تعرض دور العرض السينمائي في عموم ايطاليا وأوربا فيلماً روائياً كارتونياً
منفذاً بواسطة احدى التقنيات المتقدمة للكومبيوتر للمخرج الإسرائيلي "آري
فولمان 45 عاما" بعنوان" فالس مع بشير". والمخرج، من ولادة مدينة حيفا،
درس فن الرسم والسينما، وقدم مجموعة من الأفلام الوثائقية والروائية
القصيرة خلال السنوات الأخيرة، منها" سانت كلير" عام 1996, " صنع في
إسرائيل" عام 2001، وشارك في حرب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 على لبنان
. والفيلم الذي يبدأ بمشهد مجموعة من الكلاب الغاضبة وهي تركض باتجاه إحدى
نوافذ البيت الذي يسكنه فولمان، هو عن احداث مذبحة صبرا وشاتيلا التي تعتبر
من افظع المذابح في التاريخ البشري الحديث، قتل فيها الآف من اللاجئين
الفلسطينيين المدنيين العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم، ولم يرحم من هذه
المذبحة التي هزت الضمير العالمي في كل مكان، حتى النساء والأطفال في حفل
دموي استمر نحو ثلاثة أيام في شهر سبتمبر/ ايلول عام 1982.
الفيلم يروي قصة المذبحة التي كانت نتيجة تحالف بين إسرائيل وحزب الكتائب
اللبناني ضد الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا كرد على اتهامات باغتيال
رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك بشير الجميل، والذي قتل بعد 17 يوما على
توليه منصب رئاسة الجمهورية اللبنانية، كان يشغل منصب قائد حزب " الكتائب
اللبنانية"، ولم تمض الا أيام معدودة على حادث الاغتيال الذي حدث بانفجار
عنيف في" بيت الكتائب" في منطقة الاشرفية، وذلك أثناء فترة الاجتياح
الإسرائيلي للبنان، حتى بدأت مطاردة وتصفية الفلسطينيين، في أنحاء كثيرة من
لبنان. وقد تهيأت مجمــــوعة من عناصر" الكتائب اللبنانية" وبحماية من
الإسرائيليين أنفسهم للدخول الى مخيمي صبرا وشاتيلا لترتكب واحدة من اعنف
المجازر اللاإنسانية المرعبة في التاريخ المعاصر. وكان المجند" آري فولمان"
ضمن القوات الإسرائيلية التي دخلت بيروت، وكان موقع سريته العسكرية تحديدا
على مشارف مخيمي صبرا وشتيلا، حيث انيطت به مهمة قتل الكلاب الضالة في
المناطق المحيطة بالمخيمين كي لا تثير بنباحها انتباه المقاتلين
الفلسطينيين ليتصدوا لعمليات التصفية التي تزعم قوات الكتائب اللبنانية
انها قامت بها انتقاما لحادث اغتيال رئيسها الجميل.
لقد أشعل الجنود الإسرائيليون قنابل الإضاءة الليلية كي يسهلوا على افراد
هذه العصابات مهمتهم في تعقب الأبرياء داخل البيوت وفي الأزقة والحقول
ولمدة ثلاثة ايام على التوالي، وعلى مرأى من الجنود الإسرائيليين، الذين
كانوا يقودهم آنذاك رئيس الأركان آرييل شارون، حيث اخبروه بأهوال المجزرة
المروعة اثناء تناوله وجبة فطوره ، فرد على مستشاريه العسكريين "اذا لم
تشاهد الامر بعينيك كانك لم تره".
ليست المرة الأولى التي تعلن المؤسسة الصهيونية فيها نقمتها وعدم رضاها على
عدد من السينمائيين والمثقفين الإسرائيليين، فقد سبق للمخرج " آموس غيتاي"
عام 1977ان اخرج فيلما وثائقيا باسم "البيت" وقد كان في حينه بمثابة الصدمة
للعقل الصهيوني المتزمت، اذ تحدث "غيتاي" بكل جرأة، في الفيلم عن جذور
الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بتناوله لموضوع البيت الفلسطيني الذي تحول
الى بيت إسرائيلي، ثم أعقبه عام 1982 بفيلم" يوميات في الريف" تناول المخرج
مظاهر القمع المختلفة التي تمارسها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تجاه سكان
الأراضي المحتلة.
وفي عام 1985 توجه "غيتاي" الى السينما الروائية حيث أنتج فيلما تحت عنوان
" استير" وقد تعرض الفيلم بدوره لحملة مقاطعة إسرائيلية رسمية، على ضوء
تناوله تاريخ الحركة الصهيونية عبر استعارة شخصية " استير" الأسطورية، فتلك
البطلة التاريخية كان قد قدمها التاريخ كقائدة لتحرير شعبها من الهزيمة
والعبودية، الا انها سرعان ما تتحول الى قيادة هذا الشعب نحو الهاوية
والمآسي والانتقام.
اما فيلم " فالس مع بشير" فيمكن تقسيمه الى قسمين رئيسيين، الأول يعكس
هستيريا الجيش الإسرائيلي وعمليات القتل وإطلاق الرصاص العشوائي اثناء
فترة الاجتياح قبل وصول الجنود وهم يغنون، الى المخيمين، والقسم الثاني هو
المتعلق بحصار الجيش الإسرائيلي للمخيمين أيام المجزرة، ليشعر المشاهد
بصورة مباشرة بان فرض الطوق العسكري، هو قرار سياسي وعسكري ومساهمة ميدانية
في تنفيذ المجزرة.
الفيلم شكل صدمة للعقل الصهيوني الرسمي والشعبي المتزمت داخل إسرائيل
وخارجها ،اذ تحدث "آري فولمان" عن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بتناوله
لموضوع لا توافق المؤسسات الإسرائيلية على رسالته التي تعتبرها عدوانية بحق
الوجود الإسرائيلي.
يخرج هذا الفيلم عبر تقنية الرسوم المتحركة والذي تطغى عليه الألوان
الزرقاء وتدرجاتها، وبكل جدارة، من إطار الهواية الى فضاء الاحتراف لدرجة
يمكن معها القول بان هذا المخرج ذا الميول اليسارية، قد انتج بالفعل فيلمه
الكارتوني هذا بالمقاييس السينمائية العالمية. فيلم يحاول المخرج جمع خيوط
ذاكرته، ويمثل السيرة الذاتية له اثناء تأديته الخدمة العسكرية في الجيش
الاسرائيلي، والذي تراوده باستمرار ذكرى الفرار من المجازر في المخيمين،
الا انه يجري تحقيقا مع من كان يصاحبه في تلك الفترة التاريخية العصيبة من
حياته ليتذكر تفاصيل ذلك الماضي المرعب، الذي يأتيه على الدوام وكأنه
كابوس. الفيلم مرشح بقوة لنيل جائزة الأوسكار لهذا العام، بعد ان نال جائزة
" غولدن غلوب"2009 من فئة افضل فيلم أجنبي، ونال تقدير النقاد في عموم
أوروبا.
في اللقطة الأخيرة بأجوائها المحمومة، يفاجأ مشاهد الفيلم باختلاط الأزمنة
في الإطار المكاني نفسه، اذ تتحول الشخصيات الكارتونية على الشاشة وللحظات
لا تتجاوز الدقيقة الواحدة، الى مشهد وثائقي حي، يمثل مجموعة من الأمهات
الفلسطينيات، وهن متوشحات بالسواد، يخرجن من احد المخيمات،وهن يولولن
بالصراخ والبكاء المر، لتتحول الصورة الكارتونية الى صورة واقعية، مؤكدة
للمشاهد ان ما كان يراه هو حقيقة واقعية مأخوذة من المجزرة، وينطبع في ذهن
المشاهد رعب صبرا وشاتيلا مع رعب ايام غزة الدامية، لترتسم صورة المطاردة
لأبناء" الهولوكست" للفلسطيني في شوارع غزة هذا اليوم، وكان الزمن يتكرر،
وهو زمن القاتل والضحية.
ولكن وللأسف يبدو ان دور العرض السينمائية العربية ستمتنع عن عرض هذه
الوثيقة الفنية السينمائية التي انتجت بمشاركة إسرائيلية وفرنسية وألمانية،
بسبب أحكام قانون المقاطعة العربية للمنتج الإسرائيلي، اذ بحسب القانون
الحالي، يمنع استيراد او رؤية أفلام إسرائيلية، مع ان باستطاعة المشاهد
اينما كان، رؤية هذا الفيلم عن طريق الانترنيت، وسيحرم المشاهد العربي الذي
لا يمتلك جهاز كومبيوتر من مشاهدة واحدة من الإدانات النقدية الأكثر ضراوة
للمؤسسة الإسرائيلية العسكرية في عدوانيتها لانه يصرحّ بمسؤولية الجيش
الإسرائيلي والقيادة العسكرية والسياسية عن هذه المجزرة المرعبة، من خلال
إضاءة الجنود للمخيمين امام القتلة، ومشاهدتهم لعمليات القتل بعيون مجرمة.
المدى العراقية في
05/05/2009 |