يقودنا السؤال الفلسفي لهذا الفيلم الى جوهره الابداعي والانساني معا..
سؤاله هو سؤال الكينونة التي تمتلك قدرة التحليق في خضم القهر والعنف
والقمع الانساني على كل الاصعدة.. كينونة الطفولة المعطرة بملائكية الروح
وسط موج متلاطم من الانياب المكشرة عن ذئبية بشرية مفرطة فى النوازع
الحيوانية الشريرة.. الطفولة التي تخوض صراعا من اجل بقائها الانساني
ووجودها المحاصر والمهدد بالفناء او المسخ.. الطفولة التي تولد في احياء
الصفيح.. الاحياء التي تتشكل على هامش المدن والقصور والمتع والبذخ والثراء
الفاحش المعتاش طفيليا على دم وحقوق وانسانية سكان احياء الصفيح واحياء
الفقر الاخرى.. انسانيتهم المستلبة وهم يقتاتون على نفايات الثراء والبذخ
والجشع.. نفايات رأس المال المتوحش اذ هو يرمي لهم ما يسد رمقهم ملوثا
وموبوءا بعد ان تحمله سيارات النفايات وترميه في المكبات التي خلقت مجمعات
سكنية قربها لهؤلاء الواقفين على هامش الحياة والملعونين المطرودين من دنيا
التوحش الطبقي... من رحم هذه الاحياء يفجر هذا الفيلم اوركستراه لتحتضن في
الجوهر ابداعا فيلميا هو بمثابة سمفونية سمعية بصرية ومركز بؤري لالتقاء
العناصر الخلاقة لهذا الخطاب الفيلمي وللتحليق في رسم ملامح الصراع
الانساني وجدلياته التي لم تنقطع منذ الصراع البشري الاول بين (قابيل
وهابيل)، وقد اتسعت رقعة الصراع الانساني وتنوعت صيغه واساليبه توحشا..
لكنه في جوهره يعود الى جينات الصراع الاول الذي اسس نوازعنا وهواجسنا..
هذا ما تجسده اسئلتنا ازاء شخصيات الفيلم الاساسية والمتمثلة بثلاثية
طفولية (الاخوين جمال وسليم ملك وما بينهما انشودة الحب المرافقة والمتمثلة
بالطفلة لاتيكا).. هؤلاء هم بقايا سكان حي الصفيح بعد ان ابيدت عوائلهم
وعوائل اخرى بمخالب الصراع الديني، حيث يهجم متطرفي الهندوس على هذا الحي
المسلم من الفقراء والجياع.. ومثلما سلب هذا المثلث الطفولي (جمال، سليم،
لاتيكا) من الحضن العائلي بمجزرة هوس القتل الديني، فقد سلبوا من عالم
البراءة والطفولة وذهبوا الى العراء والتشرد والانتماء الى بيئة الشوارع
وقوانينها في الصراع ليتشكل وعيهم مبكرا ويبتكروا ادوات الدفاع عن كينونتهم
ووجودهم وليحولوا احلامهم الى مواقف درامية من نمط الكوميديا السوداء التي
تثير لدى المتلقي قوافل من الاسئلة وليعيدوا تشكيل وعينا الانساني وادواتنا
للدفاع عن نشيد الانسان العاشق للمفاهيم النبيلة في المساواة والحب الاخوي
والدفاع عن مظلومية المقهورين في عالم التوحش البربري للايدلوجيات وانظمة
الحكم المؤسسة للتفاوت والصراعات الطبقية والعرقية والدينية..
نشيد الحب في لجة العذاب والصراع الدموي
من خلال قنوات منظومة السرد وبتقنية المونتاج المتوازي المتعدد المؤسس
بالتشظي يبدأ الفيلم ومن مشهد وجود الشاب (جمال ملك) تحت التعذيب في احد
مراكز الشرطة الهندية في محاولة لانتزاع اعترافته للكشف عن سبب قدرته على
الاجابة عن كل اسئلة برنامج من سيربح المليون العالمي (بنسخته الهندية)
وبنجاح اذهل مقدم البرنامج والجمهور المتابع من داخل الاستوديو وخارجه..
حيث يشك المقدم بان هذا الشاب القادم من الشوارع الخلفية بقدرته على
الاجابة الناجحة بالغش. ويقوده ارتيابه قبل الوصول الى المراحل النهائية
الى اخبار الشرطه بشكوكه واعتقاله وتعرضه الى التعذيب للاعتراف.. ويسير
خطان متشظيان مع خط التحقيق، الاول يكشف عن سير المسابقة والاجابات الناجحة
والتدرج في الفوز للوصول الى النهاية. اما الثاني فيسلط الضوء
وبتراجيكوميدية سردية على حياة (جمال ملك) وما تعرض له في طفولته هو واخيه
(سليم) وحبيبته منذ الطفولة وعذابات التشرد (لاتيكا) حيث يعيشون في حي
الصفيح على هامش مدينة (بومباي) وضمن تفاوت طبقي حاد بين الفقر والتشرد
وبين الثراء والصراع المافيوي والجريمة في عوالم التوحش وانعدام القيم
الانسانية.. لكن هذه التجمعات للمهمشين هي القربان والضحية الاولى للصراع
الديني، حيث يتعرضون الى ابادة على يد الهندوس المتطرفين ولا يسلم من
المجزرة سوى الثلاثي الطفولي (جمال، سليم، لاتيكا) الذين تحتضنهم زاوية في
ليل الشتاء الممطر لينطلقا في رحلة العذاب والتشرد والقسوة على يد مافيات
استخدام الاطفال المشردين في مهنة التسول. ويقدم المخرج والمصور في لقطة
شعرية اخاذة على المستوى الجمالي والدلالي، كاشفا عن بداية التباين والتشكل
الشخصي للثلاثة لينطلقا لاحقا. اذ ينخرط سليم في عصابات المافيا مدافعا عن
وجوده ووجود اخيه بينما يبقى (جمال) مخلصا لنداء برائته الطفولية وللحب
الذي يحلق بمشاعره ويجذر انسانيته وقيمها النبيلة المتمثل بـحبيبته (لاتيكا)،
التي تتعرض هي الاخرى الى الاغتصاب والاضطهاد لكنه يصر على انقاذها على
الرغم الشراك الخطرة التي تعمل على الفصل بينهما اذ تستمر رحلة المثلث
الطفولي بكل تقلباتها وعذاباتها وعلاقاتها الحميمة ومآزقها باطار
تراجيكوميدي حيث تندلق الابتسامة مؤطرة بالدموع في نفس المتلقي.. ويسير
(جمال) الى نشيد الحب والخير متمسكا بقيم روحية نبيلة، بينما يذهب اخوه
(سليم) باتجاه العنف والشر ليقاوم وحشية الحياة المحيطة بهما وليسيل ويتسلح
بذات الادوات الى قمعتهم ودفعت بهم الى لجة التيه والتشرد وليتحول الى ذئب
بشري ولكنه وضمن مفهوم (امكانات الذروة) في بناء الشخصية حيث تتصارع في
داخله عاطفتين (الحب والكراهية) كأوجه لصراع الخير والشر لينقذ (لاتيكا) من
براثن رجل المافيا الذي يعمل معه ويدعها يلتحق باخيه ـ حبيبها (جمال) بعد
ان منعها سابقا وخطفها من محطة القطار ووقف حائلا دون العناق الروحي
للعاشقين.. انه نداء الحب والخير الذي لابد ان ينتصر على عالم التوحش
والقيم المهدورة.. وتلتحق اخيرا (لاتيكا) بحبيبها وهو على اعتاب المرحلة
النهائية للفوز بجائزة البرنامج، وليتعانقا ويطلقا نشيد يغسل ادران وجراح
رحلة العذاب.. ويبقى سؤالنا على مستوى الثيم الدرامية.. هل ما قدمه الفيلم
هو نشيد الحب الانساني والعواطف النبيلة ام نشيد العذاب ورحلة القهر في
عوالم التوحش التي تؤسس لجراحات روحية عميقة داخل النفس والتي لا تندمل
بفعل تحولات الزمن؟.. من يوقف هذا التوحش الهادر، وهل يستطيع الحب في عوالم
الدم والقمع ان يؤسس لوعي وتمسك بالقيم تستطيع الانتصار على الشر؟.. هل هذه
مفاهيم مثالية ام هو الواقع الذي نعيشه.. ومن منا يستطيع ان يكون (جمال
ملك) رافع لواء الحب في عالم الذئاب الشرسة؟ تلك اسئلة الانسانية في رحلة
مخاضاتها عبر الزمن ورحلة الصراعات التي لا تتوقف بل تتنوع وتتعدد اوجهها
وصيغها..
شعرية التشظي السردي
يتأسس السرد الفيلمي بالتشظي وانساق التتابع بصيعة المونتاج المتوازي
المتعدد الخطوط ضمن بؤرة مركزية تتشعب الى بؤر عبر تقنية الاسترجاع (الفلاش
باك) وباطارما يسمى (تيار الوعي) الذي اسس له كل من (جيمس جويس) في رواية (يولسيس)
و (وليم فوكنر) في رواية (الصخب والعنف) لكن هذا الفيلم يذهب الى تقنية
الانثيالات هذه بصيغة التشظي وليس التتابع والتناوب في المسارات التقليدية
للمونتاج المتوازي الذي هو في جوهره بنية سردية.. وهذا التشظي التوثبي اللا
تتابعي هو بنية شعرية منحت الفيلم اول خواصه الشعرية.. ان التشظي هذا
وبخاصيته الشعرية منح المخرج والمونتير حرية توقيت القطع والانتقال السردي
بصيغته الحدسية على المستوى الجمالي والدلالي، حيث تنوع بين القطع قبل
الذروة او وسطها او بعدها مشيدا عنصر الشد والتشويق لدى المتلقي.. وتعمقت
البنية الشعرية من خلال حركة الكاميرا وزوايا الكاميرا والاضاءة وعلاقاتها
الجدلية حيث اسست هذه التقنيات ادهاشا بصريا ومناخا داعما ومعززا للافق
الشعري الذي شيده الفيلم الذاهب الى فضاء الشعر بمحمولات الواقع والحياة
والصراع الانساني وليحول هذه البيئة الحياتية الى سمفونية شعرية (سمعية
بصرية).. ولابد من الوقوف والاشادة بالقدرة الادائية للممثلين التي كشفت عن
طاقة ابداعية خلاقة في الاداء والمعايشة للادوار وبصدق المشاعر والاحاسيس
الانسانية المتدفقة وخاصة للاطفال.. انه فيلم يليق به ذهب الاوسكار الذي
حصده ويليق بـ هان يمنحنا درسا على المستوى الابداعي الرؤيوي وعلى مستوى
رصد الصراعات والانتهاكات الانسانية بما يشكل تجذيرا للتمسك بالقيم النبيلة
وسط موج التدهور القيمي والانساني الهادر الذي يحصدنا في اتون طوفانه
المدمر
أدب وفن في
06/05/2009 |