة أعلى حينما صعد نجمه في سماء الفن... لكنه ظل لصيقاً بقضايا البسطاء معايشاً لمعانتهم ومجسداً لها على شاشة السينما وفي مسلسلات التليفزيون، وعلى خشبه المسرح، فمن يستطيع أن ينسى أحمد زكي الشاعر الفقير الرقيق في <<مدرسة المشاغبين>>، أو الابن العاقل في <<العيال كبرت>>، أو حتى دوره الصغير القصير في مسرحية <<هالو شلبي>> الذي لم يتجاوز دقائق... لكنه كصاحبه ظل وسيظل في ذاكرة الجماهير لسنوات نموذجاً للحالمين بالغد الذي قد يأتي أو لا يأتي.

ولكن وللأسف مات أحمد زكي، وأنا أكتب هذه السطور فسقط القلم من يدي، ولم أعد أستطيع أن أتابع الكتابة عن الفنان الذي رحل بجسده، وسيظل خالداً في ذاكرة كل من أحبوه وعرفوه فناناً وإنساناً خاض رحلة حياة صعبة تراوحت بين النجاح و الحب والشقاء والمرض، وشعرنا أنه يشبهنا جميعاً!! أو على الأقل شعر كل منا منفرداً أن أحمد زكي فيه منه، شيء ما... شكلا أو موضوعاً!!

() ناقدة مصرية

 

كسر الصورة

منى غندور  

أنا قلبي مزيكة بمفاتيح

من لمسة يغني لك تفاريح

مع اني ما فطرتش وجعان

ومعذب ومتيم وجريح

باتنطط واتعفرت واترقص كدهه

كدهه كدهه كدهه

صلاح جاهين  

كانت أيام وكان الزمن ربيعا وكنا في مطلع الشباب وحمأة الاحلام.

كنت اخطو اولى خطواتي في الصحافة في مقاربة خجولة لعالم السينما وناسها.

وكان هو على اول درجة على سلم الشهرة والمجد!

في فندق شبرد كان اللقاء، وجدتني امام شاب نحيل شديد السمرة، في عينيه حزن بعيد، يداري خجله وارتباكه بابتسامة واسعة مرحبة. على شفتيه عتب جاهز لذنب لم يقترفه بعد!

كانت اول جملة بعد السلام: سمير نصري حدثني عنك وعمنا صلاح جاهين اوصاني بك!

كان صلاح جاهين الساحر الجميل الذي فتح لي ابواب القاهرة وباب صداقتي لأحمد زكي!

عرّفني أحمد زكي على قاهرة المقاهي الشعبية والناس الطيبة وأكلة الفول بالبيض والشطة التي وضعها كشرط اساسي في بند صداقتنا.

كان عاشقا لمصر، فنقل لي عدوى عشقه، وعلمني قراءة ناسها بعيون قلبي!

من خلال ابخرة الشاي بالنعناع في مقهى الفيشاوي بالحسين، كان الوجه الأسمر المنحوت كوجه إلهي يتحول من حسب الحكاية الى وجوه وحالات. وكانت عافيته المتقدة تشعل في صوته المشروخ حرائق كلام لا يهدأ ولا ينطفئ.

رشف من كوب الشاي امامه وقال ضاحكا: اسأليني عن كل شيء ما عدا إزاي كانت طفولتك.

مش عايز اتكلم عن الحاجات دي!

كان شجنه يفضح حزنا حقيقيا سكنه منذ طفولته اليتيمة والفقيرة واستقر هذا الحزن في حياته كوشم.

حدثني عن رحلة التيه والحرمان من الزقازيق حتى الغابة القاهرية، كان يحب الغابة ولكنه يخشى ناسها ووحوشها! يهرب من واقعه الأليم في فترة المراهقة الى الصالات المعتمة التي تضيء في قلبه الأنوار فيتسمر امام شاشاتها ملتفا بإرهاصات لذيذة تحمل معها الدفء لكيانه!

كان يرى الحياة وشخوصها بالأبيض والاسود. يكره الحياد والنفاق، ويجنح الى الشفافية في القول والفعل، ويعمل في سره على ترويض غضب يشبه الثأر البايت.

فيلم (الكرنك) واحد من عناوين تلك البدايات الصعبة، سعاد حسني ترفض التمثيل معه، والموزع اللبناني حسين الصباح يرفضه بسبب لونه الأسمر. اسودت الدنيا في عينيه، شد على كوب الماء بيد كرامته الجريحة، كسره وترك دمه النازف وراءه ومشى!

على مدى حديثنا كانت جراحات البدايات حية وحاضرة وكأنه قصد عن عمد ان يُبقي تلك الندوب مفتوحة كي تحرضه على التحدي!

كان يبحث باستماتة عن مكانه، عن الخلل الذي يقف سدا بينه وبين احلامه التي تطاول المحال، وكان يسأل نفسه طوال الوقت هل العيب فيه ام في زمنه!

طالما وقفت سمرته الداكنة وشعره المجعد في طريق طموحاته. كان الموزع يريد فتى اول بمواصفات السوق التي تشترط الوسامة وخصلة الشعر المتدلية على الجبين والعيون الناعسة! وكان أحمد زكي من خارج مقاييس واعراف الفتى الاول، فهو لا يملك وسامة عمر الشريف ولا رجولة رشدي اباظة ولا طلة أحمد مظهر.

لكن الصبايا وقعن في شباك سحره، وتماهى شباب الشارع المصري بدفء سمرته.

فموهبة الفتى الأسمر ساطعة تصفع العيون وتأسر القلوب وتعلن عن نفسها بلا عناء كبير!

موهبته العملاقة ساعدته على كسر الصورة وعاونه على كسرها جيل من المخرجين الشباب في حينها: علي بدرخان، محمد خان، عاطف الطيب، خيري بشارة.

هذا الجيل الذي افرزته الثمانينيات شكل منظومة سينمائية جديدة اخرجت السينما المصرية من اقبية الصالونات الى الشارع، وحكت للناس البسطاء حكاياتهم ومعاناتهم!

كان أحمد زكي فارس تلك المرحلة بلا منازع. حالة سينمائية وإنسانية تختزل جيلا، ومرآة لابن الشارع المصري المكافح.

سألته عن الدور الذي يتمنى تجسيده اجابني الإنسان البني آدم بالمطلق، لان الانسان مختبر لشتى الحالات؛ الانسان عالم متشابك غريب لم يسبر غوره حتى الآن اكبر المفكرين والفلاسفة. الكل بقي على اعتاب معاناته!

لم يكن أحمد زكي ممثلا يؤدي ادواره بصدق كي يقنع من يشاهده، كان مشخصاتيا بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو لا يقلد الشخصية بل يتقمصها، تسكنه تفاصيلها الى حد انها تلتصق بجلده. في فيلم (زوجة رجل مهم) لمحمد خان لم يكن يلعب دور الضابط المريض بالسيطرة والتملك، اصبح هو الضابط. صدق الدور وكان يتصرف في بلاتوه التصوير بدكتاتورية اتعبت الجميع!

هذا الفتى المتعِب والمتعَب، يشد خيط الروح حتى آخره في كل دور، وكأن هذا الدور هو اول وآخر ادواره! في فيلم (موعد على العشاء) كاد يموت في ثلاجة الموتى، وفي (عيون لا تنام) كادت تنفجر فيه قارورة الغاز، وفي كل فيلم يحيا ويموت ويبعث من جديد كمن ولدته أمه!

كان أحمد زكي صاحب مشروع وصاحب قضية وصاحب هم وكانت السينما ملعبه ومنبره، كان تمسكه بالسينما يفوق تمسكه بالحياة فهو لا يحيا من خارج البلاتوهات.

كان متوحدا بعمله، يأكل في طبقه، وينام في سريره يكتب صباحاته ويؤرق مناماته.

كان الجميع يتحدث عن هالته الفنية، ويعترف بعبقريته، إلا هو كان يشكك بتلك العبقرية ويخضعها لتحديات وامتحانات لانه لا يرضى عن نفسه إلا في ما ندر.

ويفعلها أحمد زكي يجسد وجدانه الناصري في فيلم (ناصر 56) ويترجم حبه للسادات في فيلم (أيام السادات).

لم استغرب حين علمت انه رهن بيته وكل ما يملك كي ينتج فيلم (أيام السادات).

كان يتباهى بالمعادلة الصعبة التي اوجدها لنفسه: أنا ناصري ولكني احب السادات.

كان حبه للسادات مثار جدل بيننا، وما زلت اذكر كلمة النهاية في هذا النقاش: حين يتوسع افقك وتخرجين من مراهقتك السياسية ستعرفين اني على حق!

فهمت في ما بعد لماذا يحب السادات. السادات صالحه مع العزة والكرامة بعد انتصار اكتوبر، فهو ينتمي لجيل سقط من علوّ احلامه على واقع أليم اسمه النكسة وعار اسمه سينا! قال لي في حينها لن اتزوج من فنانة، اريد امرأة لي وحدي لا يشاركني فيها احد، اريد أما لا يشغلها عن حبي شيء. قلت له كيف تكون مثقفا وثوريا وتحلل لنفسك ما تحرمه على الآخر!

أجابني: أنا فلاح وعندنا في الفلاحين الستات ستات والرجالة رجالة!

لم استغرب حين انفصل عن الفنانة هالة فؤاد لانها ارادت العودة الى الفن.

لم يستطع الفتى الأسمر تجاوز حرمانه من أمه في الطفولة، عاش عمره يبحث عن حضنها بين كل النساء اللواتي احببنه وأحبهن.

كان <<سي السيد>> أحمد زكي يتحول الى طفل صغير حين يلامسه الحنان.

قلت له وأنا اودعه: ستنساني حين تصبح نجما كبيرا ملء السمع والعين! فالنجوم لا يحبون رؤية اصدقاء البدايات! ابتسم ابتسامة الواثق: عيب إحنا بنّا عيش وملح! باعدت ما بيننا الايام وكنت ارصد اعماله من باريس كمن يرصد نجما بعيداً!

ولن انسى ما حييت كيف قدمني الى اصدقائه خلال اقامتي في القاهرة، وقف ملوحا بيديه: صديقتي الجميلة التي آمنت بي وصدّقت أحلامي!

لم يخن العيش والملح كما وعد.

كانت احلام أحمد زكي اكبر من هذا الجسد الذي انهكه طموحه الجامح. كان من الصعب على هذا الجسد احتواء كل هذه الأرواح التي غزته وشكلته واحتلته! لذا حاول الجسد الهروب من قبضة أحمد زكي الحديدية. اخترع مرضا شرسا في حربه معه، ولكن الفتى الأسمر لا يستسلم يصارعه ويتحداه ويأخذه من يده في غفلة عن الموت الى البلاتوهات.

يوشوشه في ساعات الصفاء: هي المرة الاخيرة، الحلم الاخير كان يشد حبل الروح الى آخرها!

لم يكن يريد من الزمن زمنا له. كان يريد أياما يعيرها لعبد الحليم كي يكتمل البدر الذي رسمه من خلال الرموز التي قدمها وكانت بدايتها طه حسين!

فعلها أحمد زكي. وعد نفسه بالخلود وكان له ما أراد!

كانت أيام...


(
) كاتبة لبنانية

 

نجم الموجة الجديدة ومأزق الذروة

فاضل الكواكبي

بين بداياته الخجولة أوائل السبعينيات وتكريسه نجماً في الثمانينيات ونهايته التراجيدية منذ تفشّى السرطان في جسده ... بين تحوّله من الهامش السبعيني إلى المتن الثمانيني الذي صنعه المخرجون المؤلفون أصحاب <<الموجة الجديدة المصرية>> ثم إلى صانع لهذا المتن وفارض سلطته المطلقة عليه في عقد التسعينيات، قدّم أحمد زكي مساراً شديد النموذجية والخصوصية في آن وعلى مستويات عدة: مستوى صيرورة السينما في الدول التي يعتبر فيها هذا الفن <<صناعة>> و<<صانعاً للأحلام والنجوم>> ومستوى صيرورة جيل صنعته الستينيات لتستبعده السبعينيات وتستعيده الثمانينيات.

لقد تأخر ظهور وتكريس أحمد زكي كممثل أول وهذه حالة عامة حصلت مع زملاء عديدين له خرّجتهم جامعات مصر ومعاهدها الفنية العليا أواخر الستينيات، فلقد تبنت تلك المؤسسات مفهوماً آخر للثقافة أعاد النظر بالتقليد المكرّس منذ الثلاثينيات (والذي أخذ أشكالاً تنويرية إلى حين ثم تجمد وتحول إلى حالة من المحافظة الشديدة). لقد كان زكي ابناً لتلك التحولات الستينية التي يبتذلها البعض حين يدافع عنها أو ينتقدها بعنف قاصراً إياها على جوانب سياسية واقتصادية مبتعدين عن جوهرها الكامن في تبنّي الحداثة كمفهوم يومي يطرح أسئلة عميقة على التقليدية/الفكتورية التي مارست نفوذاً عاتياً على عقل النخبة المصرية المأوربة والنصف مأوربة المحافظة في جوهرها.

تمرّد الستينيون إذاً على كل ذلك وبحثوا عن نماذج جديدة ، عن أشكال وحساسيات مغايرة ولكن إرهاصات هذا البحث الذي أغرقته الإيديولوجيا إلى حدّ ما أُجّل نضوجها.. أُجّل بشكل مصطنع.. أجّلته فئات وطبقات صعدت أيضاً مع ثورة يوليو كما الحداثيين العلمانيين ولكن فرائصها ارتعدت من التحول الراديكالي الذي كان يتخمر بشدة أواخر الستينيات، من هنا اصطنعت تلك الفئات حالة اجترار باحثة بشكل محموم عن بدائل وجدتها في كثير من الأحيان في العودة إلى الماضي <<الفكتوري>> ذاك خالطةً إياه ببُعد << نوفوريشي>> مبتذل يشي بجذورها المتواضعة.

لقد كان يوسف السباعي كأحد أهم صانعي هذه العودة الردة في المجال الثقافي وأكثرهم نبلاً وذكاء يفعل المستحيل لكي يختلق بديلاً عن ثقافة الستينيات تلك ولكنه لم يجد هو وصانعوا سياسات تلك الفترة بداً من العودة إلى ترسيمة ما سميناه الفكتورية الوطنية وهي خليط ملتبس وانتقائي من شعارات ومفاهيم الوطنية المصرية والمحافظة الدينية والإعجاب المرضي بالنموذج الأميركي، فالبديل الليبرالي الحداثي بمستوياته لم يكن وارداً في ذهن تلك الفئات الصاعدة وصانعي خطابها السياسي والإيديولوجي (أنور السادات، يوسف السباعي، محمد حسنين هيكل) لم يكن هناك بدّ لدى هذا الثلاثي سوى استعادة طوبى المزج المستحيل بين التديّن المحافظ والإعجاب بالنموذج الأميركي والحفاظ على بعض المكتسبات الاجتماعية لثورة يوليو وشذرات من خطابها القومي.

من هنا لجأ السباعي وفي قطّاع الثقافة إلى استبعاد الحداثيين متهماً إياهم جميعاً بالشيوعية؟!! واستعان بمن توفّر له من بقايا أركان الفهم المحافظ التقليدي للفنون (ثروت أباظة، صالح جودت، إحسان عبد القدوس.. وغيرهم).

غاب في السينما كل من قدّم إرهاصات مشروع فني حداثي (شادي عبد السلام، توفيق صالح، سيد عيسى، صبحي شفيق.. إلخ) قاوم آخرون بصعوبة (يوسف شاهين، صلاح أبو سيف) واستسلمت فئة ثالثة فأعادت إنتاج الخطاب الكلاسيكي الميلودرامي بأدوات هزيلة مقارنة بالذرى التي أنجزها هذا الخطاب في الخمسينيات، لقد ظنت هذه الفئة أنها بهذا التحول تستطيع أن تخاطب جمهوراً عريضاً نفّرته أفلامها الأولى، وتضم هذه المجموعة على وجه الخصوص: حسين كمال، علي عبد الخالق، أشرف فهمي.

عاد حسن الإمام وحسام الدين مصطفى وهنري بركات ليصبحوا في طليعة مخرجي السبعينيات ومن الطريف أن هؤلاء الثلاثة وغيرهم من التقليديين كانوا قد قدموا أهم أفلامهم في الستينيات متأثرين بزخمها الثقافي الذي دفعهم دفعاً نحو التجديد.

لم يكن إذاً من الغريب أن يصبح حسين فهمي ومحمود ياسين نجما السينما المصرية المفضلان بل والمطلقان إبّان تلك العشرية، فالأول بإمكاناته شديدة المحدودية قُدّم كنموذج فيزيكي لاستعادة النجم الوسيم الذي بدأ زواله في الستينيات، أما الثاني فبنبرته المسرحية خدم الخطاب البكائي الميلودرامي المستعاد قسراً في السبعينات.

النموذج المضاد

قد كان أحمد زكي في حضوره الفيزيكي وحساسياته الناشئة نموذجاً مضاداً لثقافة السبعينيات تلك. ولنا أن نلاحظ ذلك بقوة حتى في ظهوره البارز الأول في مسرحية <<مدرسة المشاغبين>> لعلي سالم وجلال الشرقاوي أوائل السبعينيات.. تلك المسرحية النموذجية في دلالاتها فهي شكل من أشكال الانتقام الساخر قدّمه يساريان سابقان يسخران من صرامة راديكالية ويسارية راما التخلص والتطهر منها بأكثر الصيغ خفّة وذكاء، في هذه المسرحية أدّى زكي الشخصية <<الجديّة>> الوحيدة بين الطلاب، جدية تبدو ميلودرامية في ترسيمتها الأولى ولكنها في جوهرها ساخرة ومتشفية من ذاتها أي تحديداً من النموذج / النمط الذي عبّر عنه زكي، وهذا ما حدث أيضاً بعد سنوات قليلة في مسرحية ساخرة أخرى أخرجها يساري سابق آخر هو سمير العصفوري وهي <<العيال كبرت>>. وعندما أطلق لقب يساري على مبدع أعني تماماً مثقفاً حداثياً درجت بعض الأدبيات على تسميته بالطليعي أو التجريبي.

في هذه السبعينيات لم يظهر زكي سوى في فيلم <<شفيقة ومتولي>> (1978) لعلي بدرخان، وقد كان هذا الفيلم تجربة فريدة وناشزة في السياق العام فقد تبناه في البداية المخرج الطليعي سيد عيسى مشتركاً في السيناريو مع صلاح جاهين ولكن سعاد حسني بطلة الفيلم خشيت من أسلوب عيسى <<النخبوي>> فاستبدلته بعد تصوير عدة مشاهد بعلي بدرخان الذي كان من المخرجين الشباب القلائل الذين جمعوا بمهارة بين أسلوب سردي كلاسيكي وحيوية بصرية تنتمي إلى المنجز البصري المعاصر. لقد كان <<شفيقة ومتولي>> فيلماً صنعه التصالح بين رغبات عيسى في تحقيق حضور خاص للبصر والمكان واللون والصوت والممثل وبين قدرة بدرخان أن يطعّم هذه الرغبات بعناصر من التأثير السينمائي التقليدي ليصل إلى معالجة ترضي المشاهد النمطي المفترض، في هذا الفيلم حضرت عناصر من هنا وهناك دمجها بدرخان ببراعة ولكن العين الخبيرة تستطيع تمييز لقطات عيسى التي تنحو إلى الصرامة التشكيلية والتأمل البصري الخالص في خصوصيات المكان. حضر زكي في هذا الفيلم كعنصر من عناصر حساسيات عيسى التي تبحث عن حالات تناقض الاستعراض التمثيلي المنمّط، في هذا الفيلم نرى زكي لأول مرة يقدم حضوراً خاصاً ليس في فيزيكيته المصرية/الفلاحية الخالصة التي يشوبها بعض من هزال فحسب بل نراه أيضاً يقدم إيقاعاً داخلياً يجمع بفرادة بين نبرة هي أقرب إلى الواقعية واليومية والتعبير القوي في آن.

ينحو المخرجون المجددون في كل سينمات العالم الناضجة في بداياتهم إلى عرض مفهومهم الخاص عن السينما، من هنا يعامل الممثل في أفلامهم الأولى هذه كنمط/نموذج وكمكون لحالة بصرية خاصة. هكذا كانت بدايات مخرجي ما سًمي <<بالواقعية المصرية الجديدة>> وعلى رأسهم محمد خان، خيري بشارة، عاطف الطيب، وتلاهم داوود عبد السيد ورضوان الكاشف ولكن هذه المجموعة لم تجتمع على مبادئ جمالية بعينها سوى في العموميات بل لم تقدم نفسها كمجموعة إلا في إشارات وجلة، كان بشارة هو الأكثر راديكالية أسلوبياً بينهم من هنا فقد ظهر زكي في فيلمه الروائي الأول <<العوامة70>> (1982) أقرب إلى النموذج/النمط الذي أشرنا إليه، أما خان فقد جاء من تأثيرات هوليودية حاول أن يوظفّها في شغل بصري واقعي تدرج في نضجه حتى وصل إلى ذراه أواخر الثمانينيات، أما الطيب فقد كان أقلهم اهتماماً بالصورة وأكثرهم تمسكاً بالسرد.. كان واقعياً على طريقة صلاح أبو سيف مضفياً عليها قدراً أكبر من الاهتمام بالتفاصيل وبالمكان النابض بيوميته واستثنائيته في آن وهو ما التقطه الطيب بمهارة خاصة.

هؤلاء الثلاثة هم من أدخل أحمد زكي متن السينما المصرية... حولوه من نمط يشي بالموهبة إلى ممثل رفيع المستوى يندغم عضوياً في خطابهم.

لم يعمل زكي مع بشارة بعد <<العوامة 70>> سوى في فيلم <<كابوريا>> (1990) الذي قدمه بشارة في مرحلة انحطاط أدواته السينمائية وزكي في رحلة تحوله إلى نجم تُصنع له الأفلام.

أما مع خان فقد خاض زكي تجربته الأساسية في التحول الثلاثي من نمط إلى محترف إلى نجم. في البداية اختاره خان لفيلم <<موعد على العشاء>> (1981) مع حسين فهمي وسعاد حسني، كان اختيار خان لهذا الثلاثي معبراً بشدة عن بنية فيلمه الدرامية والدلالية، ففي هذا الفيلم كان مطلوباً من فهمي وزكي أن يؤديا نمطين متضادين متصارعين حتى الموت حيث لا إمكانية للتلاقي والتقاطع فيما كانت سعاد حسني في دور الزوجة هي موضوع الصراع وهي الباحثة عن خيار وأفق لذا فقد كان التمثيل كفعل إبداعي من نصيبها أما زكي وفهمي الممثلان والشخصيتان فقد تمترسا في مكانهما مجسدين ما أراده خان من صراع سرمدي بين قوة المال الغاشمة وقوة الروح .

الذروة

التراكم في الفن هو سبيل جوهري لنضوج الأدوات... لجعلها تتخلى عن أنانيتها ونقائيتها ، وهذا ما حدث مع خان وزكي في الثمانينات، مما جعل الأول يقدم الثاني في اثنين من أهم أدواره على الإطلاق في فيلميه <<زوجة رجل مهم>> (1988) و<<أحلام هند وكاميليا>> (1988)، في هذين الفيلمين وعلى اختلاف الشخصيات التي يؤديها يصل زكي إلى ذروة نبرته السينمائية يتقمصها حتى النهاية، يصيغ أدواته الحرفية التي أسست لتحوله إلى نجم بالمعنى المتداول، المفارقة تكمن في أن هذين الفيلمين أعلنا عن إرهاصات أزمة حتمية قد يصاب بها الممثل عندما يصل إلى ذروته الأدائية ولا يستطيع فيما بعد أن يتخفف من منجزه ومن الصورة التي رسمها لنفسه.

بالتوازي مع أفلام خان وجد عاطف الطيب في زكي تجسيداً مثالياً لتلك الروح التي أحب دوماً الشغل عليها ألا وهي روح الشعب، روح التحولات الكبرى وقسوتها على الفرد الباحث عن خلاصه الداخلي في مجتمع مليء بالاستهلاك والتخلف، ويبدو هذا واضحاً إلى درجة الفجاجة في فيلم <<ضد الحكومة>> (1989) الذي يقدم فيه زكي مشهداً في نهاية الفيلم هو أقرب إلى الخطبة النموذجية في رثاء كل أحلام الستينيات الناصرية التي كان الطيب يعيشها ويعبر عن الحنين إليها بوضوح شديد في معظم أفلامه. أما في <<الهروب>> (1991) وهو أحد أهم أفلام الطيب فقد جسد زكي بقوة وحيوية فائقة تلك الروح الشعبية المتمردة في بعدها الريفي الأصالي على تكريس نجومية زكي، فالسينما المتوسطة/السائدة تقوم دوماً بتلقي وهضم منجزات السينما الفنية لتقيم سردها على أسس حرفية متجددة، وقد كان زكي بحضوره النضر والمغاير قد تحول إلى صورة مكرسة أصبحت مطلوبة من الجمهور. من هنا جاءت التسعينيات لتضعه أمام مأزق التجديد ، فالمخرجون الذين قدموه في ذراه الأدائية لم يعودوا قادرين على إضافة الجديد إلى منجزه، لقد توقف خان ورحل الطيب واستسلم بشارة إلى السائد. لذا لم يجد زكي بداً من التحول إلى نجم تُفصّل له الأفلام فلا يقدم جديدأً ويجترّ صورته المكرسة <<كابوريا>> لخيري بشارة (1990)، <<البيضة والحجر>> لعلي عبد الخالق (1990)، <<الباشا>> لطارق العريان (1993)، <<الرجل الثالث>> لعلي بدرخان (1995)، <<استاكوزا>> لإيناس الدغيدي (1996). الاستثناءان الوحيدان في أفلامه الأخيرة كانا فيلم <<الراعي والنساء>> لعلي بدرخان (1991) و<<هستيريا>> لعادل أديب (2000). فقد سيطر بدرخان في فيلمه النيوكلاسيكي بامتياز على زكي سيطرة كاملة واستطاع أن يدفعه لكي يتحرر من كليشيهاته وكسر ممانعته، منحه روح الخفة وأعاد تشكيل أدواته ليجعله يخوض مباراة ممتعة في التمثيل مع سعاد حسني ويسرا، كذلك فعل وإن بأسلوب آخر أديب الذي قدم فهماً سينمائياً طازجاً وخاصاً للشخصية التي جسدها زكي كثيراً وبلغ الذروة في أدائها في فيلم خان <<أحلام هند وكاميليا>> ألا وهي شخصية الهامشي الآتي من القاع والباحث عن خلاص يومي من كوابيس العيش، عن سعادة في التفاصيل والحسيات المتاحة. استطاع أديب في <<هستيريا>> أن يعيد توظيف منجز زكي الأدائي ويجدده لأنه قدم فهماً مغايراً عن خان للمكان والتفاصيل ومعنى الصورة مضيفاً مزاجاً أكثر غنائية وسوداوية وسخرية في آن على عوالم القاع القاهري. ولكن هذان الاستثناءان لم يفتحا أمام زكي آفاقاً جديدة. ففي عام 1996 أقدم التلفزيون المصري على إنجاز فيلم <<ناصر 56>> لمحمد فاضل وكان من الطبيعي أن يختار فاضل أحمد زكي لداء دور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ولكن هذا الفيلم متوسط القيمة الفنية أدخل زكي في وهم تملكه حتى وفاته، وهم تجسيد الشخصيات الهامة معتبراً أنها الأجدر بتخليد اسمه كممثل متفرد فأنجز بمبادرة منه فيلم <<أيام السادات>> لمحمد خان (2002) وحلم طويلاً بأداء دور عبد الحليم حافظ حتى تحقق له ذلك على يد المنتج عماد الدين أديب ولكنه رحل قبل أن يتم الفيلم (أخرجه شريف عرفة).

أفلام الشخصيات

الإشكالية في أفلام السيرة التي تتناول شخصيات بارزة (خاصة في عالمنا الشرقي المحافظ) أنها أفلام معقمة درامياً وسينمائياً... أفلام يُطلب منها إعادة إنتاج البدهي والسائد والمعروف ولا مكان فيها للسؤال وللإشكالي، أما الممثل البطل في هذه الحالة فالمطلوب منه أن يصل إلى أقصى حد من الإتقان البرّاني والشبه الخارجي ظاناً أنه يقدم فتحاً في عالم التمثيل!.

حدث هذا جزئياً في فيلم <<ناصر 56>>، وأقول جزئياً لأن الفيلم بني درامياً بناءً ذكياً باختياره حدثاً واحداً يمثل أحد ذرى حياة الزعيم الراحل كما احتوى على جرعة عالية من المشاعر خاطبت حنين المشاهد إلى زمن فقده إلى الأبد (كتب الفيلم السيناريست والمسرحي البارز محفوظ عبد الرحمن).

أما <<أيام السادات>> فقد خرج فيلماً شديد البرود والتصنع رغم محاولات خان تجميله برّانياً إنه فيلم توضيحي مدرسي بامتياز لايقدم أي اكتشاف على أي من المستويات الدرامية والجمالية (كتبه صحفي محافظ من الصف الثاني هو أحمد بهجت). أما تجربة حليم التي لم تكتمل فقد اشتغل عليها زكي مع محفوظ عبد الرحمن وشريف عرفة، والمعروف أن عرفة الذي قدم في بداياته تجارب طريفة على المستوى البصري قد تحول في النصف الثاني من التسعينيات إلى منفذ ذو تقنية معقولة لطلبات <<النجوم الشباب>> من كوميديين (محمد هنيدي، علاء ولي الدين) وآخرين يطمحون لأن يصبحوا أبطال <<أكشن>> على الطريقة الهوليودية ( أحمد السقا ) من هنا كان واضحاً أن اختيار عرفة لإخراج فيلم حليم هو اختيار نجم يريد أن يوصل تصوراته الشخصية فحسب عن بطله المحبوب عبد الحليم حافظ... يريد أن يقدم لنا تماهيه مع تلك الشخصية العظيمة التي شكّلت أحلامه وأحلام أجيال بكاملها... أحلام حداثة رومانسية وأصيلة لم يتح لها الزمن أن تعيش.  

() ناقد سوري

هناك ثلاثة أدوار هامة أخرى أداها: هي في أفلام <<اسكندرية ليه>> ليوسف شاهين (1979) وفيه يقدمه شاهين كنمط. و<<البداية>> لصلاح أبو سيف (1986) وفيه يقدم زكي دوراً كوميدياً خاصاً بخفة استثنائية، و<<البريء>> لعاطف الطيب (1983).

 

هوامش

أحمد زكي: انطفاء حلم

طلال سلمان

انطفأ احمد زكي في لحظة مثقلة بالرمزيات: لكأنه انطفاء للسينما المصرية بما هي <<فن عربي>>، وبما هي صلة وصل عربية عربية.

من قبلُ، سقط التواصل الفني، الموسيقي، الغنائي، المسرحي، والى حد ما الادبي، بمعناه <<القومي>>. وبدلا من ان تكون المغاربية والخليجية واللبنانية والسورية، في الفنون عموما، ادوات تواصل وتكامل، وتعبيرا عن غنى المخزون الثقافي وعن وحدة الوجدان العربي، وعن السعي إلى إغنائه بالابداع الجديد، صار <<فن>> كل قطر يسعى إلى دحر <<الفن>> الآخر، الوافد، والانتصار عليه ولو بتدميره.

كان الفن اداة جمع، فصار الى حد كبير سلاحاً للقطع. صار فرصة لتأكيد وجود الاقليم وتقدمه بأفكار الصلة والقطع مع الاقاليم الاخرى.

لحق الفن بالسياسة. السياسات انفصالية تقوم على الكراهية والضدية. صار لكل <<دولة>> سياسة كيانية لها عدتها الثقافية والفنية المستقلة. قد تقبل الآخر، غير العربي، وقد تقدمه على فنون ابنائها، اما فنون القطر العربي الآخر فممنوعة ومحظورة... اللهم الا <<الهابط>> منها، اذ تفتح له الابواب جميعا، ابواب القصور وابواب التلفزيون والاذاعة وابواب الكباريهات والمهرجانات الثقافية.

متى آخر مرة سمعت فيها مطربا مصريا في وسائل الاعلام اللبنانية والسورية والسعودية والمغربية والجزائرية، والعكس بالعكس! اما المهرجانات فلها حساب آخر يتصل بالترويج واستقدام الجمهور بالاكثر اثارة وليس بالاكثر اصالة.

ايام الرجعيات والدكتاتورية كانت اسعد حالا. لقد انجبت ما يؤكد وحدة الوجدان ويوثق الترابط ويبلور الذوق العام. لقد تخطى الفن الحدود بغير كبير جهد. كان محمد عبد الوهاب وام كلثوم واسمهان وفريد الاطرش وليلى مراد وصباح ومن ثم فيروز والرحابنة وصباح فخري وناظم الغزالي وغيرهم يتخطون الحدود ويصلون فيوصلون بين المستمعمين، بوسائل باتت اليوم بدائية: الاذاعة والاسطوانة والشريط...

لقد تهاوت <<صناعة>> الفنون في مصر التي شكلت لحقبة طويلة، الرابط بين الجمهور العربي، في مختلف اوطانه. ومع التقدير لأي فن <<وطني>> نشأ في اي قطر فقد بتنا نفتقد الاصوات الجامعة، واجمالا الانتاج الفني الجامع في السينما والمسرح والموسيقى والطرب.

صار التلفزيون في معظم الاقطار العربية، هو اداة الترويج للحاكم <<القطري>> بطبيعته وبمصالحه، والذي يريده <<عازلا>> لشعبه عن <<الآخرين>>، وفي احيان كثيرة منبر العداء والمخاصمة والكيدية والحملات المنظمة على الحكام المنافسين... وبالتالي فلا بد من ان يلغي كل ما يجمع، وكل ما يؤكد الترابط وعلاقات القربى ووحدة الوجدان بين الشعوب.

منذ متى لم يدخل المشاهد العربي صالة سينما تعرض شريطا عربيا، بممثليه وممثلاته ومخرجه ومنتجه؟!

لقد بارت صناعة السينما في مصر. تخلت عنها الدولة وحولها القطاع الخاص الى ما يشبه <<الكباريه>> او الدكان الذي تباع فيه اللذة الرخيصة والضحك الرخيص.

كثرت المؤتمرات وتناقصت العلاقات وتبادل الخبرات والتجارب بين المبدعين العرب. صار <<الدولي>> هو الأساس بتشكيلاته المختلفة وبميزانياته المحترمة. الدولي جعل كل حي في اي مدينة <<دولة>> بل امة لها موسيقاها وانماط غنائها وادبها الشعبي وثقافتها الخاصة.

احمد زكي، الفنان الممتاز، كان واحدا من الروابط الباقية.

قبل احمد زكي خسرنا توأمه الفنانة المبدعة سعاد حسني. لم تخسر السينما المصرية احد نجومها. لقد خسر العرب بعض صلات الوصل بينهم حيث يتلاقون بهمومهم الثقيلة وافراحهم الصغيرة.

احمد زكي: لقد انتهت معك مرحلة كنت فيها، مع قلة من زملائك الفنانين الممتازين، بين آخر روابط الوجدان بين العرب.

احمد زكي: لقد خسرنا معك بعض عمرنا بكل احلامه السَّنية التي تكاد تتحول مع الردة الانفصالية المعززة بالديموقراطية الاميركية وجدار الفصل العنصري الاسرائيلي في قلب فلسطين، الى كوابيس <<قومية>>.

ليس انطفاء نجم. انه انطفاء حلم.

مغامرة السفر من بيروت إلى دمشق

صار الذهاب الى دمشق <<مغامرة>> تستحق المساءلة وربما المحاسبة... ويرافقك الشعور بانك تقدم على امر جلل طوال الطريق التي افرغها الخوف المزدوج من سالكيها ذهابا او ايابا. صار <<سفرا>> مجللا بالشبهات، كأنك تخرق حرما، او تتحدى <<ارادة دولية>> فضلا عن استفزازك مشاعر الغاضبين الذين يملأون الشوارع بالاعلام واللافتات والهتافات التي تطالب <<بطرد>> سوريا، تلحق بها اللعنات ولوم المقادير التي جعلتها عند حدود لبنان الذي لا تحده حدود.

الطريف انك تواجَه بالارتياب <<هناك>>، قبل ان تتخلص من عبء الشبهات التي تحف بك في الذهاب والاياب، <<لبنانيا>>: ذاهب الى دمشق؟! هل هذا ضروري؟! ألا يمكنك ارجاء هذه الرحلة في قلب الخطر!! لا تعرف كيف سيستقبلونك هناك وسيارتك بلوحة لبنانية... ماذا لو تعرضوا لك؟! هناك روايات كثيرة عما يرد به السوريون على تعديات اللبنانيين على ابنائهم هنا، زواراً وعمالاً وعابرين.

الطريق التي كان النقص في ازدحامها مؤشرا على الغلط في السياسة، ومن الاتجاهين، تكاد تكون فارغة الآن إلا من الغلط. لقد احتلها الغلط تماما فأفرغها من الناس ليملأها بالخوف من الحاضر، وبخوف أشد على المستقبل.

لقد سدت الاخطاء السياسية هذه الطريق منذ زمن بعيد.

صار <<الخط العسكري>> خلال فترة التيه هو الطريق، تزدحم عليه سيارات <<النافذين>> وفيهم السياسي والسمسار، تاجر الحديد والخشب والمهرب <<الشرعي>>، اما طريق الناس الطبيعيين المؤمنين بالعلاقات الطبيعية بين بلدين متكاملين تجمعهما القربى والمصالح المشتركة واطماع العدو الواحد، فكادت تكون فارغة لان الطبيعي قد أنقِصَ الى <<ممتاز>>... وهكذا بات <<الخط العسكري>> للممتازين الذين يخالفون الطبيعة ويتجاوزون منطقها فتكون النتيجة اغتيال ما هو طبيعي في السياسة كما في الاقتصاد، في الامن كما في التجارة، في الصناعة كما في الزراعة، في الثقافة والجامعات كما في العمالة وحركة رؤوس الاموال...

صار <<الخط العسكري>> معبراً للغلط... وتزايد عابروه بما يدل على تعاظم الغلط، فقد صار دليلاً على التمييز بين اللبنانيين، بين اصحاب الحظوة منهم لأسباب غير مفهومة، في الغالب الأعم، وبين سائر المواطنين المؤمنين بالاخوة اللاغية للحدود. صار امتيازاً لمن لا يستحقون، على حساب الأكثرية التي كانت مستعدة لحماية العلاقة الطبيعية بشغاف القلب.

الشام هادئة تماماً، كعادتها. هادئة بأكثر مما تتوقع. هادئة بأكثر مما تحتمل الظروف الدقيقة التي تعيشها، في ظل صرخات الغضب الموجهة إليها من شوارع بيروت وساحاتها، حيث تحول العتاب الأخوي، في ظل التجاهل والارتباك ورد الفعل المتشنج، إلى ما يشبه <<الثورة>> العاتية التي يسهل فيها تصوير الأخ الشقيق عدواً، ولا سيما أن ثمة جريمة لا يمكن طمسها ولا تغطيتها بالعودة إلى ثوابت التاريخ والجغرافيا والمصالح. كان لا بد من اجوبة قاطعة في وضوحها، ومن تصرفات مؤكدة لمضمون الشعارات، خصوصاً ان مباذل السياسة قد استهلكت الشعارات فجعلتها جوفاء، بلا صدى، بلا دلالة، بلا معنى الا لمن أراد استخدامها للتدليل على نقيضها.

لا سيارات لبنانية في عاصمة بني امية. لكن اللوحة اللبنانية لا تستفز احداً. السوريون الفقراء يزدحمون في شوارع المدينة ذات التاريخ المتوهج، يملأون الحارات العتيقة التي تفتش عن العيد في يوم العيد.. يمضون إلى شؤونهم بالصبر الذي ادمنوه. لا قلق، ولكنْ ثمة حزن تشي به العيون.

كان العيد في الشارع، وديعا مثل اصحابه، لا يخص طائفة بالذات ولا دينا بالذات... حتى العيد الديني في سوريا وطني التقاليد والمظاهر. العيد مثل اصحابه، متواضع، بسيط، إنساني، لا تحف به الابهة وطقوس اظهار الثراء وبهرجة محدثي الغنى والنكاية بالغير واذلال الفقراء.

دمشق تفتقد بعض روحها التي كانت تستقبل بها اي وافد عربي وكأنه عائد إلى بيته، اما <<اللبناني>> فكانت تخصه بحنان الأم... خصوصاً إذا كان قادماً إليها عبر الخط العادي، اما القادمون عبر الخط العسكري فلم تعرفهم دمشق ولم يعرفوها!

أما السفر من دمشق الى بيروت فحديثه اعظم ايلاماً وادهى!

عيد للأمل

تستقبلك عند الباب صورة للفرحة التي تتطاول الآن لتقف على قدميها، عنوانا للربيع الذي وُلد من رحم الوجع واليأس وانحطام القدرة على انجاز ما لم ينجح الآخرون في انتاجه ليكون للناس طريق للخروج من المأزق.

الصالة مزدحمة بالبهجة والأمنيات الطائرة الملونة والموسيقى التي تأخذ الى الرقص، وفي العيون المغشاة بدمع الشكر يلتمع الرجاء بأن الحياة ستنساب الآن في مسارها الطبيعي، بالتعب والرغبة، بالخذلان والنجاح، بالمآسي والانجازات.

ها هو الغد يتمايل بما يشبه الرقص، ويحرك يديه الصغيرتين بما يشبه الطرب، ويتأتئ بألفاظ تشبه الكلام... انه الأمل بتمامه.

تصاغر الكبار لعلهم يربحون معه دورة اخرى من عمر الطفولة. تعثروا بوقارهم وهم يدبون، مجتهدين، في تقليد حركاته، ثم اجبرهم الألم في الظهور على الوقوف وقد انعقفوا محدودبين بتعب التقليد... ولكنهم استمروا يتقاذفون البالونات الملونة، يهزون خصورهم، يحركون ايديهم كمن يلتقط الهواء، ويضحكون مقهقهين غير عابئين بانكشاف الاسنان الاصطناعية، واختفاء الملامح في اعماق التجاعيد.

الفرح عيد ميلاد جماعي. صار عمر الفرح سنة. لقد استعاد كل من شهد العيد سنة ضائعة من عمر طفولته التي لا تهرم ولا تشيخ.

من أقوال نسمة

قال لي <<نسمة>> الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:

لا يغيب الحب وان غاب الحبيب، يتعاظم الحب تعويضا عن الغياب، حتى ليشغلك عن كل من حولك وما بين يديك. الحب انت، فكيف تكون نسختين إلا إذا توحدت في حبيبك؟!

 

نجم الواقعية المصرية الجديدة

حسين بن حمزة  

سُئل أحمد زكي مرة عن مثله الأعلى في التمثيل، فقال؛ إنه أحمد زكي نفسه. لم يكن ذلك غرورا بقدر ما كان إقرارا بالحالة الحقيقية التي يعيشها كممثل. كان احمد زكي يتحدى نفسه، يربي الممثل الذي في داخله ويعتني بطموحاته ورغباته. وكان يسعى، في سبيل ذلك، الى امتصاص كل التجارب والمؤثرات الأدائية وتحويلها الى انجاز شخصي والى فن يحمل بصمته. لقد راكم عبر 56 فيلما، وهو عدد سنوات عمره ايضا، نبرة خاصة في الأداء تجمع بين الواقعية والعفوية، وتعويم الانفعال الداخلي ودفعه الى ملامح الوجه والنظرات واليدين وايقاع الصوت والتنفس. هناك حزمة من التفاصيل والتدرجات في حضور هذا الممثل الذي كثيرا ما قيل عنه انه <<غول>> او <<وحش>> تمثيل. يوسف شاهين، الذي عمل احمد زكي بإدارته في فيلم <<اسكندريه ليه>>، قال انه <<عفريت تمثيل>>. نور الشريف صرّح انه، ان كان يعطي لنفسه سبعة من عشرة في التمثيل فانه يعطي عشرة من عشرة لأحمد زكي.

ربما لا يحتاج الامر الى شهادات في حقه، فأفلامه تشهد بنفسها على تجربة سينمائية غاية في الخصوبة والتنوع والبراعة. كما انه كان علامة فارقة وحاسمة في صعود موجة تجديد واقعية السينما المصرية في ثمانينيات القرن الماضي، تلك الموجة التي تحققت في افلام مخرجين من أمثال عاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة وعلي بدرخان وداوود عبد السيد... لقد عمل أحمد زكي امام كاميرا هؤلاء وفي اكثر من فيلم لكل واحد منهم. اذ ينبغي ان لا ننسى انه كان بطل <<العوامة رقم 70>> الفيلم الروائي الاول لخيري بشارة: وانه كان بطلا لافلام <<الهروب>> و<<البريء>> و<<ضد الحكومة>> و<<الحب فوق هضبة الهرم>> للراحل عاطف الطيب، وانه كان بطلا لأفلام <<موعد على العشاء>> و<<زوجة رجل مهم>> و<<أيام السادات>> لمحمد خان، وأنه كان بطلا لفيلم <<أرض الخوف>> لداوود عبد السيد، وفيلم <<الراعي والنساء>> لعلي بدرخان، وهو آخر افلام سعاد حسني شريكته في <<لوثة>> التمثيل والنهاية المأسوية.

لم يكن تفوق احمد زكي مفاجئا، بل افصح منذ البداية عن حساسية مبكرة تمثلت في نيله جائزة افضل ممثل على مستوى المدارس الثانوية في مصر، وتخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1973 وكان الاول على دفعته. وفي وصف مميز للممثل احمد عبد الوارث، زميله في المعهد، قال ان احمد زكي لم يكن يتفوق عليهم فحسب بل كان شيئا مختلفا بالمرة. والأرجح ان هذا الوصف يحاذي الحقيقة والواقع، فأحمد زكي لم يكن متفوقا وبارعا ورائعا فقط. لقد كان، ببساطة، ممثلا مختلفا. حتى ان البعض يرى انه كان اهم من بعض الافلام التي ظهر فيها. كانت لديه كاريزما معدية يمكنها ان ترفع مستويات الفيلم الاخرى بينما هو مشغول باستخراج احشاء الاداء من اعماقه وابرازها امام الكاميرات والمشاهدين. معظم الذين مثلوا مع احمد زكي تحدثوا لاحقا عن الدعم الفائض وغير المباشر الذي شعروا به وساعدهم على اظهار افضل ما فيهم. احمد زكي، بدوره، لم يكن يُنكر مواهب ونجاحات بعض زملائه، ولا يُنسى، في هذا السياق، وصفه للمشهد الذي ترجوه فيه سعاد حسني بأن يبقى في فيلم <<الراعي والنساء>>. قال ان هذا المشهد ينبغي ان يُدرّس في معاهد السينما، تُرى كم هي عدد مشاهد احمد زكي التي ينبغي ان تُدرّس؟!

في اللحظات التي أعقبت خبر رحيله، احتارت محطات التلفزيون ماذا تعرض له في المناسبة وماذا تهمل، فهو لم يُعرف بفيلم او باثنين او بثلاثة. بعض الصحف اشتقت خبر رحيله من افلامه، فعنونت مقالاتها برحيل <<البريء>> و<<الامبراطور>> و<<عندليب السينما>>، والعنوان الاخير اشارة الى فيلم <<حليم>> الذي لم ينته تصويره. وإذا وُضعت جنازته هو في نهاية الفيلم كما أشيع في الاخبار فإن ذلك سيطابق بين سيرة عملاقين ولدا في محافظة الشرقية نفسها وعانيا من اليُتم المبكر وعاشا ثالوث الفقر والمرض والشهرة، ومن غرائب الصدف ان يرحل قبل ثلاثة ايام من الذكرى الثامنة والعشرين لرحيل عبد الحليم.

رحل أحمد زكي في زمن تراجعت فيه السينما المصرية وتغير مفهوم الجودة فيها. انتشر ما سمي بالسينما الكوميدية والشبابية وكلها، في الواقع، تسميات مقنّعة لسينما تبحث عن الايرادات الضخمة على حساب السينما نفسها، حيث صار المنتجون يفضلون السيناريوهات الخفيفة والمفبركة ويشترطون فيها زيادة الضحك (حتى لو كان زائدا وسمجا وغبيا). فيلم ليس على هذه المقاييس من النادر ان يصمد في سوق الافلام التي تبلغ ذروتها في موسم الصيف، حيث تبدأ الصحافة بتفضيل الافلام حسب قائمة الايرادات.

سينما كهذه كان أحد نتائجها طرد السينما الجيدة او وضع صعوبات هائلة امامها على الأقل. السينما الرديئة طردت السينما الجيدة، الممثل الرديء والعادي طرد الممثل الجيد، المخرج الرديء طرد المخرج الجيد... وهكذا توقف الكثيرون، ممثلين ومخرجين، عن العمل تقريبا. بعض النجوم حاولوا تغطية اعتزالهم السينمائي الاجباري بالهجرة الى التلفزيون. بعض المخرجين فعل ذلك ايضا. خيري بشارة لجأ الى الفيديو، محمد خان وعلي بدرخان وداوود عبد السيد لا يعملون تقريبا، عاطف الطيب رحل قبل ان تحل الكارثة بالسينما، ورضوان الكاشف غاب باكراً. هناك مجدي علي احمد وأسامة فوزي ويسري نصر الله الذين يواجهون عقبات كبيرة في العمل.

أحمد زكي، في هذا المعنى، رحل في زمن تماوت السينما المصرية. وفي الوقت الذي كان زملاؤه يتوقفون او يهاجرون الى التلفزيون، كان هو مشغولا بأفلام الشخصيات <<ناصر 56>> و<<أيام السادات>> و<<حليم>>.. وهي افلام لن تُصنّف، رغم اهميتها، بين اهم افلامه، لأنها، بحسب نقاد كثيرين، تحجب الممثل في احمد زكي لصالح المحاكاة والتقليد. افلام الشخصيات، على الارجح، كانت نوعا من الحل الذي حمى احمد زكي من التوقف او الهجرة الى التلفزيون.

رحيل احمد زكي، يكشف حقيقة المشهد الآفل للسينما المصرية اليوم، فالممثل الذي قدم 56 فيلما بينها عشرة وردت في قائمة افضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية. ماذا كان سيفعل لو خيّر بين التوقف عن العمل او الهجرة الى التلفزيون. رحيل أحمد زكي أعفاه من مرارة الاختيار.


(
) كاتب سوري مقيم في بيروت

 

المشخصاتي

أمينة الشريف

في كلمة واحدة يمكن تلخيص أحمد زكي (المشخصاتي) ..

إنه الاصطلاح الذي يفهمه البعض خطأ بوصفه انتقاصاً من حق الممثل، وإن كان النقاد والعارفون لا يطلقونه إلا على كبار الممثلين، هؤلاء الذين يقدرون على تلبّس كل شخصية والتماهي معها حتى النهاية.

أحمد زكي كما عرفته في لقاءاتي المتكررة معه من خلال عملي الصحافي وفي المنتديات والمهرجانات الفنية هو المشخصاتي بعينه، بل هو الوحيد الذي يستحق هذا اللقب عن جدارة خلال أكثر من مائة سنة سينما مصرية، كما أجمع على ذلك كل النقاد والمنصفين في مصر والعالم العربي، بل في بعض المجلات المتخصصة في الفن السابع في أوروبا.

أحمد زكي الذي كافح السرطان وتشبث بالحياة حتى اللحظة الأخيرة لا يمكن فصل الخاص في حياته، من حيث هو أب وزوج وصديق، عن العام في حياته من حيث هو النجم الأول في السينما المصرية والعربية، الرجل يمثل كما يعيش، أفلامه في حضنه بغرفته التي كان يقيم فيها 16 عاماً متصلة بفندق هيلتون رمسيس بقلب القاهرة، لا يتركها عند باب الغرفة، لم يهب لخاصة أمره إلا أقل القليل من الوقت، فكانت حياته فيلما طويلا مدته 56 عاماً عاش فيها حياة ألف إنسان، بمن في ذلك الزعماء والرؤساء، فصار سؤال الجميع: هل عاش أحمد زكي حياة أحمد زكي؟

كان ذلك قبل عامين فقط، على إحدى طاولات فندق الميريديان على نيل القاهرة، وقبل أن يتحول الفندق القديم إلى اسم (غراند حياة) الذي يحمله الآن، جلسة لم أخطط لها جمعتني مصادفة مع أحمد زكي والكاتب وحيد حامد.. كان النجم الأسمر خارجاً لتوه من فيلم أيام السادات الذي موله بكل ما يملك (على الرغم من اشتراك التليفزيون في مرحلة من إنتاجه)، وبرغم ذلك كان أحمد يحلم بالمزيد من الشخصيات السياسية والرموز التاريخية لكي يشخصها في السينما.. وفجأة فيما نتبادل حديثاً موسعاً عن فيلم السادات الذي كان قد بدأ عرضه، وقف أحمد زكي بقامته الرشيقة كالسهم وبخفته الآسة وسألني: ما رأيك حين ألعب دور الرئيس مبارك هل أصافح هكذا أم هكذا؟

لم يكن صعباً أن أفهم أن أحمد زكي بات مسكوناً بدور جديد، دور الرئيس مبارك، وهو فسر لي أكثر بعد دقائق، فيلما بعنوان (الضربة الجوية) كان يخطط له وقتها عن حياة الرئيس مبارك لتصبح لدى أحمد ثلاثية، تبدأ بفيلم (ناصر 56) و(أيام السادات) اللذين أنجزهما بالفعل وعرضا في 1996 و2000 على التوالي، ثم الضربة الجوية، قال لي أحمد زكي: أمنيتي أن أصنع مكتبة فيلمية عن كل المحطات البارزة في تاريخنا المعاصر، سياسية واقتصادية وفنية وثقافية، أقدم للأجيال القادمة ما يجهلونه وما يجب أن يعرفوه..

الغريب أن جلستنا الثلاثية هذه لم تكن جلسة عمل، لكن أحمد زكي لم يكن يفكر إلا بشخصية جديدة، وبعد أن يبدأ التفكير سرعان ما تحدث المعايشة ثم يقع التقمص، ثم تلبسه الشخصية ويلبسها وتعطيه ويعطيها، ثم يتحدان ويتماهيان.

قال لي أحمد زكي في جلسة أخرى أتذكر أنها كانت في الأيام الأولى من عام 2003، أنه سيفعل أي شيء مقابل تقديم فيلم (حليم) حتى لو (باع هدومه) فلن يدخر جهدا، أحمد زكي يرى أنه وحليم شيء واحد (كلانا عاش يتيما، وحيدا، كلانا ابن لمحافظة الشرقية <<شرق دلتا النيل>> وكلانا أفنى عمره في الفن، وكلانا هبط الترعة طفلا، غير أني عولجت قبلا من البلهارسيا وشفيت منها)..

أحمد زكي إلى ذلك واحد ممن تربوا على غناء (حليم)، ذلك الغناء الذي كان صورة لمصر تموز 1952، فجسد حلمها وجسد انكساراتها وجسد حلم الشباب الذين كان من بينهم ساعتها شاب أسمر ريفي موهوب في التمثيل يدعى أحمد زكي، وفيما كان أحمد يبحث عن فرصة للظهور، كان حليم يشدو برائعة الأبنودي وكمال الطويل (عدي النهار) وكان ابن 20 عاماً ليس إلا.

من هنا لم يكن حرص أحمد زكي على خروج (حليم) إلى النور حرصاً عاديا، بدأ بإقناع المؤلف محفوظ عبد الرحمن الذي كتب له من قبل فيلم (ناصر 56) بكتابة السيناريو، حتى أنه صنع له أفيش الفيلم وكتب عليه: (أفلام أحمد زكي تقدم: حليم.. تأليف محفوظ عبد الرحمن) ونصب الآفيش أمام البناية التي يسكنها محفوظ، لتكون بإزائه صباح مساء، ولم يترك أحمد الكاتب محفوظ عبد الرحمن حتى كتب السيناريو كاملاً ..

ولم تتوقف معركة أحمد مع الزمن لانجاز (حليم) باستلامه السيناريو، بل دخل في معركة أقرب لإنتاج الفيلم، وعطله عناد ورثة حليم (وعلى رأسهم أخته التي رحلت مؤخراً السيدة <<عليه>>) لسنتين، رفعوا شعار ملكية شخصية حليم وتراثه، إلى أن تصدى عماد الدين أديب بشركة (غود نيوز) التي يملكها لإنتاج الفيلم، الذي صور أحمد 90 بالمائة من مشاهد دوره والتي تمثل أغلبية الفيلم..

ومن يرى صلابة أحمد في تشخيص حليم، يعجب من تشخيصه لدوره هو في الحقيقة، حين انتهت زيجته الوحيدة من الممثلة الراحلة هالة فؤاد أم ابنه الوحيد أيضاً <<هيثم>>..

ففي عام 1986 وقع الطلاق بين أحمد وهالة، لم يقاتل أحمد كثيراً لأجل حبه، قال لي أيامها بعد الطلاق ( كنت في زواجي كالدبة التي قتلت صاحبها لتنقذه، فمن كثرة ما حلمت بالبيت لم أحافظ عليه، رأيت هالة أعجبتني، نموذج رقيق، بريء، قلت لنفسي أنها الفتاة المناسبة التي تصلح للبيت الذي أحلم به، فلم يستمر الزواج فعلياً إلا ثلاثة أشهر، ثم انفصلنا، لم يكن ثمة مفر من الطلاق، أنا رجل فلاح، أريد زوجتي في البيت إلا أنها رفضت وقالت أن مكانها في الأستوديو فكان الخلاف وكان ما كان)، إذن لم يفلح أحمد زكي كثيراً في تشخيص الزوج، وإن كان شخصه عشرات المرات بتفوق في أفلامه..

وقبل أحمد زكي ما لم يقبله من طليقته الراحلة هالة فؤاد (التي توفيت العام 1990 بالسرطان أيضاً)، بل قال لي بالنص في حوار عام 1998 (أؤمن بمقولة اشتمني وعلمني بشرط ألا تشتمني وتقتلني وتلعن تاريخي، الناقد سامي السلاموني يرحمه الله كان يخلع عليّ ألقاباً كنت لا أستحقها وكان يقول <<العبقري>> <<المجيد لعمله>> وكنت أقول له <<بالراحة علي>> وحين شتمني في أحد أفلامي اتصلت به أشكره وأقول له بدأت في تصديق كل الألقاب الحلوة التي خلعتها عليّ من قبل).

وفي نفس ذلك الحوار أخبرني أحمد زكي أن التشخيص وحرصه على الوصول إلى أفضل صيغة في أفلامه رفعت ضغط دمه حتى وصل إلى 170 على 120، وقال (أواجه أي خطأ في فيلم لي بأعصابي و<<لسه عندي شوية دم>> ولا يمكن أن أهدأ في مواجهة الخطأ المهني).

أيضاً لم ينجح أحمد زكي في تشخيص (الثري) صحيح أنه شخص (الملياردير) أكثر من مرة، غير أنه خرج من الفن خالي الوفاض، لم يعد يجمع الثروة، بل عنى بانفاقها على أهله الكثيرين في مسقط رأسه بمركز الحسينية محافظة الشرقية، وعنى أيضاً بإنفاقها إلى آخر مليم على أفلامه، مكتفياً بدور الثري في أفلامه، ألم أقل لكم أنه كان يتحد وشخصياته ويأخذ منها ويعطيها ويعيشها.

أذكر أيضاً أنه أكد لي قبل أربعة أعوام (اخترت حياتي وراض عنها، فخور أني لا عندي شاليه ولا فيللا، كل ما أملكه شقة، لكن عندي حوالي 50 فيلماً و50 شخصية، عدا اللي ربنا يقدرني وأعملهم ودول عندي كفاية).

وقد يقول قائل: ماذا كان أحمد زكي يصنع في حياته الخاصة بين الفيلم والفيلم؟ الحق أنه كان يحضر للفيلم الجديد، مثلاً في فيلم (ناصر 56)، وفيما كان المؤلف محفوظ عبد الرحمن انهمك في جمع المادة التاريخية والوثائقية للفيلم كان أحمد قد حضر للفيلم على طريقته، قرأ كثيراً كتباً وقصاصات صحف وكتب بيده تعليقات كثيرة، مع أنه لم يكن بحاجة لذلك مع مؤلف أمين ودقيق وناصري كمحفوظ عبد الرحمن، لكنها المعايشة، لم يكن يصبر كثيراً على العيش من دون (آخر) يتلبسه ويتعاطى معه، ويقضي معه أشواطاً وجولات وصولاً إلى التعارف عميق الغور.

أيضاً في (أيام السادات) حرص احمد زكي مع الكاتب احمد بهجت على الإفادة في الإعداد النهائي للسيناريو من جميع من كانوا يحيطون بالسادات، وليس فقط من الكتب والمراجع، بل إنه في واقعة قرار السادات بزيارة القدس المحتلة بشكل مفاجئ عام 1977 اعتمد على رواية المزيّن الخاص بالسادات (محمود لبيب)، الذي أكد لأحمد أنه عرف بزيارة السادات للقدس من خلال تلميح أدلى به السادات إليه فيما كان يحلق له شعره، ولم يكتف أحمد بالإفادة من لسان لبيب الحكاء الذي كان مقرباً من السادات، بل أفاد من صنعة يديه كذلك، فجعله المزيّن الخاص له طوال تصوير الفيلم، ليضمن أقرب تشخيص للسادات من جهة الشكل، ويرى أحمد زكي أن دوره في السادات هو أصعب أدواره علي الإطلاق.

وإذا كان منطقياً أن يكون أحمد زكي أكثر دراية بالدور الأصعب والدور الأسهل في مسيرته التي بلغت إلى هذه اللحظة التي رحل فيها 36 عاماً من التمثيل عفوا من التشخيص فإن لي أن أعارضه بمنطقية أيضا، لأقول أنه لو عاش ورأى حليم لأكد أن حليم أصعب أدواره على الإطلاق، ففضلاً عن الجهد الذي بذله لإقناع المؤلف، ثم العثور على منتج، كان عليه أن يغالب آلام المرض اللعين وهو يشخص حليم، حين بدأ أحمد التصوير كان السرطان تمكن منه، وحين قطع شوطاً طويلاً في التصوير كان المرض قطع شوطاً طويلاً في جسده، لكن إصراره على خروج حليم إلى النور لم يفتر ولم يهن إلا بضربات قدرية فوق طاقة كل إنسان.

ولكن هل بنيت كل هذه القدرة التشخيصية الفذة على هواية فقط، أم أن لأحمد أغواراً ثقافية خاصة مكنته من ذلك، الحق أن أحمد الذي شخص السياسي والزعيم غير مرة، لم يشأ أن يدخل في مستنقعات السياسة في كثير أو قليل، بعض النجوم استهوتهم وتستهويهم هذه اللعبة أحيانا، لكنه رفضها إن لم يكن هزئ بها، يرى أن التشخيص أكبر زعامة، وأن الملايين تحتشد وراء فيلم أهم من الملايين تحتشد وراء حزب أو تيار، فالفيلم عنده حزب، والمشخصاتي هو الزعيم ولا ريب، كان مقلاً جداً في الإدلاء بآرائه السياسية، ترك النقاد يصنفونه يسارياً من منطق أن أفلامه انحازت دائماً للفقراء والصعاليك والمهمشين والعامل والفلاح وهزئت بالسلطة والثراء وتفاهة هؤلاء الذين يملكون مالاً دون روح ولا أمل، وتركهم يلومونه على (أيام السادات) من منطلق افتراضهم الأول بأنه جرى (ناصري) أو (يساري)، كان يبتسم في هدوء على غير عادته حيال كل ذلك، فإن سألته يقول: أنا مجرد مشخصاتي وآرائي السياسية أحتفظ بها لنفسي.

لكن أحمد مثقف كبير في علم التشخيص، وهو بدأ حياته في المسرح، وصار عقله مترعاً بنظريات تشريح ونقد المسرح ونظريات إعداد الممثل وكان يقول دائماً (من يحب الفن يصر عليه، وستانسلافسكي في كتبه الثلاثة عن فن التشخيص يلخص كل ما يريد في عبارة واحدة تقول: ما يخرج من القلب يصل إلى القلب، الممثل الذي لا يصل إلى القلب في رأيي جدير بالسقوط).

وأخيراً ..

كانت أمنية أحمد زكي الدائمة التي أخبرني بها وكل الزملاء الإعلاميين والنقاد لمرات عدة هي (أن أستريح ولو بعض الوقت) وهو الآن يرحل عنا بعد غيبوبة امتدت 12 يوما، ولو قدر له أن يعيش لصرخ: أعيدوني إلى البلاتوه.. أعيدوني إلى حليم.. لقد كانت راحته الكبرى في اللهاث وراء دور جديد، (تشخيصة) جديدة تجعله يحلق فوق آلامه وأحزانه.

نجح أحمد زكي في تشخيص كل الأدوار، وصولاً إلى دور الأب الحقيقي لا السينمائي، ودور المقاتل المستميت ضد أبشع الأعداء، الأدب الذي يقول لي قبل سبع سنوات (لا أخشى الموت، لا أخشى مشرط الجراح، ولا أخشى الفقر، ولا الخوف ولا الأشباح، أخشى فقط على ابني هيثم من أبسط ما يخشى منه الآباء على أبنائهم، ولا أخاف على نفسي، لا تهمني، فقط أخشى أن يصيبني مكروه من دون أن أطمئن على هيثم).

وناضل أحمد زكي حتى الرمق الأخير ضد أبشع الأعدء، سلاحه خمسون بطولة سينمائية مطلقة، وعدد كبير من الأدوار المساعدة، عاش بها وسوف يعيش جيلاً بعد جيل .. أليس هذا المطلب كان مطلبك يا (أبو هيثم) ..


(
) ناقدة مصرية

 

أحمد زكي والدفاع بالكوميديا

عبد الغني داود  

إن الممثلين عموماً أرادوا أو لم يريدوا، لا يستطيعون جميعاً أن يضحكوا. فموهبة الإضحاك ليست متوفرة لدى الجميع، لدرجة أن بعض الممثلين المتفوقين يفشلون في التمثيل الكوميدي بشكل يدعو للأسف والشفقة، لأن من المخاطرة أن يجعلوا الرجال الوقورين يضحكون. وعندما نقول إن أحمد زكي (من مواليد 18 نوفمبر 1949) قادر على إثارة الضحك في بعض أفلامه، فإن ذلك يرجع إلى استعداداته الخلقية وإلى أصالته التي لا يمكن اعتبارها أمراً بسيطاً أو نوعاً من التكيف جاء عرضا. إن ذلك وسط عائلة الممثلين له مكانه الخاص، وأحمد زكي يبدو واعياً أو غير واع بمعرفة أساليب صناعة الفن الكوميدي، ولأساليب صناعة الضحك، إذ إن لديه ما يسمى بالمرونة المرحة والحيوية السعيدة، وامتلاكه لملكة الحضور، ونؤكد هنا أن هناك فرقا بين الضحك السوقي، وبين الضحك الذي يهز العواطف بخاصيته الجمالية عند أحمد زكي، ويرى البعض أن القلق الفني العاصف هو النبع الذي ينضب ويستمد منه أحمد زكي القدرة على التجديد والتطور، وهو القلق المرضي في بعض الأحيان الذي كان يدفع الفنان إلى حافة التوحد الكامل مع الشخصية التي يقوم بها، وهو كذلك وراء ذلك التنوع الهائل في الأدوار التي جسدها. من هنا أتصور أن الضحك وأحياناً الهزل هما دفاعان طبيعيان ضد القلق والشعور بعدم الأمان، وعند سؤال أحمد زكي هل تضع نصب عينيك الجائزة أو الجمهور عند تجسيدك لشخصية ما؟ رد قائلاً (لا جمهور ولا جوائز ولا فلوس ولا البيت، أنا عندما أدخل الاستوديو أكون الشخصية التي أؤديها فقط، لأن الفنان لو فكر في شيء غير الشخصية، لا يركز في أدائه، وتحدث <<شوشرة>> على إبداعه)، وهو الأسلوب الذي جعل الناقد الراحل سامي السلاموني يقول عنه في مجلة <<الكواكب>> عام 1982 تعليقاً على أولى بطولاته في فيلم (العوامة 70) (يحمل أحمد زكي هذا الينبوع الذهبي الأسمر المتفجر فجأة في صحراء التمثيل السينمائي القاحلة عندنا، هذا الفيلم كله على كتفيه في نوع جديد من الأداء الداخلي الذي يبدو خافتا على السطح ولكنه يعكس مشاعر وانفعالات وعذابات (هاملتية) شديدة التعقيد تجعلنا نقول دون أن نخشى شيئاً إن هذا الدور بالإضافة إلى دوره في (طائر على الطريق) هما لون جديد تماما على الأداء السينمائي في مصر يكاد يقترب من أسلوب (استوديو الممثل) عند كازان حتى ولو لم يكن أحمد زكي نفسه مدركاً لذلك).

ومن بين أفلام أحمد زكي الثمانية والخمسين تستوقفنا في الكثير منها الإمكانيات الكبيرة له في الأداء الملهاوي الراقي والخفيف الظل، ونلمح براعته في استخراج الضحكة أو الابتسامة، رغم أننا لا نستطيع أن نقسم تلك الأفلام إلى نوعيات محددة، فغالباً ما يحتوي الفيلم سواء كان مأساوياً أو ملهاويا، على مشاهد ولمسات ملهاوية يطلق عليها في المأساة (التخفف الملهوي comic relief، ومن هنا قد يختلط التقسيم التقليدي للمأساة والملهاة وتنشأ أشكال أخرى كالكوميديا السوداء وغيرها من الأشكال الملهاوية والمأساوية. لهذا، فعندما يضفي أحمد زكي على شخصياته التي يؤديها بعداً إنسانياً هاماً مثل القدرة على الضحك وعلى الإضحاك، بل يصر في بعض الأفلام أن يغني بصوته الخشن غير الرخيم لكنه مقبول وقريب من الأذن في نفس الوقت، فإنه يدرك من أين يأتي المضحك في بعض المواقف التي تقوم على المفارقة أو تكرار كلمة ما او عبارة أو تداخل صورة الآلي والحي في بعضهما البعض وإلباس الحياة للآلة، أي الجسم الحي نفسه قد تصلب وصار آلة، وساندته قدرته على التقليد، إذ كثيراً ما تكون بعض الحركات التي تصدر من شخصية ما غير مضحكة في حد ذاتها، إلا أنها إذا قام شخص آخر بتقليدها، أي أدخلها في دائرة الآلية تصبح مضحكة، وقد بدت أولى ملامح الأداء الملهاوي في ثالث أفلامه (صانع النجوم) 1977 لمحمد راضي، رغم أنه لم يكن يقوم بالدور الأول وهو الفيلم الذي يسخر من أوهام الشهرة لكنه للأسف ضاع جهده عندما حاول أن يصنع ثنائياً ضاحكاً مع (منى جبر) لأن محاولة السخرية من السينما المصرية وكشف أساليبها الرديئة لم تكن فكرة ذكية بما يكفي، ونذكر هنا أنه استوعب درس عدم قيامه بدور هزلي في هزلية (مدرسة المشاهدين) 1971 حيث تقمص دور الكاتب الفقير الذي يتيح الفرصة للآخرين بأن يثيروا الضحكات، وتتاح أمامه فرصة القيام بدور آخر أقرب للكوميديا في فيلم (الليلة الموعودة) 1984 ليحيي العلمي وبطولة فريد شوقي، حيث يقوم بدور فتحي الشاب الذي يتاجر في البضائع المهربة من بور سعيد ويعيش مع أمه (بهية)، ويجمع الحب بينه وبين جارته التي تشجعه على استكمال الدراسة، وتنجح الخاطبة أم إمام في إقناع أمه بالزواج من سيد (فريد شوقي) النصاب محترف الزواج من النساء العواجيز الثريات ثم يستولي على أموالهن. ويحاول فتحي منع هذا الزواج إلا أن سيد ينجح في الاستيلاء على فلوس أمه، ويخطط فتحي بذكاء ومكر وخفة ظل للوصول إلى قلب ابنة سيد عن طريق نفس الخاطبة إلى أن يتمكن من رد أموال أمه بمخادعة زوجة سيد، ويتم طلاق الأم من النصاب بعد أن يهدد فتحي بالتغرير بابنته الصغيرة. وقد بدا في هذا الفيلم مدافعاً عن نفسه وأمه رغم استخدامه كافة وسائل الخداع لمحاربة النصب والاحتيال التي لا يرضى عنها في داخله، فهو مثقف ويتطلع إلى استكمال دراسته الجامعية، فبدا ممزقاً ما بين الأسلوب غير الأخلاقي وبين مبادئ الشرف التي يؤمن بها، وما يمكن أن يولده هذا التمزق من ضحكات وسخرية وخفة حركة وسعة حيلة. وفي عام 1987 يقوم ببطولة فيلم ينتمي إلى جنس الكوميديا هو (أربعة في مهمة رسمية) لعلي عبد الخالق، وفيه يقوم بدور الموظف البسيط أنور عبد المولى الذي يستعد للسفر إلى الخارج لكن رئيسه في العمل يطلب منه أن يؤدي آخر مهمة له والتي لا تستغرق أكثر من يوم واحد في القاهرة وهي: تسليم تركة أحد القرداتية الذي مات دون أن يكون له وريث إلى بيت المال، وهذه التركة هي حمار وعنزة وشمبانزي. ويسافر أنور إلى القاهرة وعندما يصل إلى هناك يكتشف أن الحمار قد استبدل بجحش، وعندما يصل لبيت المال يكون موعد العمل الرسمي قد انتهى، فيضطر للمبيت هو والحيوانات في أحد الاسطبلات التي تملكها الأرملة الشابة (بطة) فيتم التعارف بينهما، وتبدأ رحلة المتاعب الحقيقية عندما يصطدم بالروتين الحكومي من صغار الموظفين الذين يرفضون استلام التركة، فيضطر إلى تدريب الحيوانات التي معه وأن يعمل هو وبطة في سيرك مستخدماً هذه الحيوانات في الأعمال البهلوانية. وتبدو في هذا الفيلم إمكانياته في الغناء وخفة الحركة، وتجسيد محاولات الموظف الصغير أن يكون مرناً في التعامل مع الواقع الفاسد. وفي العام نفسه يشارك في فيلم كوميدي آخر وقد جسد شخصية مغايرة تماماً لشخصية أنور عبد المولى في الفيلم السابق، فهو هنا يقوم بشخصية (عبد السميع) بواب إحدى العمارات التي تسكنها مجموعة متنافرة من البشر في فيلم (البيه البواب) (1987) لحسن الصيفي، والتي من بينها المرأة اللعوب المتزوجة من تاجر أخشاب سراً وتتطلع إلى الثراء عن طريق السطو على اموال الرجال. وتتسع أعمال البواب عبد السميع، لدرجة أنه يوظف أحد السكان من الموظفين الكبار يعمل عنده، ونجد المرأة اللعوب التي طلقها تاجر الأخشاب لا تمانع من أن ترتبط بالبواب الغني بعلاقة، إلى أن تنجح في سرقة أمواله وتهرب بها، لكن زملاء عبد السميع يتمكنون من الإمساك بها وتعيد النقود إلى عبد السميع الذي يقرر العودة إلى زوجته. وقد وجد الناقد سامي السلاموني أن الميزة في هذا الفيلم هي التمثيل العبقري لأحمد زكي الذي يعيش كل شخصية تماماً وأياً كانت أبعادها وتنوعها (فهو أكثر ممثلي مصر اكتمالاً وصدقاً وتوهجاً الآن)، وهو في هذا الفيلم يصر على الغناء وكأن الأداء التمثيلي المتميز لا يكفيه، حيث تأتي أغانيه مكملة لأبعاد الدور وتجعله قريباً من قلب ووجدان المتلقي. ورغم اعتراض بعض النقاد على ممارسته الغناء، فقد استهواه الغناء كثيراً إذ يبدو أنه كان مقتنعاً بفكرة الغناء من خلال صحبته لشاعر العامية والفنان الشامل صلاح جاهين اللذين نجحا معا نجاحاً كبيراً في المسلسل التلفزيوني الغنائي (هو وهي) في الثمانينيات.

وفي عام 1990 يتقمص أحمد زكي شخصية الصحافي حسام منير في فيلم (امرأة واحدة لا تكفي) لإيناس الدغيدي. ولأنه زير نساء يفشل في الزواج لصعوبة تحديده امرأة واحدة تجمع كل الصفات التي يريدها في المرأة، ولذلك يلهث في مغامرات لاهية مع ثلاث نساء: الأولى أميرة ابنة الباشا السابق ومديرة العلاقات العامة بوزارة الخارجية، وهي شخصية ثرية وعنيدة وقوية تملك شبكة من العلاقات؛ والثانية ريم طالبة الجامعة البوهيمية المتحررة التي تقبض عليها الشرطة لآرائها السياسية المعارضة وتوافق على العمل سكرتيرة لحسام. أما الثالثة، هنادي، فهي امرأة فقيرة طلقت مرتين لعدم الانجاب لتعتقد أنها عاقر لكنها تحمل سفاحاً من حسام فيرفض الزواج منها. ويتعرض حسام لمحاولة اغتيال فيجدها ذريعة للهروب من علاقاته النسائية، وفي الطائرة أثناء السفر تجتذبه امرأة جديدة.. هنا يجسد أحمد زكي شخصية المثقف المتردد واللاهي في نفس الوقت، وقد بدت في ردود أفعاله في المآزق الحرجة التي يتورط فيها والسعي بدهاء وأحياناً بخسة للتخلص منها دون خشية منه على قناع نجوميته، التي يريد فيها النجم أن يبدو مثالثاً مثيراً للإعجاب. وحرص أن يكون متسقاً وصادقاً في التعبير عن الشخصية، ويلتقي أحمد زكي مع المخرج خيري بشارة للمرة الثانية في واحد من أهم أفلام المخرج وهو (كابوريا) 1990، وفيه يجسد أحمد زكي الشخصية النافرة المتمردة على طبقتها وتعيش على هامش المجتمع، وهو الشاب الفقير حسن هدهد الذي يهوى الملاكمة ويحلم بالوصول للأولمبياد. وللحق أن شخصية حسن هدهد لها خصوصيتها وسماتها المميزة التي لا يستطيع غيره أداءها، ونلمس خصوصية الأداء في ردود أفعاله عندما يرفضه والد محبوبته ويكاد يطرده عندما ذهب ليخطبها مع صديقيه، وكذلك ردود أفعاله في محاولات حورية الثرية إغراءه وهي تقرأ له أشعارها التي لا يفهم منها شيئا، وفي تجسيده لحسن هدهد الفقير العاطل باستهتاره وعفويته وبقصة شعره الغريبة. هذه القصة التي تعبر عن غرابة الشخصية وخروجها عن المألوف، ومفرداته الخاصة ومشيته المتصعلكة التي تنم عن خلل في تركيبة الشخصية فلم يكن إلا حسن هدهد. ونجده يكرر بعض ردود الأفعال المشابهة في تجسيده لشخصية الأفّاق في الفيلم المأساوي (الراعي والنساء 1991 لعلي بدرخان)، ويشارك أحمد زكي في ستة أفلام للمخرج محمد خان كان من بينها (مستر كارتيه) 1993 وفيه يقوم بدور الشاب الريفي صلاح الذي يسافر إلى القاهرة بعد حصوله على شهادة متوسطة ليعمل سائساً في كراج كان يعمل فيه والده قبل وفاته. وفي هذا الفيلم يغني ويقدم الاستعراض حتى بعد أن أصبح أعرج نتيجة حادث سيارة، كما يقدم اللفتة الذكية والدعابة الراقية المرحة. وفي فيلم سواق الهانم 1994 لحسن إبراهيم، يقوم بدور السائق حمادة الذي تلحقه سيدة ارستقراطية بخدمتها فيجد الزوج ضعيف الشخصية والابن فاشلا في دراسته والابنة الجميلة مدمنة، ويحاول علاج تفسخ هذه الأسرة. وهو في هذا الفيلم يقدم تنويعاً جديدا على الشخصيات المهمشة والبسيطة، ولا ينفرد بالبطولة وحده بل يشاركه عادل أدهم وسناء جميل وعبلة كامل وشيرين سيف النصر، وإن تميز بين هؤلاء بالأداء السهل الممتنع كاشفاً عن قدرته على السخرية والتهكم من هذا الواقع المحيط به. ويعود إلى المخرجة إيناس الدغيدي بعد ست سنوات في فيلم آخر يحاول فيه تناول قضية العلاقة بين المرأة والرجل، هو (استاكوزا) 1996 والمأخوذ عن مسرحية شكسبير (ترويض النمرة) ويقوم فيه بدور مهندس الديكور عباس العنتيل الذي ينوي الزواج من زميلته، فيحدث أن ترك الفتاة الغنية عصمت في موضع حساس يفقد على إثره رجولته فيبدأ في الانتقام ثم يتزوج من عصمت ويسترد رجولته في مفارقات كوميدية راقية. وفي هذه الكوميديا المأخوذة عن الفكرة الشكسبيرية يتبدى ذكاء ووعي أحمد زكي بالشخصية المرسومة بما تحتويه من جرأة تصل إلى التهور والطيش، ومن مكر ودهاء ليتصيد الفتاة الجموح في مواقف ملهوية قد تنحرف إلى الهزلية التي تثير القهقهات، مع الأغنيات السريعة الإيقاع المتسقة مع موجة الأغنية الشبابية في منتصف التسعينيات.

ومع المخرج نادر جلال يقوم ببطولة الفيلم الكوميدي الخفيف (حسن اللول) 1997 ويجسد فيه شخصية حسن الشاب البورسعيدي الفقير الذي كان أبوه فدائيا، لكنه الآن مضطر لأن يعمل مهرباً صغيراً للساعات والسلع الصغيرة بإخفائها في وسائد السيارات التي يقودها خارج وداخل المدينة الحرة بورسعيد. ورغم سذاجة حبكة الفيلم إلا أن أحمد زكي استطاع أن يملأه بروح المرح والسخرية والتعليقات اللاذعة من داخل حركة وسلوك شخصية السائق البورسعيدي البسيط الذي قد يدعي الفهلوة وإن كان لا يحب أن يكون فهلويا.

ومع أولى تجارب المخرج الشاب عادل أديب يشارك في فيلم (هستيريا 1998) ليقوم بدور (زين) خريج معهد الموسيقى والذي يعيل أمه وأخاه المنحرف رمزي وأخته التي يحبها المصور الجوال رزق الذي ترفض العائلة أن يتزوجها. ويحاول زين أن يغني بمفرده في مترو الأنفاق، وفي الأفراح، ويرتبط بعلاقة عاطفية مع فتاة أرستقراطية، إلى أن يصادف موظفة مطحونة توفي والدها وتصيبها قسوة الحياة بنوع من الهستيريا، وتطردها شقيقتها من شقتها فتقيم في محل طيور زينة، وتقع في غرام زين وتطارده في مكان إلى آخر. ورغم مأساوية الأحداث إلا أن أحمد زكي الذي يجسد شخصية الرجل الأكثر نضجاً استطاع أن يملأ هذا الجو الشعبي بالنكتة وبالاشراق والأمل بحركته وإيماءاته وغمزاته ولمزاته المرحة وقوة حضوره...

وفي فيلم (اضحك الصورة تطلع حلوة) 1998 لشريف عرفة يقوم بدور الأب سيد غريب الإنسان المتصالح مع نفسه ومع من حوله، ليؤكد أنه لا يهم أن يقوم بدور الفتى الأول الذي يتشبث به نجوم الممثلين حتى آخر لحظة، ويصرون على وضع أقنعة النجومية، ويقوم بدور رجل في الخمسين من عمره وله ابنة جامعية ورغم ذلك فقلبه ما زال ينبض بالحب وعشق الحياة والتمرد على الأوضاع الظالمة، لذا ملأ الفيلم بالبهجة والتفاؤل. فهو هنا رجل ناضج، خبر الحياة وعلمته التجارب، وبدت سخرياته المريرة مما يدور حوله من متناقضات ليضفي على أحداث الفيلم بهجة وسرورا.


(
) ناقد مصري

 

بحثاً عن ممثل

عباس بيضون

فيما اخذت الغيبوبة أحمد زكي راح الناس في التليفزيونات والاذاعات والصحف يقولون كل شيء عن النجم. في الجنازة قال احدهم ان لم يبق قول لقائل. لا تعرف حقاً إذا كنا استنفدنا حقاً خبر الممثل الراحل ولم تعد هناك زيادة لمستزيد. لا نعرف حقاً إذا كان الكلام بدأ في أحمد زكي اساساً، في أحمد زكي او سواه. فما نظنه احيانا صفوة القول ليس إلا الذكر المكرور المعاد، ثم ان ما يقال ليس دائماً مما يستحق الذكر وليس دائماً مرضياً او مفيداً، فثمة ما يمكن ان ندعوه تواتراً، اي كلاماً يجري فيه السابق على اللاحق، ويأخذ الجديد بتلابيب القديم. فلا نعلم إذا كنا حقاً احطنا بكل شيء أم اختصرنا المسألة كلها الى بضع صفات وبضع عبارات، حصرناها فيه حتى بات كل طارئ على الكلام لا يفعل سوى ان يعيد ويحسب انه هكذا قال المقصود والكافي.

خذ مثلاً هنا الكلام عن الصدق والعفوية، اغلب الظن ان هذا ما يدرج قوله في كل فن وفي كل فنان، وهو لفرط ما يتواتر لا يتوقف عنده ويحسب قائلوه ان فيه الكفاية، وانه واضح بنفسه تام بها ولا يحتاج زيادة او تفسيراً. الحق ان ليس اصعب من ان نحدد الصدق والعفوية في اي فن، فالفن تمثيل والفن خلق والفن خيال والفن لعب، وهذه جميعها لا نعرف كيف تكون صدقاً وكيف تكون عفوية. والامر اصعب حين يتعلق بمهنة كمهنة الممثل، الممثل يؤدي كل شخص الا نفسه، فهو يخرج ليكون حيالها إنساناً آخر وسيجيد بقدر ما يتجرد من حاله وبقدر ما يتقمص غيره وبقدر ما يخترع من جسده وذاته جسداً ليس له وذاتا لسواه. كيف يسهل ان نتكلم في امر كهذا عن الصدق والعفوية، وفي مأثورنا ان الصدق صدق النفس وان العفوية ان يكون المرء نفسه بلا تقصد ولا ادخال ولا زيادة. مع ذلك لم نسمع في أحمد زكي كلمة في نعته كما سمعنا العفوية والصدق. وبعد هذا هل يكون في مقدورنا حقا ان نكتفي مما قيل ونظن ان لم يبق ما يقال. لا نعرف مع ذلك كيف يتواتر الكلام وكأنه موجود على نحو ما في وجدان عام، يخرج متطابقاً ومتردداً صانعاً بذلك نوعاً من خطاب مشترك وشبه شعبي حول الرجل. لا يخرج متكلم عن هذا النطاق ولا يقول عكسه، لقد غدا بداهة لا ترد ومضمراً في كل حديث.

الغريب انني سألت ثلاثة مخرجين ممن اثق بجديتهم عن أحمد زكي، لم يكن للثلاثة قول واحد لكنهم جميعاً بدوا خارجين على <<الاجماع>> وحتى غير دارين به. الثلاثة قالوا انهم لم يجدوا فيه ممثلا خارقاً، احدهم قال انه في النهاية سليل المدرسة المصرية في السينما وهي مدرسة لا تزال مع تعديلات طفيفة في مناخ يوسف وهبي، الآخران قالا ببساطة انهما لم يحبا تمثيله المبالغ في تمثيله. احدهم قال ان التقليد ليس هو التمثيل وأن زكي في فيلمي ناصر والسادات دل فقط على موهبته في محاكاة الاثنين وليس هذا بالضرورة منتهى الفن بل ليست هذه هي السينما اليوم. ان اداءً كهذا ينتمي الى بدايات متخطاة والى تاريخ لم يعد راهنا.

لا اتبنى حديث مخرجيّ الثلاثة لكني لا استطيع ان اتجاوز عنه، او رده لأقول ان الخطاب الذي نظن انه جمع فأوعى ليس تمامآً كذلك، فأيا كان نصيبه من الصحة فهو سريع وهو شعبي اي انه ابن المزاج والميل الى الاشتراك والتواطؤ بل التطابق، وهو بالتأكيد غير عالم ولا نقدي.

لا اتبنى حديث او احاديث مخرجيّ الثلاثة لكني لا اخفي غبطتي بوجود نظر آخر، لكنه نظر غير مهتم فالثلاثة فيما اظن تعففوا عن قوله، ولعلهم لولا سؤالي لم يصرحوا به حتى لأنفسهم. إذا كان أحمد زكي مالئ الدنيا وشاغل الناس فليست هذه دنياهم ولا هؤلاء ناسهم، وسيتركون التليفزيونات والاذاعات والصحف لحالها. الارجح ان السينما هذه ليست سينماهم اساساً، السينما بالنسبة لهم في مكان آخر ومهما كثر اللاغطون في السينما المصرية وأحمد زكي فإن هذا لا يعنيهم اكثر مما تعني العمودية الشعراء الحديثين والرسم الكلاسيكي فناني اليوم. هل الامر هكذا؟ هو كذلك بالنسبة لهم. حين يقول لي مخرج احترمه ان هذه هي مدرسة يوسف وهبي لا اشك، انه لا يرى في أحمد زكي اكثر مما أراه أنا في محمد التهامي الشاعر المصري التقليدي. اشعر شخصيا بالظلم، ولا اعرف كيف اصف موقفاً كهذا، التهامي غريب في سربه وليس بالتأكيد طاغياً ولا سائداً، وليست هذه حال أحمد زكي. إذا كان أحمد زكي سليل يوسف وهبي فهذا يعني ان لا أمل في سينما لها ما لها وعليها ما عليها، ونظن ان تاريخها ليس واحداً، وانها بخطوة الى الامام وخطوتين او ثلاث الى الوراء فعلت شيئا. اشعر بالظلم، اظن ان أحمد زكي أُخذ بتاريخ للسينما موصوم، او اشعر على الاقل انه حوكم بدون عدل كاف ولا محاكمة كافية.

مع ذلك، حين اذكر ان الرجل طالما وصف بشيء كالعفوية والصدق افهم ان كلاماً كهذا يمدح بلا مديح، او يمدح حين يظن نفسه يمدح. ما يمكن تعميمه الى هذا الحد لا تعود له صفة ولا نعرف اذا كان فيه بقية من معنى ليصح اعتباره مديحاً او نقداً. الأرجح ان العفوية والصدق ممدوحان في كل شيء. انهما من ثقافة كليشيه تقوم الالفاظ فيها بذاتها ولا تحتاج الى نعت او تفسير. ما أدراك ما مرجع ذلك في ثقافة لا تزال تمدح الفطرة والنسب الصريح والاصل ولا تقر بأن العالم يتجه عكس ذلك، اي يتجه اكثر فأكثر الى الارادة والهجنة والتركيب والتزاوج. ما ادراك ما تعني العفوية والصدق مثلاً إذا اطلقتا على العلم مثلا او على البحث او على التفلسف او حتى على الفن نفسه. نقاد من هذا الصنف لا ينتبهون ان كلاماً كهذا لا يستقيم مع تاريخ الفن ولا مفهوم الفن، إذ لا يمكننا ان نجد في تاريخ الفن مسار عفويات وصدقات، ومن ينظر في هذا التاريخ يجد ان الحيّز الأكبر هو للاجتراح والصناعة والتركيب. ثم اننا لا نعرف في مسألة الصدق إذا كان المقصود هو الاخلاق او الفن نفسه. نستغرب ان يكون هذا كلامنا في ثقافة قيل في بداياتها كلام من نوع <<اعذب الشعر اكذبه>>، ناهيك عن وصف القرآن للشعراء بأنهم في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون.

اجتماعيات الثقافة

لم يقل كل شيء إلا في حيّز التعازي وآداب الحداد واجتماعات الميديا والثقافة، ما يسميه رجيس دوبريه الميديالوجي يتجلى هنا في ابسط صوره وأكثرها مباشرة. الحقيقة انه لم يُقل شيء مهم على الاطلاق عن أحمد زكي ولا عن عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وسعاد حسني ومحمد عبد الوهاب. ما يقال الى الان هو غالباً في نطاق ذلك الخطاب المحصور الشعبي ولا يقال ابداً في سياق تاريخ فعلي للسينما والموسيقى. توفي أحمد زكي وهو يمثل دور عبد الحليم حافظ، ولعل في هذا اشارة مكتنزة. الاثنان استحقا تسمية فنان الشعب، تسمية تعني في الغالب تحول الفن الى طبقة وسطى جديدة ومتنامية. كما تعني مزاجاً انتقالياً يعكس ذلك التعاطي المعقد بين الريف والمدينة، كما يعكس التكوين الخليط الذي يصعب تحديده للمدينة العربية. كلاهما عبر عن دينامية جديدة لكنها واعية على نحو شقي لحدودها و<<معلقة>> في قيمها وحساسيتها. يهم كثيراً من هذه الناحية الخطاب الذي يتكون حول كل من الاثنين. قد يكون نعت <<الأسمر>> المنسوب لكليهما اكثر من ذكر للون، ففيه ما يُردّ الى الشعب، الى ابن البلد والى <<جماليات>> الوسط المديني الجديد. لم يكن لسمرة أم كلثوم مثلاً اثر في اسمها.

اخشى ان ما نحتاجه فعلاً هو ان نعرف ما حدث في السينما المصرية وهل هي حقاً لم تغادر كثيراً نقلة السينما الصامتة الى الناطقة، ولم تغادر تلك الصوتية المفتعلة والأغراب التمثيلي اللذين ميزا اداء يوسف وهبي. هل نحن باختصار في ما قبل السينما ولا نزال نعدل ونبدل دون ان نعبر الى السينما حقا؟. كل ذلك بالتأكيد يحتاج الى تاريخ فعلي، تاريخ لا ارشيف، فالارشيفات كثيرة والارشيفيون كثر. مع ذلك فإن نظرة ترى اننا لم نغادر الى السينما هي نظرة لا تزال ترى السينما في مكان آخر، وأظن انها هي الاخرى باتت بائدة الى حد. لا نشك ان السينما قامت هناك كما قام بدرجات اقل أو أكثر المسرح والأدب، لكن النظر الى المثال الغربي على انه المعيار قد يؤدي الى ان نفترض، الى الأبد، اننا لا نزال قبل كل شيء. واننا لم نصل بعد لا الى السينما وحدها ولكن الى الرواية والشعر والمسرح والتصوير وكل فن آخر. ناهيك بالطبع عن الفلسفة والفكر والعلوم الإنسانية والحديثة حيث يمكن الجزم بلا حرج ولا تأنيب بأننا لم نخطُ بعد.

شعور كهذا ينتابني حين أرى على الشاشة نور الشريف مثلاً وهو لا يكف كل حين عن أن يبتسم بعينيه المزمومتين تلك الابتسامة الطيبة وينطق بصوت وخشوع المثال النمطي لابن الطبقة الوسطى الطيب في قرارته، حتى ولو شطح قليلا. وما اسمعه دائماً هو تلك القرارة التي لا تتبدل والتي تكشف رغم المظاهر عن معدن اصيل. ينتابني حقاً الاحساس اننا لا نزال تقريباً قبل السينما وانني امام شخصية كراكوزية مضادة. فشخصيات الكراكوز في الاساس لعوب وشاطرة. شخصيات نور الشريف يتقدم صوتها عليها وتظهر دائماً تبعا لحقيقتها المفترضة وجوهرها الثابت لا ظرفها ولحظتها وتفاعلها مع نفسها وزمانها ومكانها. اقول عندئذ ان الشيء نفسه يحدث حين تعبر عينا وصوت محمود المليجي عن دخيلته الثابتة وتكشف للمتفرج حقيقته الباطنة التي يفترض انه يحاول ان يخفيها بأدائه. عندئذ تبدو السينما وكأنها تقدم جواهر وماهيات لا سلوكا وتصرفات وردوداً. افترض اننا هنا لم نتجاوز كثيراً بدايات السينما، او ان سينما الجواهر هذه لا تتطلب شخصيات وأدواراً، فهذه امثلة وتجسيدات. ما تتطلبه هو النمط والعبرة بل المحاكمة الاخلاقية الضمنية والممثل والتمثيل طارئان على النمط والعبرة والمحاكمة. المتفرج يرى حقيقة الممثل التي لا يراها هو، والمتفرج يتعامل مع هذه الحقيقة، اما التمثيل فهو <<الحكاية>> الضرورية لايصال كل ذلك وتجسيده.

احسب ان الأمر كذلك حين نشاهد محمود ياسين، بل حين نشاهد فاتن حمامة ايضاً وشكري سرحان وما يمثله هؤلاء من اتجاه سائد في السينما المصرية، دعك بالطبع من يوسف وهبي وجيله. والسؤال إذا لم تكن هند رستم مثلاً استثناء او على الاقل شقاً في الجدار. إذا لم تكن شادية في بعض احوالها اختلافاً ما. إذا لم تكن سعاد حسني هي ايضا انعطافاً إذا لم يكن أحمد زكي في النهاية مثلاً آخر.

اميل بدون علم وبمجرد انطباع الى حكم كهذا. اذا كان نور الشريف ومحمود ياسين يواصلان عماد حمدي فلأن السينما تربي الجمهور ايضا ولأن عماد حمدي راسخ في ذاكرة الجمهور السينمائية ونجاح الاثنين الكبير هو الدليل. ما يفعله الاثنان هو تمثيل التمثيل. هما لا يمثلان نفسيهما وان بدا انهما يكرران ويتكرران. يمثلان في الواقع نمطاً مما قبل السينما، لا يمثلان نفسيهما ولا يمثلان في الاساس، انهما يؤديان فحسب. صنيعهما قريب من صنيع دمى المسرح نفسها. هذا كله بعيد عن مدرسة في التمثيل تقضي على الفنان بأن يرجع الى ذلك <<التمثيل>> الدائم الذي يلامس تصرفاتنا في الحياة والذي لا يبدو عليه انه تمثيل فعلي اكثر مما يرجع الى المسرح الذي لا يزال يفسح للتمثيل حيّزا مستقلاً. تمثيل كهذا سرعان ما يستمد من الشخصية الاصلية للفنان نفسه ويستوفز هذه الشخصية بحيث اننا في الدور نفسه لا نزال نشعر الحضور الشخصي. كذلك هو الأمر مع مارلون براندو، وليس الأمر هو نفسه تماماً مع جاك نيكولسون الذي يستوعبه الدور بحيث لا نجد صورة او ذاكرة عن شخص الممثل نفسه، ما بين مثل نيكولسون وبراندو نجد انفسنا امام فنين إذن. الاول يشد باتجاه الدور والثاني باتجاه الشخص.

أين هو أحمد زكي من كل ذلك، لا اظننا نعدل اذا وضعناه ببساطة في عداد نور الشريف ومحمود ياسين. مثّل أحمد زكي بدون شك بعضا من افلام النمط الدمية. كانت له ادوار ابن الشعب الطيب او الشرير المعلن، لكن هذا ليس حاله دائماً، فالسينما الجديدة في مصر ولو انها ورثت النموذج الشعبي ونموذج الطبقة الوسطى الرثة لم تكن سينما جواهر ولا انماط دمى. لقد وعت اكثر الالتباس الذي يتكون في داخل الوسط المديني وهو التباس سيكولوجي بقدر ما هو اخلاقي وسياسي. لا شك ان هذه السينما تعرضت ليساروية مضرة احيانا، لكنها ايضا كانت سينما الاحوال المعلقة والشخصيات القلقة المتنازعة. كان أحمد زكي بدون شك اعظم وأهم ممثلي هذه السينما وأدواره الاقوى هي ادوار النموذج الشعبي (الرث والمتصعلك والمتوسط) هذه الادوار لم يكن زكي فيها مؤديا فحسب بل فاعلاً، لقد اعاد الاعتبار للتمثيل بوصفه حقيقة لا قناعاً مكشوفاً وخادعاً للحقيقة.

اعاد الاعتبار للتمثيل وأعاد الاعتبار للنموذج الشعبي نفسه فبكسر نمطيته وكراكوزيته اخرجه من واحديته وفتحه على صور وضروب لا تحصى. من هنا غزارة ادوار أحمد زكي الذي ظل افضلها في هذا النطاق. الارجح ان أحمد زكي لم ينل النجاح نفسه في ادوار اخرى وإن بدا غير ذلك فدوره في <<زوجة رجل مهم>> فقير مدع وليست هذه هي الحال في <<حكاية هند وكاميليا>> مثلاً، لقد جعل زكي النموذج الشعبي يتفتح بكل امكاناته وتنوعه. لا يقاس ذلك دائماً بالنجاح الجماهيري ففيلماه عن <<ناصر 56>> و<<السادات>> هما فيلما حرفة قوية ولكنهما فنيا لا يقاسان ب<<موعد على العشاء>> و<<شفيقة ومتولي>> و<<الراعي والنساء>> اذا لم يكونا من هذه الناحية تراجعاً. كان مع ممثلي يوسف شاهين الذين يختفون تقريباً بمجرد تركه الاستثناء الابرز في السينما المصرية. اما ممثلو يوسف شاهين فكانوا في ادارته يعودون الى ذلك التمثيل الحياتي الذي لا يشبه كثيراً التمثيل. نجحوا في ذلك لكنهم بقوا تلاميذ نجباء ولم يمتلكوا من الحضور ما يجعلهم يطيعون اشخاصهم ويتجاوزون مخرجهم. أما أحمد زكي فاتجه الى تمثيل هو كما قال بعض نقاده عن حق، تأليف للنموذج. سنتكلم هنا عن مثل يشبه مثل نيكولسون. نوع من امحاء في النموذج وتفجير له. لا تترك افلام أحمد زكي كما لا تترك افلام نيكولسون ذاكرة عنه، هذه هي الحال تقريباً في افلام هوبكنز رغم ادائه المتقارب. هؤلاء غيلان تمثيل. وقدرتهم الفعلية هي في ان يلعبوا. قضى أحمد زكي 16 عاماً من حياته في فندق، والارجح ان حياته الشخصية لا تقول عنه اكثر من افلامه. انه هذا التمثيل الذي يغدو بسبب ابتلاعه للحياة حياة اخرى. أفي وسعنا ان نتكلم بعد عن العفوية ام انه من الاجدر ان نخرج من أدبيات الحداد.

السفير اللبنانية في

01.04.2005

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)