من شدة الإحباط النفسي تمنيت لو شنقت نفسي بشجرة، كما فعل أحد الأشخاص بأول
لقطات فيلم "إنلاند "لطارق تقية، والذي أراده كما قال يوم عرضه الأول
بالعاصمة الجزائرية بعنوانين الأول "إنلاند" للأجانب أو للطبعة الدولية
للفيلم، والثاني "قبلة" من أجل الجزائريين "لأنهم وحدهم من يفهمون معنى
هذه الكلمة لأنها بلهجتهم"، وتعني المناطق الداخلية والمهمشة في الوطن،
الأكيد أنه يجب أن تكون جزائرياً ساخطاً ومن طينة وفلسفة طارق تقية حتى
تتفهم الفيلم، وتصبر على مشاهدته إذ تميز في مجمله بثقل أجوائه السينمائية
لقلة الحوار وندرتهز أما الموسيقى التصويرية التي كانت في أربع محطات من
الفيلم، فقد تميزت بالتنوع الفني والجغرافي. وتناوبت بين الموسيقى
الجزائرية الخالصة والغربية الصاخبة والآسيوية الصوفية التي إختتم بها
المخرج مشاهد الهدوء الصاخب في فيلمه. هذا بالإضافة لقلة المؤثرات الصوتية
التي كثيراً ما لجأ لها المخرج خلال المشاهد المطولة التي ركز عليها بشدة،
وكذا اللقطات الثابتة والعبثية التي إستنجد بها المخرج في كثير من الأحيان،
لتسليط الضوء على بعض القضايا الاجتماعية السياسية والاقتصادية كالهجرة
السرّية خلال رحلة البطل مالك من الصحراء الى وهران لاستلام مهمة عمله
الجديد، ونهب الثروات الاقتصادية للوطن خلال فراره مع الشابة الإفريقية
على متن القطار الذي كان يجوب في خراب، والنظام البوليسي الذي طارد البطل
خلال عمله، ويمعن في سحق الطبقات المهمشة ويزيد في تعاستها، مما تسبب حسب
المخرج في حركات العصيان المدني بفيلمه.
الإيقاع الرتيب
الفيلم في مجمله إتسم بالإيقاع البطيء على مدار الساعتين و18 دقيقة، كخيار
سينمائي، استغربناه من شاب مقبل على الحياة، كطارق تقية، ولكن تفهمنا الأمر
عندما تذكرنا أن مهنته بالأساس هي التصوير، أو ربما كان تحت تأثير الأفكار
الفنية والإنتاجية لأخيه الذي ساعده في كتابة السيناريو، ويحسب بالأساس على
الدائرة السياسية اليسارية التي كانت الطيف السياسي المميز لغالبية الحضور
يوم العرض، والتي كانت في أوج عطائها وعنفوانها في جزائر ما بعد
الاستقلال، ثم تراجع نفوذها لمصلحة الحركة الإسلامية الأمر الذي جعل هذان
التياران يتجاذبان أحداث الفيلم، مع إبقاء اللوم دوما على إفلاس السلطة من
خلال حلقات النقاش السياسي التي كانت تتخلل بعيثية مجريات الفيلم ولم يشارك
فيها البطل مالك وكأنها لم تكن تعنيه، بل تعني المخرج بالدرجة الأولى.
طارق تقية تمكن وبأمانة وواقعية جارحة وعبثية أيضاً، أن يوصل لنا نفسية
بطله مالك "قادر افاق" التي اتسمت طوال أحداث الفيلم ببشاعة مظهره وبسلبيتة
واستسلامه لمرارة الحياة ربما نتيجة طلاقه من زوجته، وحرمانه من العيش مع
ابنته نهلة، في إشارة سينمائية خاطفة من المخرج للفيلم الجزائري اللبناني
الذي أنتج خلال فترة السبعينات وعنوانه "نهلة" وهو الفيلم الوحيد لمخرجه
طارق بولوفة، وعدم تجاوب مالك مع الظروف المحيطة به، يتزايد مع تطور أحداث
الفيلم ليقبل من دون أي نقاش الأوامر التي تحمّله مسؤولية التوجه لإحدى
المناطق النائية التي لا زالت تعاني من مخلفات الإرهاب لاستلام مشروع إيصال
الكهرباء للمنطقة بحكم مهنته كطوبوغرافي، لتأتي شابة إفريقية "إيناس
روزجاكو" وتربك عيشه، وتجعله يساعدها للتوجه نحو الشمال لتقرر بعد ذلك
التراجع عن الفكرة لاستحالة تحققها والعودة لأرض الوطن، وفي كلا الأمرين
يقرر مالك مساعدتها متخذا ولأول مرة في حياته قراراً نابعاً من ذاته، كلفه
خسارة عمله وتضييعه لمشروع اقتصادي مهم على شركته، لكنه بالمقابل ساعد
الشابة الافريقية، الحائرة في أمرها وكأن المخرج من خلال العلاقة بين مالك
والشابة الافريقية أراد أن يثير نقطة العلاقة بين الجزائر وإفريقيا وكيف ان
كل جهة بحاجة للأخرى غير أن كليهما كان بحاجة لمساعدة ومراجعة ذاته وأحواله
وعلى جميع الصعد.
وتيرة القلق
كل هذه الأجواء المشحونة بالقلق والريبة هي التي سببت، سواء أكان المخرج قد
قصد ذلك أو لم يقصده، في تغلغلها لمشاعر غالبية من تابعوا الفيلم، وإذا
تقصد طارق تقية هذا، فبإمكانه أن يمنح لنفسه العلامة الكاملة، لأنه نجح
وبجدارة واستحقاق في إيصال أجواء فيلمه ونفسية بطله المربكة والغامضة
لمتتبعيه. والذي زاد من وتيرة هذا القلق أن غالبية أحداث الفيلم بين
الصحراء الجزائرية ومنطقة السهوب لمدينة سعيدة ووهران غرب الجزائر العاصمة
كلها كانت مناطق خارج الزمن والحياة أو في طور الإنشاء، نخرها الإرهاب
وتوابعه، وكذا البيروقراطية والبطالة وكل الآفات الاجتماعية التي أصبحت ولا
زالت ماركة مسجلة لوطن كما يراه طارق تقية، المنقسم بين ثقافتين الجزائرية
الفرنسية، وصوره بكاميرا محمولة لمدة عشرة أسابيع خلال شهر فبراير، آذار
وتموز من العام الماضي ليخرج للجمهور الأوروبي يوم 25 آذار من هذه السنة و3
ماي بالجزائر، بطاقم تقني مصغر، ثم حوله إلى 35 ملم، ليجعلنا هنا نسأل هل
الضبابية التي ميزت بعض اللقطات والمشاهد بالفيلم كانت لضرورة فنية أم
عيباً تقنياً نتيجة عملية التحويل المذكورة؟ ولماذا أصرّ في كثير من
الكادرات على إبقاء إبطاله أسفلها هل للإمعان في تهميشهم أم لخيار سينمائي
تقصده لاستفزاز المتلقي؟ ولماذا إستعمل ولثلاث مرات في فلمه اللقطات
المقرّبة لممثليه وهم يتحدثون ورؤوسهم مقطوعة من الكادر؟ هل لعدم أهمية ما
يتحدثون به في نظر بطله مالك، أم لإمعانه في عبثيته السينمائية التي تستحق
المشاهدة.
إيلاف في
06/05/2009 |