ما كان ظهور صورة الممثلة كيت وينسلت على غلاف رواية (القارئ) للكاتب
الألماني بيرنارد شلينك في طبعتها الجديدة الا تعبيرا عن قدرتها العالية
على التجسيد والأداء الممتع الذي قدمته في الفيلم الحامل نفس الاسم وتأكيدا
على أحقيتها بنيل جائزة الأوسكار كأفضل ممثلة في دورتها الأخيرة.
فمن خلال رواية كتبت في العام 1995 ونالت شهرة واسعة جعلها أكثر الروايات
طلبا في ألمانيا- ترجمت لأربعين لغة اخرى -يضع امامنا السيناريست ديفيد هير
والمخرج ستيفن دالدري- سبق وان قدما فيلم الساعات وفيه حازت نيكول كيدمان
على الأوسكار عام 2002 –شريطا سينمائيا لموضوعة الهولوكوست التي طالما مرت
عليها السينما ولكن بإطار واحد ونظرة واحدة حتى غدا هذا التناول احد
التابوات التي لا يجب المساس بها او بحثها برؤى جديدة فإذا ما عرفنا ذلك
فهمنا سر الهجوم الكبير الذي شنته المنظمات اليهودية على الفيلم والتي
تواصلت بالآلاف الرسائل على الأكاديمية الأمريكية لعلوم السينما المسؤولة
عن جوائز الأوسكار طوال الأسبوعين اللذين سبقا إعلان النتائج في محاولة
للضغط باستبعاده من المسابقة ,وربما هذا يفسر عدم نيله لأي جائزة غير التي
ذهبت لوينسلت برغم ان ما قدمه الفيلم لم يكن سوى قراءة جديدة لإشكالية
المحرقة بصورة تحفظ لها الديمومة والتجدد بعد التصدع الذي أصابها نتيجة
تصاعد صوت الانتقاد للمغالاة فيها، ما فعله هو إعادة توجيه لمسارها نحو
قبول سماع الرأي الاخر مع تخفيف للصورة الفاقعة التي رسمت لها.
يشكل فعل (القراءة) الهاجس المشترك لكل الأفراد المنتمين للفيلم بدءاً من
الروائي الذي رسم حكاية مختلفة باستقراء جديد وواقعي لعبء التركة الثقيلة
للنازية الملقى على عاتق الشعب الألماني والسيناريست المتعامل مع القصة
باحترافية كاتب يعلم ما هو مطلوب من الرواية لتصبح فيلما دون التقيد
بمحاكاة حرفية لما في الأصل ومرورا بمخرج لم يسمح لكفاءته الا ان تكون شكلا
صوريا مبدعا يزيد النص قوة ويملأ ثغراته بمشاهد مصنوعة بجودة وهو أمر أكده
الروائي شلينك بقوله (الفيلم هو بالفعل شيء آخر، انها صور أخرى لكنها صور
ومشاهد اقتبست من مادتي وعندما يستحدث مخرج جيد شخصية جيدة أجد هذا شيئاً
جميلاً) وانتهاء بممثلين جاء أداؤهم ليكون الذروة التي يرغب أي متلق في
رؤيتها.
شريط القارئ منظومة من الاسترجاعات (فلاش باك) بانتقالات زمنية قافزة بين
الأعوام تربطها دلالات الحدث ووحدة الشخوص الرئيسيين وليس في الامر جديد
طبقا لما عرفناه عن أسلوب المخرج دالدري بالانزلاق في نهر الزمن مع وقفات
انتقائية تمثل نقاط التحول التي تطرأ على حياة الشخصية ,يتضح ذلك حين يفتتح
الفيلم مشاهده ببرلين العام 1995 مع مايكل بيرغ (رالف فينيس) محام يطل من
نافذة شقته على منظر عربة الترام وهي تسير منتقلا معها نحو العام 1958 وهو
في سن 15 سنة (يقوم بالدور الممثل الشاب ديفيد كروس) وبيوم ممطر يلجأ لمدخل
احدى العمارات السكنية وهو متوعك فتساعده امرأة هانا شميت (كيت وينسلت) في
منتصف العقد الثالث من عمرها، لا تلبث الأمور الا ونجد العلاقة قد تطورت
بسرعة أوصلتها الى درجة حميمية يستمتع فيها الطرفان بممارسة الحب -لم تصور
هذه المشاهد الا بعد بلوغ الممثل ديفيد كروس سن 18 سنة- وقبل ذلك يقرأ لها
في كل مرة جزءاً من اعمال أدبية مختلفة مثل الإلياذة او السيدة والكلب
الصغير او حبيب السيدة تشاترلي وغيرها ,علاقة تنقطع فجأة بعد عدة شهور
باختفاء هانا المفاجئ، يذهب بعدها الزمن نحو العام 1966 حيث مايكل طالب في
كلية القانون ومشارك في دروس إضافية لمجموعة من الطلبة المتميزين، يقوم
الأستاذ المشرف عليهم باصطحابهم لمتابعة محاكمة عدد من النساء المتهمات
بارتكاب جرائم حرب يتفاجأ في قاعة المحكمة بوجودها ضمنهن وانها كانت تعمل
حارسة في معسكر الاعتقال الشهير(أوشفتز) ومساهِمة بموت 300 امرأة يهودية
بإحدى الكنائس حرقا وكذلك قيامها باختيار 10 نساء كل شهر بناء على
التعليمات لإرسالهن نحو الموت ,تُنكر جميع المتهمات ما وجه إليهن الا هانا
التي تقر بها وتفسر ذلك بكونها كانت تؤدي عملها , ولكن كبرياؤها يمنعها من
الاعتراف بعدم قيامها بكتابة التقرير الخاص بالحادث كونها ببساطة لا تعرف
القراءة والكتابة وهو ما يفسر سلوكها في الطلب من الآخرين القراءة لها،
تجتاح مايكل مشاعر متناقضة فمعرفته بسرها تدفعه للتفكير بإعلام المحكمة
لمساعدتها في تخفيف الحكم وهو بنفس الوقت غاضب منها لانكشاف ماضيها القبيح
فجأة أمامه وأيضاً لتركها إياه دون سابق إنذار ,يتغلب شعوره الثاني على
الأول ويحتفظ بالمعلومة لنفسه بينما تصدر المحكمة حكمها بالسجن مدى الحياة
عليها ,بقفزة زمنية نرى فيها مايكل يشرع بإرسال أشرطة مسجل عليها بصوته
أعمال أدبية سبق ان قرأها لها وأخرى غيرها ,يساعد ذلك هانا على المضي في
تعليم نفسها ذاتيا القراءة والكتابة حتى يفضي بها الحال للعام 1988 حين
تحصل على افراج بعد عشرين عاما قضتها في السجن ولكن هانا لا تجد ان ثمة
شيئاً يربطها بالعالم خارج القضبان فتختار ان تنتحر مشكلةً من الكتب سلما
ترتقي به نحو الموت.
وبرغم الجهد المبذول من السيناريست هير في رسم مسار خاص بالفيلم يتشكل وفق
رؤيته لما في الرواية الا انه اخفق في أيجاد الحبكة المقبولة من المشاهد
تاركا الضباب يتشكل حول مسار العديد من الشخصيات التي ظهرت مبتورة وغير
واضحة المعالم، كما ان استقاءه السطحي لبعض المواقف رسم صورة غريبة
وأحياناً تميل للتناقض، فيما شكلت بعض الإضافات والتعديلات على ما هو في
الرواية مشاهد غير مفهومة وأحياناً غير مبررة مثل مشهد الافتتاح وتواجد
العشيقة او تغيير مرضه من التهاب الكبد الفايروسي في الرواية الى حمى
قرمزية او زيارته وابنته لامه في مدينته السابقة، ويبدو ان اهتمامه بأصل
الموضوع شتت أفكاره ويقيناً غير من مسار السيناريو مرات عديدة متسببا بهذه
الهنات ,مع انه كان موفقا بتركيزه على المشاعر والأحاسيس التي تنتاب شخصيات
الفيلم حول مسألة عقدة الذنب المخيمة على وجدان الشعب الألماني باختيارات
متنوعة لأجيال مختلفة مبرزا نقاشاتها وأرائها في اُطر جدلية تميل للفلسفة
أحياناً ساعياً لرسم صورة توضيحية عن النمط العام لشخصية الفرد الألماني،
فيما ركن المخرج دالدري لبناء معمار بصري للحدث مانحا الشكل التصويري حرية
الكلام بصمت بعيدا عن الحوار ومفردا مساحة واسعة لاستجلاء مشاعر الشخوص من
خلال الرصد الدقيق لانفعالاتهم الصامتة بلقطات مقربة ضمن فضاء المشهد
وببنية صورية تشكل تفاصيلها همسات صغيرة مضافة لما يريد إيصاله، ومكملاً
ذلك بترتيب لوني أفرد فيه للون الرمادي والأزرق الداكن بتدريجات مختلفة
دورا داعما لتأكيد الصورة الضبابية وظل الكآبة واضطراب المشاعر وتناقضاتها
الذي سربل جيل ما بعد الحرب برغم ما قطعه ولأحيان قليلة الابتهاج اللوني
خصوصا في لحظات الفرح والمتعة.
لقد مكن الارتقاء العالي بمستوى أداء الممثلين من سحب المشاهد الى مناطق
يعبر فيها الخط الوهمي بين الحقيقة والتمثيل ,فبراعة كيت وينسلت أظهرت كل
خبايا وانفعالات شخصية هانا شميت، ولم يمنع صغر السن ديفيد كروس من إظهار
إبداعه الأدائي، فيما أدى رالف فينس دوره باحترافية الممثل الخبير ولكن دون
زيادة او نقصان.
القارئ بإخراج جيد وتمثيل رائع معالجة عميقة لإشكالية معقدة ,حكاية أمة
توشحت بالذنب وارتهن به مستقبلها لسنين طويلة ,وفيه أضحى فعل القراءة كناية
عن البحث في حقائق الموضوع برؤية عقلانية.
المدى العراقية في
05/05/2009 |