تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

طوق النجاة في عبور ممرات (غوغل) الإجبارية

خلاص الممثلة في صورها الأخرى

فجر يعقوب

اقتباس وقائع قصة حقيقية للسينما مسألة ليست سهلة. هنا في فوران اللغة المصورة قد تنتج قصة يمكنها أن تطفئ كل القدرات الذهنية والعاطفية والنفسية لأبطالها، وقد تشعلها كلها دفعة واحدة. وليس لهذا الاقتباس الذي نقصده إطارات محددة يمكنها أن تضبط سير الأحداث، ولكن الفرجة التي تتيحها اليوم المواثبة الالكترونية بين المحطات التلفزيونية المتخصصة بحثا عن فيلم يطري هذا الجفاف تتجلى في اقتباس قصة فيلم في حجم المشاعر والألم الذي يثيره بنتيجة الاحتراق الداخلي لبطلته.
لايسأل المشاهد نفسه كثيرا، فالمواثبة الالكترونية تغيراليوم من المشاعر بطريقة لم تُختبر من قبل، وهذه زاوية رؤية تم تجريبها وتجريب مداواتها بالنسيان والتجاهل حينا، وبالدواء الصعب المكلف أحيانا أخرى. جرّب الانسان في حياته كل المشاعر والأحاسيس ولم يعد هناك شيء يضيفه إليها. هذه وصفة مايكل أنجلو أنطونيوني للسينما وهو يطالب بالبحث عن مشاعر جديدة بتغيير زاوية النظر نفسها إلى المشاعر الانسانية حتى تتم تسمية أسرارها مرة أخرى. فهذا الانسان المروع في فؤاده على الدوام اخترق بتجريبها كنه كل الحجب المضروبة من حولها درجة أنه لم يعد هناك حجب في الحياة والدراما.
الاقتباس لعنة مؤكدة، واقتباس القصة الحقيقية يعاد علينا هذه المرة في طقس تلفزيوني يميزه الاسترخاء البدني والعاطفي والنفسي. فقد عرضت مؤخرا محطة
mbc2 فيلم An American Crime للمخرج الأميركي طومي أوهافر (2007). الفيلم دراما مأسوية تدور أحداثها نقلا عن قصة واقعية، أي اقتباسا عن قصة حقيقية دارت وقائعها في ولاية انديانا الأميركية في ستينيات القرن الفائت. الشقيقتان سيلفيا وجيني تضطران للإنتقال بقصد السكن عند السيدة جروترود باشفينسكي (لعبت دورها كاترين كينير) لأن الأب والأم يعملان في سيرك متنقل وهما لايبيتان في مكان واحد أكثر من أسبوع. سوف تخضع سيلفيا لاكين (1949 1965) لاختبارات الملانخوليا المرضية التي تعيشها السيدة باشفينسكي وهي أم لخمسة أولاد، وكان زوجها قد عافها في وقت سابق إلى مكان غير معلوم لأحد. هذه السيدة التي تتعاطى أدوية الربو والمسكنات وتدخن بشراهة تعيش حالات من تأرجح الوعي المستدرك الى درجه فقدانه كليا ما يدفعها لتعذيب الصبية المراهقة الحلوة سيلفيا بشكل منتظم وغريب. تبدأ أولاً بفبركة قصص عن علاقات عابرة مع صبيان بعمرها (مع ملاحظة أن الفيلم اقتطعت منه مشاهد كثيرة أثرت في بنائه الدرامي بطريقة بشعة). ويزيد من غمر الهلوسة عندها سلوك ابنتها الكبرى بولا في المدرسة اذ يخيل لها أن سيلفيا تقوم بترويج اشاعات عنها عن حمل مزعوم لها، وبولا في مثل عمر سيلفيا وتشبه أمها إلى حد بعيد. سيلفيا بريئة تماما من هذه الاتهامات المرضية، ولكن الأمور لن تقف عند حدود براءتها، فسوف تتعقد حياتها في بيت باشفينسكي الى درجة سجنها في قبوه المظلم والادعاء أمام القس بأنها أرسلت إلى اصلاحية الولاية بغية تأديبها وعقابا لها على سلوكها المشين، فيما تتفرغ لها السيدة المريضة تماما وتبدأ حفلات تعذيبها بحرق جسدها الغض بسجائرها، وتدفع أولادها ليشاركوا في تعذيبها والتباري والتباهي بذلك، ثم تدفع ببعض الجيران للنزول للقبو ومواصلة الانتهاك الجسدي لسيلفيا. حتى ريكي المراهق المغرم بها سيضطر للنزول عند رغبة السيدة باشفينسكي والمساهمة في أفظع مشهد تعذيب تتعرض له الفتاة عندما تكتب على بطنها بالقلم عبارة « أنا عاهرة وأفخر بذلك « وتبدأ بوسم الحروف بدبوس محمى على النار.

الاقتباس لعبة المخرج الملعون، ولكن سيلفيا بأدائها هي من تغير قواعد المشاعر في الفيلم. وهنا بطريقة مشاهدته الجديدة التي يفرضها التلفزيون لايكفي أن يخرج « الريموت كونترول « من اليد المتعرقة وهو يقبض عليه بقوة للتحايل على مصير سيلفيا التي لا يوجد سواها الآن في المحنة. المشاهد على أتم الاستعداد للدخول بجسمه في الشاشة بغية انقاذها. هاهنا تتجلى «الرأس الكبيرة في الشاشة الصغيرة» بحسب أندريه مالرو، وهذا الالتصاق يفعل فعله من دون اضافات أو ملونات. النكهة هي نكهة سيلفيا ومحنتها التي تزاحم مجد «الريموت كونترول» وتبقيه في حالة سكون غريب. تصمد التخوم العاطفية للقصة بغية تجنب غدر المخرج طومي أوهافر بمشاهد فيلمه والقائه من النافذة التي اختارها ليروي منها قصته المؤثرة وهو يكشف كنهها الغادر. تظل اليد متمسكة بالريموت كونترول لمراوغة نصية الاقتباس الواقعي لقصة سيلفيا وتجاوز القبو بغية تغيير مكونات العتمة والرطوبة التي تميزه. لا تحدث معجزة هنا. القبو على حاله والتعرق يزيد في اليد القابضة على « الريموت كونترول « خوفا من أن تموت سيلفيا لوحدها في القبو المظلم اللعين.

الاقتباس ليس لعنة وحسب بل هو لعبة، ابيضاً. فسوف تتدخل بولا، النسخة المصدقة عن أمها. فعل الاخاء الانساني مستنفر بالكامل، لأن سيلفيا تذهل أعداءها بأدائها. مرآة الشعور تحدد ملامح هذا الاقتباس وانتصاره. الاقتباس الحرفي عن ظلامية الروح الانسانية وغدرها. بولا سوف تعمل على اخراج سيلفيا من مكان احتجازها في قبو البيت، وسينقلها ريكي بسيارته الخردة إلى خيمة السيرك الأبوي البعيدة، وسيتعرف إليها الأب باسم (كوكي)، وسيقرأ هو والأم ماكتب على بطنها من عبارة شائنة أحرقت اللحم الطري. سيقوم الأب والأم بنقل سيلفيا بسيارتهما إلى بيت السيدة باشفينسكي، وسينزلانها عند الباب الرئيسي، وستطلب إليها الأم أن تذهب لمشاهدة شقيقتها جيني، وستصعد الفتاة المعذبة الأدراج، وتدخل، وسوف تجد نفسها ممددة في أرضية البيت جثة هامدة لاحراك فيها، والشقيقة الأصغر من بولا تصرخ فوقها وتحاول أن تجد نبضا حيا فيها. سيلفيا لاتتنفس. عروقها متيبسة. مايضطر سيلفيا الحية لأن تختفي من المشهد الذي أمامنا، تتلاشى في يقين الصورة نفسها، فيما تصر السيدة المريضة باشفينسكي على أن سيلفيا الميتة تراوغ وتكذب وتمثل وتتذكر غيبوبتها عندما كانت تعذبها في القبو وتطلب إليها أن تتفهمها وتشكرها على ذلك. تشكرها على قبولها العذاب. باشفينسكي كانت تستجدي دموع سيلفيا لتشعرها بالعرفان. العرفان الذي لايمكن تفسيره ويظل عصيا على الفهم عندما يتوطن العماء في الذات الانسانية الملغزة. في المحاكمة سيقوم محامي الادعاء بسؤال جيني ماإذا كانت شقيقتها سيلفيا قد بكت أمامها، لأن الأم وأولادها كانوا يقولون عنها إنها عديمة المشاعر. جيني سوف تقول إنها شاهدتها تبكي قبل ذلك، ولكن فيما بعد لم تعد تبكي لأنها لم تكن تحصل على الكثير من الماء. لم تكن تذرف الدموع أمام قاتلتها خشية تيبس جسدها. كانت تبخل عليها باظهار العرفان والشكر الذي كانت تستجديه منها. كانت تكره أن تتفهمها حتى لاتنام القاتلة قريرة العين.

باشفينسكي أنكرت كل الاتهامات التي وجهت إليها وقالت إن أولادها كانوا يقومون بأشياء كثيرة من وراء ظهرها، لكن المحلفّين رأوا أنها مذنبة وحكم عليها بالسجن المؤبد بتهمة القتل العمد. وسوف تقضي من محكوميتها عشرين عاما، وقبل أن تفارق الحياة عام 1990، أي بعد خمس سنوات من الافراج المشروط عنها، خيل إليها أنها التقت سيلفيا وطلبت الصفح منها دون أن يتحقق لها ذلك. وتخبرنا الشقيقة جيني أن بولا وجون باشفينسكي حكما بالسجن تواطئهما المعلن في قتل سيلفيا. أما ريكي فحكم بعامين هو الآخر بتهمة القتل الخطأ، ليموت بسرطان الرئة وهو في الواحدة والعشرين من عمره. الآخرون لا نعرف لهم مصيرا. لم يقل المخرج شيئا عنهم. كان يدرك فن الاقتباس وهو يريد التلاعب بمشاهدي فيلمه حتى آخر ثانية فيه. أما سيلفيا التي تودع أبطال « الريموت كونترول « وهي على حصان السيرك، انما تقوم بذلك لتودع في نفس الوقت هذا الاقتباس اللعين لقصتها، فالأمور لاتنتهي عند هذا الحد، اذ ينبغي معرفة اسم الممثلة التي لعبت دورها بكل هذا الاقتدار.

تخبرنا تيترات الفيلم أن اسمها هو ايلين باج. ولكن هذا لايكفي، فأداؤها الذي يظلل حصان السيرك في المشهد النهائي يتطلب عملية من نوع آخر لمسح هذا الألم الجديد الذي رسمت معالمه في الفيلم. محرك «غوغل» هو الوجهة الأنسب للبحث في مصير مختلف لايلين باج نفسها. لاتعود سيلفيا في الواجهة، فالصورة هي صورة ايلين وهي تبتسم وتغادر حفلة الموت التي لم تكن تبكي فيها، فجسمها يفتقد للماء، ونحن في اقتباس الصيف أو عز اقتباسه، فلنوفر المياه لبكاء آخر، والأفضل ألا تتعرق الأيدي وهي تقبض على « الريموت كونترول « حتى لا يفقد الجسم الانساني ماويته. الأفضل ان نجرب صورة لايلين باج وهي تبتسم وتوفر علينا مشقة الدمع. هاهنا مشاعر ملتبسة يوفرها «غوغل» وهو ينجدنا بصور كثيرة لسيلفيا في الحالات انسانية مختلفة. فالخلاص الانساني كما تخبرنا جيني نقلا عن الكتاب المقدس يكون بالعبور بين الممرات الضيقة، لأن الممرات الواسعة يمر منها أناس كثيرون في الوقت نفسه. أن الرب وضع بنفسه خطة لكل حالة طارئة من الحالات أثناء عبور الانسان هذه الممرات المظلمة، ولأن ايلين باج نجحت بعبورها وحدها من هناك..!!

المستقبل اللبنانية في

31/05/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)