تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

الفيلم اليمني ـ الخليجي 'الرهان الخاسر':

عمل مسطح ودعاوي عن 'الارهاب الاسلامي'

مروان الغفوري

حسنا. لقد انتجت وزارة الداخليةاليمنية فيلمها العظيم 'الرهان الخاسر' عبر دائرة التوجيه المعنوي. الفيلم هو من مقاولات د. فضل العلفي، من الفكرة حتى التشطيب ' تأليفاً، سيناريو، واخراجاً'. في البداية، سيكون عليك ان تتجاهل ما يُقال عن التخصص، تحديدا في هذه الالفية الرهيبة حيثُ تكون فيها اليد العُليا لاصحاب الميكروسبشلتي، او التخصصات الدقيقة. ستتجاوز، اضافةً لذلك، تلك القاعدة المعرفية: بطلُ كل الفنون هو الممثل الفاشل. وستقبل بالحقيقة الاولى في الفيلم: هُناك شخص واحد فقط هو الذي كان عليه ان يعمل ثلاث مرات. في المرة الاولى سيؤلف القصة، في المرة الثانية سيعمل كسيناريست، واخيرا، سيقوم بدور المخرج.

ازعم اني لا اعرف شكل المؤلف، لذا فلا استبعد ان يكون، ايضا، احد ابطال الفيلم.
اعمال شاقّة، ظهرت نتائجها في الفيلم على شكل ترهّلات وحلقات مفقودة وتسطيح ممل. فضلا عن لجوء صنّاع الفيلم، وهو شخص واحد في الظاهر، الى الاعتماد على الصور النمطية الرائجة في الدراما المصريّة، بالتحديد عند معالجة قضايا الجماعات الاسلاميّة 'الارهابي، طيور الظلام، .. الخ'؛ كحيلة لمضطر لم يسبق له ان خاض لجج الصناعة السينمائية، فلم يجد ايسر من 'الهبش' من المعلوم، للحديث عن المجهول. فجلب لنا تلك الصورة السطحية عن الارهابي التي سادت في فترة اهتزاز الدراما المصرية على النحو الذي استمر فيما بعد بوتيرة ملحوظة.

في 'الرهان الخاسر'، الطبعة اليمنية لنسخة قديمة معوربة، يأخذ الارهابي هذه الهيئة: دشداشة بيضاء (ثوب)، غترة على رأسه، شارب محلوق، لحية كبيرة، ثم هو يتحدث بلغة عربية فُصحى. هذه التشكيلة تذكر بالطرفة المصرية حول بائع متجوّل ينادي في الشارع: لبن، سمك، تمر هندي. فلا توجد نماذج بشرية يمنيّة يمكن تركيب هذه المواصفات الاعلانية عليها. فالذي يحلق شاربه ويعفي لحيته هو المتصوّف المصري، لا اليمني، او المتديّن المصري عموما؛ ومنهم السلفيون المصريّون الذين اعلنوا في الانتخابات الرئاسية المصرية: منافسة الرئيس في الانتخابات هي خروج على اجماع المسلمين! كما انهم يدعون لوزير الداخلية بالتوفيق في خطبة الجمعة. امّا المتدينون اليمنيّون فهم يسخرون من تفسير المصريين لحديث 'جزوا الشوارب'. بقية الصورة الكاريكاتورية الواردة في النسخة اليمنية يمكن تكييفها بصورة شاقة وعسيرة لتناسب الصورة النمطية لاعضاء التيار السلفي اليمني، والسعودي. وهو تيّار مهادن، قوطي ـ بتعبير الراحل العظيم عبد الوهاب المسيري- يبايع الجهات الامنية على السمع والطاعة، وعدم منازعة الامر اهله، ويسدي لها خدمة جليلة في التشهير بغيره من التنظيمات الاسلامية المدنية، والتيارات الوطنية الليبرالية واليساريّة.

لقد اعلن ذلك صراحة عبر 'ابو الحسن الماربي' في المهرجان الانتخابي للرئيس صالح، في مآرب.

هُنا سيبدو الفيلم تنكّرا لصنائع المعروف التي يقدمها السلفيون للحكومة اليمنيّة، ولا يمكن ان يُفهم ـ بالسطحية المخيفة التي اتّسم بها ـ الا انه عمل درامي مناوئ للتيار السلفي، ويهدف الى تحريض المجتمع ضد هذا التيار، بطريقة ستجعل اعضاء وجمعيات هذا التيّار عرضة لابتزاز رجال الامن، واللصوص والشخصيات النافذة، فالعصا موجودة: وراء لحيتك يرقُد قاتلٌ مخيف في الجبل، امّا ان تستجيب او سوف'نفبرِك' قصة مسلّحة تتحمل انت لوحدك تبعاتها!

ان اخطر ما في الفيلم انه عرض هيئات مختلطة من النماذج البشرية تقترب الى حدّ ما من المشترك العام بين الهيئة الصوفية والسلفية ويمين الاصلاح ونماذج متدينة محايدة في الساحة اليمنيّة، يمثّلون نسبة معتبرة لا يجوز قانونا واخلاقيّا تحت اي دعوى ان توجّه اليهم سخرية او اهانة. ثم قفز الفيلم بجرأة الى افتراض وجود نموذج عنيف كامن وراء هذه الاشكال، سرّي ويهدف الى هدم الاجتماع اليمني وتدمير صلاحيته للوجود. وراء كل لحية يوجد قاتل، ارهابي، هناك في الجبل البعيد، لا يعرفه احد سوى وزارة الداخلية التي تراقبه عن كثب، كما يحاول الفيلم ان يقول.

النتيجة المتوقّعة: خلق حالة من فقدان الثقة بين مكوّنات المجتمع اليمني، وتعريض عدد كبير من مواطني الدولة اليمنية لابتزازات محتملة وغير مسؤولة قد يقوم بها رجال الامن وخلافهم. فضلا عن خلق شعور عام متسامح مع اجهزة الامن في اي عمل قد تقوم به في المستقبل ضد ' اي احد' لا يروقُ لها، بالذريعة ذاتها: ارتباطه بمجموعة عسكرية تسكنُ في الجبال، والدليل: هيئته، ولكنته التي تميل الى الفصحى احيانا. فقد شاهدنا في الفيلم ان احد 'الارهابيين' حين تاب من ضلاله فان اول شيءٍ فعله هو انه تكلّم بالعامية وترك الفصحى .. قبل ان يفعل اي شيء آخر!

لقد حاول الفيلم، بصورة رديئة، ان يُحدّد هيئة الشخص الارهابي، تلك الهيئة التي ستفصح في الاخير عن نفسها: انا السلفي، الارهابي المقصود بفيلم 'الرهان الخاسِر'؛ باعتبار الهيئة السلفية هي اقرب الهيئات الى النموذج المسوق في الفيلم. افهم الان لماذا ثار السلفيّون ضد هذا الفيلم، لكن ما لا افهمه هو كيف فهم اعلام المؤتمر الشعبي العام ان السلفيين المحتجّين على الفيلم هم 'الاخوان المسلمون' في اليمن! هُناك في اليمن الكثير مما يثير الاحباط ويفقد الثقة في المستقبل، اشياء كثيرة غير الفقر والمرض.. اشياء تشبه الاستعباط، لكنها تتفوق عليه بدرجة مبالغ فيها.

تبقى خصيصة مضافة، وهي: من هم اولئك الذين يتحدّثون بالعربيّة الفُصحى في المجتمع اليمني؟ مبدئيّا، هذه السقطة في الفيلم تستحق الادانة بكل وسائلها. لقد تجاوز صانع الفيلم فكرته حول مكافحة مظاهر 'العُنف' الى مناوءة الذات العربية، من خلال عرض اللغة العربيّة الفُصحى بوصفها احدى اهم خصائص النشاط الارهابي، وان العودة الى الصواب تقتضي التنصل من اللغة الفصحى اولا، كما اشرت سابقا. انه اعتداء سمج، وهمجي على الذاكرة والذات والشخصية اليمنية ـ العربيّة. حسنا: كان لدي مدرّسان في الثانوية، يتحّدثان الفُصحى. الاول يعمل مدرّسا للعربية، وقد اطلقنا عليه لقب سيبويه، والثاني يدرس مادة الاسلامية، وكنّا قد عممنا على المدرسة اسمه الجديد: بُحيرى. فهل يريد الفيلم من طلبة مدرستي، ورجال الجيش الذين يمرّون امام المدرسة من وقت لآخر، قتل 'سيبويه وبُحيرى' اذا لاحظنا انهما يتحدثان العربية، ويرتديان الدشداشة والغترة، ولهما اسمان حركيّان مغرقان في القِدم، وهما فوق هذا من 'ذوي اللحى'؟

على ايّة حال، فالسلفيون لا يتحدثون الفُصحى ويحبّون اكل الكبدة ويتباهون بالفحولة ويعشقون حديث'فمن رغب عن سنّتي فليس منّي'، كما ينظرون بشجن بالغ الى حديث' حُبّبَ اليّ من دنياكم ثلاث، الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة'. اقول ' بشجن بالغ' لانهم ادركوا، بشكل متأخّر، ان صحّة هذا الحديث ليست على ما يُرام، وكم تمنّوا لو انها كانت بأحسن حال. وبالطبع فان تنظيم القاعدة لا يعرف احدٌ عن افراده شيئا، هل يشبهون 'النمر المقنع' ام 'بقرة بني اسرائيل' ام 'الرجل الوطواط' ام الحيوان الاغريقي الشهير'البهيموث' ام هم مــــزيج من ذلك كلّه؟ هذا اذا صحّ فعلا ان هناك تنظيما حقيقــــيّا اسمه القاعدة. لقد شاهدتُ برنامجا تلفزيونيّا على البي بي سي مع قائد القوات البريطانية في معركة 'تورا بورا'. سأله المحاورُ: الان، بعد ان انتهت المعركة هل امسكتم بأي من اعضاء التنظيم؟ - لا. هل تعرّفتم على اشكالهم؟ - لا. هل تستطيع ان تقول انهم يوجدون في مكان ما وانه بامكانك التعرف عليهم؟ - لا. اذن فمن هم اولئك الذين كنتم تتوعدون بسحقهم في تور بورا؟ - لا ادري.

امام يدي وثائق ودراسات وابحاث غزيرة باللغة الانكليزية تتحدث عن التنظيم بوصفه اسطورة محضة صنعها اليمين الامريكي، الهمجي. نعم، هناك اسامة بن لادن، ومعه جماعة مسلّحة تقاتلهم اميركا، لكن ما يرفضه كثيرون في العالم هو ان تكون هذه الجماعة المعزولة في جبال الهنـــــدوكوش 'معولمة'، كما ان احدا لم يسمـــــع باسم 'القاعدة' قبل احداث ايلول (سبتمبر)، وهو ما يجعل الكثــير من المحللين الامريكيين يعتقدون بان اليمين الامريكي الامبريالي صنع هذا العنوان الكبير، وان الجماعة المسلّحة استساغت الامر لانه يصب في مصلحة ادارتها للصراع مع امريكا. انهم، اي القاعدة، اشبه بعفاريت الفانوس، لا وجود مادياً محسوساً لهم، فقط يتم جلبهم الى الفضاء الارضي من خلال تسريبات امنية تهدف في الاخير الى تأصيل 'سلطان الخوف' في قلوب الناس. الخائفون سيتقبلون اشياء كثيرة غير معقولة، كما سيتنازلون عن حقوق بالغة الاهميّة بغية الحصول على حماية معقولة، او الظفَر بقدرٍ ما من الامن. وهذا هو اقصى ما يمكن ان يحصل عليه اللصوص، سارقو الاوطان.انها كلمة السر، اخترعها عبقري مجيد، تلعنه الملائكة.

في 'الرّهان الخاسِر'، يقول القائد لأحد اتباعه: لا تجادل ولا تناقِش. انه يكررها بصورة مملّة، وانتم ربما تتذكرون اين سمعتم هذه الجملة قبل ذلك، في فيلمي 'طيور الظلام' و'الارهابي'. لقد بادر كاتب السيناريو الى نحت كل شيء، تقريبا، من السينما المصريّة. فشكل الارهابي هو نفسه الذي تجده في افلام عادل امام، واللازمات اللفظية، مثل لا تجادل ولا تناقش، واللكنة العربية، قام باستيرادها على نحو مثير للاحراج. اما القضية الارهابيّة التي شكّلت الجهاز العظمي للفيلم فهي 'قتل السّيّاح' وهي قضية راجت الى حدّ ما في افلام التسعينات، تحديدا عقب مجزرة الاقصر التي جاءت بوزير الداخلية الحالي، حبيب العادلي.

اعترف، للمرة الالف، ان ذاكرتي ضعيفة. ولذلك فانا اسأل: منذ اواخر التسعينات حتى الان تجاوزت حوادث اختطاف السياح الاجانب في اليمن 200 حادثة، طبقا لاحصائية نشرتها قناة الجزيرة مؤخّرا، مقابل اقل من 10 حالات تاكّد فيها اعتداء مجهولين بالسلاح الناري على السيّاح الاجانب، في عمليات غريبة لم تقل لنا فيها الجهات الامنية من هو الفاعل، وكيف تعرّفت عليه حقّا. طبعا، لا احد بمستطاعه ان يقبل تلك المرويّات العظيمة من قبيل: وجدنا بطاقة في محل الحادث، وقرأنا عليها اسم مرتكب الجريمة واسمُه: سعيد بامسعد سعدون، طالب في طب جامعة حضرموت! هذا الاستخفاف لا بُد ان يتنحّى جانبا لمصلحة سؤال اهم: اذا كانت نسبة الاختطاف الى الاعتداء المباشر، وكلها قطعا تمثّل عملا ارهابيّا، هي كالتالي: 200 اختطاف: 10 اطلاق نار، فلماذا تجاهلت عدسة وزارة الداخلية ما يقوم به الخاطفون المعروفون ضد الاجانب في اليمن، وهو ارهاب مؤكد وكثيف ومسيء لليمن اقتصاديّا واخلاقيّا وسياسيّا؟ بينما ذهبت بعيدا في الجبال، لتخلق المجهول ثم تحاربه؛ ذلك المجهول الذي يذكّرنا بوصف وحيد القرن في رحلة ماركوبولو الى بلاد الصّين، في القرن الثالث عشر!

من زاوية اخرى: انا لا اتعامل مع الفيلم بوصفه وثيقة تاريخية، لكني مضطرٌّ للنظر اليه بحسبانه منشورا امنيّا، لا ابعد من ذلك، فهو لا يتحمّل التعاطي الفنّي معه. لقد حرص الفيلمُ، نفسه، على ان يبدو كذلك. فنحنُ نجد المناظرات على طول مسار الفيلم: في المكتبة، في الشارع، على سرير النوم، اثناء نشر الغسيل، في المهاتفات، اثناء الصّراع المسلّح بين الامن والجماعة الارهابية، خلال عملية الاختطاف .. الخ. لقد كان الفيلم، بامتياز، عبارة عن مجموعة من المقولات الفكرية التي تغالبُ وتتغلب على مقولات اخرى، مناوئة وعدوانيّة. في حين بدت ' القصّة' مجرّد ذريعة هشّة لسوق مثل هذه المقولات التي كان يمكن قولها بأي شكل آخر لا يكلّف خزينة الدولة مئات آلاف الدولارات. ورغم حرص وزارة الداخلية، من خلال تدخلها في كتابة سيناريو الفيلم عبر الثلاثي العلفي والحبيشي والاشموري، على الحِوَار مع 'الارهابيين' في محاولة مخاطبة اولئك الذين يقطنون في الجِبال، خارج الفيلم .. الا انها لم تدّخر وسيلة عدوانية لاثارتهم والتحريض عليهم وقطع سبل التواصل معهم. فهم الشياطين، الاغبياء، قساة القلوب، قتلة السوّاح والمسلمين والاطفال، وهادمو البيوت والاسر .. الخ ثم عمدت الى السّخرية من علامات وخصائص واختيارات شخصية تنتمي الى السلوك اليمني المدني العام، كاللباس واطلاق اللحية واختيار الشخص لطريقة تروق له في الحديث.. الخ. كان السيناريو، الذي لم يكن سيناريو في الواقع فقد كان مجرّد خطب اعلامية عصماء، يقول كل ما في جعبته لحشر الاخر في زاوية الشيطان الصّرف، وبعد كل هذا يقول له: تعالَ نتحاور.

في نفس الدائرة من الضجيج والتخبّط، يتذكّر صنّاع الفيلم ان البطالة بالامكان ان تصنع من العاطل ارهابيّا. يقفز الفيلم فوق اساسيات التناول الدرامي، ويزج بمجموعة من العاطلين بين جماعة مخيفة من الارهابيين. ومع ان الفيلم اراد ان يتعاطف معهم من خلال مراعاة الاسباب التي قادتهم الى هذه التنظيمات السرّية العنيفة، الا انه سرعان ما شيطنهم بصورة خالِصة، نازعا عنهم كل عناصر الانسانية. فاذا كانت البطالة طريقا الى قتل السيّاح، وهذا غير مؤكّد، فان المؤّكد هو ان غياب العدالة هو الذي يدفع القبائل لاختطافهم وارهابهم. لقد تحاشى الفيلمُ التعامل مع هذه الارضيات، التي تقترب من مستوى البديهيّات، واستمرّ في الركض نحو صناعة مشهد درامي عديم الحيلة، يقوم على مجموعة من المصادفات غير المبررة دراميّا ولا تنتمي الى الصناعة السينمائية بتاتا. فصاحب القصّة اقترح على السياق ان يقوم شخص ارهابي بتفجير اتوبيس سياحي يقوده رجل يمني، شاءت المصادفة ان يكون هو نفسه والده! هذه حيلة سينمائية تنتمي الى شاشة القرن التاسع عشر، بل من الممكن انها تنتمي الى ما هو ابعد من ذلك.. الشاشات الحجرية!

تصعد الاحداث بصورة عجيبة، لتصل لبيت القصيد، وهو هنا: صورة لرجال الامن وهم يجرُون واحدة من تدريباتهم على مكافحة الارهاب.. لكن هذه المرة بمساعدة ابطال الفيلم، في واحدة من العمليات الناجحة التي لم تحدث في الواقع بصورة مؤكّدة وموثوقة الى الان. كان المشهد غريبا، فقد كان من اليسير فهمُه بحسبانه رسالة مفادها: لدينا اجهزة تتمتع بعضلات قويّة، بينما فشِل في تقديم نفسه كمشهد درامي، انساني، فنّي. حتى ذلك المشهد الذي يتحاور فيه قائد العملية مع حامل المتفجّرات والرشاشات مصوّبة من كل جانب فقد كان عدميّا ومثيرا للارباك. فالضابط يظهر فجأة في مرمى نيران الارهابيين الذين لم يوجهوا طلقة واحدة باتّجاهه، ثم يتحاور مع حامل المتفجّرات بشكل مطوّل مليء بالتنظيرات والحجج والكبسات الفكرية والنقدية والاستشهادات والاقتباسات ... كما لو كانا في اختبار شفوي، لا في حرب!

امّا قمة السطحية، فهي اللحظة التي تفتق فيها ذهن صاحب القصّة عن اكتشاف رهيب، غير مسبوق، وهو كيف يفكّر الارهابي وكيف يسلُك، في بيته، حتى يمكن التعرّف عليه؟ فالارهابي: يكسر المسجّل والتلفزيون، ويحرّم العمل والدراسة، ويطلب من شقيقته ان تحتجب منه، ويحرّم خروج البنات الصغار الى السوق، ويكفّر الرسم والفن اجمالا... الخ. لقد سمعت هذه الحواديت في مطلع التسعينات، حين كنتُ في الابتدائية؛ كنتُ في القرية، وكنّا نعتقد ان 'الاخرة' تقع خلف الجبل مباشرة، لذلك كان بمقدورنا ان نصدّق هذه الترّهات. لكن يبدو ان صنّاع الفيلم ما زالوا غاطسين في 'ايامنا الحلوة' و'حلاوة زمان'. نحنُ الان، في العام 2009، هذه هي الحقيقة الغائبة عن صنّاع الفيلم، وهو الغياب الذي انعكس على كل شيء في الفيلم؛ في هذا الزمن الجديد اصبح الصراع بين الاسلاميين المدنيين وخصومهم هو حول موقفهم من قضايا غاية في التشابك والتعقيد، على صعيد الاستشراق، والبراغماتية السياسية واسلمة المعرفة..

' كاتب من اليمن

في حين لا يزال الاخوة في وزارة الداخلية، ومعهم المخرج الطيّب، يعيشون في ترّهات 'الاسلاميّون يحرّمون التلفزيون!' ولا ادري كيف اراد صناع الفيلم ان يقولوا كل شيء مرّة واحدة. فمن جهة، هم يريدون النيل من حزب الاصلاح بطريقة ساذجة كشفت خروجهم من واقع المجتمع اليمني الراهن. ومن جهة ثانية، يريدون ان يحاربوا عدوّهم الذي لا يشاركهم الاعتقاد بوجوده احد، وهو الارهاب، لأن الارهاب، كما قال بوتين، هو الفساد.. وهذا هو ما يهدد الامن القومي لأي بلد. ومن جهة ثالثة حاولوا بناء اسطورة جديدة للقوات الامنية بعد فشل الجيش اليمني في خمسة حروب داخلية متتالية. باختصار: تكاثرت الظباء على خراش، فلم يدرِ الخراشُ ما يصيدُ. وعاد 'خراش' من المولِد بلا حُمّص.

بالمناسبة، فُهِمت هذه التّرهات باعتبارها موجّهة ناحية التيار السلفي. وبدورهم ابدوا استياءهم، خاصة انهم من اكثر التيارات اليمنية التي قدمت خدمة جليلة للدولة والحكومة اليمنية، اخرها عشرة ملايين دولار في 2008 عبر جمعية الحكمة اليمانيّة. اتصوّر ان صنّاع الفيلم لم يقصدوا اهانة السلفيين، ولا التحريض عليهم، لان التحريض على السلفيين سيعني التحرّش بالمملكة العربية السعودية، التي يمثّل فيها السلفيون القوة الناعمة الاولى، ذات اليد الاطول. كما سيعني عض اليد التي امتدّت اليهم بالنفع، خاصةً في حربهم الاخيرة ضد 'المسلمين' في صعدة. هنا يبادرني سؤال: فضد من اذن، كل هذه الشنشنة التي نعرفها من اخزَم، كما يقول الاعراب؟ هي، بكل طمأنينة، هرطقة لا تنال من حزب الاصلاح وليس معنيّا بها، كما انها تحرّض ضد التيار السلفي عن غير قصد على هيئة نيران صديقة. وبعدت تماما عن الحوثيين؛ اما اقترابها من المُراد، خيال مآته تنظيم القاعدة، فقد كان مكشوفا ومليئا بالسطحية والسذاجة واللاتحديد. في الواقع، هي جلبة ضد 'لا احد'. ضد عدو افتراضي، يتم تأهيله حاليا لأجل تمكين سلطان الخوف من قلوب الرعايا، ثانيا. اما أوّلاً، فهي دليل صارخ على غياب المشروع لدى النخبة الحاكمة، مما يدفعها الى ابتكار مشروعات وهمية على الصعيد الامني ـ ميدان احترافها الاساسي- لقتل الوقت، والجهد، وإلجام افواه الخصوم .. ها نحنُ نؤدي عملا مجيدا، فمن يقدر منكم على ان يشكك في قداسة عرَقنا!

كاتب من اليمن

القدس العربي في

13/03/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)